عن جنون حاكم مملوكي، الأشرف برسباي، يكتب طلال فيصل رواية بديعة مؤثرة، حيث يعيش كل من حول السلطان في حالة ترقب، انتظارًا لنوبة الخروج عن العقل المقبلة.
(١)
ماذا عساه المؤرخ أن يقول في حضرة المقريزي! الشيخُ الذي اعتزل في داره راهبًا يدوِّن أيام مصر وخططها وشوارعها، ويسجل بدقة لحظات الخيبة والفقر والنصر والهزيمة وصيحات البهجة وتأوهات الجائعين. الرجل الذي أصابه في زمن السلطان فرج بن برقوق القرف من السلطة ورجالها، فأخذ أوراقه واتخذ لنفسه ركنًا يقوم فيه بدوره في إخلاص ودون ضجيج. يُجمع أهل زمانه والزمان من بعده على سمات شخصيته؛ الذكاء والدأب والإخلاص للتاريخ ومحاولة البقاء محترمًا قدر المستطاع -على ما في ذلك من صعوبة في هذه الدنيا المغوية.
تقفُ متهيبًا أمام إنجاز الرجل الجليل ومؤلفاته الضخمة؛ السلوك، اتعاظ الحنفا، إغاثة الأمة، ثم كتابه المهول “الخُطط” والذي لم يغادر شارعًا ولا مدرسة ولا مسجدًا ببر مصر إلا أحصاه. أفردُ أمامي كتبه وأنا أراجع وثائق وأوراق جلال الساعي. أفكرُ في المؤرخ الذي نسمع منه كل الحكايات، وأتساءلُ عمَّن يحكي حكاية المؤرخ إذن.
كأنَّ المقريزي سأل نفسه السؤال ذاته قبل قرون، ليكتب في أواخر أيامه كتابه الشجيّ، والمنسي: “درر العقود الفريدة”، محاولًا في حياء أن يحكي لنا حكايته هو الشخصية؛ حكاية الذين أحبهم وفارقوا الدنيا، أمه وخاله والجارية التي شغفته حبًّا. أتصفحُ كتابه الرقيق الحنون، أطالع الأسماء واحدًا تلو الآخر، ثم يستوقفني ما كتبه عن جاني بك الأشرفي. يسجلُ في اختصار دعوته له ليصحبه في الحج. أقرأ بعين جديدة عبارته المكتوبة بحذر -والحذر مطلوبٌ في بلد مثل مصر:
“وعظتُه مرارًا فكان يصغي لوعظي ويريد الاجتماع بي، فلم تمِل نفسي إلى صحبته، وحماني الله ووقاني”
ولا يحددُ لنا بالضبط ممَّ حماه الله ووقاه، ثم يحدثنا عن موته، وعن نزوله لحضور صلاة الجنازة عليه في الجامع الأزهر، والذي يبعدُ عن بيته بحارة برجوان مسافة تحتاج زمنًا لا بأس به من المشي.
(٢)
يفتح الشيخ تقي الدين المقريزي عينيه، برفق، يعبر من النوم لليقظة. يبقى ساكنًا -كعادته- في الفراش قليلًا، قبل أن يعتدل بتمهل ويقوم ليبدأ يومه. لا يزال رغم تقدمه في العمر محتفظًا ببنيانه المتين، ولا يزال الذهنُ اليقظ قادرًا على تحديد أول الليل من آخره بمجرد النظر. يتجهز وينطلق بخطوة تعرفُ طريقها رغم ظلمة حارة برجوان. يتوجه للمسجد الباسطي بحي الخرنفش، والأقرب لقلبه من كل مساجد القاهرة، أو بتعبيره:
“ترتاح النفس لرؤيته وتبتهج عند مشاهدته، فهو الجامع الزاهر والمعبدُ الباهي الباهر”
مقدمًا لذلك تفسيرًا يليق بمؤرخ معنيّ بالاقتصاد والعدل الاجتماعي وحركة رأس المال حين يقول:
“ذلك أنه لم يُسخر أحدًا في عمله، بل وفّى لعمالهم أجورهم”
يملأ صدره بهواء الفجر البارد ويلقي نظرة سريعة راضية على شاهد المسجد الذي كتبه هو بنفسه قبل أعوام قليلة، ثم يتخذُ مكانه الثابت تحت المنبر. يصلي ركعتين وينتظر المؤذن. يتراجع خطوة ليتقدم الإمام، وقد كفوا منذ زمن عن دعوته لإمامتهم في الصلاة. قد ينخدع مَن يراه لأول مرة حين يرى ملامحه المتجهمة وجلسته المنزوية تعبيرًا عما يريده من عزلة، غير أن الرجل في الحقيقة يشعرُ بسلام وطمأنينة وهو في أحب الأماكن والأوقات لقلبه. يردد الأذكار متأهبًّا للقيام للعمل والتدوين في بيته كما يفعل كل يوم بين الشروق والضحى، وحين يسمعُ صوت المنادي مخبرًا بوفاة الداوادار جاني بك الأشرفي داعيًا للصلاة عليه بعد الظهر في المسجد الأزهر. يأخذ نفسًا عميقًا تعبيرًا عما يجيش بصدره من مشاعر. يترحمُ عليه، ويذوب صوته بين همهمة المترحمين، ويفكرُ أن عليه إنهاء عمله اليوم مبكرًا قبل الظهر، ليلحق بصلاة الجنازة عليه.
(٣)

كلُّ هذا الزحام، حبٌ للرجل الميت أم تزلف للسلطان؟ يقولون إن السلطان لا يزالُ يبكي عليه، وإن الصلاة ستتأخر. يسمع اسم بدر العيني فينقبض وجهه. يتأمل الخلائق المحتشدة من حوله؛ كل هذا الزحام، خوف من الموت أم من عذاب ما قبل الموت. رجالُ الدولة جميعهم حاضرون، غير أن هناك جوًّا من الريبة يحيط بالجنازة لا يخطئه الشيخ الذي يعرف القاهرة ويعرف الدنيا، ثم تلك الشائعات التي تتناثر من حوله. ما أفظع الحر وما أشد الزحام وما أقسى الخوف، ألا لعنةُ الله على العالمين! ينتهي من الصلاة، ويجلس ليسمع كلمة بدر العيني عن الميت. يبتسم في سخرية؛ لا يزال الغريم القديم يحتفظ بفصاحته لم ينتقص منها الزمانُ شيئًا، يتكلم ساعة فلا يقول شيئًا. ينتهي من الصلاة ويخرج فيفسح له الناس مسارًا يمشي فيه بعيدًا عن تدافع المتزاحمين، ويجد كتفه بجوار صاحب قديم يمشي مثله على مهلٍ فيبتسم له بمودة صافية لا تحول بينه وبين المزاح.
“صرنا لا نراك إلا في الجنازات”
“ليحفظ الله الموت الذي لا يزال قادرًا على جمع الصحبة القديمة”
يضحكُ من قلبه؛ إنه يحب هذا الرجل، يحمل ريحًا طيبة من زمان قديم جميل. يواصلان المشي متجاورين في صمت، ليقطعه محمد بن علاء الدين:
“هل سألك، رحمه الله، أن تصحبه في رحلة الحج أنت أيضًا؟”
“قد فعل، رحمه الله”
فيتبادلان الكلام بالعيون دون لفظ، وما يلبث المقريزي أن يسأل:
“ألا تخبرني عنه شيئًا يستحق أن يعرفه الناس؟”
“لتدونه فيما تدون من أخبار العالمين؟! ضعُف الطالب والمطلوب”
ويضحكان ثانيةً. يتحادثان قليلًا قبل أن يخبره محمد بن علاء الدين بأمر رحلته التي ينتويها للهند، ويتعانقان عناق مَن يعرف أنه لا يرى صاحبه ثانيةً أبدًا.
وقبل أن يتخذ طريقه لداره مشيًا يسمع صوتًا يناديه بحماس، ويلتفت لشاب يهرول نحوه بخطوة مسرعة. تقتحم أنفه رائحة العطر الثمين، ويسحب يده التي يحاول تقبيلها. في كل مرة يراه يسأل نفسه ما إذا كان يحب تلميذه المجتهد ذلك، ابن تغري بردي، ولا يجدُ جوابًا واضحًا. يستأذنه في زيارته اليوم ببيته. يجيبه على مضض، مسرعًا الخطو نحو السوق، ليتم خطته لليوم كما أراد.
(٤)
المولع بتدوين الأسعار وتغيرها، والذي التزم في كتابه السلوك أن يسجل بدقة في مطلع كل عام سعر كيلة القمح وجوال الشعير، تصدمه الأسعار في السوق. يمضي من سوق الفحامين للقصابين لباعة الفاكهة، هذا جنون مطبقٌ وشامل! ماذا يفعل المحتسب، ومن ورائه الوالي، ومن ورائهما الوزير، ثم من وراء الجميع أولئك القابعون في قلعة الجبل؛ وإذا شتمهم قيل حاقدٌ نقم على إخراجه من مناصب الدولة في زمن فرج بن برقوق. بأي عين يخرجون في المواكب ويرتدون الخِلع المزركشة، أردب الفول بخمسين درهمًا، والقمح بمائة وثلاثين! ألا يستحون؟ ألا زالوا يتعللون بالطاعون، بارتفاع منسوب النيل وانخفاضه، بتكاليف حفظ الدولة، أم أنهم قد صاروا لا يجدون مبررًا للتعليل ولا الاعتذار. لم يعُد من رزق سوى للوزراء والأمراء، ثمّ البنّائين، ولله الأمر من قبل ومن بعد. فليخرج الناس جميعًا متصوفة في الخانقوات، أو ليحبسوا أنفسهم في السجن، وسيجدون هناك الخبز والماء وكفى بها نعمة. يتحسس المال الذي نزل به من بيته، ويسأل البائع الهزيل بصوت خشن:
“بكم رطل التفاح يا بنيّ؟”
ولا يجد ما معه كافيا لشراء ما يريد، ولكنه يعلم أن خاله يحبه، وأنه لن يستطيع زيارته من دونه. يعطي البائع الثمن وهو يغمغم بعبارة سنقرؤها كثيرًا في كتابه السلوك، حتى كأنها لازمة شخصية لكلامه:
“ألا لعنة الله على العالمين”
(٥)
يشتري ما يستطيع شراءه، ويمضي به منطلقًا للبيمارستان المنصوري. يحييه الحراس وقد حفظوا موعد زيارته الأسبوعية. يمضي بخطوة ثابتة لقاعة المجانين حيث يقبع خالهُ منذ سنوات. يجده مستكينًا كعادته يلهو بعصفور صغير لا يعرف من أين جاء به، فينحني ويقبل رأسه الأشيب. يجلس بجواره ويفرد المشتروات أمامه، فيهتف الرجل بنبرة ثقيلة:
“قد كلفت نفسك يا ولدي”
“ما كلفني شيئًا”
فيغمغمُ شاكرًا، ثم يسأل متلهفًا:
“هل جئت بالتفاح؟”
فيتبسم له ابن أخته. يناوله تفاحة، متأملًا إياه وهو يقضمها بسعادة، كأنه طفل، رغم سنوات عمره التي جاوزت السبعين. يسأله بفم ممتلئ بالتفاح:
“لعلك أصبت خيرًا من يومك”
إنه يعرف جوع خاله للكلام؛ لا يحادث سواه، وهو هنا في تلك القاعة صامتٌ طوال الوقت كالمحبوس. لولا ضيق الدار والحال لصحبه معه. يحدثه المقريزي بالتفصيل عن يومه، الصلاة والكتابة ثم النزول للجنازة، لقائه بمحمد بن علاء الدين صاحبه القديم، ويغفل ذكر لقائه العابر بابن تغري بردي. يظل خاله ذاهلًا وهو يسمع باهتمام، ثم يسأله فجأة:
“لمَن سلطانُ مصر اليوم؟”
فيبتسم المقريزي مجددًا؛ إنه يجد في ذهول خاله وجنونه شيئًا ظريفًا وطفوليًا لا يعرف كيف يصفه. يجيبه برفق:
“سلطان مصر اليوم يُدعى الأشرف برسباي، صار له في الحكم عشر سنوات للآن”
فيلوح بوجه الخال دهشة من الرقم، عشر سنوات كاملات، سبحان مَن له الملك والدوام! ويسأل من جديد:
“وكان من قبله المؤيد؟”
لم يكن في المقريزي طاقة لشرح ما جرى بين موت المؤيد وتولي برسباي فيهزُّ رأسه بالإيجاب، غير أن خاله لا يتوقف عن الفضول:
“لعل برسباي هذا ليس مجنونًا كالمؤيد؟”
ولا يملك المقريزي إلا أن يقهقه، فيمتلئ خالُهُ بالسعادة والزهو، أنه قد أضحك ابن أخته، والذي يخبره الحراس كل زيارة أنه صاحب منزلة ومقام كبيرين.
“أظنهم جميعًا مجانين يا خالي، غير أن جنون هذا باهظ التكاليف”
فيهزُّ الخال رأسه كأنه فهم، ويبدو عليه تأثر لا يعرف المقريزي مصدره، ثم تلتمعُ عيناه بالدمع فجأة وكأنه تذكر شيئًا، ويسأل:
“أتذكرُ ذلك الشعر الذي كانت تردده أمك بلا انقطاع في أيامها الأخيرة؟”
يطالع وجه خاله مليًّا، ويربت على كتفه ويقبل رأسه مرة ثانية، قبل أن ينشده تلك الأبيات التي كانت الراحلة ترددها كثيرًا قبل موتها.
(٦)
قُل للذي نقض العهود وخانا / وأمال نحو العاذل الآذانا
إن الذي خلق المحبة قادرٌ / من بعدها أن يخلق السلوانا
نعرفُ من كتابه “درر العقود الفريدة” ما كانت أمه تنشده من شعر، ونعرفُ -وهذا نادر في كتابات ذلك الزمان- أنها كانت تُدعى أسماء. نعرفُ أن خاله أوصاه وهو حبيس قاعة المجانين بالبيمارستان المنصوري وصية أخيرة، “ألا يتزوج أبدًا”، ونعرف تعلقه بجارية كانت لديه زمنًا تُدعى سول، ثم لا يلبثُ أن يدركه الحرج حين يدرك أنه تحدث أكثر مما يليق بمؤرخ، فلا يحدثنا عن أسباب فراقه للجارية سول تلك، ولكننا نعرفُ أنه يواصلُ تتبع أخبارها بانتظام، ويدون لنا تاريخ وفاتها بمكة بعد سنوات طويلة من فراقهما، ويخبرنا -بخجل- أنها كانت لا تزال تزوره في المنام، وهو رجلٌ مُسنٌ يقطن حارة برجوان بالقاهرة، دون أن يحدثنا بالتفصيل عما كان يراه في المنام بالضبط.
(٧)
يواصل المقريزي يومه بنظامه المحكم؛ صلاة العصر والقيلولة والطعام البسيط الذي أعده له خادمٌ عجوزٌ يلازمه منذ زمن، ثم القراءة حتى يحل موعد المغرب. وحين يرجع من الجامع الباسطي يجدُ الضيف الذي استأذنه نهارًا في الزيارة. يرحب بابن تغري بردي، ويبدو التنافر واضحًا بين بيت المقريزي البسيط وثياب ابن تغري بردي الغالية، تمتلئ الحجرة الضيقة برائحة عطره، ويفكر المقريزي في جواده الأصيل الذي سيقف الصغار في حارة برجوان يتأملونه في انبهار.
“قد تركت حصانك بالخارج؟”
يسأل، فيجيب ابن تغري بردي بهدوء ليطمئن الشيخ القلق:
“وتركتُ حارسًا يجاوره”
فيبتسمُ له المقريزي ابتسامة الضرورة؛ إنه يقدر له جده وحبه للعلم وإخلاصه للتاريخ، غير أن شيئًا في ثرائه الفاحش وأسرته العامرة بالأمراء يحول بينه وبين ارتياحه الكامل له.
“ماذا صنع صاحبك بالأسواق؟”
فيعرفُ ابن تغري بردي أن شيخه سيبدأ مبكرًا، ويبتسم متحرجًا من الجواب. إنه يعرفُ بغض المقريزي لبرسباي، ويعرفُ أنه لا سبيل لإصلاح ذلك، يتركه يواصل التنفيس عن غضبه.
“كأنه لا يشبع من المال، ولكن أين هو المال؟ تمشيت في السوق اليوم، وقد صار سعر القمح لا يقدر عليه إلا أمثالك من أولاد الناس والأمراء”
يضحك ابن تغري بردي، ويحاول تلطيف الجو:
“على هذا حالُ الدنيا، تعلو الأسعار ثم تهبط، كما يتغير منسوب ماء النيل وكما تتغير أيام الزمان”
“ما أجمل أدب الأمراء وفصاحتهم؛ تريد أن تزين لي به انقياده لمباشريه في مظالم العباد وشرهه للمال”
“لعله كذلك، وإنك تقيس الجشع أو الكرم بالنسبة لمَن يسبقه ومَن يتقدمه، والظلم على النسبة”
“فلا نحكم عليه إذن إلا في آخر الزمان؟”
“أو نترك الحكم عليه لرب العالمين”
ليهمس المقريزي بغيظ مكتوم:
“ألا لعنة الله على العالمين”
إلا أن كلاهما حريصٌ ألا يفسد النقاش ما جاء ابن تغري بردي من أجله؛ وهو يعرف مقام المقريزي في تدوين التاريخ، ويعرفُ حاجته لعلمه وملاحظاته، فيقول متلطفًا:
“ما كان لي أن أخرج مع السلطان في حملته لآمد دون أن أراك، فقد يطول السفر”
“هل صح عزمه على الخروج لقتال أولاد قرايلك بآمد؟”
يصمتُ ابن تغري بردي مترددًا؛ إنه يخبره بما يصحُّ أن يكون سرًّا عسكريًا، ولكن لعل ذلك يقربه من مودته.
“لا زالوا يهاجمون الحصون والقلاع بالرها وغيرها، ولم يعُد بدٌّ من قتالهم”
“ما زال يهدد بقتالهم من زمن ولا يفعل شيئًا”
“قد صح عزمه هذه المرة، وغدًا يعلنون إغلاق أبواب القاهرة تمهيدًا لخروج الجيش”
“إذن فقد انتظر طلب الصلح من قرايلك وأولاده ولم يفعلوا، وعجز عن استرداد المال من الأمراء، وليس أمامه سوى الخروج للحرب”
يعود ابن تغري بردي بظهره للوراء ضاحكًا، ضاربًا كفًّا بكف، وقد بدا له الأمر رغم كل شيء مسليًا.
“أيًّا كان ما سيفعل، فستجدُ فيه علة أو سوء تدبير أو فساد نية”