في أحدث رواية للكاتب مجدي نصار، نقرأ سيرة «روح الله»، الفتاة التي تولد بعلامة على وجهها، وتعيش حياة مليئة بالعذاب والتنمر، ومع ذلك تمتلك قدرات خارقة تعرف من خلالها كيف قُتل حبيبها.
أنفقت عمري في البحث عن خلاص. حلمتُ بقوة خارقة تزيح العالم إلى يساري فلا يرى الناس يميني. في قريتي لا تخلع فتاة حجابها، سامية تمنَّت ولم تفعل، رغم قوة شخصيتها. خلعتُه قبل دخول الجامعة؛ ابتسم أبي متفهمًا، شجعتني مديحة بغمزة، مصمصت عمتي شفتيها، استغفر زوجها الشيخ مصطفى، استاء ابنها سعد، ابتهجت سامية حين انسدل شعري فوق مأساتي، طالعتُ وجهي في المرآة ببعض الرضا، شَبَّهتني مارينا بنجمات السينما، غازلني توفيق فضا؛ وصف شعري بالحرير، امتدح سمير طلتي الجديدة. اندهشت أميرة لما جاورتها في السيارة، نصحتني في خبثٍ بتغيير القَصَّة؛ لتغطي المزيد. حين طالع هاني صورتي بالحجاب، ابتسم، أزاح الخصلات: عينيكي جميلة.
في الطفولة نبهتني العيون لعلتي، الكبار يحدقون بوجهي، الصغار يرددون ما يقال. أعود لأمي بشكوى: فلان يقول كذا، تحضنني: انتي عسل، يعود أبي من عمله، يكرر جملتها، كأنها اتفاق بينهما، أنسى. ثم أعود بسؤال وحيرة، تقول أمي: من عند ربنا، لا أفهم لماذا يُصِرُّ ربنا على اختلافي، يضيف أبي: روحه في وشك. أنمو وينمو السؤال داخلي: أي روح تسكن جلدا ميتا؟!
احتلتني العيون، سيطرت على نظرتي لذاتي وعلاقتي بالناس، منحتُها ألوانًا: سوداء قاسية، بيضاء حانية، رمادية تقسو حينًا وتحنو حينًا، وردية إن منحتني حبًا، حمراء إن اشتهت مفاتني، زرقاء إن ربطتني بكرامات وهمية، بُنِّيَة أكرهها لأنها تشبه مأساتي. ثم امتدت الألوان لتشمل الناس والمواقف والكلمات والأفعال: امرأة سوداء، لحظة بيضاء، كلمة حمراء، إشارة صفراء.
عبر ثمان وعشرين سنة، كانت أنصع لحظة حين طلب هاني لقاء أبي. ملأ قلبي بالفرح، ضَخَّ الحياة في أوردتي، انتشلني من العذاب. دستُ الأحزان في الطريق للبيت، أنبأت أبي بخجل يمتزج بابتهاج، احتضنني مغالبا دموعه، عصرتني مديحة بين ضلوعها، هزت سامية خصرها النحيف كراقصة محترفة، اندهشت عمتي، لكنها زغردت وغَنَّت. نظرتُ في السماء، شكرتُها بامتنان.
رحلة من ألوان، عمر من عيون، ذاكرة من نظرات. بعيون خائفة ودَّعت جثمان أمي. بعيون تائهة هربت من أم سمير في موقف أسود. بعيون متألمة انسحبت أمام مدير التسويق في لحظة بنية. بعيون قلقة استقبلت المفاجأة أول أمس: تقدَّم موعد الزفاف، سأتزوج بعد أيام، ناقشت سامية ومارينا، ثم حسمت قراري، سأبوح لهاني باعتراف تأخَّر كثيرا.
لم أقف عاجزة أمام الإهانات، واجهت السخرية بغضب واحتقار، انتقمت من البعض انتقاما أكبر من الإساءة. حين لامني ضميري على إيذاء أميرة، دافعتُ عن نفسي، واجهته بالمبرر: هي وأمها تستحقان، أفزعني شبحي في المرآة، تحسَّرت مارينا على نفسي التي انساقت للشر، خجلتُ من الاعتراف لسامية. راودني الندم خلال شهور توارت فيها أميرة عن العيون، وخزني حين سمعتها تصرخ في وجه أمها، قتلني حين تحول الصراخ إلى شجار. بعد حين، خرجتْ أميرة من البيت شاردة مطرقة، لمحتني فرفعت هامتها، سألتها عن حالها، قالت: أحسن من حالك، ارتحت؛ نسف غرورها ندمي. دعوتها لخطوبتي، هنأتني ببرود، تهامستْ مع سامية ثم رحلت سريعا، تخيلتها تعود لأمها بمزيد من الغيرة والحقد؛ تحطمت أحلامها وتحققت أحلامي.
أميرة واحدة من كثيرين غرسوا بذور أزمة نفسية نشأت داخلي ثم تضخمت. وصفتها مارينا باضطراب تشوُّه الجسم: لا أتوقف عن التفكير في عيوبي الخلقية، أصابني مرض السعي إلى الكمال، أقارن ذاتي بالأخرين، ضعفت ثقتي بنفسي وانهزمت، اعتزلت الناس واكتأبت، اضطرب مزاجي، لا أتوقع إلا الشر، قد أنتحر أو أكفر. أطمئنها؛ لا أقوى على إنهاء حياتي، لا أريد الكمال، فقط أريد السلام. تسألني: وإيه اللي مانعك؟ .. أصمت.
الأسئلة كرابيج تجلدني: ما هذه؟ هل ولدتِ بها؟ هل هي حادثة؟ هل لها علاج؟ جراحة؟ بالمشرط؟ بالليزر؟ مكلِّفة؟! ثم السؤال الأهم لفضولهم: مرتبطة؟ متزوجة؟! هكذا تنطقه أفواههم، لكنني أسمع صيغته الحقيقية في أذهانهم: هل تصدق ظنوننا أم أن أحد المغفلين اتخذكِ حبيبة؟ لا أجيب، أتلقى ضربة الكرباج وأمضي، أنظر في السماء، أتذكر قول مارينا عن الكُفر، أبكي: من منَّا بلا إيمان، التي تمضي رغم نقصها أم الذين لا يمضون رغم كمالهم؟!
حين تزداد كآبتي، أشك فيمن يعاملونني برفق، حتى نفسي أرتاب فيها. أتسائل: لو كنتُ طبيعية ورأيت فجيعتي في وجه آخر، هل أتصرف مثلهم؟ هل يتقبَّلني الفضل لو لم أكن ابنته؟ هل تحترمني سامية لو لم أكن صاحبتها؟ هل تقبلني صباح أو مديحة دون القرابة والعشرة؟ هل يطلبني سعد للزواج لو لم أكن ابنة خاله؟ هل يطلبني توفيق فَضَا لو لم ترفضه كل البنات؟ هل أحبني سمير من قلبه؟ لماذا اختارني هاني؟ هل يصحح أخطاءً لم يرتكبها؟ يرانا الناس معًا فيطفو السؤال في عيونهم: كيف يشتري هذا الرجل بضاعة معيوبة؟ يبجله البعض تحت مبدأ: انظروا لهذا النبي، إنه يحمل هموم الأرض. تثور عيناه في وجوه المحدقين، يخوض معركة بصرية، يناصرني مثل جندي شجاع يدافع عن وطن ضعيف، يشفق عليَّ ولا يعلم إني أشفق عليه؛ يربط مصيره بيَّ والجميلات يملأن الدنيا! تنتظره اليوم رسالة أخرى، عليه تبليغها، ذنب جديد لم يرتكبه، عليه أن يحمل أوزاره.
لطالما انتظر الجميع زواجي حتى أصبحت أفكر مثلهم؛ أنتظر رجلًا وعقدًا وزفافًا، أعلن بهم إنني طبيعية، تستطيع أن تحب وتتزوج وتنجب. الكل ينتظر معجزة تأتيني بزوج، عمتي تعرضني في كل مكان، مديحة تتمنى في كل وقت، أبي يحمل الأمنية في عينيه، أثق أن أمي دعت الله كثيرا أن يهبني زوجًا. كلما حضرت زفافا، تنتظر الأفواه فرحي، لكن العيون تقسم إنني أحتاج عجيبة إلهية لأفرح. كلما استدعاني أحد للقاء رجل، أدرك أن صفقة تُعقد بين الدنيا والآخرة: خذ هذه ولك في الجنَّة قصرًا، تزوجها واحجز مكانًا في النعيم. ما البطولة في الزواج؟ أي مجد تحققه المتزوجة وتفتقده العانس؟ ما فضل الواحدة إن خُلِقَت جميلة؟ ما ذنبها لو كانت قبيحة؟ لماذا يندهش البعض حين يرونني مع هاني، لماذا اعتبرني الجرسون أخته، على اختلاف ملامحنا، ألا يجوز أن أكون حبيبته؟!
يراني البعض فيتمتمون: الحمد لله الذي عافانا، يقتلونني ببساطة، ترميني عمتي بطرف العين: سامية خُطَّابها كتير، لولا الدراسة كان زمان معاها عيلين تلاتة. هل أكره صاحبتي لأن العرسان يطرقون بابها دون بابي؟!
ذات يوم فتحتُ الباب لرجلين، عريس يستند إلى عكاز، أخوه يساعده، رفض أبي طلبهما دون الرجوع إليَّ. لم أذق طعم النوم، كلمات عمتي تدق رأسي: فرصة وضيعناها. هكذا يرسم الأسوياء مصائر المعتلين، معاق يليق بمعاقة، ناقصة تناسب ناقصًا، بيعة رابحة للطرفين. تنهمر دموعي: يفرق إيه عني؟ فرقت إيه عنهم؟ تقول مارينا إني رفضت الطريقة وليس الشخص. تسألني سامية عن برج العريس: لو برج الحوت نوافق، تشتم صباح: يجيلها مغص في فخدها، أضحك، أغادر الحزن مؤقتًا. ذات حيرة، سألت هاني لماذا أنا، هل تعوضني نقصي، أجاب في حسم: مفيش سبب .. بحبك وبس.
تنصحني مارينا أن أتقبل نفسي ليتقبلني الناس. فات الأوان، كنت سأفعل لولا جبل البصَّات الجاثم على صدري، لولا العيون المسلطة عليَّ دومًا. القدر نفسه لا يسلم من تسلط الناس، دائمًا يستنتجون ويحللون، كأنهم يسألون الله: من حرضك على هذا؟ من أغضبك فانتقمت منه في وجه لم يرَ الدنيا؟ هل غافلك أحدهم فعبث باللوحة التي رسمتها؟!
رحلة قاسية أرغمت عليها، أفتش الإنترنت عن آخرين بنقص مماثل. أتصفح مراكز العلاج، أقارن التكاليف والتقييمات، أرسم الخطط، أحاول الخلاص، أشارك مارينا نشاطها الخيري لعلي أخفف حُرقتي.
ذات يوم فزعت مديحة حين لمحت شبحًا أسود يدخل الشقة، رفعتُ النقاب عن وجهي، تحول فزعها إلى فضول، قلت: الشمس حامية على السطح، صدَّقَتني رغم رفق شمس الشتاء، تبدو ساذجة أحيانًا. في يوم آخر خرجت متقززة من مكان العلاج، أكاد أتقيأ، سامية تسندني لكي لا أسقط. في يوم ثالث، جلبت مارينا عباءة من ممرضة، سترت بها نهر الفضيحة، ضمت بدني المرتجف، أرحت رأسي على صدرها، سمعت أنفاسها ترثيني، أحسست بيدها على جبهتي، تتمنى أن تنزل سنتيمترات للأسفل لتزيل شبحي المرعب.
دقتْ الحادية عشر، لا أحد بالصالة، الروائح الشهية تملأ المطبخ، دخلتُ الحمام بخطى ثقيلة، غسلت وجهي في تعجل، لم أنظر في المرآة، عدت إلى غرفتي، جاء الصوت من المسجد: الطحينة يا عم أحمد. تسائل جمال السقا: هو ميكروفون فرح؟! دافع ممدوح فَضَا عن ابنه توفيق: حارة نِكدية. انفتحت الشقة، اقتربت رائحة الطعمية، مديحة تضحك: يا دي الفضايح.
فتحتُ الدولاب، أخرجت الصندوق، وضعته على السرير، ورثته عن أمي، كانت تحتفظ فيه بدفترٍ، صور، مصاغها، تليفون معطَّل وحجاب أبيض. أضفت يومياتي إلى الدفتر، أحرقتُ الحجاب في نوبة حزن: أين ما أُحسَد عليه؟! يوم نجحنا في الإعدادية، فتحت الصندوق لأدوِّن الذكرى، ابتكرت سامية لعبة: أغمض عينيَّ، تُخرِج شيئًا من الصندوق، أتوقع الشيء، لم أخطيء مرَّة، تصيح: بركاتِكْ، أحس بغيظ، أخطيء عن عمد في المحاولات التالية.
سامية رفيقتي الأولى والدائمة، جمعتنا المدارس، فرقتنا الجامعة، درستُ الجغرافيا، درستْ الهندسة، نالت الماجستير، تستعد للدكتوراه. في نوبات الشك أتهمها بتجميل قبحي، تسكت، أخاصمها بلا سبب، ترتمي في حضني، تطلب العفو كأنها مذنبة. تؤازر كل مواقفي، تقوِّم أخطائي بحب، لا تغفر إهانتي. على باب السينما، وصفتني فتاة بالعفريت، ضربتها سامية على قفاها: أمك عاهرة، نسيتُ الإهانة وضحكتُ. أحيانا أقلدها، أنتقم في الحال، أدفع هذه، أسب تلك، أتراجع حينًا، أتقدم آخر، أندم إن فعلت، ثم أواجه نفسي بحقيقة خوفي من معركة غير متكافئة بين وجه أعزل ووجوه مسلَّحة بالقبول.
كانت سامية في شرفتها، تنتظر مروري بالنقاب، صاحت: على فين يا حاجة .. خديني معاكي. انطلقتُ ضاحكة، منتشية خلف الستار، تجولت في القرية. قابلت توفيق فضا عائدًا من السوق بأكياس، غمزت له، لهث ورائي حتى اختفيت. تغزل رجل في عينيَّ، اقترب آخر من الخلف؛ وسَّعت خطوتي. انتبه قليلون لمروري، إحساس لم أجربه من قبل. ركبتُ السيارة إلى المدينة، جاورني يوسف، رشق صدري بنظرات نهمة، وَسَّعتُ المسافة بيننا. انتظرتُ أمام الشركة، أوقفتُ هاني، تظاهرت بضعف البصر، سألته عن عمل، بنبرة المحتاج، سألني عن عمري فضاعفته، وضعت يدي فوق صدره، ارتبك، خلعتُ الجوانتي لألمس نبضه، تراجع، ابتعدتُ قبل أن أنفجر في الضحك. اقتربتُ من الكافيه، كانت أميرة تجلس مع شاب، يحدق بوجهها الجميل، تدخن السيجارة كالرجال، تغيرت بعد الطلاق، وددت أن أقترب من الشاب، أمثِّل دور عرَّافة، أنصحه بالابتعاد عنها وإلا سيموت في حادث، غادرت ضاحكة من فكرتي الصبيانية. دخلت العمارة، لمحتُ رجاء وعصام (عضوين بالجمعية الخيرية) غارقين في بوسة تحت السلم، كتمت الضحك بصعوبة، صعدت إلى مقر الجمعية، طلبت العون بصوت باكِ، منحتني مارينا مالًا، توسلت عملًا وزوجًا وبيتًا بحديقة، قاومتْ دهشتها، تحججتْ باجتماع هام، فضحتني ضحكتي الصاخبة، عرفتني قبل أن أكشف وجهي.
راسلتني العيادة على فيسبوك: سأغادر بعد العملية بساعتين. كنت قد ادخرت مبلغًا من عملي، أكملت مارينا المبلغ المطلوب رغم قلقها من تعليقات المرضى المبالغ فيها.. قطعنا مشوارًا إلى محافظة أخرى، سبَّت سامية الموظف، بصقتْ على مكتبه البالي، هددتْ باستدعاء الشرطة، قذفت بعلب الأعشاب في كل مكان، ركلت البقرة ذات البول المبروك:
– نيجي من آخر الدنيا على الفاضي.. يا ولاد الوسخة يا نصابين؟!
حين اقترحت مارينا أن ننضم لجمعيتها الخيرية، وافقنا دون تردد. كل جمعة نزور ملجأ أو مستشفى، ثم نجتمع في الجمعية. في أول زيارة لم أحتمل عدد الأشباح الهائل حولي، أغرقتُ بنطلوني، تشوهات مخيفة في الوجوه والأبدان، كلهم زملاء في الأسى، هل جاءت مارينا بيَّ لتؤكد بساطة علَّتي؟ هل أحرق وجهي الآن تكفيرًا عن شكواي؟ زارت الأشباح منامي لليال عديدة، أصحو مفزوعة، أهرب من البكاء على حالهم للبكاء على حالي.
حين يتألم الواقع، يصبح الحلم مهربًا مثاليًا. كثيرًا ما ألوذ بخيالات اليقظة أو يأخذني النوم إلى عوالم أخرى. البؤس، كل البؤس، أن الواقع يطاردني في الحلم، مرَّة أرى ملاكًا يبوس مأساتي بشبق، ومرَّة أرى شيطانًا يبصق عليها بقرف. أرى وجهي نقيًا بلا عيب، الطبيب يهز رأسه في فخر، يلوح بمشرط ذهبي، وفجأة أرى المأساة تزحف كالثعابين حتى تغطي وجهي كله. يبقى أثر الأحلام المفزعة لأيام تالية، أهيم في الشوارع مثل غول يريد أن ينقض على كل امرأة جميلة، يرغب في تشويهها.
أفكر في عجيبة ترسم مأساتي فوق كل وجه، ثم تتركني دون عيب، حينها ستلاحقني الأسئلة والنظرات بصورة معاكسة: أي حادثة أزالت طابع حسنكِ؟ ستصبح المآسي علامات حسن ويصير الوجه النقي معيوبًا. لو كان الناس جميعًا بهيئتي، ما تأزمت حياتي. أتمنى لو جئت إلى الدنيا في زمن خيالي، بين عيون لا تقارن وقلوب لا تقتل. تتعاظم أحزاني في هذا الزمن الغريب، نصف نساء العالم بنفس الملامح والقوام، أدوات التجميل تتكاثر مثل الأرانب، الجراحات في كل مكان بالجسد. النساء يتماثلن فيعمقن جراحي؛ كلما تظهر صيحة في المظهر، تقلدها كثيرات، فيتضح اختلافي أكثر وأكثر. تتماثل هيئة راسيل (صديقتي الإيطالية) مع هيئة مطربة مصرية. تتطابق صورة زفاف أميرة مع صور زفاف عشرات الفنانات. العالم يرسم مستقبل الطبيعيات، يحتل الفضاء، يبحث عن أكوان موازية، يُنَصِّب العلم إلهًا يقول للأشياء كوني فتكون، بينما يعجز عن انتشالي من بئر القبح.
الأحزان توحد القلوب، المآسي المشتركة تصنع تقاربًا فطريًا، أشعر بكل معتل، أمنح قطعة من قلبي لكل ناقص، أبكي كل فقيد، أمسح قلب الفاقد، تُبكيني الأحزان في الدراما قدر ما تبكيني في الواقع، أستقبل الألم بترحاب، أمزجه بألمي، يصرخان معا. شاركتُ امرأة أمريكية ليلة بكاء على الإنترنت، أبكي يمين وجهي، تبكي يسار وجهها، اقترحتْ مازحة أن نكمل بعضنا، نتبادل القطع حسب الحاجة، أستعير منها في زفافي، تستعير مني في حفل تخرج ابنها. وحدتُ شمال القارة وجنوبها في وطن واحد حزين، سال دمعي فوق وجنة فتاة سمراء، من مدغشقر، ليغسل بهاقا يحتل وجهها كقناع. دخلتُ موقعًا عالميًا للدردشة، ناس من كل جنس ولون: صوتكِ جميل، صوتكَ أجمل، لماذا لا تفتحي الكاميرا؟ لماذا لا تفتح أنت؟ صمت في الطرفين، سرَّان محتبسان خلف ستارين، لا عيب في البوح لغريب، لا ضرر من الاعتراف لعابرة، مأساة واحدة، سؤال أليم يتجدد، بثُ مباشر لفجيعتين. بين الملايين، على تنوعها وتباعدها، تنتقي المآسي بعضها، تبحث الواحدة عن مثيلتها، تنصهران في حزن واحد، في بكاء واحد، تتشبثان ببعضهما بحثا عن ملاذ. في قلبه جرح، في روحي ندبة. خذلته حبيبته؛ رأته بعين صاحباتها. خذلني حبيبي؛ رآني بعين أمه. نصير صديقين، بئرين يصب أحدهما همه في الآخر، ثم نبتعد دون سبب، كأن أحدنا يهرب من نفسه التي تطارده في غيره.
لا أترك شارعنا إلا للضرورة، أحفظ شوارع المدينة وقد أتوه في قريتي. قاس جدًا أن تتأمل اختلافك بين جمع من الناس، في قرية أو شركة أو جامعة، وكلما اتسعت الدائرة التي تنظر حالك في محيطها اتسعت حسرتك. حين اختارت الشركة خمس موظفات من أجل تدريب في القاهرة، صعدنا البرج، انشغلت زميلتي هناء باتساع الأرض وتلاصق البيوت، أما أنا فمسحتُ العالم الواسع بعين الحرقة، نخر السؤال قلبي: لماذا أنا بين الملايين.. بين المليارات؟ دارت أغنية شعبية، تشجعت هناء، سحبت يدي، ترددت، ثم تذكرت انتشاء سامية حين تلوي بدنها مثل حيَّة، سلمت روحى للموسيقا، ورأسي للهواء الطازج، دفنت همي في وصلة رقص ممتدة، ترنحت وتمايلت، درت حول نفسي عشرات المرات، دوَّخت الحزن، دهسته تحت قدمي المتعرقتين.
ناولتني مارينا العصير لأعوض الدم الذي فقدته، ذهبت تتابع بقية المتبرعين، سرحت أتأمل الفكرة: لو أن فتاة جميلة تبرعت بوجهها لي، كيف يقوم الطبيب بالمهمة؟ إن كان أنفها أصغر أو أكبر، كيف يتصرف؟ إن كان فمها أوسع أو أضيق، ما حيلته؟ في الليل انفتحت الأحلام على شارع طويل، تصطف على جانبيه فتيات بعلَّات متنوعة، يشق الصفين رجل يبيع وجوهًا حيَّة، يحمل وجهين ملائكيين، يختار البعض، يخرجن عن الصف، يمنحنه المال، يخلعن وجوههن، يلبسن الوجه الجديد، يركضن في سرور. مرَّ الرجل بي، مرَّ الأمل من رأسي إلى قدمي، ثم عاود الصعود مداعبًا أوصالي، تجاوزني الرجل دون اهتمام بلهفتي، مددت يدي أستغيث به، واصل السير دون مبالاة، أخذت أصرخ، مسكتني يد غليظة، رمتني على جانب الطريق.
