
تتلخص رواية محمد الفولي الجديدة في كراهية النمل، يحدثنا الراوي المخادع عن أسباب كراهيته لتلك الكائنات الصغيرة، ولا يخفي هوسه بمحاولة عقابها وقتلها مع كل فصل من فصول الرواية.
محمد الفولي
إلى إسراء أسامة
لأن كل شيء أزهر بوجودك..
«النمل لا ينام أبدًا».
– رالف والدو إيمرسون.
«أفضل شيء في السماء أنها لا يُمكن أن تفيض بالنمل».
– رامون جوميث دي لا سيرنا.
«خوف المرأة من عنف الرجل هو مرآة لخوف الرجل من امرأة بلا خوف».
– إدواردو جاليانو
ابن سينا
ببساطة، أنا لم أحب النمل. لم أحب لونه الأسود الملعون ولا الطريقة الحمقاء التي يزحف بها في كل الجوانب. لم أطق أيضًا انضباط أفراد الجُحر الواحد وتشاركهم جميعًا حياة سعيدة جميلة ملأى بالتعاون. يا أخي، ما هذا الكلام الفارغ! هذا طبعًا بخلاف مسألة أن كل جُحر يكون تحت قيادة ملكة. أليس فيهم رجل رشيد؟ أعرف بالطبع أن كلمة «رجل» غير صحيحة هنا، لكن هذا العجز اللغوي ليس بسببي، فأنا أصلًا إمبراطور في اللغة العربية. انظروا إلى درجاتي. عشرة من عشرة! لكن أنا أكره هذه الحشرة. لا أكرهها فقط بسبب قرصتها المؤلمة، لكن لأن اللغة تقف عاجزة أمامها. نقول قطة وقط، وكلبة وكلب، وقردة وقرد. هذا مؤنث وهذا مذكر، فلماذا بحق المبيدات الحشرية لا توجد كلمة مذكرة لنملة! لهذا السبب لا أثق بالنمل وذكوره الذين لطالما تبختروا فوق أرضية غرفتي. كيف لهم أن يقبلوا أمرًا مثل هذا؟ كائنات مذكرة وتعيش دون اسم مذكر مفرد. الأمر في حاجة إلى ثورة. الآية عندهم مقلوبة وتقودهم أنثى ويسمونها ملكة. لم أفهم جيدًا ما يحدث داخل الجحر، فأنا في النهاية لم أدخله، لكنني حاولت دراسته بطريقتي الخاصة. لم أعرف أيضًا كيف تلد الملكة النملة هذه الأعداد الكثيرة. قلت لنفسي: «ربما سأعرف في الإعدادية حين ندرس التكاثر». يقول الحاج فهيم إن هذه هي فائدة الإناث الوحيدة: التكاثر. لم أعرف ما إذا كانت هذه حقيقة أم لا. مع ذلك، لم أسأل الحاج فهيم، لأن هذا لا وجود له في معجمنا.
فكرت سابقًا في أنه لو كان لديهم «حاج نملة» في الجُحر لتغير رأيي. لكن المشكلة أنه لا يوجد «حاج» في الجحر ولا مذكر لكلمة نملة. انظروا معي إلى مدى عجز اللغة وتناقضها هنا: كلمة «الحاج» بكل قوتها وهيبتها أمام كلمة «نملة» بصِغرها وطابعها المؤنث الضعيف. الحاج فهيم بالمناسبة رجل قوي. أعرف أنه اعتاد أن يضربني وأن يزعق في وجهي لمصلحتي؛ لأُصبح رجلًا بمائة رجل. لا أفهم حقًا لِمَ يرتبط العدد مائة بالرجولة، فقد سمعت ماما تبكي ذات مرة وهي تتحدث هاتفيًا مع جدتي بعد أن ضربها وتقول إنها يمكنها أن تُفَصِل منه مائة رجل. لم أفهم أيضًا كيف لماما أن تُفَصِل منه مائة رجل، وهي أصلًا أنثى ضعيفة وعلى حد علمي ليست خَياطة. على أي حال كلها أشياء غامضة استعصى عليّ فهمها.
مع ذلك، لم يكتنف الغموض كل شيء، فقد كانت هناك حقائق واضحة ومنها:
1- أنني أكره النمل.
2- أن الرقم مائة مهم في مسألة الرجولة.
3- أن الحاج مغفل لغويًا.
4- كوني إمبراطورًا للغة العربية.
أنا إمبراطور اللغة العربية. أنا نجمها الأوحد. أنا نجمها أكثر من ابن سينا! اعذروني. لقد أخطأت. أنا مجرد طفل يتعلم، فابن سينا لم يكن علاّمة في اللغة العربية، بل طبيبًا أو فيلسوفًا. الأمر وما فيه أن الأمر اختلط عليّ في خلاط اللغة، لأنني بصراحة، بخلاف حبي للعربية، أحب جون سينا كثيرًا. أحب مشاهدته يصارع ويركض ويحمل خصومه ويُلقي بهم من فوق الحلبة. مشاهدة جون سينا هي أمتع تجربة اعتدت أن أفعلها مع الحاج أسبوعيًا، وهذا لأنه حينما يُشاهدها لا يراني أصلًا، ويضع تركيزه كله على الحلبة، فأشعر بأنني صرت خفيًا بالنسبة إليه، وبأنني أصبحت ابن سينا، مصارعي وبطلي الهمام. «أنت لا تستطيع رؤيتي»، «You can’t see me». هذه هي العبارة المفضلة لجون سينا. تجده يقولها وهو يحرك يده أمام وجه خصمه الساقط على الأرض قبل أن يُجهز عليه. «أنت لا تستطيع رؤيتي» هي العبارة المفضلة لي أنا أيضًا، ولطالما قلتها في كل مرة قبل أن أجهز على النمل الأسود الملعون، وموسيقى دخول بابا سينا إلى الحلبة في عقلي.
لا أرغب في أن يظنني البعض عنصريًا، بسبب تكرار وصف اللون الأسود بالملعون. أنا لست عنصريًا. بصراحة، لا أفهم العلاقة بين اللون الأسود و«العنصرية»، لكنني قرأت هذه الكلمة لأول مرة في منشور على الانترنت. تحدثوا عن ثورة للسود في أمريكا، وهي بلد جون سينا. لا أعرف لماذا لم يخرج لتهدئة كل هؤلاء الناس وهو بطل الأبطال. أو ربما أعرف فعلًا: لقد أصبح عجوزًا وما نشاهده هي مجرد لقطات قديمة من زمن فات. ربما أصلًا قد مات. لا أعرف حقًا. المهم أن تعلموا أن لدي طرقًا كثيرة لقتل النمل. سنتحدث باستفاضة عن هذه المسألة. لدينا وقت العالم كله، فأنا وحدي دائمًا. سواء كان الحاج فهيم موجودًا أم لا.
أنا وحدي
وحيد
متوحد
وربما لهذا السبب
لا تستطيعون رؤيتي
النملة المؤسسة
مع أن عمري قصير، فحكايتي مع النمل موال طويل. هذا ليس تضادًا يؤكد المعنى ويوضحه وإنما حقيقة مثبتة. دعوني أخبركم أن للنمل 21 فصيلة: 17 فصيلة حية، وأربع فصائل مُستحاثية. في الحقيقة، لا أعرف معنى مُستحاثية، لكن هذا ما وجدته على الإنترنت حين بدأت أجمع كل المعلومات الممكنة عن عدوي الأول في هذه الحياة. أجل، فالنمل كان خصمي الأكبر، وكرهته أكثر من:
1- كل الأشخاص الذين يكرهون اللغة العربية.
2- كل مشجعي نادي برشلونة.
3- سليم الفيل الذي اعتاد أن يضربني في المدرسة.
بالمناسبة، بحثت كثيرًا عن معنى كلمة مُستحاثية في كل المعاجم ولم أجدها. أنا لا أحب الكلمات التي لا تظهر في المعاجم. إنها أشياء بلا أصل ولا فصل. أنا أيضًا صرت بلا فصل، وربما لهذا لا أحب نفسي. في الحقيقة، لقد فصلوني بعد ما فعلته بسليم الفيل. أقسم لكم إنني لم أفعل شيئًا بيدي. إنه النمل. قد يستغرب البعض ويسأل: كيف ساعدك النمل وهو عدوك، وسأجيبهم وأقول إن العالم ينقسم إلى نوعين:
1- أغبياء.
2- أذكياء.
لا يستغل الأغبياء أعداءهم لتحقيق أهدافهم، على عكس الأذكياء، مثلي، الذين قد يستغلون أعداءهم للانتصار على خصوم آخرين، مثل سليم الفيل، الذي بالمناسبة ليس فيلًا ولا شيئًا من هذا القبيل. هذه ليست حكاية خيال علمي. هذه قصة واقعية! كل ما قلته وكل ما سأقوله حدث بالفعل، لكن هذه أول مرة ستعرفونه بلساني الذي لا ينطق، وقلمي الرصاص الذي يكتب.
هذه يا سادة هي القصة الكاملة!
اعذروني على هذا الأداء المسرحي. ربما خرجت عن الإطار قليلًا. لكن أنا في النهاية مجرد طفل، وأحب الثرثرة والأداء المسرحي. كذلك، كنت أكره النمل وسليم الفيل، الذي نال عقابه كما يجب بطريقة كنت فيها القاضي والجلاد؛ ففي الليلة السابقة لتطبيق حكمي، وضعت فتحة علبة المربى عند فم الجحر كأنها قبلة بين حبيبين؛ كأنها واحدة من قبلات تلك الأفلام التي أشاهدها خلسة والحاج فهيم في سابع نومة. لما استيقظت في اليوم التالي، عرفت أن مرادي قد تحقق، إذ أصبحت العلبة ملأى بجيش من النمل. فركت يديّ بحماس، ثم ارتديت قفازًا بلاستيكيًا لكيلا يقرصني النمل الملعون، ووضعت العلبة في حقيبتي. تحينت اللحظة المناسبة – ويا له من تعبير لا يقدر أي طفل غيري على قوله- وحين جاءت الفسحة شددت الفيل من حزامه، وسكبت كل النمل الموجود في العلبة داخل بنطلونه؛ تحديدًا على زلومته. أنتم تعرفون ما أقصده. ليتكم شاهدتم كيف ظل الفيل يجري كالمجنون هنا وهناك وهو يخلع بنطلونه ولباسه في وسط الحوش. وقفت أمامه، وكررت حركة بابا سينا. هززت يدي أمام وجهي وأنا أقول له: «YOU CAN’T SEE ME»، فيما ظل هو يصرخ ويبكي. لم يعد سليم الفيل، أو لم يعد فيلًا سليمًا. صار فيلًا مكسورًا. يبدو أنه لا يعرف شيئًا عن الرجولة أو عن الرقم مائة أو التفصيل والخياطة! أو ربما أن هذا ببساطة ما يفعله المرء حين لا يتوقف النمل الأسود المعلون عن قرصه.
حسنًا، لا أريد أن أقسو عليه، فأنا بكيت وصرخت كالمجنون حين قرصتني نملة للمرة الأولى، مع أنني أعرف أشياء كثيرة عن الرجولة. كانت مجرد نملة واحدة، وقرصتني في ذراعي، لا في زلّومتي، ومع ذلك لا يزال الأثر الذي خلفته قرصة تلك النملة المؤسسة سببًا في أشياء كثيرة. حدث هذا منذ فترة لا أتذكرها، حين بدأت تلك الحشرات المؤذية تظهر في البيت وغرفتي. كنت أجلس وأنا أبكي، بعد أن رأيت الحاج فهيم يضرب ماما على وجهها، قبل أن يخرج من البيت غاضبًا. ضربها لأنه وجد نملًا في غرفة النوم. حين تقدمت لمواساتها، ظلت صامتة، فاستفززتها. ضربتني أنا الآخر على وجهي، فذهبت لغرفتي، وأغلقت عليَّ الباب. جلست على الأرض، وبكيت في صمت كما يليق بالرجال، سواء أكان عددهم مائة أم ألفًا. شعرت وأنا أذرف الدموع بتلك الحشرة السوداء وهي تتمشى على ذراعي. حينئذٍ، قرصتني. شعرت بوخز خفيف ونفضت بيدي مشمئزًا من تلك النملة التي أحسب أنها وضعت أسس كل شيء. دهستها بقدمي، من دون أن أعرف ما هو آت. لما اشتد الألم جدًّا، وتورمت ذراعي، وظهرت كرة حمراء في منتصفه، بدأت أبكي وأصرخ كالمجنون. حينئذٍ، جاءت ماما أيضًا كالمجنونة لترى أي مصيبة حدثت. أريتها ذراعي، فعانقتني واعتذرت مني بسبب صفعي على وجهي. قالت أشياء كثيرة لم أفهمها، لكنها بدت إساءات بحق الحاج فهيم، والنمل أيضًا. مسحتْ دموعي وظلت تربت عليَّ. أبقتني فترة في حضنها. أحب حضن ماما، ورائحتها. لا أحب أن يضربها الحاج فهيم، خاصة حين يتعلق الأمر بالنمل، لكنه على أي حال كبيرنا. إنه أكبر منها بسنوات كثيرة. هي أكبر مني بسنوات كثيرة. ربما يريد تربيتها، كما تريد تربيتي. ليس لديَّ أخ أصغر كي أربيه وأضربه. لست مثل كريم، زميلي في المدرسة. لديه في بيته حاج يضربه هو الآخر. اسمه الحاج فريد. لديه أيضًا أخ أصغر اسمه كارم. حين يضرب الحاج فريد كريمًا، يبكي الأخير في غرفته، لكن يأتي أخوه الأصغر كارم ليواسيه. يسأله لماذا يبكي؟ لماذا هو حزين؟ فيقول لأنه ضُرب. كارم أخ صغير وجميل. لا يريد أن يبكي أخوه الأكبر. يطلب منه أن يضربه؛ أن يُخرج غضبه فيه. يشعر كريم بالراحة حين يضرب أخاه الأصغر، وهكذا ينتهي جدول الضرب. يشعر كارم بالراحة أيضًا، مع أنه صار مضروبًا. يشعر بالراحة لأنه ساعد أخاه، ولأنه لم يعد يبكي، وأيضًا لأن أمه حُبلى. ستلد قريبًا أخا ثالثًا، سيسمونه كرمًا، وستدور الدائرة وسيضرب كارم كرمًا. سيستمر جدول الضرب، مع أنه انتهى. لكل هذا أكره الرياضات، وأحب اللغة العربية. بالمناسبة، ماما لا تريد أن تلد مرة ثانية. الحاج فهيم أيضًا. ليس لديَّ أخ أصغر. سأظل بمفردي. أنا الرقم الأخير في جدول الضرب، لكن هذه النملة المؤسسة التي نفضتها من على ذراعي، منحتني فكرة وأنا في حضن ماما: «سأؤسس جدول ضرب جديدًا لن أصبح فيه أنا الرقم الأخير، بل النمل الأسود الملعون».
