عزمت ميرنا المهدي على كتابة رواية جاسوسية للمرة الأولى، لكن ما حدث في 7 أكتوبر غير مسارها، لتكتب في النهاية رواية جاسوسية-نوار بديعة، تدور أحداثها في فترة النكبة في فلسطين.
القدس
نيسان 1948
شقائق نعمان القدس

في الساعة الأخيرة من عمره، لم يشغل بال إلياس خليل المقدسي إلا تاريخ مطعم حنون القدس.
ككل سكان المدينة، يعلم أن مالكه الأصلي فلاح فلسطيني، انتقل من الجليل إلى القدس ليبنيه مع زوجته من جرمق جبلي، تفوح منه رائحة الزعتر البري الذي نما على سفح الجبل الذي جُلبت منه حجارة هذا المطعم، لكن مع بداية الانتداب الإنجليزي، استولى عليه جنرال أشقر متعجرف، ونقل اسمه من اللهجة الفلسطينية إلى الإنجليزية ليصبح شقائق نعمان القدس.
والآن، لا يعلم غير الرب ماذا سيُسميه الصهيوني البولندي الذي اشتراه من الإنجليز بعد إعلان التقسيم.
ما يغضب إلياس في أثناء جلوسه في المطعم الآن، أن سارقه الجديد لم يكتفِ بوضع يده عليه كما فعل الجنرال الإنجليزي من قبله، بل شوَّه هويته تمامًا. غيَّر تصميم خداديات المقاعد التي كانت يومًا مزينة بتطريزة الجليل الفلاحي المبهجة، واستبدل خشبًا قاتمًا لا روح فيه بالأرائك التي كانت مُطعمة بالصدف العكاوي.
لم يتوقف التشويه عند الديكور، فقد استبدل أيضًا فرقة جاز عبرية بالتخت الشرقي الذي كان يطرب القلوب ويعطي مساحة للمستمع، ليدندن بالعلياي والأوف والعتابا والميجانا وهو يؤرجل.
على الرغم من نفور إلياس من تغييرات شوَّهت ذكريات عائلته، التي كانت تتغدى كل أحد في هذا المطعم العريق، فإن تدني ذوق المستوطن خدم خطته بمثالية. فلولا أن الأرائك مستطيلة من خشب داكن معتم كالتابوت، لما استطاع أن يزرع فيها قنبلته، ولولا أن الفرقة العبرية تعزف ضوضاء عالية، لما كان نشازها تغطية ممتازة لصوت تكتكة مؤقت القنبلة التي يحيط بها ما لا يقل عن أربعين عضوًا من عصابتَي الإرجون وشتيرن، محتفلين بنجاح مذبحة ارتكبوها في قرية صغيرة منذ بضعة أيام.
بتر تأمله صوت فتح الباب مرتطمًا بالجرس المعلق أعلى إفريزه لينبه مضيف المطعم بدخول ضيف جديد.
انتبه المضيف الأشقر ذو العينين الزرقاوين الذي استقبل أفراد العصابتين المسلحتين بتوكسيدو بيضاء ناصعة، وبابتسامة مرحبة تكشف عن غمازتيه.
نظر إلياس عبر زجاج المطعم، حيث يقف في الشارع رجل خمسيني أسمر، يستند إلى الحائط بجوار الباب، يعدِّل قبعة الفيدورا فوق شعره المثبت بالفازلين، ويأكل كعكًا بالسمسم.
على بُعد مترين منه، سيارة أجرة سائقها أربعيني مُلتحٍ، شعره أسود كثيف، يرتدي دبلة فضية في يده اليسرى، يجاورها خاتم ذهبي صغير في بنصره، ويتناول لوح شوكولاتة وهو يقلب نظره تارة بين مرآتيه الجانبية والخلفية لتأمل الطريق، وتارة أخرى نحو مدخل المطعم وواجهته الزجاجية.
نظر إلياس إلى ساعته الذهبية المتدلية من سترة بدلته الروزا المجدلاوية الأنيقة.
باقٍ من عمره خمس وخمسون دقيقة.
سمع جرس الباب ثانية.
عبرت منه شابة في أواخر عشرينياتها، ترتدي ثوبًا أحمر يزيد من توهج شعرها الأصهب ووردية وجنتيها.
سألها المضيف بالعبرية:
– الحجز باسم مَن يا سيدتي؟
– الآنسة روث شوارتز.
– أرى أن الحجز لفردين، أتنتظرين أحد أفراد الإرجون أو شتيرن؟
– لا دخل لي بهؤلاء. ضيفي على وشك الوصول.
– أعتذر إليك آنستي، لكن المطعم محجوز حصريًّا لأعضاء شتيرن والإرجون.
– المعذرة؟
– آنستي إن المطعم…
– القائد أفراهام لينمان هو الذي أعد هذا الحجز مع مالك المطعم مباشرة. ستقودني إلى طاولتي أم تود أن تخسر وظيفتك أيها الثرثار؟
انفرجت أسارير وجه المضيف الذي يبدو لروث أن عمره لم يتجاوز العشرين بعد، وقال بابتسامة واسعة:
– أنتِ في رفقة القائد لينمان، إذن! أعتذر إليك بالطبع. تفضلي.
قادها إلى الطاولة المجاورة لإلياس، فجلست وهي ترمق المضيف بضيق، حتى تركها وعاد إلى مكتبه.
تلفتت حولها وهي تلقي نظرها على كل زاوية في المطعم، حتى وقع نظرها على إلياس.
لم تعِره كثيرًا من الانتباه، تفقدت وسامته بلامبالاة كما تفقدت بابَي الدخول الأمامي والخروج الخلفي وأعضاء الفرقة، أما هو،
فلن يخادع نفسه، استغرق في النظر إلى عينيها الزرقاوين الكحيلتين، ونمش وجهها دقيق الملامح، وعقد اللؤلؤ الذي يزين عنقها الناعمة.
انتبه لنفسه فتوقف عن التغزل في حسنها الأوروبي، فلا داعي إلى التشتيت.
نظر مجددًا عبر باب المطعم الزجاجي، الأسمر الخمسيني انتهى من الكعك وانشغل بإشعال غليون يدخنه، وسائق الأجرة يعيد تغليف قالب الشوكولاتة، ويضعه في جيب قميصه الأبيض.
أشعل إلياس سيجارته، وكاد يطلب مشروبًا من النادل، لكن لفت نظره أن حسناءه ذات الشعر الأحمر تقرأ كتابًا. ليس أي كتاب، إنه نوفيلا «قلب الظلمات» لجوزيف كونراد، وليست أي نسخة منها، يعرف هذه النسخة الشخصية بتغليفها الجلدي الأخضر وبعنوانها الإنجليزي الملون بالذهبي.
يعلم أن صفحة عنوانها مختومة بختم أزرق يحمل اسم صاحبها، ويحفظ الإهداء المكتوب عليها، ويعرف أن الجزء السفلي من صفحتها الأخيرة مثني.
الآن من المستحيل أن ينزل عينيه عنها، ظل يحدق إليها حتى انتبهت له.
تركت الكتاب على الطاولة، ووضعت سيجارة في مبسمها الأسود الطويل، وبدأت تدخنها وهي الأخرى تنظر إليه نظرات حادة تستنكر تحديقه الوقح إليها.

استمرت مسابقة التحديق تلك من دون أن يتبادلا كلمة واحدة، حتى رن جرس الباب مجددًا، فالتفت كلاهما لتبيُّن الضيف الجديد.
كان ضيفًا بدينًا مترهلًا يرتدي طربوشًا أحمر فاقعًا وبدلة كحلية، وعلى صدره دبوس ماسي على هيئة رمانة.
سأله المضيف عن اسم الحجز فأجابه، وقد تقطعت أنفاسه مسافة الخطوات المعدودة التي سارها من سيارته وحتى باب المطعم، فتخضبت وجنتاه البضتان بالمزيد من الحمرة:
– الآنسة روث شفارتز.
نطقه حرف الواو فاءً جعل المضيف يحييه بالتركية، وكاد يخبره بأن الآنسة روث في انتظاره، لكنها سبقته بأن رفعت ذراعها تشير إليه لينضم إليها.
اقترب منها وقد انفرجت أسارير وجهه وهو يتأمل مفاتنها، ويقول بالألمانية:
– آه، الآنسة شفارتز، أخيرًا التقينا. أهلًا بكِ في القدس!
قبَّل يدها قُبلة شبقة، ثم جلس قبالتها يسألها وهو يتفرس وجهها:
– لماذا غيرتِ الميعاد من السبت إلى الليلة؟ انتظري، دعيني أخمن. لأنكم يوم السبت لا تعملون، مضبوط؟
– أعرفت أنني يهودية من كُنيتي؟
– بل من أنفك! إنها السمة التي تفضحكم.
ابتسمت مستهزئة من تفكيره العنصري، ثم ألقت نظرة أخيرة على إلياس الذي ما زال يتأرجح نظره بينها وبين ما يدور في الشارع وبين ساعته.
باقٍ من عمره خمس وأربعون دقيقة.
أشار التركي إلى النادل وهو يصيح بعجرفة:
– يا ولد! نبيذي! سأسقيك أطيب نبيذ يا آنسة روث.
أتى النادل بنصف زجاجة خضراء، صب منها كأسين، ثم ترك الزجاجة وابتعد عن الطاولة.
نظرت روث إلى الكأس فالزجاجة. اشتمت النبيذ، ثم سألت التركي:
– مراد باشا، أهذا نبيذ الرمان؟
– نعم، إنه من مدينتي، ماردين. ألن تجربيه؟
– لِمَ لا ننهي ما أتينا من أجله أولًا؟
– لقد أوضحت لكِ كل شيء في مراسلاتنا. والآن دورك لتقترحي سعرًا يليق بممتلكاتي على أن يكون اتفاقنا في سرية تامة.
– ألا يستسيغ الباب العالي أن يتاجر اليهود معكم في فلسطين؟
– أنا لا أبيع ممتلكات الإمبراطورية العثمانية، هذه مسألة شخصية أود إتمامها في أسرع وقت.
– ولِمَ العجلة يا باشا؟ أنت تملك تلك الأراضي منذ عقود.
نهض أحد الجنود المسلحين، وسار بخطوات مترنحة حتى الفرقة وهو يغني، ويطالبهم بعزف نشيد شتيرن:
– حياليم ألمونيم! اعزفوا حياليم ألمونيم!
أذعنت له الفرقة، وأخذ الجميع يرقصون وينشدون تلك القصيدة الحربية التي اتخذوها نشيدًا وشعارًا.
زفر مراد باشا بأسى، وارتشف النبيذ على دفعة واحدة، ثم قال لروث وهو يعيد ملء كأسه:
– فلسطين لم تَعُد مناسبة للاستثمار. هؤلاء السُّكارى المسلحون حولنا خير دليل.
– وماذا ستفعل بعد بيع ممتلكاتك هنا؟
– سأشتري مزيدًا من الأراضي والعقارات في ماردين.
– ماذا لو كنتُ مهتمة بشراء عقار من عقاراتك في ماردين وليس في يافا؟
– لكن خطاباتكِ كانت تقول إن…
– ماذا عن الدار رقم أربعة؟ بحديقتها خمس شجرات رمان وبابها مطلي بالأحمر الداكن، ولها نوافذ من الفورفوجيه الأسود
وشرفتها تطل على الأناضول، صحيح؟
– هذه داري!
– ليست دارك يا مراد باشا. هذه دار الملحن الأرمني ألبون برطميان. ألا تذكر ألبون وميريام وابنتيهما؟
لأول مرة، توقف إلياس عن النظر إلى روث بغضب، بل بذعر.
أطفأت سيجارتها، وأخذت تعدل قفازيها الحريريين، بينما ابتسم مراد باشا مستهزئًا، ثم تنهد وقال:
– تقربين لألبون؟
– أنا ابنته.
– ألبون لم ينجب سوى بنتين. آرين ماتت، وكيغانوش عمرها تخطَّى الأربعين… مَن تكونين أيتها الشابة؟
– نايري. الرضيعة الأرمنية التي نجت من مدينة أمرت جنودك بنهبها وقتل مَن فيها.
– هذا يعني أنكِ حية بفضلي! أنا الذي عفا عن كيغانوش وتركها تفر بكِ وبابنها.
– دفْعها إلى مسيرة الموت كان عفوًا؟ كانت ترضعني على كتفها اليمنى، وتحمل جثة رضيعها على كتفها اليسرى بعد أن فتكت به شمس صحراء سوريا، ورجالك لم يسمحوا لها حتى أن تتوقف لدفنه.
– وفي سبيل ذلك قتلت شقيقتك مساعديَّ الثلاثة في ميونخ.
– ثلاثة مجرمين مقابل مليون ونصف المليون أرمني مدني أبادهم رجالك. أهذه حسبة عادلة يا باشا؟
– أنتِ من عصابة هايك إذن!
همس إلياس إلى نفسه: «يلعن حظي!».
رفع يده وقال للنادل بالعبرية:
– طبقًا من الزيتون من فضلك.
هزَّ النادل رأسه واتجه إلى المطبخ، بينما انتبه المضيف الأشقر الوسيم لتلك الجملة، وراقب إلياس ينهض عن طاولته ويتجه إلى الممر المؤدي إلى مرحاض المطعم بجوار الباب الخلفي للعاملين.
فتح المضيف باب المطعم، ومد رأسه حيث يقف الأسمر مدخن الغليون صائحًا فيه:
– سيدي، ممنوع وقوف العرب حول المطعم!
تدبر المدخن الجملة ثم سار ببطء بالقرب من سيارة الأجرة، ثم أكمل طريقه مبتعدًا عن المطعم حتى خرج عن نطاق رؤية السائق.
عاد المضيف إلى الداخل، ونادى زميله قائلًا:
– تسلَّم موقعي يا آيرا. سآخذ استراحة للتدخين.
شقَّ المضيف طريقه من المطعم مرورًا بالحمَّامات فباب المطبخ المزدحم، حتى خرج من الباب الخلفي ثم أوصده بالمفتاح.
سار في زقاق مسدود بسور حجري تكثر بنهايته حاويات القمامة التي يتخلص فيها المطعم من مخلفاته كل ليلة بعد الغلق.
أسفل تلك المخلفات، ينام المضيف الأصلي للمطعم بعد أن تخدر بالكلوروفورم، وأخذ جاسر جاسر جاسر الحلبي ثيابه وارتداها متظاهرًا بأنه صديقه الذي أتى ليحل محله الليلة، لأنه أصيب بنزلة شعبية حادة.
أشعل جاسر سيجارة دخنها ونفث دخانها بالقرب من ثيابه حتى يحبك كذبته إلى أن وصل إلى نهاية الزقاق، حيث يقف إلياس ينتشل لقمة خبز ملقاة على الأرض، يُقبِّلها مرتين ثم يضمها إلى حضن الجدار عند الزاوية بعيدًا عن احتمالية دعس أي قدم على نعمة الله.
سأله جاسر بلهجته الهجينة بين السورية الحلبية والفلسطينية النابلسية:
– يبدو أن أفراهام لينمان لن يأتي الليلة. أنغير الخطة يا رفيق؟
– ماذا عن تلك اللعينة التي أجلستها بجواري منذ قليل؟
– حاولت منعها لكنها قالت إنها صديقة أفراهام، إذن هي مجندة مثلهم أو على أقل تقدير صهيونية.
– كيف تكون صهيونية وصديقة لأفراهام وهي تقول إنها ابنة ألبون برطميان؟
أشعل إلياس سيجارة دخنها متوترًا، بينما سمعا خطوات تقترب منهما، نظرا أمامهما فوجدا أن الخمسيني الأسمر، أيوب زهران المنوفي، يقترب منهما على مهل مدخنًا الغليون وهو يقول بلهجته المصرية:
– أتمنى أن تكونا قد استقطعتما من وقت المهمة وغامرتما بأن نكون الآن معًا بسبب أمر طارئ!
أجابه جاسر:
– هناك مدنية بالداخل.
– صهيونية؟
– أرمنية. ابنة شقيقة كيراز.
– وما الذي أتى بقريبة الخواجة إلى هذا المطعم الصهيوني في تلك الليلة بالتحديد؟ ألم تكن مسؤوليتك يا جاسر أن تراجع الحجوزات والتأكد من أن المطعم محجوز بالكامل للعصابات اليهودية يا أبله!
– بالله كيف لي أن أعرف أن هناك أرمنية ستأتي متخفية بهوية يهودية ألمانية! هل أقرأ الطالع أنا؟
– والله مَن يعتمد عليك يبيع عياله!
– الذنب ليس ذنبي. إن الحظ العثر يلاحقنا منذ أن انضم إلينا هذا العراقي المجهول. إنه مثل الغراب الذي يقول قاق، بل والله إنه أنحس من الغراب.
سمعوا صوت محرك سيارة الأجرة التي كانت واقفة أمام المطعم منذ لحظات يقترب من الزقاق.
صفها الأربعيني ذو اللحية السوداء الغزيرة والشارب الكث الذي تتخلله بضع شعيرات شيباء. نزل من السيارة بقامته الفارعة وبنيانه الضخم الذي يجعل المرء يشك في أن نسله ينحدر من العماليق.
انضم إلى رفاقه الثلاثة، فوقف يربع ذراعيه، بينما استقبله جاسر قائلًا:
– يبدو أن هذه العملية ستفشل مثل سابقاتها يا عراقي. رابع مهمة فاشلة هذا الشهر. صحيح، منذ متى وأنت فرد في منظمتنا؟
شهر؟
نظر العراقي إليه متأملًا كلماته بملامح جامدة واقترب منه على مهل، ثم من دون أي مقدمات، حمل جسد جاسر الهزيل من إبطيه ورفعه صوب السور من دون أن ينطق كلمة واحدة.
كاد جاسر يصيح، لكن أيوب تدخل، وضع يده على فم جاسر حتى لا يلفت صوته انتباه أي شخص في المطعم، بينما حاول أن يدفع العراقي بيده الأخرى وهو يقول:
– يا أخي الكلام أخذ وعطاء. هذا الأهبل لا يقصد تخوينك.
دفع جاسر يد أيوب عن فمه، وقال بصوت خفيض للعراقي:
– تخوين؟! معاذ الله يا رفيق. أقصد أنك نحس!
نظر العراقي إليه بعينين داكنتين كالليل تشتعل فيهما شعلة غضب أخذت تخفت مع استيعابه لتعليق جاسر وهو يعتذر إليه، ويؤكد له حسن نيته.
في أثناء ذلك، لم يتدخل إلياس بل زفر محبطًا وهو ينفث دخان سيجارته، ثم ينظر إلى ساعته ويقول بهدوء يتنافر مع المشاجرة العبثية التي نشبت من خلفه:
– يا رفاق، القنبلة ستنفجر خلال ثلاثين دقيقة.
ترك العراقي جاسر فنزل على قدميه يهندم ثيابه التي تكرمشت مع كرامته، بينما سبَّ أيوب رعونته وهو يساعده على تنظيف سترته من الخلف، ثم وقف الثلاثة بجوار إلياس يتدبرون ما قاله.
همَّ أيوب أن يفكر في طريقة لإخراج قريبة الخواجة الأرمني من المطعم قبل انفجار القنبلة، لكن هناك شيئًا استوقفه. صوت تكتكة قنبلة قريبة.
صحيح أن كهولته أفقدت حواسه جودتها، إلا أن سمعه ما زال دقيقًا كخفاش الليل، لذلك عرف أن صوت تكتكة مؤقت القنبلة قادم من الدائرة المحيطة به.
قال أيوب مقاومًا رغبته في الصياح:
– أي أحمق منكم فخخ نفسه؟
توتر جاسر ثم نظر إليهم جميعًا وقال له:
– ماذا تقصد بـ«فخخ نفسه»؟ هذه ليست الخطة، من المفترض أن…
ضم أيوب الغليون إلى شفتيه، وقطع استعجاب جاسر واستنكاره بأن تحسس بطنه وصدره، فلم يجد شيئًا.
فعل الأمر نفسه مع العراقي لتكون النتيجة نفسها، ثم اقترب من إلياس، فرفع الأخير ذراعيه إلى أعلى ليترك أيوب يفتشه كما يحلو له فلم يجد أيوب معه أي ديناميت أو حزام ناسف.
وقف أيوب أمام إلياس، وقال وهو يرميه بنظرة تتلظى سخطًا:
– اخلع الديناميت الملفوف حول ساقك.
التفت جاسر والعراقي صوب إلياس، وساد الصمت للحظة جعلتهما يسمعان صوت التكتكة الصادر منه مثل أيوب.
قال جاسر:
– أتزهق حياتك من أجل هؤلاء الملاعين يا رفيق؟
– بل من أجل أربعمائة أخ من إخواننا ذبحوا غدرًا في دير ياسين و…
قاطعه أيوب:
– فخخنا المكان لأننا أصحاب قضية، ولكنك تلبس حزامًا ناسفًا، لثأرك الشخصي. مَن لك انتقام شخصي معه لن يأتي الليلة.
– أتظنني أفجر نفسي من أجل هذا الخسيس النجس يا أيوب؟
– أيوب لا يظن، أيوب يعرف. اخلع حزامك، أفراهام لن يأتي.
– لقد تأخر عن ميعاده المعتاد، لكن عابد أكد لنا أنه سيأتي بعد…
– بعد أن تنفجر وتحرم أمك من دفنك؟
نظر إلياس إلى ثلاثتهم باحثًا عن مناصر لموقفه، لكن صمتهم اتخذ صف أيوب المنوفي.
فتح المنوفي قبضته ومد يده صوب إلياس، وهو ينظر إليه نظرة آمرة حازمة.
استسلم إلياس، زفر وألقى سيجارته على الأرض فدعسها وهو يلعن الماضي والحاضر والمستقبل، والحياة والممات، والعثمانيين والإنجليز والصهاينة، والمتواطئين جميعًا، ثم رفع سرواله المتسع ليكشف عن ساقه التي التف حولها حزام من أصابع الديناميت مثبتة فيها ساعة متكتكة.
نزع المؤقت الذي فضحه بتكتكته، وفك الأسلاك وخلع الحزام، ثم وضعه على راحة المنوفي المنبسطة، فأخذه الأخير وأعطاه إلى العراقي قائلًا:
– خبئه في صندوق السيارة.
نفذ العراقي ما قاله رفيقه، فتح صندوق السيارة ووضع الديناميت في كيس من الخيش لفه بحذر، ثم رفع أرضية الصندوق المزيفة ليضع الديناميت بجوار بندقية ومسدسين.
قال المنوفي:
– لو لم أذُق المرارة التي تملأ فمك، لجعلتك تبصق أسنانك عقابًا لك على تلك الحركة الرعناء. غير مسموح لأي منا أن يتصرف تصرفًا يخص أي مهمة ننفذها من دون استشارتنا.
غير مسموح لأي منا أن يثأر ثأرًا شخصيًّا على حساب قضيتنا.
غير مسموح لأي منا أن يُعرض حياة رفاقه للخطر. والأهم من ذلك غير مسموح لكم بأن تموتوا قبلي يا بهائم. أنتم مسؤولون عن الحفاظ على شبابكم لكي تحملوا نعشي وتبكوني وتقيموا جنازة تليق بأيوب زهران. مفهوم أم أنني أتكلم باللاوندي؟
هزَّ العراقي رأسه مؤمِّنًا على تعليمات رفيقه، وربت جاسر على كتفه، بينما هرب إلياس من نظرات أيوب المعاتبة متفقدًا ساعته وقال:
– لا نملك إلا عشرين دقيقة حتى نخرج قريبة كيراز.
اقترح جاسر:
– فلنخبرها بأن هناك مكالمة لها من خالها.
– لا يجوز المخاطرة بذكر اسم كيراز بأي شكل في هذه العملية.
قال أيوب:
– نخدرها بالكلوروفورم.
– أمام الجميع؟
– أقصد بعد أن نستدرجها إلى الخارج يا إلياس.
– وإن رفضت الخروج؟
– نجبرها عليه.
– لا نعرف ردة فعلها. إنها في مهمة لمنظمة هايك، ولن ترحل قبل قتل الباشا.
نفث المنوفي دخان غليونه وهو ينظر إلى العراقي الذي أخرج الشوكولاتة وتناولها بهدوء.
– ألم يحِن الوقت لتسمعنا صوتك يا رفيق؟
رفع كتفيه من دون أن ينبس ببنت شفة، فقال إلياس:
– حسنًا، لديَّ فكرة ستنقذها من الانفجار، وتنقذنا من رصاص أربعين ملعونًا.
***
عاد جاسر من استراحة التدخين، ووقف عند مكتبه مكان آيرا.
عاود إلياس الجلوس إلى طاولته بعد أن تحرر من التكتكة التي تعد الثواني الباقية من عمره، وتناول الزيتون الذي وضعه له النادل، وهو يسترق السمع إلى حديث نايري ومراد باشا.
قال الباشا بابتسامة استفزازية:
– يدكِ ترتعش يا ابنة برطميان.
كانت يد نايري تحت الطاولة، فمال إلياس متظاهرًا بأنه يعقد رباط حذائه، فرأى يدها تمتد بمسدس بريتا صغير موجه صوب بطن مراد باشا من أسفل فراش الطاولة.
عاود الاعتدال في مقعده وهو يلعن حظه مرة أخرى، فنظر إلى جاسر ثم أومأ إليه برأسه مرتين.
قالت نايري:
– يدي ترتعش لأنني لم أعتَد القتل بدم بارد مثلك، لكن هذا لا يمنع أنني سأقتلك الليلة.
كادت تضغط على الزناد، لكن مراد باشا فاقها مكرًا، تمكن بيد واحدة أن يقلب الطاولة بسرعة أفزعتها وباليد الأخرى خطف منها مسدسها ووجهه صوبها.
قبل أن يتمكن من وضع سبابته في دائرة الزناد، انطلقت رصاصة من خلف نايري جرحت يده فأسقطت عنه المسدس.
نظرت نايري متفاجئة، فوجدت أن صاحب الرصاصة هو إلياس الذي كان سريعًا بما يكفي لإشهار مسدسه وإصابة قاتل عائلتها قبل أن يقتلها هي الأخرى.
أفاقت من فجأتها، واستغلت تشتت الباشا بجرحه فسحبت مسدسًا آخر مربوطًا بفخذها، وأطلقت منه أربع طلقات، واحدة في رأسه وثلاثًا في صدره.
صرخت المجندات ورفيقات المجندين، وقطعت فرقة الجاز عزفها، وتوقف الساقي عن صب الكؤوس، واختبأ النادل أسفل البار، وأشهر بعض الصهاينة الذين لم تغلبهم الثمالة كليًّا مسدساتهم صوب إلياس.
أخرج جاسر مسدسه من جيب سترته قائلًا للمسلحين الصهاينة بعبرية أشكنازية ممتازة:
– أنزلوا أسلحتكم يا شباب. نحن في عملية استخباراتية خاصة بالجمعية اليهودية الفلسطينية. وردتنا معلومة بأن هذا التركي الإرهابي وشريكته أتيا لاغتيال القائد أفراهام، لكن يبدو أنهما اختلفا.
لم يتركا فرصة للصهاينة لاستيعاب مسرحيتهما المليئة بالثغرات، اندفع إلياس صوب نايري يجذبها من ذراعها للقبض عليها فأخفض الجنود أسلحتهم وأخذوا يتابعونهم.
انتشلت دبوس رمانة ماردين من على صدر الباشا الذي صرعته بينما جذبها إلياس، فصاحت فيه:
– اتركني!
– اخرسي أيتها الإرهابية اللعينة!
– لست إرهابية! أنا نايري ألبون برطميان من منظمة هايك المنتقمة لعظام الأرمن. قتلت هذا المتوحش الذي شرَّد قومنا، ونهب أرضنا، واغتصب فتياتنا، ويَتَّم أبناءنا، وعذَّب رجالنا و…
– يا له من خطاب مؤثر! هيَّا! تحركي!
– سأتحرك معك بشرط أن تعرضني على محكمة العدل الدولية حتى يعرف العالم مصاب قومي.
– تبحثين عن العدالة الدولية هنا؟ ما أظرف انفصالك عن الواقع!
– لن أسير معك خطوة واحدة قبل أن تقسم بذلك!
صاح جاسر وهو ينظر إلى ساعة يده:
– يا حضرة الكابتن، أمامنا ثماني دقائق فقط!
نفد صبر إلياس، حمل نايري التي حاولت مقاومته، ولكن قصر قامتها وقلة وزنها لم يساعداها كثيرًا على منعه من إلقائها بيسر على منكبه العريض.
أخذت تصيح وتسبه وتلعنه، لكنه أكمل طريقه، حتى كاد يصل إلى الممر المفضي إلى المخرج الخلفي، لكنه تذكر شيئًا.
عاد بضع خطوات إلى الخلف، وانتشل نوفيلا «قلب الظلمات» من على طاولتها، دسها في جيب سترته ثم أكمل طريقه.
ابتسم جاسر قائلًا للجنود وهو يتبع إلياس نحو المخرج:
– نعتذر يا سادة على هذا الموقف غير الحضاري، سيأتي رجالنا لحمل جثة هذا الباشا على الفور. أكملوا احتفالكم.
سحب كوب ويسكي مثلجًا من على البار، ورفعه إلى أعلى صائحًا بنبرة احتفالية:
– لَخاييم!
صاح السُّكارى خلفه رافعين كؤوسهم وأكوابهم في نخبه:
– لَخاييم!
خرجوا من المطعم وتركوا المسلحين السُّكارى يشربون في نخب الدماء التي أراقوها، وفي نخب مستقبلهم في أرض الميعاد غير منصتين لتكتكة القنبلة التي تعلن اقتراب نهايتهم، ومن سمعها منهم ظنها هلوسة الخمر.
أسرع إلياس حاملًا نايري التي لم تتوقف عن الصياح والصراخ، والتفت خلفه ليتأكد أن جاسر يتبعه ليجده يفرغ كوب الويسكي في جوفه فصاح فيه:
– أهذا وقته؟
– ماذا! إنه نخب نجاحنا!
ألقى الكوب الفارغ صوب الحاوية، وخلع سترته البيضاء ليرميها في القمامة، ثم أسرع خطاه إلى نقطة التجمع خلف المطعم حيث سيارة الأجرة.
فتح جاسر باب الأريكة الخلفية لإلياس، ثم تقدم ليجلس بجوار العراقي.
ألقى نايري على ظهرها فشعرت برأسها يرتطم بكتف شخص جالس على ميمنة الأريكة.
رفعت رأسها وكادت تستأنف صياحها، لكن رؤيتها لملامح الرجل الذي ارتطمت به جعلت الصرخة تقف بمنتصف حلقها.
سماره، شاربه المبروم، أنفه الدقيق، عيناه الداكنتان، الندوب التي تفترش وجنتيه وأنفه وصولًا إلى عنقه حيث يمتد ندب ضخم من الأذن إلى الأذن باستدارة العنق.
همست إليه بلهجة مصرية تشوبها لَكنة أوروبية خفيفة:
– أيوب زهران؟ أنت لم تمت؟
ارتبك الرفاق الأربعة، فتمتم أيوب وهو يسكب سائلًا شفافًا من زجاجة صغيرة لا تفارق جيبه، على منديل بدلته القماشي:
– هذا ما كان ينقصني!
وضع المنديل بغتة على أنفها وفمها.
قبضت على رسغه لتقاومه وظلت تركل بساقيها، ولكن سرعان ما خارت قواها، وفقدت وعيها تمامًا فسقط رأسها على كتف أيوب.
دفع إلياس ساقيها جانبًا وجلس بجوارها على الأريكة، ثم أغلق باب السيارة وهو ينظر إلى الساعة قائلًا:
– ثلاث دقائق!
انطلق العراقي بأقصى سرعته بعيدًا عن خلفية المطعم، بينما أعاد أيوب المنديل وزجاجة الكلوروفورم إلى جيبه، ثم دفع رأس نايري صوب كتف إلياس وهو يسأله:
– الخواجة أخبر قريبته بأنني في القدس؟
– لا أظن.
– إذن كيف عرفت اسمي وأنني من المفترض أن أكون ميتًا؟
أجابه جاسر:
– ألم يذكر كيراز أنها عاشت بمصر في أثناء الحرب؟ كنتَ أشهر من أنور وجدي آنذاك. على ذكر أنور وجدي، يجب أن تشاهدوا فيلمه الأخير يا رفاق. ليلى مراد خلابة!
تدبر أيوب تعليقه، ثم سأله بهدوء مصطنع:
– هذا الفيلم صدر منذ ثلاثة أشهر يا جاسر، صحيح؟
– نعم.
– هل شاهدته في بورسعيد؟
أدرك جاسر المأزق الذي أوقع فيه نفسه، فامتنع عن الإجابة، لكن هذا لم يمنع أيوب من ضربه على رأسه كالتلميذ البليد وهو يصيح:
– كان من المفترض أن تذهب لشراء السلاح من هناك وتعود على الفور، لا أن تتسكع مع فتياتك في سينما إلدورادو!
– لم أتسكع معهن في إلدورادو.
غمز إلى العراقي وقال مشاكسًا:
– تسكعت معهن في سينما أمبير.
لم يُبدِ العراقي أي ردة فعل، بقي جامدًا كطبعه، يأكل الشوكولاتة ويقود مرورًا بالمطعم، مخترقًا الشارع التجاري الذي احتله الصهاينة وهجَّروا سكانه الأصليين بعد أن سلبوهم ديارهم وتجارتهم.
همَّ أيوب أن يضرب جاسر مجددًا، لكن إلياس أعاد ساعته إلى جيبه وهو يقطع شجارهما المعتاد قائلًا:
– يا رفاق، انظروا خلفكم!
التفتوا جميعًا ونظر العراقي في مرآته الجانبية، وإذ بهم يرون النيران ويسمعون دوي الانفجار يملأ الأفق.
انفجرت القنبلة فنُسِف مطعم شقائق نعمان القدس الذي كان ملكًا لفلاح فلسطيني أتى من الجليل ليفتح مطعمًا في القدس يحمل اسم
نبتة زوجته المفضلة، الحنون.
همس إلياس بابتسامة واسعة وعينين تلمعان بدموع الغِبطة:
– من أجل دير ياسين!
