في عالم عنصري عنيف، تصف لنا مي المغربي في روايتها الأولى بطلتها ناصرة، وتصوراتها عن نفسها وشخصيتها وهويتها الجنسية، وما الذي يحكم تصرفات الرجال من حولها.
-1-

لم أشعر بشيء، ما حكته هالة عن النشوة ربما لم يكتب لي. لم أجرب الجنس بالكامل. لكنها أكدت لي أن الاحتكاك يكفي. يمكن جدتي أسما لم تشعر بشيء أيضًا حينما نامت فوق الأرض وبحلقت في سرب من النمل يحاول تسلق فخذيها المتعرقتين. الحرُّ في الصعيد له يدان تمسك دماغ الواحد من الخلف ثم تنسل ببطء حتى تصل لأصابع القدم. هذه الحركة تجعلك تدرك أن للرموش وأطراف الشعر والحواجب أعصابًا تحس. وكمحاولة لتشتيت الانتباه ركزت أسما على خيوط العنكبوت في السقف، لم تشعر أن عليها تنظيف الدار أو الاستحمام. لكنها قررت النزول للإسكندرية والبحث عن زوجها رجب. طوال خمس سنوات لم يرسل رجب سوى بضعة ملاليم دون سلام أو سؤال عن أحوالهم. حزمت أسما بَياضة حمراء كشنطة سفر ودست بداخلها الملابس وفي بياضة أخرى أصغر وضعت أرغفة عيش شمسي ومِش وفايش. وانتظرت حتى الفجر لتصحي العيال حمدة ونعمة. ومشت ثم ركبت حميرًا كثيرة حتى وصلت لديروط ومن ديروط دفعت أسما عيالها داخل أول صندل عرفت أنه نازل للإسكندرية، كانت مركبًا محملة بقصب السكر. من ترعة الإبراهيمية، بدأت الرحلة من تحت قنطرة ترعة الدلجاوي، حتى وصلت لبني سويف. كان الجبل الذي طالما أحاط حياة جدتي وأسيوط بأكملها وخنقهما، يختفي بالتدريج. ثم رحلة أخرى حتى وصلوا لترعة المحمودية في الإسكندرية. كانت تخاف القطر، تراه دودة كبيرة وضخمة وهي لا تريد أن تصبح لقمة في أحشائه. كيف فعلتها وحدها؟ وكيف لم تخف على جسدها من عبث الحمالين المحتمل، أو أن يتوه عمي وعمتي منها لكنها وصلت سليمة أو هذا ما يقوله بابا. سألت أسما الحمالين المتناثرين عند ترعة المحمودية من ناحية غيط العنب عن رجب زوجها، هذه هي الأشياء التي تعرفها بعد زاوية العباد في أسيوط التي خلفتها وراءها. لم يكن صعبًا الوصول لرجب، لأنها عندما سألت عليه أشاروا لها على كوخه. أثناء المشي ناحية الكوخ انتبهت أسما لرائحة المِش والعرق ولعيالها المتمسكين بها، ولثقل البياضات فوق دماغها وتمنت أن تكون أخف. في الطريق شمَّت رائحة ضُرَّة غيرها اتخذها رجب زوجة. وجدتها فعلًا في الكوخ، وأخبرتها أن رجب عند ضريح سيدي كريم ووصفت لها السكة ببرود من الكوخ للملاحات. لم تكن أيضًا بعيدة. سيدي كريم؟ يمكن قالت في سرها: بقيت بتصلي يابن الوسخة؟ قبل أن تترك العيال لضرتها ومشت بغل مكتوم، أشعل القش والحشائش والهيش غضبها أكثر، تدخل أشياء في أنفها، لا اعرف كيف كانت رائحة غيط العنب لكني دائمًا ما أتخيلها مزيج بين الصنانة والبقدونس. أكيد شبشبها علق في التربة عدة مرات. أنا أيضًا شبشبي علق عدة مرات في البوص. لكنها وصلت رغم ذلك، وعلى غفلة من خمسة رجال مشكلين حلقة تفوح منها رائحة زنخة حول ضريح، تنتقل فيه الجوزة من رجل لآخر. هذا ليس مفهومها عن حلقات الذكر، لكنها عرفته، كان أنحف وأكثر انتشاءً. أمسكته من جلابيته وبدوره صرخ، لم يتوقعها وإنما كان يتوقع الشرطة، بإمكانه الوقوف في وجه المخبرين أو حتى الضباط، إنما زوجته الأولى التي هجرها فلا!
في سكة الرجوع للكوخ حاول أن يضحكها، أخبرها أن ضريح سيدي كريم لعبة، عملناها أنا والرجالة عشان لو اتأبرزنا نعمل نفسنا بنسبَّح بعد ما ندفن اللي معانا. لعبة يا رجب؟ وصلوا للكوخ فأفرغت أسما كل ما تراكم على مدار سنوات اختفاء جدي في بطنها من غضبٍ وغل وحزن، أخرجت كل ذلك على جسد زوجته الجديدة. أخبرها أنها غلبانة ووحدانية، أنها جاءت من كوم حمام هربًا من أخٍ يضربها وأحيانًا يلمسها. لكنها لم ترُق واستمرت في ضربها بل وظلت تعايرها على مر السنين حتى ماتت زوجة جدي وأنا في السابعة. كرر بابا كثيرًا أنها قالت لها يا زانية يا بنت الزانية.
ما رجعنيش من التوهان في دماغي غير قذف ماهر في فمي وعلى وجهي. كان طعم ما قذفه كالليمون المُعصفر. كرهت ماهر لأن بداخله شيئًا بهذا الطعم، وكرهت أسما لأنها السبب في وجودي داخل غيط العنب.

-2-
أثناء طلوعي سلم البيت حاولت مسح ما تبقى من مخلل ماهر على وجهي بالجزء الداخلي من البلوزة. انبهرت أسما من فكرة المكان وليس المكان نفسه. صح؟ نعم، انبهرت بالخروج، ومن وجودها في الإسكندرية التي سمعت عنها. رغم أن بابا يؤكد أن غيط العنب حينها كانت تشبه زاوية العباد التي أتوا منها بالترعة، وبيوت الطين ولكن بلا جبل، وبغيطان خضار وفاكهة، وتعريشات عنب، وزرايب للجاموس. وقراميط أكثر في الترعة وتجارة أرز وقصب وملوحة ومِش وعسل، تجارة مضمونة ومطلوبة في الإسكندرية، وقطن في شِوَن مينا البصل ينتظر شيالين وشركة كهربا ومضارب رز على الناحية الثانية من الترعة، تبحث عن عمال. ماما أيضًا عندما جاءت مع عيلتها للإسكندرية انبهرت، كان عندها حق. جاءت من كفر حمودة أرناؤوط في الشرقية ومن أب موصوم بعمل أعمال السحر. أتتها فرصة للعيش في مكان جديد لا يعرفها فيه أحد، مكان به ترام أو كهربا كما تحب أن تسميه. الترام أيضًا إمكانية أخرى للخروج. لم أسأل ماما أبدًا عن شعورها تجاه الترعة الموجودة في غيط العنب، هل شعرت بالوكسة؟ أم كان يكفيها وجود ترام؟ خلعت ملابسي ورميتها بجانب باب الحمام. ريحة حلوة كأنها مية ورد، دلتني مناخيري على أكياس شامبو بهم لحسة من رمتها ماجدة أختي، مسكينة، تصدق بأن الشامبو سيُنَعِم شعرها. ربما لم تلحق ماما أن تشعر بشيء تجاه المكان، ففي طريقها قبل أن تصل للإسكندرية باتوا هي وأمها وأبوها وخالاتي وزة وصابرين في بيت على مشارف محافظة البحيرة، حينما دخلوا البيت كان به صراخ وعويل رغم خلوه إلا منهم، أبوها صرخ بدوره وقال: إحنا هنقعد الليلة وهنمَشي الصبح بدري، عايزين ننام. فتحت كيس الشامبو وأخذت المتبقي منه على وجهي وعلى شعري. الصراخ سَكت، بعد كلام أبوها، وناموا. لكنها قبل أن تنام تمنت لو مات أبوها بعفاريته قبل دخولهم للإسكندرية، ربما سمعها أحد العفاريت لأن أباها قام وضربها ثم وقع فمات. في الصباح أكملت والدتها الرحلة مع بناتها والكثير من الحزن. وحينما وصلوا كانوا في منطقة لا تتذكرها ماما حتى اليوم، لكن أحد أولاد الحلال أوقف لهم عربية كارو ونصحهم بالسُكنى في غيط العنب، وهو ما حدث. سَكنوا في غرفة شِرك في حارة عوض الله. جميع من فيها من المطرية ويعملون صيادين في الملاحات. لم تحمل ماما شهادة ولا أمها ولا أخواتها، كانوا يحملون الوصم القديم وعيون زرقاء وقدرة على التلون لكسب الود، مع الوقت أصبحت الشقة ملكهم. جدتي لأمي كانت حفَّافة، تتصاحب على هذه وتلك لتسند ضهرها. وهو ما أهلها مع التحويش لتأجير شقة بأكملها بسعر مناسب على السطح، لزوم تربية الطيور.. استقالت جدتي من رؤية طياز ورجول الستات وتفرغت لتربية وبيع البط والفراخ. هذا أيضًا ما كانت تتمناه أسما من رجب، أن يبني بدل الكوخ بيتًا. ويحيط المنطقة أمامه بسور حتى تربي الفراخ والبط. كم أحبت جداتي غيط العنب، وماهر أيضًا. لكنه يحب الترعة بشكل خاص، أحيانًا أشعر أنه يعبدها. جمعتني بماهر عدة لقاءات خاطفة عندها بعد نهاية يومي الدراسي في المعهد. أتشارك مع ماهر تاريخًا عائليًا متشابهًا، أمه من دمياط وأبوه من الصعيد، تزوجا وسكنا في نفس الشارع الذي تزوج أبويا وأمي فيه. يحكي ماهر عن السمك الذي كان يرميه النيل في غيطان دمياط حتى يصل إلى لحظة دخول أجداده لغيط العنب عن طريق هذه الترعة. يتصور أن محمد علي باشا أمر بشقها من أجلهم، ومن أجل أن يولد في الإسكندرية ويلتحق بكلية الحقوق فيما بعد. في آخر مرة جلسنا على الترعة سألته: بتحب القراميط؟
قال: لأ يا ناصرة، وتف.
قلت: الترعة فيها قراميط!
حاول أن يستفهم سبب دخول سيرة القراميط في حوارنا؟
قلت: ولا حاجة، عايزاك تسكت..
لكني أردت أن يشاركني كره هذا المكان أو أن يحكي عن عدم احترام زملائه له في الجامعة حينما يخبرهم أنه من هنا، وأن عند بيته ترعة وأنهم راحوا ولا جم فلاحون. لكنني فضلت أن يسكت، بل تمنيت لو يلف رقبته قرموط ويقسمها. قطع ماهر أفكاري بحكاية سخيفة ومملة دأبت أمه على أن تحكيها له. حكيت بدوري حكاية كانت جدتي أسما تحكيها لي ولأخي سامي عن الشاطر حسن وكيف أراد أن يتزوج أخته عبلة:
كان فيه واحد وواحدة قالوا يارب إدينا واد وبت،
إداهم،
راحوا سموا الواد حسن والبت عبلة.
لف حسن الدنيا كلها علشان يلاقي بت في جمال أخته اللي شعرها نصه فضة ونصه التاني دهب، ملقاش.
حسن قال: يا أمي أنا عايز أتجوز أختي.
فأمه قالت: فيه حد يتجوز أخته؟!
حسن قالها: أنا.
راحوا عجنوا له البسكويت وخبزوا لها، وأمها قعدت تعيط.
عبلة تقولهم بتعيطوا ليه؟ راحت واحدة قالت لها: انتي ماتدريش؟
عبلة قالت: لأ.
قالت لها: طب اديني حتة لبان وأنا اقولك!
إدتها،
فقالت لها وهي بتنضغ: يا عبلة يا عبلة يا أم العيون السابلة أخوكي عاوز يِتجوزك.
اتخضت عبلة وفرت من البيت لحد ما لقيت نقرة وكلبة بتشرب منها.
فقالت للكلبة: تيجي نقسم النقرة نصين؟
فالكلبة وافقت وقعدت تشرب لحد ما اتفقعت.
فسحبت عبلة من شعرها دبوس وسلخت جلد الكلبة ولبسته -كانت جدتي تسحب من شعري دبوسًا وتهوش به أمامنا- وعلى آخر الليل عطف عليها جدع وأخدها لبيته وربطها جنب الفرن. واستيقظ هو وأمه على ريحة فطير. تحلف أمه أنها لم تخبز. ويحلف هو أنه لم يشترِ أي فطير. وهكذا كل يوم يستيقظون على فطير مشلتت بجانب الكلبة. يوم بعد يوم جلد الكلبة بدأ يتنسل. فشد الجدع نسيلة وظهرت له عبلة. فغطاها تاني وجري على أمه.
فقال لها: يا أمي أنا عايز أتجوز الكلبة!
فقالت له: هو فيه حد يتجوز كلبة؟!
فقال لها: أنا!
واتجوزها..
كانت جدتي تقف وقفة طويلة في هذا الجزء من الحدوتة.
وقفة تشقني وتعمل فجوة مليئة بالرعب داخلي. ثم تعود لتقول إن عبلة عادت لبيتها لتسلم على أمها فوجدت حسن نادمًا وأمها وأبوها عميان. لم أكن أفهم شيئًا من كل الصور التي تتدفق أمامي، أحيانًا أتقيأ من فكرة أن يسلخ أحدهم جلد كلبة ويرتديه. وأحيانًا أكره أخي وأخاف منه. هناك شيء ناقص في هذه القصة، لم أكتشف ذلك إلا بعدما كبرت وأسما ماتت وأنا في تالتة إعدادي، فأصبحت أنام وأصحى وأنا أفكر في الجزء الناقص الذي لم أصل إليه.
ماهر كان منبهرًا من الحكاية ويريد أن يستزيد، وختم كلامه بأن الناس في غيط العنب لديهم تصور خاص للحياة. فتشجعت وحكيت له عن حلم يتكرر معي وهو أن ثعبانًا يلدغني وأحيانًا يأتيني نفس الثعبان ليقف بين فخذي مشكِّلًا بتاعًا طويلًا يرقص. رأيت في عينه نظرة ذعر، تقطع من لحمي نسايل، لم يقف الإحراج هنا، إنما أيضًا صمت كثيرًا لحظتها وانزاح عني قليلًا ثم عاد بجانبي وقال إن أمه بتقول على الأحلام دي أضغاث أحلام، واستعجلني في أن نعود لبيوتنا حتى لا يرانا أحد. كم نفرت من ماهر بعد رد فعله على أحلامي؟ لحظتها عرفت أنني فقدت اهتمامي به، وبجانب المخلل الذي يقذفه، تأكدت من حبه لغيط العنب وأنه سيظل هنا للأبد وربما لن يسمح لي بالخروج منها إذا استمررنا معًا، استمررنا كلمة كبيرة. بل سيتركني إن حكيت له حلمًا آخر من أحلامي.
على نفس السلم أطلع وأتذكر أن كل ما كان يشغل تفكيري لحظتها هو أن غيط العنب كانت تقتلني كل يوم، فكلما عرف أحدهم أنني من غيط العنب ينظر لي نظرة يملؤها البؤس والخوف. البؤس من الفقر، والخوف من أن يكون أحد أقاربي تاجر حشيش أو أنني نفسي تاجرة حشيش. لكني مثل جدتي لا أشعر بشيء يربطني تجاه المكان الذي وجدت نفسها فيه. ولا أشعر أن علي فعل شيء ليكون مناسبًا لي بل أشعر مثلها أنني أريد الخروج، بل يجب أن أخرج، لكن إلى أين؟