في سويسرا، يجتمع أربعة رفاق قدامى، حيث يخضع كل منهم لتجرمة دواء جديد، ويستعيد كل منهم ما حدث له في الحزب، في أحدث روايات الكاتبة العراقية إنعام كجه جي.
حاتم الحاتمي

نمت وتمنيت أن لا أستفيق. ما عادت آدميتي تستقيم إلا في وضعية الرقاد. أنقلب على جنبي الأيسر ضامًّا ذراعيَّ إلى صدري. جنين عملاق يَثني ساقيه. أغمض عينيَّ فتنتشر أشرعتي. يمكن للروح التي قاست طوي أن تأخذ مداها بين الصحو والغياب. وللجسد أن يستريح. تعذَّب وعَذَّب. أغيب وأرى وجهها. أصحو وأتمتم باسمها. لن تعرفني بعد كل تلك السنوات. وإذا استدلّت على ملامحي، هل ستتذكر جارها العنيف العاتي والواقعة التي كانت حديث المجالس؟ يتلفّت البسطاء خوفًا وتحسُّبًا. يستعيدون الحكاية. تتلبّسهم رهبة من يبصر الشيطان أو يحضر يوم الحشر. الرفاق قضوا بأيدي الرفاق.
الكلّ منافق متلوِّن. كأن جبهة المدينة وجباههم لم تتلطخ بالدم من قبل. الجبهات والأعناق والأهداب وأظافر القدمين. تلوك أفواه أهل الحيّ ما سمعته الآذان. تشمئز الوجوه وتختفي العيون في المحاجر. يقيس كل واحد منسوبَ الشرّ في داخله. هل سيكون قادرًا على تنفيذ العمل القذر الذي قام به جارهم حاتم الحاتمي؟
هواجس تكفي لأن تجعلني أنام وأتمنى أن لا أستفيق.
جزاهم الله خيرًا هؤلاء السويسريين. وفّروا لي السرير الذي يحترم قامتي. متران ونصف في مترين. ملعب بشرشف أسرح فيه وحيدًا. أفرد ذراعيّ وأمدّ ساقيّ فلا تعربد قدماي في الفراغ. أطوى الوسادة تحت رأسي وأبتسم للحلم المُشتهى. امرأة تندسّ في الفراش. شعرها أجعد وبين حاجبيها شامة. تريح رأسها على صدري وترفع إليَّ عينين ضارعتين. أضحك من جنون البهجة.
من بهجة الجنون. تبرز نيوب الليث. أسناني النافرة التي أحرص على إخفائها. مرّت عليَّ سنوات بدون امرأة. أنثى أتحسس حريرها وتفهم شهواتي. تساهلتُ في الاشتراطات. تراجعتْ أمنياتي مع ضمور عضلاتي. لم أعد أتفحص وأدقّق. أستبقي وأستبعد. صرت أكتفي بما يتيسر. بمن حضر. بالموجود. أصاب الاختزال روحًا حيّة تسكن جثة طويلة عريضة. كانت كُنيتي في الحزب: الرفيق سور الصين.
أستفيق على هدير الترام تحت نافذتي والفجر ما شقّ بعد. غرفتي هي الأولى في الممر. يهجع في الغرف المجاورة نزلاء آخرون لهم أسرارهم وشهواتهم وكوابيسهم. لاجئون مثلي جيء بهم إلى أرض محايدة بإشارة من مايسترو خفيّ. مسكن جامعي من طابقين لا يعرف سياسة الفصل بين الرجال والنساء. لولا لغطهم ومناوشاتهم بالصوت العالي لظلّت المدينة منطوية على عذوبة نافورتها الدوّارة. تصغي لهديل الفخاتي فوق أبراج كنائسها.
بازل السويسرية الوادعة، ما كان أغناها عن كلّ هذا الهرج!
سرت في شوارعها مأخوذًا بالنظام. تتحدّاني نظافة عدوانيّة غير مألوفة. تجعلني أحكّ جلد رقبتي. أتحسس آثار حبل وهميّ. ثآليل من زمن ماضٍ. مدينة تتكبر على أمثالي. تبالغ في تخطيط الطرقات وترتيب الأرصفة. حاويات نفاياتها مزهريات. بالوعاتها طاسات عطر. ومناطق العبور مخطّطة بلون أصفر يحترم نفسه. لا هو فاقع ولا مُضمحلّ. يضع العابر قدمه عند حافة الطريق فيتوقف السير كلّه. لا لزوم لشرطيّ مرور والإشارات الضوئية مجرد ديكور. بازل كلها رهن قدميَّ. أقطع الشارع متمهلًا وهم الممتنّون. يمكنني أن ألاعبهم وأتشاقى معهم. أن أهمّ بالعبور ولا أعبر. أترك السيارات والحافلات متوقفة في انتظار قراري. سائقون متأدبون وراء زجاج نوافذهم. لا زمّار، لا إصبع نابية أو شتيمة.
لم أتآلف مع مدينتي الجديدة في أيامي الأولى. وجدتها مضبوطة ضبط العقال على رؤوس المشايخ. مُتكتّمة رزينة بنت ناس تعرف قيمة نفسها. تنتظر عريسًا أفضل ممن تقدّم لها. حتى طباع أهلها عكس طباعي، أنا الميّال إلى مرابع الفوضى. أحلم بنساء تلعلع ضحكاتهن في سَكَنات الليالي. يتفرجن من سطوحهن على سكارى يتبولون في عتمة الزوايا. يبللون شعارات خُطّت على جدران تعتّقت جيفتها.

قرأت في الدليل السياحيّ أن بازل عاصمة التجديد في الفن. لكنني في أيامي الأولى لم أرَ سوى عجائز يقفزن إلى الترام برشاقة شابات. لماذا يقفزن أصلًا وعتبة العربة تلتصق بحافة الرصيف، لا أعلى ولا أوطأ؟ أرستقراطيات بقبعات كلاسيكية، طالعات من صفحات المجتمع في المجلات. خدود وردية وابتسامات مزمومة. ملكة بريطانيا مرّت من هنا وخلّفتْ قبيلة.
لولانا لما عرفت الأزقة العريقة صخب النواسيّين الأعاريب. خرجت من الحانة، ذات ليلة، مع صاحبيَّ الدكتور بلاسم وغزوان البابليّ. كنت قد تحوّلت إلى قنبلة كحولية. وبلاسم ليس النديم المثاليّ، ولا البابليّ. يكتفي الأول بقدح من البيرة يتفرّج عليه ثلاث ساعات. يدرسه من جوانبه وكأنه ينوي أن يرسمه. والثاني متديّن يصلي ويصوم ولم يكن يقرَب الخمرة. ثم تكفّلت سنوات اللجوء بتخفيف تشدّده. يطلب عصير طماطة على أنه «بلودي ميري». تبحبح قليلًا وصار يجالس معاقري المنكر. اخترع لنفسه فتوى من قبيل أن الضرورات تبيح المحظورات. إذا لم يعاشر أهل الكأس فلن يجد عراقيًّا يصاحبه في البلد الغريب. الكؤوس مطافئ الخيبات.
خرجنا وأنا ثقيل الخطوات. يسندني رفيقاي حتى موقف الترام رقم 11 . أدندن بالأغنية نفسها:
– تجونا لو نجيكم؟
أسطوانة تدور بالسرعة البطيئة. يجاريانني ويمطّان معي اللحن الساذج:
– تعالوا يا حبايب هلا بيكم.
نغير إيقاع الأغنية ليلائم المزاج. مزاجي لا مزاج المدينة. وحده النبيذ ينسيني حديث تلك البلاد. يؤاخي بيني وبين غزوان. يكنس غبار الخلاف ويدفع به تحت مائدة الشراب، مع قشور الفستق. لا أعود أنا الرفيق العروبيّ ولا يعود صاحبي من حزب العمائم. سينطرح كلٌّ على فراشه وننام حتى الضحى. وحين نستيقظ ونغسل وجهينا. يرتدي كل منا طباع العقائدي العنيد.
وبازل كانت جميلة في ذلك الصيف من أواخر الألفية، عروسًا خارجة من حمّام مطرها. خضراء كفردوس. لكن روحي يمكن أن تطلع لو عشت فيها وحيدًا. الجنة بلا ناس ما تنداس. قالها لي بلاسم، الطبيب العراقيّ الشاب الذي أنستُ إليه منذ أن تلاقينا.
لم يكن صاحبا بمعنى الكلمة. فهو في مقام الأستاذ بيننا والمُشرف على مجموعتنا. لم يخطر ببالي أن أكون تلميذًا لمعلم يصغرني بعدد من السنين. لعله في سنّ أبنائي. ثلاثة شبان تفرقوا في القارات. لا أدري إن كان عليَّ أن أتقبله كأستاذ أو كطبيب. قال لنا إنه مجرد صديق جاء ليساعدنا.
يساعدنا في أي شيء؟
لماذا لا يعترف بأنه جاء ليعالجنا؟
ممَّ يعالجنا؟
والدنيا التي رفعتني ثم لطمتني ها هي ترأَف بي أخيرا. تركتني صحيحًا بدون علل. ما زال جسدي الضخم يتحمّل الضربات. اعتمدوا عليَّ في المهمات الصعبة بفضل عضلاتي. ولم يكن ارتفاع ضغط الدم إلا مزحة ودلعًا. حبة من «سيفيكار» في الصباح وتعتدل الأمور. أراقب طعامي ولم أعد أعاقر ابنة الكروم سوى مساء السبت. هكذا سماها شاعر من عندنا. انتهت سهرات المطاعم والبارات مع الرفاق. أتت عليها الحروب وسنوات الشحّ. نقلتها من «كازينو الخضراء» و«خان مرجان» إلى أوحال الخنادق. ليالي الخفارات. الإنذار باء والإنذار جيم. شغلتني الجولات الليلية في الأحياء المشبوهة. مداهمات العناصر الهدّامة. مراقبة الجماعات الدينية. جلسات التحقيق في مراكز التوقيف. التوسّلات والعويل والشتائم واللكمات. قسوة ضرورية اعتدتها بالممارسة. قيل لنا إن البلد يحتاج قبضة لا تلين. قلنا: آمين. أعين لا تنام. تسهر لكيلا يضيع الوطن. يتناهبه المتآمرون وعملاء الإمبريالية. الشعوبيون والمجوس والصهاينة والماسونيون والانفصاليون وأعداء العروبة. أستطيع أن أدرج قائمة لا تنتهي بكل الخصوم، المرصود منهم والمُتخيّل.
أنا الرفيق سور الصين. حفظت الدرس جيدًا وتربيت على لغة الكراسات الحزبية.
