
تتحرك قافلة ضخمة متجهة إلى الجنة، حيث سيلتقي كل من فيها بالأحباب الغائبين، لكن مع بداية الطريق يكتشف جاب الله أنهم ذاهبون إلى مكان آخر. مقتطف من أحدث روايات محمد النعاس التي ستصدر قريبًا عن دار الفرجاني.
محمد النعاس
في البدء كان النداء.
كنتُ ألعب رفقة هَدِيّة متطلعًا إلى قطيع «السّعِي» وهو يأكل من الأحراش عندما جاءني صوتُ أمي تبحث عنّي كأنّها فقدتني منذ زمنٍ بعيد في وادٍ من أودية طبرق لم تألفه عين بشر ولا تذكّرت المياه طريقه. «جاب الله، يا جاب الله، يا وَلَد هيه». كاد الصوت العالي يخرق حُنجرتها. كنتُ أعرف هذه النبرة، هي نبرة أخافتني دائمًا وجعلتني أختبئ مراتٍ بين بيوت الشَّعر عند الجيران أو في الواحة وسط غابة نخيل قزم ألفتها وألفتني. توقفت عن مُلاعبة هَدِيّة عندما جاءني النداء، وددت أن أهرب، لكن لا مكان في الوادي تختبئ فيه. ظلّ هَدِيّة يبحث عن الحليب في يدي التي أرضعتُه منها مرارًا.
أمسكتُ عصايَ أبحث بها عن أمّي وصوتها. «جاب الله، هيّا… لنرجع بالسَّعي، ستتحرك القبيلة» قالت لما رأتني. كانت عيناها تبحثانِ في الجْبَل لاخْضَر1 في الأفق البعيد كأنّها تناشد سيدي اعْمَر أن ينزل إلى الوادي ويحررها مما سيحلّ بنا؛ من الرعد الذي يزمجرُ في صدرها بعد أن ولجه أولياء الله وضربوا فيه دفوفهم. حاولت إخفاء دموعها عنّي عندما وَصلتْ إليَّ، فتشتْ ملابسي وشعري وظلتْ تنشدُ شعرًا سيبقى تأثيره على فؤادي طيلة أيام الرحيل. «راحلين يا أمي راحلين، عالوَطَن اللي كابرة فيه العين». كانت تُغنّي لوعة فقدان الوادي وأحراشه وزواحفه وطيوره ومشهد الجْبَل في البعيد يحمينا. لم أكن أفقه ما تمرّ به ساعتها، كنت مهمومًا باللعب مع هَدِيَّة حتى يأذن لي السّعي بالعودة إلى الخيام. «ما عاد فيه وقت»، قالت بعد أن أمسكت حبلَ أم هديّة ليتبعها القطيع وأتبعهم.
في الطريق إلى الخيام سألتُها إلى أين نحن ذاهبون.
– إلى الجنّة.
سعدتُ بالخبر. فقد انتظرتُ هذا النداء منذ أن خرجتُ من رحمها.
– حقًّا يا أمي، حقًّا سنذهب إلى الجنّة؟
– نعم يا جاب الله، سنذهب إلى الجنّة مشيًا.
– وهل سنرى سِيدي هنالك؟
– سنرى كل العزاز.

كان لدي ألف سؤال عن الجنّة. لكن السؤال الوحيد الذي ظلّ يلحّ عليَّ هو ما إن كنتُ سأرى سيدي فيها أم لا. قالت لي أمي إنّ سيدي ذهب إلى الجْبَل صحبة سيدي اعْمَر، وظل يقاتل مع عيال ربّي فوق حصانه عيال الرومية. بدأتُ أتفاخر ببطولاته وهو يقفز بحصانه على صدورهم يطردهم عن وطننا. كنتُ زمان استقرار القبيلة أمثّل لفَرَج مشاهد قتال سيدي لعِيال الرومية، أقفز أمامه حاملًا بندقيةً خياليةً أصوّب فوهتها على رأسه، ليسقط هو مقهقهًا. عندما سمعتُ من سيدي الفقي وصف الله للجنة، سألته ما شكلها، وما بها، قال لي إنّها خضراء، المياه فيها عذبة والفواكه طازجة والبحر أزرق يشبه أعين الرومية. «إذن الجنّة هي الجْبَل؟». لم أكن قد رأيتُ الجْبَل لكنني سمعتُ عنه الحكايات من أخي عَليٍّ عندما كان يعود إلى الوِطَن من رحلته إليه صحبة أبناء أعمامي لينقلوا المؤونة والسلاح الذي يجيء من سيدي إدريس في مصر لسيدي اعْمَر وأصحابه المرابطين في الكهوف. كان عَليٌّ يحكي لي الحكايات عن تلك الجنّة التي نسمّيها الجْبَل، عن أشجار شحّات التي تكبُر سنًا كل أهل الأرض وعن المياه التي تخرجُ من الحجَر لتسقي البَحر وعن بنايات العَرب الأُوَل، أجداد أجدادنا القدماء قبل أن يجيء إلى برقة سيدي رافع وسيدي بومنصور وازْهِير وسيدي القِيسي يدرسّون النّاس القرآن ويعلمّونهم الصلاة. حكى لي عَليٌّ عن الطيور التي شاهدها والسَّعِي الذي يأكل من الأخضَر في المَرج. «ورأس سيدِي المَهدي، الحُوليُّ الواحد حجمه كذا». يقول عليٌّ ويرفع يده للأعلى حتى أظنّ أنها تقارب السماء. أصدّقه، فلا يجرؤ أحد أن يأتي برأس سيدي امْحَمَّد المهدي إلا إن كان ما يقوله الحقيقة، كل الحقيقة. ومع الأيام، ومع اكتظاظ الحكايات في عقلي، صار الجْبَل هو الجنّة وصارت الجنّة هي الجْبَل.
أصبحتُ بعدها أتخيّل الجنّة كما أحب أنا. أتخيّل فيها حقلًا أخضر فسيحًا يحمل كل أغنام العالم، وتخيّلتُ فيها هَدِيّة الذي أمكنتُه من لساننا ليتحدث إليَّ وأفهمه ويفهمني. خلعتُ على نفسي ملابس تشبه ملابس سيدي اعمَر، وعدني سيدي بأن يشتري لي مثل ملابسه، أن يشتري من دَرنَة السورية والسروال وشنّته الحمراء وحذاءه وأن يوصيّ الحجّاج القادمين من بنغازي أن يأتوا له بالفرْمَلة. أردتُ الحذاء بشدّة إذ لم أرتدِ يومًا حذاءً وكرهت حرارة الشمس التي تتسلط على ترابِ الوِطَن صيفًا، بل إنني رسمتُ الشمس هناك في جنّتي، رسمتها وديعةً كصوفِ السَّعي، ولم أنسَ أن أكسو أمي أجمَل الحُلل، دائمًا ما كنت أسمعها تقول للنساء إنّها تود لو تلبس الذهب كما تلبسه اليهوديّات المغاربَة. ولأنّ أمي كانت دائمًا ما تتحدث عن دَرنَة، بنيتُ لنا منزلًا في الجنّة وجعلتُ من درنة مكانًا له بالقرب من الوادي، إذ لا بد من وجود درنة في الجنة، فهي حسب ما تقول أمّي، أجمَل مدينة قد تقعُ عليها أعينِ النّاس والصلّاحِ أبدًا. كيف لا، إذ لا تخرج ريحٌ من درنة إلا وقد غطتها رائحة الياسمين الذي لم أعرف رائحته وأنا طفل.
سعدتُ لتلقي الخبَر. أخيرًا، قلت لنفسي، سنذهب إلى الجنة كما يفعل الجميع وسألعب صحبة هَديّة طيلة الوقت دون الحاجة لأن أرعى السَّعي، إذ هو نفسه سيجد مراعي المرج ليأكل منها ما يشاء ويرتاح فيها متى ما شاء. دبّ في قلبَي الحنين إليها، تركتُ هديّة صحبة أمّه وأمي وركضتُ لأسبقهم إلى الخيام. «هيّا يا أمّي حتى لا نتأخر… هيّا، قد يتركوننا هنا». كنتُ أحثّها على الإسراع، فقد كانت تمشي ورائي تمسك بالنعجة الأم وتتحرك ببطء لا تريد أن تصل إلى موطئ القبيلة. تركتُها خلفي وهرولتُ حتى ظننتُ أنني أصعدُ إلى السماء حافيًا. لم أعد أهتم هل ستصل أمّي معي أم لا، المهم أن أصل أنا في موعد الرحيل. وصلتُ في النهاية، هناك وجدتهم ينتظروننا.
حسبتُهم الملائكة وهم يحيطون بقريتنا بأحصنتِهم وعرباتهم الحديدية، كانوا أحباشًا وعربًا ورومًا يحاصرون المكان كلّه ويحشرون الناس. وقفتُ أشاهدهم من الهضبة والغُبَار والدُخان يلفّ الجميع، كان الناس يجمعون قطعانهم من الإبِل والغنم والحمير وبعض الماعز والأبقارِ ويفكّون الخيام. انتابني فرحٌ عظيم، إذ أننا لن نذهب فقط للجنة، بل سنركبُ على كراهِب2 الروم وأحصنتهم حتى نصل بسرعة إليها. تلفّتُ إلى الخلف لأرى إلى أين وصلت أمّي، كانت تجاهد نفسها للوصول إلى قمّة الهضبة يتبعها القطيع. عدتُ إلى مشاهدة مراسم الرحيل، الأطفال ينغرسون تحت أمهاتهم والشباب بعضُهم يفكّون الخيام والبعضُ الآخر يجلس في مجموعاتٍ تحت النخيل يحيطُ بهم عسكَرُ الحبشة يصوبون فواهات بنادقهم على أجسادهم. النساء، سمعتُ عويل بعضهن ومناشدتهنّ لسيدي السنوسي الكبير وسيدي حمَد الشريف وسيدي اعمَر وسيدي رافع ولله ولكل المرابطين الذين عرفنهم. تعجبتُ مما يفعلن، كنّا ذاهبين إلى الجنّة، فلمَ أرى الحُزن يخيّم على النساء وأرى الأطفال يختبئون في ثياب أمهاتهم؟ ولماذا أرى الشيوخ، بعضهم يقفون في طابور والأغلال إلى أيديهم؟ لم أفهم، تطلعتُ إلى أمّي مجددًا، كادت تقترب منّي. عدتُ أشيّعُ نظري إلى الخيام أبحث عن أخواتي. شاهدتُ عَليًّا يتسلل خلف الخيام ليجد لنفسه بين النخيل مستقرًا، أردتُ أن أصيح به، لكنّه اختفى مجددًا. وجدتُ جندييْن من الحبشة يتحركان ناحيته كأنّهما يبحثان عن فريسة يصطادانها، يصوبان بندقيّتيْهِما للأمام ويحرّكان جسديْهما في كل اتجاه. سمعتُ صياح رومي، كان قائدهم، يقف أمام سيارة عسكرية يرتدي طاقيّتهم ويحملُ في يده عصًا سوداء وخلف جسده يرفرف علمهم الأخضر والأبيض والأحمر الذي يعلوه النَسر. لم أكن أفقه لسانهم، لكنني حفظتُ الكلمة عن ظهر قلب. «كاتّورالاتلو… كاتّورالاتلو». كان يشيرُ بعصاه النحيفة ناحية النخيل التي اختفى داخلها عَليٌّ. تحرّك قلبي، أردتُ أن أناشد عَليًّا وأشير عليه. جريتُ وصحتُ فيه: «عَليْ يا عَليْ، وراك يا عَليْ». رأيتُ الجنديان الأسودان خلفه، التفتَ، لكن لم يمهلاه وقتًا وفرّغا ما احتوت بندقيّتيْهما في صدره.
تحرّك أحد الجنود خلفي بعد أن رآني قائدهم. كنتُ مندهشًا أعاين تلوّن ملابس أخي بالدماء، كان الجندي ضابطًا عربيًا، صاحَ فيّ أن أتوقف. «أنتَ يا وِلد… توّقف توًا». حاولت العودة وتنبيه أمّي، لكنها كانت هناك فوق الهضبة وقد خرّت إلى الأرض تشاهد جثة ابنها البعيدة مرمية تحت النخيل. خرجت من صدرها صرخة، أقسم أنّها كادت تقسم السماء حينها. أمسَك بي العربي وقال لي: «هل تريد لأمّك أن تموت يا وِلد؟ هيّا الزم الصَمت». نادى على أمّي وأمرها أن تتحرك، «هيّا يا مرَا، لا وقت للعزاء».
كان أحد الجنود الروم قد اقترب منّا والعربي يحاول جرّي وينادي على أمي. تحدث معه بلسانهم. «هيّا يا وِلد، تحرّك». كانت أمّي تهمسُ باسم عَليّ، تكرره كأنّه دعاءٌ ليحفظها من التيه. تركت يدها أمّ هدية والسَّعي وقبعتْ جالسة. «يا نساوين هوه» نادى العربي النساء ليحملن أمي، وجرّني إلى الأسفل. عندها فقط اكتمل العدد. كان المكان مزدحمًا، عرفتُ بعد ذلك أنّهم جابوا لنا من قرى أخرى بطون القبيلة. ومنها بدأت رحلة المشي إلى الجنّة.
لم تتوقف أمّي عن النشيج. كانت النساء يتحلقن حولها ويحاولن أن ثنْيَها عن البكاء. سمعتُ إحداهنّ تخبرها أنّ عَليًّا قد التحق بسيدي في الجنّة، لكنّها لم تتوقف، بل كانت نوباتها تتصاعد. تعجّبتُ لذلك، فقد سعدتُ عندما عرفت أنّه سبقَنا حقًّا بعد أن خفتُ ألّا أراه. راودتني الغبطة، تمنيت أن أكون مكانه، لقد وجد عَليٌّ، كما يفعلُ دائمًا، طريقًا مختصرًا لفعل كل شيء. زمان كان يتسلّق النخيل مثلَ قردٍ بينما أحاول أنا أن أقذفها لأصطاد التَمر داخلها. يتمسكُ بجذع النخلة ويصعدها كأنّه جُبِل على ذلك حتى يصل إلى قلبها ويبدأ بفرط التَمر على جسدي فأفرح بذلك المطَر. كان دائمًا قادرًا على فعل ما يريد، حتى أنّه دخل الجنّة مرّات في جُنَحِ الليل ليخرج منها محمّلًا بالثمرات في الفَجر ويطعمني من موزِ دَرنة الذي يخبئه في فرملته الممزقة. «من عيت جدّي» كان يخبرني عندما يسلمني الموزة هدية الأجداد في درنة الذين لم يسبق لي رؤيتهم. فرحتُ له، تمكّن من خداع الحبشة ليوصلوه إلى الجنّة كما شاء لهم أن يفعلوا. أزعجني حزن أمّي، وأغضبني حرصها عَلَيَّ أنا وأختيْ زازيَة وعيشة وضمّها لي لا تريد فقدي ونحنُ نتأهب للرحيل.
أطلقَ الروم الرصاص ليُعلنوا لنا بدء رحلتنا. تحمّستُ، انسللتُ من حماية أمي وأسرعتُ أجري إلى السَّعي، وأمسكتُ بحبل أمّ هديّة وتحركنا. بدأت حركة القبيلة ببطء، كانت كلّ عائلة في خطٍ لوحدها تجمع شياهها وحيواناتها وتسلّمها للرعاة وتضمّ خيمها وطعامها وماءها ويقتربُ أفرادها من بعضهم البعض. الشيّاب والأطفال والرجال والنساء والشباب والفتيان. كان الشباب يحملون الثقيل بينما الأطفال يحاولون أن يتشبثوا بأجساد أمهاتهم، الشيّاب كانوا يمشون بثقلٍ لا تريد أقدامهم مغادرة مرابعنا. تأففتُ وأخبرتُ هديّة أنّ هؤلاء جميعًا لا يريدون أن نصل إلى الجنّة أبدًا. حولنا كان الجنود يحاصرون القبيلة من كل اتجاه، في الأمام كانت هناك كَرْهَبَة القائد (أو الكولينلّو كما سأعرفُ لاحقًا) ودبابتان تتقدماننا، وعلى كل جانب كان الحبشة فوق الأحصنة يقودهم رومي وبالقرب من القبيلة كانت الباندا3 العربية يتحدثون إليْنا ناقلين تعليمات الروم يقودهم الرجل الذي شدّني يتابعني بنظراته، معه عربيٌ آخرٌ يشبه الغول يمسك بسوطٍ غليظٍ فوق حصانه كانوا ينادونه «الشوشان». في الخلف، تسيرٌ دباباتٌ ست تدفعنا دفعًا إلى الأمام. سرنا في صمتٍ تحت سياط شمس القيلولة حتى وصلنا إلى مفترق طُرق، أحدُ الطريقيْن كان يتجه إلى الشمال، حيث الجْبل، الآخر إلى الخلاء. فرحت لوصولنا وتطلعتُ إلى خيال الجْبل أحاول أن أتبيّن أشجاره التي حدثني عنها عَليٌّ لكن لم أرَ سوى سرابه في الأفق. «انظر يا هديّة… إنّه الجبل»، قلتُ لهدية بينما أمسك بقرنيْه الصغيريْن الناتئيْن في رأسه. رغى في وجهي. «لا تقلق… عندما نصل ستأكل كل ما تحب» أخبرته. ابتسمت، تطلعت إلى الخلف أبحث عن جسدِ أمّي، كانت صحبة عمّاتي يجرجرنها. تطلعت إلى أجساد الرجال حولي، سِيدي الفقي بدا كئيبًا. عمّي المهدِي وعمّي منصور وخالي صالح ورجال العائلة الشيوخ يمشون يطأطؤون رؤوسهم إلى الأرض وينظرون إلى أقدامهم التي بدأ المشي يسلخ جلدها.
– خالي صالح، بحّث.. الجْبَل، إنّه الجْبل. قلتُ له مشيرًا إلى السراب.
– نعم يا جاب الله، الجْبَل. ابتسم، ينتشلُ العبوس من وجهه.
– سنلتقي بسيدي اعمَر فيه؟
– إن شاء الله.
– وعَلي كذلك صح؟
– إن شاء الله يا جاب الله. قال ومسح دمعة نزلت من عينه.
– أسمعتَ يا هديّة؟ سترى سيدي اعمَر. حوّلت حديثي إلى هديّة.
اختار الروم الطريق الآخر. أصابني القلق، سألت سيدي الفقي عن سبب اختيار الطريق الصحراوي، ألقى على سمعي كلمة أفرحتني وجعلتني أقفز مراتٍ أمامه، قال لي: «طريقنا مختصرة». تركتُ أم هديّة عند أحد الرعاة وانطلقت أبحثُ في المحشورين عن فَرج لأشاركه الخبر. لم ألتقِ بفَرج منذ عشية الأمس عندما خرجنا نلعب من درس الفقي عن هجرة سيدي السنوسي الكبير من مستغانم إلى الجغبوب، كنّا نتناول كرةً نسجتها أمّي من وبَر امبَاركَة، ناقة عمّي المِهدي، بداية الصيّف الفائت، ولم نفترق إلا عند الغروب. اخترقتُ، وأنا أبحث عن فَرَج، أجساد المشاة، عجائز يغالبن ضعف عظامهنّ على المشي، رجال تبدو وجوههم كأنّها رأت الشيطان نفسه، وأطفال تحتضنهم أمهاتهم خوفًا من فقدانهم، لم يكن مشهدًا لأناسٍ فرحين بالذهاب إلى ربّي. احمرّ وجهي وتأففت، كيف يمكن لهم أن يقابلوا الله بهذه الوجوه وهم يعلمون، مثلي، علم اليقين، أننا ذاهبون إلى ملاقاته؟ نزل الدمع من مقلتيّ وتحجّر جسدي وأنا أراهم واحدًا تلو الآخر يتثاقلون في مشيِهم كأنّ على أرجلهم الأصفاد، بعضهم يتكئ على الآخر. آخرون وجدتُ في أقدامهم لون الدم الذي رأيته على جسدِ عَليٍّ وهو يصعدُ طائرًا إلى السماء. كانت هناك عجوز في الجمع، تتكئ على عصاة ويساعدها فتى، ومع ذلك بدت كأنّها تُجَّرُ جرًّا، أردتُ أن أدفعها معه لتسرع. بهذا الأسلوب وبهذا الثقل، لن نصل أبدًا. بعد تلك العجوز، رأيتُ فَرَجًا. لوّح لي فجريت نحوه. كان صحبة والده المريض، رجل فقد القدرة على العَمَل منذ زمنٍ طويلٍ ولم يبقَ له إلا فَرج ابنًا يهتمُ بالعائلة وأنعامِها. سلّمت على أبيه، استأذنَهُ ومشينا متقدمين عليه.
– فرج، هل تعلم أنّ الطريق التي نسلكها مختصرة؟ سنصل إليها قريبًا.
– إلى أين تظننا ذاهبين؟ قال لي.
– الجنّة أيها الغبي.
– يبدو أنّك أنتَ الغبي.
– ماذا تقصد؟
– نحن ذاهبون إلى الحبس.
– الحبس؟ أنت كاذب.
– براحتك، أخبرتني جدّتي أنّ أقدامنا سيأكلها السوس وأكبادنا ستتغذى عليها الضِّباع قبل أن نصل.
كان فرج يسمع كلام جدّته ويصدّقه. أمرته مرّة أنّ عليه ألا يخرج من الخيمة بعد الغروب لأنّ الجنّ سيأكلون أقدامه وسيصير بعدها مثل عبد النبي يضطّر الناس لحمله في كل مكان. حلف لي أنّه رأى عبد النّبي يومًا يجري على قدميْه كأنّه جَدَعٌ يخترق أحجار الوادي قافزًا بينها يحفر في الأرض فتنبت خلفه الحَبَّ والشعير. وحلف لي أيضًا أنّه رأى الجنّ يأكلون من أقدام عبد النّبي بعد أن غامر خارجًا من النجع إلى الوادي يجرّب سيقانه، لكنّي كنت أعرف أنّه يكذب علي، إذ أنّه كان يخاف الخروج من النجع في الظهيرة فكيف به يرى عبد النّبي في ليل الوادي ينهش الجنّ من لحمه. سألتُ سيدي الفقي عن سبب توقف أرجل عبد النبّي عن العمل، دون أن أتطرق إلى قصة فرج، فأخبرني الفقي أنّ ما أصابه هو مرض الأولاد فقط لا غير، فالفقي نفسه مات أولاده جميعًا من مرض الأولاد، وأراد أن ينقذ ابنه الأخير فأخذه عند الروم، لكن بعد أن فحصه حكيم الروم كان القدر قد حدد لابنه الموت ولم يبقَ له إلا البنات. هذا كل ما حدث. فكيف يريدني فرج أن أصدّقه الآن أننا ذاهبون إلى الحبس؟
مشينا معًا دون أن نتكلم. كان فرج يتطلّع إلى الجنود الذين يتحلقون بنا. لاحظت أنّه ركّز وجهه في أحدِ الجنود الحبشة، أمّا أنا فكنتُ أفتّشُ أرجل الناس الذين صاروا أبطأ من ذي قبل. بعضهم انهار من التعب، ولولا صياحات الجنود لتوقفوا عن المشي. أصبح جُلّ العجزةِ يمشون متكئين على الأصحاء. كان مشهد الناس وهم يحملون بعضهم بعضًا تحت شمس الظهيرة الحارقة، باعثًا على السخط في تلك اللحظات، فكنتُ أدعو الله أن يبتّ فيهم القوة لينفك الارتباط بينهم ويتمكن الجميع من المشي فرحًا، ربما رقصًا كما أودُّ أن أفعل. تذكرتُ قصة الإسراء والمعراج التي أخبرنا بها سيدي الفقي، كان النبي في حالة من الفرح عظيمة وهو يصعد البراق صحبة جبرين4، دعوت الله أن يأتي لنا بألف براق. لنطير إليه.
كنتُ قد تركتُ أمّي قُدّامي يفصلنا عشرون رجلًا وامرأة. كانت تبكي، تحملها عمّاتي على المشي. رأيتها مرة أخرى فلاحظتُ أنّي وفرج نسرع الخطو أكثر من الآخرين. لم أودّ أن تراني، لذا طلبت من فرج أن نبطئ. لم ينفك هُوَ يتابع وجوه الأحباش، ووحشية الجنود وهم يمتطون الأحصنة وينظرون إلينا كأننا قطيع من الحيوانات عليهم رعايتها. كانوا يرفعون سياطهم للأعلى عندما يتوقف أحد الرجال ويجبرونه على المسير قدمًا. لم نرَ أولاد الرومية في القافلة، إذ كانوا إمّا أمامنا بمسافة أو خلفنا، لم يلتحموا بنا.
– ذاك، ذاك الحبشي الأسود الحقير، ذاك هو من قتل أخاك. قال لي فرج.
– قتل أخي؟
– نعم، هل أنت أبله؟ ألم تشاهد أخاك عليًا يُقْتَل؟
– بل طار إلى السماء.
– عليك أن تكبر، احفظ وجه قاتل أخيك حتى تردّ له الديْن قريبًا، وإن لم تفعَل، سأفعل أنا.
تشاجرتُ مع فرج، كرهته، كان يعاملني بقسوة وغلظة. لكمته في وجهه وأمرته ألا يعيد كلامه مجددًا. رفضتُ تصديق أنّ عَلِيًّا قد مات فعلًا. كنتُ أبكي، نزلت دموعي وأنا أسدد لفرج لكماتي. تشابكَ معي، كان يكبرني بسنوات ثلاث. أسقطني على الأرض وأمسكني من رقبتي يصيح فيَّ أن أكبر، وأن أتذكر وجه الحبشي، ولم يوقف شجارنا سوى تصاعد الصياحات في القافلة من الرجال يطالبون بالوقوف بعد أن انهارت عجوزٌ في المؤخرة يمرّغ وجهها التُراب. رأيتُها، ورأيت الرجال يتحلقون حولها، كانت جدّة فَرج.
اشتبك بعض الرجال مع الجنود العرب يريدون منهم أن يوقفوا القافلة. رأيتُ ذلك العربي الذي جرّني إلى القافلة بداية رحلتنا فوقَ حصانِه يحتلّ مكانة عالية بين الباندا العَرب ويحاول امتصاص غضب الرجال. وقف فرج عند جدّته الملقاة على الأرض تتحلّق حولها النساء. شاهدتُ قدم الجدّة وقد اختلط فيها التُراب بالدِماء، كانت حافية كمعظمنا. حاولت النساء إيقاظ العجوز بنثر بعض الماء على وجهها، لكن يبدو أنّها لم تحتَمل المشي كل هذه المسافة، فكّرت أنّ ذلك سيكون حسنًا، أن يسقط كل العجزة لتصبح الرحلة أخف. نادى العَربي في الرجال وأخبرهم أن يخرجوا له رجلًا واحدًا ليتفاوض معه، وبعد لغطٍ بين الناس اختاروا سيدي الفقي. أخذ الجنود الفقي إلى مقدمة القافلة حيث ذاكَ القائد الكولونيلّو. تأخّر الفقي فظنّ الرجال أنّهم ألقوا به ميتًا، لكن عندما عاد كان يحملُ أمرًا واحدًا فقط، أن تتوقف القافلة لفترة قصيرة ليصلّي الرجال على جدّة فَرَج ويدفنوها في الصحراء. لم يعجب ذلك والد فرج والذي على مرضه كان يردد أنّه لن يسامح نفسه إن رضيَ بدفن أمّه في مكانٍ كهذا في رمال برقة. لم أفهم وقتها ما كانوا يقصدون، لكنني أيضًا لم أكن مهتمًا. تذكرتُ هديّة، فبحثتُ عنه آخر القافلة وأخذته من الراعي. كانت الأغنام تثغو تطلبُ الطعام والشراب تأكل فقط من الحشائش المتناثرة من الأرض. أمسكتُ هديّة وذهبتُ أشاهد الصلاة معه، جلستُ أراقبُ الجمع وقد وضعوا العجوز على التُراب أمامهم. أسمع عويل النساء في الخلف. بحثتُ عن فرج، فوجدته واقفًا صحبة الرجال في صفٍ ثانٍ يبكي جدّته، كان ذلك اليوم الذي قرر فيه فرَج قراره.
تمكّن سيدي الفقي وبعض من وجهاء القبيلة إقناع الكولونيلّو أن ترتاحَ القافلة في الليل. كان الجميع متعبينَ. يبدو، بالنسبة إلي، أنّ ذلك اليوم كان، مع كل ما حدث بعده، أكثر الأيام شدّة على القبيلة، إذ أذكر أنّ الجميع جلسوا في صمتٍ مهيبٍ يشاهدون ما تبقى من أطلال الواحة. كان الكلّ يبكي. رأيتُ الفقي ينزل دمعه وهو يودّع نخيل وطننا. لم يجرؤ أحدٌ على الحديث. ولم يجرؤ الكثيرون على النوم، لكنني وجدتها فرصة لأغفو. أغلقتُ عيني وودعتُ عالمنا هذا.
1 الجبل الأخضر، شمال شرق ليبيا، وهو قطعة من جنّةِ الله الخضراء على الصحراءِ الليبية.
2 جمع كرهبة، وهي كلمة ليبية وتونسية قديمة تعني سيارة. لا تزال مستخدمة في بعضِ مناطق ليبيا وفي جُلّ البلاد التونسية.
3 الباندا، من الإيطالية، تعني عصابة أو مجموعة وكانت تُطلقُ على العصابات الليبية في الجيش الإيطالي.
4 كثيرٌ من الليبيين كانوا ينطقون الأسماء مثل جبريل وإسماعيل بقلبِ اللامِ نون، ليصبح جبرين وإسماعين.
