في أحدث روايات أمل الفاران، نقرأ عن رحلة انتقال إحدى العائلات في قرية «نجدية» من حياة تقليدية إلى التمدن بتفاصيله العاصفة، كما تكشف البطلة الصغيرة عن رحلة انتقالها هي نفسها من الطفولة إلى الصبا.

قائمة وخلفي صفان من عيال وبنات الحارة، وجهي لجدار بيتنا، صف وجوههم لظهري. كلنا كفه اليمنى على اليسرى نستعد للصلاة. رفعت صوتي: «صلُّوا صلاة الخنافس». هدرت أصواتهم خلفي: «ما نصليها».
– صلُّوا صلاة الخنافس.
– ما نصلِّيها.
– صلُّوا صلاة العقارب.
– ما نصلِّيها.
– صلُّوا صلاة الجراد.
– ما نصلِّيها.
حين أقود الصلاة أعدد فيها كل شيء حتى الجدران والحصى، ولا أتوقف حتى أسمع من أصواتهم أنهم يريدون الخلاص. مع كثرتهم أميز صوت أخي بين أصوات العيال. أخي أصغر مني بسنتين، يشبه أُمَّنا أكثر، وهي تحبه أكثر، أنا أحيانًا أحبه، ومراتٍ أبغضه.
أخيرًا رفعت صوتي: «صلُّوا صلاة ربِّكم». ردَّ الصف خلفي: «نصلِّيها».
سجدنا جميعًا سجدة قصيرة. نهضنا منها بلا تسليم، نفضنا التراب عن ثيابنا وجباهنا. سألتهم: «ماذا سنلعب الآن؟»، تطايرت اقتراحات، ومعها سمعنا صراخًا. رفعت رأسي للسماء، أحسب أن ولد فهدة عاد هو وطيارته، لكن الصياح كان يأتي من نخل آل زابن، جرينا باتجاه النخيل. في البراحة بين البيوت والنخيل عرفنا أن زابن مات مرة أخرى. نقفز فوق الجداول، وبين أحواض الزرع. باب البيت يلقم الرجال ويلفظ الصغار، ولدهم الكبير طردنا. أغلقوا الباب، لا نافذة أطل منها، ولا بيوت ملاصقة لبيت آل زابن لأصعد أسطحها. بسرعة ارتقيت سدرتهم الكبيرة. العيال تحتي يسألونني عما رأيت. حتى على أدق أغصانها لا أرى باحة البيت، جدار المجلس في وجه السدرة.
أحد العيال رفع صوته ينبِّه الباقين:
– يا عيال جهيمان بكى.
بعض العيال يسمون أخي جهيمان لكثرة شعره. التفتُ إلى البراحة، وجدته وحده فيها. نسيت أنه يخاف رؤية الموتى، إذا سمع أن أحدًا مات يرتعش، وقد يظل أسبوعًا يسأل: كيف مات؟ وكم تألم؟ وهل سيذهب إلى الجنة؟ قد تصيبه حمى إذا تذكر أنه لمس زابن أو كلَّمه قبل يوم أو يومين. هبطت أجري له.. فمه مفتوح وشفته ترتعش.. تبعني الولد يضحك، لطمته: مرة ثانية أسمعك تقول جهيمان.. أذبحك.
مسكت يد أخي، وعيناي في عينَيه: عادي زابن كبير.
سكت وأخذته إلى بيتنا. سيارة أبي عند الباب، في صندوقها أدواته.. مسحاة وعتلة ودخلت خلف أخي، وجهه لازال أصفر، يده على بطنه، استند للجدار، انحنى وانصبَّ من فمه سائل لزج. بقدمي حركت التراب لأطمر السائل، وأشرت له فمسح فمه. كنت سأدخل حين سمعت صوت أبي، ربطت خيوط حزام ثوبي، مسحت براحتيَّ شَعراتي المتطايرة. نفضت الغبار عن ثوب أخي وطاقيته. نبهته للرثمة في إصبع قدمه، قطرة دم حمراء مسودة ثخينة تنبع من الظفر المشقوق. ربما تجددت حين ركضنا. أشرت بإصبعي على فمي، دسست قدمي في تراب مدخل البيت، نثلت كومة منه على قدمه، تركها مدفونة ليشرب التراب الدم، رفعها بعد لحظة وعليها لطخة بنية. من الداخل جاء صوت أمِّنا: «إنَّا للَّه وإنَّا إليه راجعون. يا مال القوم يا زابن».
اختفى الدم فابتسم لي وأشرت له برأسي لندخل. باب المجلس مردود. أبي في باحة البيت، الراديو بجواره لكنه مغلق، متكئ على مسند إسفنجي، ظهره للباب.
على عتبة حجرة النوم أختنا الصغيرة، عمرها سنتان أو ثلاث. لا تشبهني ولا تشبه أخي، لم تتحدث بعد، ويبدو أنها لا تسمع جيدًا. أمُّنا واقفة والهاتف في يدها، كحل عينيها منثور على خدها من البكاء. خلفها على الحبل ثوبها الأحمر مغسول منشور ويهفهف. أبي يحب هذا الثوب، هو مَن أحضر لها قماشه. يفرح حين يراها فيه، أمس لبسته وحين رآها فيه ابتسم، وقال: «الثوب زين لكن حشوه ردي».
إذا قال هذه الكلمة نظر إلينا، علينا أن نضحك. ثم نسرق نظرة لها لنعرف ما ستفعل، لأنها قد تغضب مِنَّا، أو منه، وقد تسكت. اليوم أبي صامت، وهي المتحدثة: «ما فيك شيمة؟» أخبرها أنهم لا شك قد غسَّلوه وانتهى الأمر.
– أقلها وقَّف مع عياله في الدفن.
لم يتحرك، ثم بغضب أكبر صاحت: «قم، كلها ساعة».

نظر أبي إلينا، ثم اعتدل في جلسته، ورفع سبابته والوسطى والخنصر وصوته، قال إن ثلاثة في البلدة ماتوا دون أن يعرف الناس أسماءهم. أبي حين لا يتحدث عن جرار الذهب المدفونة يحب أن يحكي حكايات قديمة، ويحب أن نحفظ قصصه، وحين يحكي فذلك يعني أنه لم يغضب.
ذي حكاية أعرفها.. سأعاونه فيها لينهيها بسرعة ونتغدى! يذكر اسم أول رجل سُرق اسمه.. ثانيًا إصبعه الشاهد: هذا وجه الخير! اسمه معيوف!
يذكر أنهم سموه معيوف؛ لأن أمه ولدته بعد أن طلقها أبوه، فعافه الأب وعافته الأم. أخذت خالة الأم العاقر الفقيرة معيوف. قالت: هذا وجه الخير! فأقبل عليها وعليه الخير، فلم تمت إلا وهو من أغنى الأغنياء. أمُّنا قالت: «ليت أمَّك عافتك وأنت صغير». ابتسم وراحت ترد الهاتف مكانه، وتتنبأ أن جدتنا (أُمَّ أبي) التي لم نرها لو كانت قد عافته صغيرًا لأصبح صالحًا وعشنا نرتع في الدراهم.
ابتسم أبي، ثم نظر إلى أخي، خفت أن يرى قدمه فأسرعت أقول: «والثاني طينان».
ضاعت النظرة بين وجهي ووجه أخي، ثم هزَّ رأسه: الثاني طينان.
أكمل الحكاية يشرح ما حصل قبل أن يطمر الناس اسم الرجل تحت طين مهنته، ثم كعادته في قصصه تظاهر بنسيان اسم الثالث. نظر إلى أخي يريده أن ينطق الاسم، أخي لا يتذكر حكايات أبي! عدت أؤكد: زابن، واسمه الضائع مسفر.
ابتسم لي راضيًا، قال إن لا أحد في فردة يسميه مسفر. ذكر أنه كان مرة يلقِِّح نخله فأقبل رفيق له يامي، وناداه: «مسفر! يا مسفر!»، فلم يلتفت إليه، قال خالكم الأحول (حسن) للمنادي: «هذا زابن يا ضيف الرحمن.. ما عندنا مسفر».
قال أبي الجملة مقلِّدًا عينَي خالي حسن الحولاويَن ولهجته الثقيلة، ثم انتقل بسرعة لرد الضيف اليامي مصححًا وضع عينيه ومخففًا لسانه: هو مسفر.. زبِّنتوه وضيعتوا اسمه. تطلب منه أُمُّنا أن يستغفر. أعادت أُمُّنا طلبها بأن يذهب مع الرجال، وهو أخبرها أن أولاد زابن «عيال كلب» لا يستحقون مَن يقف معهم في مصيبة. كنت سأتحدث حين تنفست نَفَسًا واضحًا، ثم صار صوتها رفيعًا مرتعشًا وهي تقول: «حتى لو بينك وبينهم الشق والبعج.. الجنائز ما لك فيها عذر».
يدها المُحنَّاة ترتعش في الفراغ بينها وبينه: «زابن رفيق أبوك».
أبي التفت إليَّ، عيناه في عينيَّ، ابتسم فابتسمت، غمز بعينه يقول إن هذه الصحبة لم تكن خطأ أبيه الوحيد، فقد اختارها هي “عطشة” زوجة له. كنت سأضحك لولا أن الأم انتفضت وهي تخبره أن أقدامه حفيت وهو يطلبها من أهلها. سكتت لحظة ثم تمنت لو أن أباها استمر في رفضه له. حلفت أنه لو فتَّش فردة كلها فلن يجد امرأة مثلها! ردَّ بسرعة: «واحدة من عيِّنتك في الدنيا تكفي».
همست لأخي: «مشينا! ما به غداء».
جنازة زابن وصلت شارعنا، في طريقها إلى المقبرة. زابن ملفوف بقماش أبيض ومغطى ببشت بُنِّي، على قطعة خشب فوق رءوس الرجال يسيرون به، يوسعون طريقهم بيننا بالرحمات. نحن الصغار نلتصق بجدران البيوت وأعمدة الإنارة.
حين مروا فحصت وجوه الذين يحملونه، عيال زابن الأربعة ممسكون بحواف النعش الأربع. من الرجال السائرين خلف النعش عرفت الشويعر (سعد) صاحب أبي القديم. لم يعودا صديقَين من مدة. أبي لم يدخل بيت الشويعر من سنة، وسعد زارنا آخر مرة قبل أشهر وخرج غاضبًا. الآن لا أحد من رجال فردة يدخل بيتنا.
فجأة تحرك النعش فوق الرءوس. جمد الرجال، نظروا فوق؛ كان الجسد الملفوف يتحرك. خرجت يد زابن من القماش فارتاع حاملو النعش وأفلتوا الخشب. سقط زابن على الأرض فانفك كفنه واعتدل جالسًا. من القماش ظهر جلد صدره المُرقَّش ببقع بنية، وشعرات شائبة بين ثديَيه. هربنا؛ كل العيال والبنات هربوا، بعض الرجال أيضًا هربوا.
دخلنا بيتنا، كانت الأصوات فيه أعلى منها قبل أن نخرج، الصغيرة تبكي. أبي التفت إلى أخي، إلى شعره أولًا، وكان سيقول كلمة، لكن انتبه لقدمه، كان جرحها قد انفتح مرة أخرى، وتكورت على فم الجرح اليابس نقطة غامقة كثيفة. سأله عن سبب الجرح، أخي الغبي وقف يابسًا بلا كلمة ولا كذبة. أبي شبَّهه بالناقة «تهبِّد» فلا ترى الدرب.
بكى أخي، فضمَّته أُمُّنا، رفع أبي صوته يسألها لمَِ لا تعتني بنا بدل انشغالها بمَن عاش ومَن مات؟ ردت بأنه لو كان يتصرف مثل الرجال لتفرغت لعيالها. لا أعرف لماذا تضايقه؟ قد يغضب ونتأذى كلنا.
بسرعة تقدمت بينهما، أعلنت أن زابن عاد حيًّا. سكتا للحظة، نظر أبي نحوي، أُمُّنا رفعت ذقن أخي لتنظر في عينَيه، هزَّ رأسه يؤكد كلامي. ضحك أبي بصوت عالٍ، والتفت إليها يقول إنه لم يمشِ في الجنازة؛ لأنه علم أن زابن عمره عمر «القرين» ولن يموت اليوم.
أبي أذكى منها، ينتبه لما لا يمكن لها أن تفهمه، زابن مات قبل عدة أشهر، وهذه الثانية وقد يكررها. أنا ابتسمت وأُمُّنا سكتت دقيقة ثم صبَّت عليَّ نظرة حارة. رحت لحجرة القهوة، قبل أن أدخلها، صرخَت تناديني لأعاونها في تحضير الغداء. خرجت وهو يعدها أن تتضاعف الدراهم في يده أضعافًا لا يمكن عدُّها، ويدفن فقرها، وهي تقول إن الفقر سيحتُّ رموشه وهو رابض. قال مبتسمًا إن كل ذلك سيتغير قريبًا جدًّا.
على الغداء، بصوت أقل ارتفاعا ذكَّرَته أن الله رزقه عملًا يتمناه غيره، وأنه لو قام به لأغنانا.
– أقول لها مال قارون وتقول المعاش!
نظر إليَّ مبتسمًا، فابتسمت. اصطادتني وأنا مبتسمة:
– بنيَّتك، تحبون تخالفون الملة.
هي تكرهني إذا أرضيتُه. أما أبي فقد ابتسم لي: «هذي زرعي البكور».
خفت أن أبتسم فتضربني. سحب أبي صحون السَّلَطة لتكون على مسافة مضبوطة من بعضها ومن صحن الأرز، ثم نظر إليها لتعرف الموضع الصحيح لكل شيء. نظرت الأم إليه واستغفرت اللَّه بصوت واضح، ووضعت لقمة أرز في فم الصغيرة، وهي تحكي عن كيف يجب أن يتصرف الرجال. ذكَّرها بأنها لو وضعت رجال البلدة في الميزان لرجحت كفَّتُه.
سخرت منه: «أنت نازل من عند ربك بسلاسل».