في رواية مهاب عارف الثالثة «يوم لا ينتهي» نرى مصطفي الرفاعي، الكاتب العجوز ينتظر موته القريب وهو يحمل سرًا كبيرًا يثقل صدره، وذات يوم لا يختلف عن كل الأيام، تتحقق أغلى أمنياته وأسوأ مخاوفه معًا. ننشر هنا الفصل الأول من رواية نوار فريدة من نوعها.

من وسط ظلمة ليل صحراء «كينج مريوط» بغرب الإسكندرية، في بقعة تناثرت الأضواء الخافتة في أفقها البعيد، ظهر شبح عملاق اسمر يحمل حقيبة سوداء كالحة اللون على كتفه ويسحب خلفه كلبة ضالة متدلية البطن تكافح للإفلات من الحبل الملتف حول عنقها دون جدوى، تثير الغُبار بمحاولاتها للتشبث بالأرض تحتها لكن ذراع الرجل القوية تجرها دون أن تملك من أمرها شيئًا سوى الاستمرار في محاولاتها اليائسة، تصطدم بنبات بري ذي أشواك فتئن متألمة، لا يأبه بها الشاب الذي صر على أسنانه وأكمل سيره دون النظر خلفه، حبات العرق تسابقت على جبينه بالرغم من غياب الحر، يلتف حول تبة عالية حتى تتراءى أمامه ڤيلا أنيقة من طابقين بُنيت من حجارة طبيعية لونها بني فاتح كلون الأرض من حولها، وقفت وحيدة متفردة وسط الخلاء في بقعة لا أثر فيها لمنازل ولا لإنسان، هناك طريق ترابي ممهد يبدأ من العدم حتى ينتهي إلى بوابتها التي تكثفت قطرات المياه فوق حديدها البارد بفعل رطوبة الجو التي ترفض الرحيل بالرغم من قُرب انتهاء شهر سبتمبر.
دون مبالاة بأنين الكلبة الذي لم ينقطع، تقدم أمير فتحي من الڤيلا بتؤدة كأنه ليس بغريب عنها، شاب في منتصف الثلاثينات يناهز المترين طولًًا، ذقنه غير الحليق يتساوي مع شعر رأسه القصير، فوق حاجبه أثر أربع غُرَز قديمة قُطبت بشكل واضح، أنفه أفطس وجبهته عريضة ككل ما فيه، يميل بجسده إلى الأمام أثناء سيره كأنه يستعد دائمًًا للانقضاض.
جاء إلى هذا المكان المنعزل بسيارة ربع نقل اقترضها من أحد أصدقائه، أو بمعني أدق أجَّرها منه لليلة واحدة نظير ثلاثمائة جنيه بالإضافة إلى ثمن عشرة لترات من الوقود اضطر لإنعاش خزان السيارة الخاوي بها، ليس هناك شيء مجَّاني في هذا الزمان إلا الطمع.
أول ما فعله بعد حصوله على السيارة هو أن دار بها دورتين في منطقة قريبة حتى عثر على بُغيته في كلبة ضالة تلتمس الطعام ولا تمانع في بعض الملاطفة، أغواها كذبًا بالاقتراب منه وعندما أمنت له وفعلت أمسك بها ثم ربطها في صندوق السيارة بجوار سلم خشبي طويل، يشبه السلالم التي ينصبون بها سُرادِقات العزاء.
بوصوله إلى وجهته صف السيارة في مكان يستره الظلام ثم حمل السلم دون مشقة تُذكر ووضعه تحت سور الڤيلا الغربي الذي يحدوه قناة ري جافة، عاد إلى السيارة فأحضر الكلبة ثم ربطها في شجرة تكاد تلتصق بالسور، تحمَّست المسكينة وهي تحاول الإفلات تفاؤلًا بالوضع الجديد، نظر حوله في حرص ليتأكد من غياب المارة قبل أن ينصب السلم ثم يفك الكلبة ويصعد بها وهو يرفعها خلفه دون رأفة كأنه يشنقها حتى استوي فوق السور، نظر إلى حديقة الڤيلا المظلمة للحظات قبل أن تندفع ناحيته ثلاثة كلاب «دوبرمان» ضخمة تزمجر وتنبح في وحشية بينما أعينها تلمع في الظلام كالشياطين، اثنان سود والثالث بُنِّي، وكان أكثرها عصبية، عيناه حمراوان وذيله مقصوص أكثر من أخويه، يدورون جميعًا أسفل السور الذي يطل أمير من فوقه في تربص وعدوانية كأنهم يتحدونه أن يهبط إليهم لو جرؤ.
كانت النباتات والأشجار في الحديقة ذابلة، الحشائش صارت تربة جرداء لا تحمل فوقها أكثر من بعض أعواد صفراء، الأشجار المُثمرة مُهملَة وفاكهتها الساقطة تحتها على الأرض صارت طعامًا للطير والزواحف، تطلَّع أمير في هدوء إلى الكلاب قبل أن يقذف بالكلبة وسطهم في غلظة، كانت المسافة غير بعيدة عن الأرض، أصدرت الكلبة صوتًا متألمًا لحظة سقوطها قبل أن تنطلق جارية كالمجنونة ومن خلفها الكلاب الثلاثة أكثر جنونًا منها. جلس أمير يتابع المطاردة التي انتهت سريعًا بمحاصرة الكلبة في أحد أركان الحديقة، قبل أن تبدأ الكلاب الثلاثة في الشجار فيما بينهم.
عند هذه اللحظة دفع أمير السلم ليسقط تحت السور، ثم قفز في الحديقة وهو مطمئن لانشغال الكلاب التام عنه، وفي الوقت الذي كان يتقدم ناحية الڤيلا بحذر كان الكلبان السُّود يتشاجران في ضراوة، بينما الكلب البُنِّي يعتلي الكلبة في اشتياق المجاذيب.
لم تصمد النافذة التي اختارها كثيرًا قبل أن تطاوعه فتفتح له الطريق إلى الداخل، وجد نفسه في غرفة جلوس ذات أثاث ورياش يشيان بالثراء، كل شيء من حوله منظم بدرجة عالية، وإن كانت رائحة المنزل العَطِنة دليلًًا على أن النوافذ لا تُفتح بانتظام، وبأن الشمس لا تزور هذه الغرف إلا نادرًا، الستائر مسدلة، والظلام شبه كامل، هناك ضوء شاحب يأتي من مصباح بعيد في مكان ما بالمنزل، لم يُمكِّن أمير من رؤية تلك المنضدة الصغيرة التي اصطدم بها ليدوِّي صوت مكتوم إثر سقوط مطفأة السجائر الفضية على السجَّادة العجمية؛ تخشَّب مكانه متجاهلًا الألم الذي داهم عظمة ساقة الأمامية، جزَّ على أسنانه والألم يتصاعد مكتسحًا كل حواسه حتى وصل إلى أقصى مداه قبل أن يبدأ في الانحسار.
سمع صوت زمجرات الكلاب بالخارج، الحفل لا زال مستمرًا.
تقدم في هدوء وألم الاصطدام بالمنضدة لا زال عالقًا في ذهنه، بدَّد الضوء الشاحب بعضًا من عتمة الأروقة المتشعبة من بهو الاستقبال، أخرج هاتفه وأشعل كشَّافه فبدأ يتبين التفاصيل، أول ما وقع بصره عليه كان صندوقًا خشبيًا بجوار باب الڤيلا به مجموعة من العِصِيَّ ذات الأشكال المتنوعة، وبجواره نشَّابة عليها معطفان.
كان المنزل فخمًا، اللوحات المعلقة على الجدران كبيرة وأُطُرها مُذهَّبة، التحف النفيسة في كل مكان وكثرة المشغولات الفضية تخطف بصره، لم يحسب حساب هذا الكَم من الغنائم، نظر حوله فلفتت المزيد من الأشياء البرَّاقة نظره واتجه ليفحصها، رفع آنية من البورسلين تستقر على قاعدة ذهبية على هيئة أغصان شجر متشابكة، انفصلت القاعدة لتسقط على الأرض الخشبية مُُحدثة صوتًا مسموعًا.
اختبأ أمير خلف حائط وهو يلعن غباءه، أخرج مسدسه من جيبه ووقف متحفزًا، ولما مرَّ وقت مُطمئن دون أن يسمع صوتًا بدأ يعبث في الأدراج، فملأ حقيبة ظهره الكالحة في زمن قياسي وفطن عندها إلى حاجته للكثير من الحقائب.

ضوضاء الكلاب العالية في الخارج تدفعه للتساؤل عن سر عدم ظهور صاحب المنزل حتى الآن، لقد كان يتصور أنه سيقابله في أي لحظة.
بحث بنظره وسط المقتنيات الثمينة بينما هو يثني على حُسن تخطيطه؛ لقد راقب هذا المنزل عدة مرات، ثم رأى أن الجهة التي وضع عندها السلم لا يكشفها إنسان، ولما صعد فوق السور رأى الكلاب فصاروا هم مشكلته الكبرى، ولكنه لاحظ أن ثلاثتهم ذكور وليس بينهم أنثي، وهو ما جعله يوقن بأن هذه الكلاب محرومة بشدة، وكل ما عليه هو أن يُرفِّه عنهم بأنثى وعندها سينسون أنفسهم وسيدعونه يمر وسطهم كأنه شبح، وهو ما كان، فالرغبة تُعمي حتى حواس الوحوش، والغَلبَة دائمًًا ما تكون لها.
تذكَّر كيف نسب مجدي فرخة صديقه هذه الفكرة لنفسه، المأفون عديم الذمَّة، لا يمكن لعقله المتحجِّر أن يصل إلى مثل هذه الأفكار اللامعة أبدًا.
تلكَّأ في الطابق السفلي منتظرًا استيقاظ الرجل إن كان نائمًًا، أو إثارة انتباهه إن كان مشغولًًا، ولما استبطأ ظهوره قرر أن يصعد هو إليه في الطابق العلوي، سيسيطر عليه بسهولة، ثم يجعله يربط كلابه حتى يستطيع الخروج من الڤيلا، وإن لم يرضخ أو اعترض فأمير كفيل بإقناعه، هذه هي تتمَّة الخطة، وهي تسير كما ينبغي حتى الآن، لا يتخيل أن يواجه مشاكل الليلة، الأمر سهل وواضح، عليه فقط أن يجد المزيد من الحقائب.
كان بالطابق العلوي خمسة أبواب مغلقة وواحد فقط مفتوح، أدخل رأسه من الباب المفتوح فوجد غرفة ذات أثاث مريح، وعلى الحائط صورة زفاف باللونين الأبيض والأسود تجمع صاحب الڤيلا بزوجته، لم يمنع أمير نفسه من ملاحظة أن المرأة جميلة، حتى باختلاف مقاييس الجمال بحسب العصر فلا زال جمالها واضحًا لكُلِّ ذي عين.
أكمل تقدمه الحذِر ويده تعتصر مقبض المسدس، يكره الترقُّب والانتظار وهذا القلق غير المبرَّر، فتح باب أول غرفة فأصدر صريرًا أعلى من ضوضاء الكلاب، كان باب الحمام الذي لم تَكُن رائحته مما يسُرّ، ولكنه لم يأنفها تمامًا، لا تختلف كثيرًا عن رائحة مدخل البناية التي يسكن فيها، فتح الغرفة الثانية فوجدها غرفة المكتب، وكانت كبيرة الحجم بوضوح، أصابته الجرأة فأضاء النور بعد أن أثارت محتويات الغرفة انتباهه، رأى مكتبة عريضة تمتد من الأرض حتى السقف تحتل إحدى جوانبها، وقد امتلأت عن آخرها بالكتب، وفي صدرها كانت هناك مجموعة من الجوائز والصور التي تجمع صاحب الڤيلا بمشاهير من مصر والعالم، كانت الجوائز موضوعة بداخل جزء من المكتبة صُنع من زجاج وسُلطت عليها إنارة مميزة، على حائط آخر كانت هناك أُطُر مختلفة الألوان بداخلها أغلفة روايات وأفيشات أفلام حملت جميعها اسم «مصطفى الرفاعي».
هذا رجل يحب نفسه، أو على الأقل يُجيد الاحتفاء بها، ولكن لماذا يضعها في غرفة المكتب وليس في الأسفل لكي يراها كل الناس؟
شغلته محتويات الغرفة، يتذكَّر بعض هذه الأفلام، هذا منزل شخص مشهور إذًا. مَرْحَى!
ولكن أين هو؟ لم يتبقَّ سوى ثلاث غرف، بدأ يسأم وتخلى عن كل حذره، فتح باب أقرب الغرف إليه فداهمته منها رائحة مميزة، كأنها رائحة العجائز، مختلطة بروائح عطرية لم تنجح في إخفائها، إنها غرفة نوم مصطفى، لمح من الضوء الخفيف المتسلل إلى داخلها جسده مُستلقيًا فوق الفراش، مُغطًّى ببطانية خضراء من الصوف الخفيف، لا تبدو عليه نيَّة استيقاظ قريب، حتى الباب الذي أصدر صريرًا وهو يُفتح لم يُقلق نومه، أنار أمير نور الغرفة في حدَّة وصاح بصوت مخيف:
– استيقظ يا هذا!
لم يتحرك مصطفى ولم يفتح عينيه، تقدم أمير منه ومُسدَّسه في يده وكرَّر كلامه بصوت أعلى وأكثر قوة، ولكن الرجل ظل كما هو، نائمًًا لا يتحرك. عندما وقف أمير فوق جسده المستكين وقلبه يدق في عنف لكَزَ العجوز الراقد بماسورة المسدس في كتفه فلم يهتز، دقَّق النظر فيه، لا يلحظ تنفسه، صدره ثابت لا يعلو ويهبط، لكزه بالمسدس مرة أخرى ولكن في وجنته هذه المرة؛ سقط رأسه جهة اليسار، أمسك أمير بيده ليشعر بنبضه، لا شيء، ثم خُيِّل إليه أنه يسمع شيئًا، ليكتشف أنها ضربات قلبه هو التي انتقلت إلى أطرافه، تردد للحظةٍ قبل أن يرفع يد مصطفى لأعلى ويتركها لتسقط متراخية بفعل الجاذبية.
يا للمصيبة الكاملة! لقد مات هذا الرجل!
وقف أمير مصدومًا يحاول استجماع شتات نفسه، لقد دمَّر هذا التطور الخطر خُطَّته برُمَّتها. كيف سيخرج من الڤيلََّّا الآن بينما هذا الرجل لم يَعُد بإمكانه مساعدته؟
لم يَهْدهِ عقله إلى أي فكرة نيِّرة، دار في الغرفة وقد تحولت صدمته إلى ذهول، نظر إلى الرجل في مقت كأنه يلومه. كان للغرفة نافذتان، الكبيرة تطل على واجهة الڤيلا الأمامية، أما الثانية فهي تنظر إلى جانب الحديقة الذي دخل من فوق سوره، بينما الكلاب لا زالت تمرح تحته في حماس خبا وَهجُه بوضوح.
الحيرة تشل تفكيره، لا يدري كيف سيخرج من هنا، يا له من موقف لم يتخيله ولا يعلم كيف سيخلص نفسه منه، حوله كل هذه النفائس ولكنه حبيس المنزل حتى يصطاد هذه الكلاب برصاصاته المعدودة أو حتى يموتوا من الجوع.
جلس على مقعد مريح في الغرفة وأغمض عينيه، هذه هي طريقته عندما يصطدم بموقف أكبر منه، يغلق عينيه لكي يختفي كل ما حوله سامحًا للظلام بافتراش روحه، صديقه المقرب الذي لا يصد أحدًا، الصدر الذي يسَعُ الكل، المكان الذي يتحدث عنه الناس ولكنهم لا يحبون ارتياده، يدَّعون معرفتهم به ولكنهم لا يعلمون عنه إلا القليل، أما أمير فهو يعرف الظلام حق المعرفة، يفهمه ويُقدِّره، وقد اختاره بإرادته وأحبه.
لديه اعتقاد راسخ بأن الظلام والنور أخَوَان، ولاختلافهما حكما العالم منفصلين، قرر النور السيطرة على النهار، بينما فضَّل الظلام بسط سطوته على الليل، وكل شخص على هذه الأرض يختار الانضمام للعالم الذي يلائمه، منه يأخذ صفاته وتنطبع به روحه؛ أمير اختار الظلام وأحبَّه وعهد إليه بأسراره، ارتاح فيه واختبأ وابتعد عن الناس حتى انعزل واختفى وأوغل في الوحدة، نفسه قاتمة وقلبه منطفئ، لا يعرف معنى المشاركة ولا يبحث عنها أو يسعى إليها، لا يخفق قلبه لأحد ولا لشيء، فقط لكي يُبقيه حيًّا.
أفاق من أفكاره، كأنه يعود من عالم آخر، استجمع ذهنه وألقى نظرة أخرى على الجسد المسجَّى فوق الفراش وقد انفتح فمه بشكل غير مريح، قام لينظر مرة أخرى إلى الحديقة، كانت الكلاب تتجمع في مكان واحد، فتح جزءًا من النافذة في هدوء، اصطدم هواء آخِر الليل المنعش بوجهه فأخذ نفسًا عميقًا، لو أمكنه اصطياد الكلاب الواحد تلو الآخر من موقعه العالي هذا لأصبح في حُكم المحظوظين، صوَّب مسدسه بما أمكنه من دقَّة ناحيتهم، لم يفكر كثيرًا ولم يدرس ما نوى عليه، وإنما اتخذ القرار في سرعة وأطلق رصاصة دوَّى صداها عاليًا في الصمت فتحفزت لها الكلاب باحثة عن مصدرها، لدهشته اكتشف أنها أخطأتهم جميعًا، أعاد التصويب وأحكم قبضته على المسدس ثم أطلق النار ثانية فسقطت الكلبة التي أحضرها معه وهي تئن متألمة بينما جفلت الكلاب وبدأت في النباح. جن جنون أمير من طيش طلقاته فلم يَدْرِ بنفسه إلا وهو يطلق طلقتين أخريين استقرت واحدة منهما في عنق الكلبة فسكنت في مكانها، بينما ارتطمت الثانية في الأرض بالقرب من ساق أحد الكلاب وجعلته يجري مبتعدًا.
عندما أفاق من سكرة غضبه كانت الكلاب قد اختفت من أمامه تاركة خلفها جثة الكلبة التي لا يهمُّه أمرها في شيء، وفي جسدها رصاصتان من الرصاصات الأربع التي أطلقها!
كاد يضع الرصاصة الخامسة في فمه من فرط الندم والإحساس بالغباء، تشنَّج وجهه في ثورة مكتومة خرجت في النهاية في شكل صرخة استنكار عالية. بحث عن الكلاب فلم يجد لأيٍّ منها أثرًا، نظر في خزينة المسدس وهو أعلم بما فيها فوجد الرصاصة الأخيرة تقبع وحيدة بلا مُعين.
دار في عقله سؤال وجيه، كيف يتخلص من ثلاثة كلاب برصاصة؟
نزل من غرفة النوم وهو في منتهى الغيظ، كلما نظر في مكان رأى المزيد من التحف والفضيات واللوحات الثمينة، كان بائسًا إلى أقصى درجة، كأنه «علي بابا» محبوس في مغارته بعد أن تغيَّرت كلمة السر دون أن يدري، فالرجل الوحيد الذي يستطيع مساعدته يرقد في الطابق العلوي ينعم في راحته الأبدية.
صعد إلى غرفة مصطفى مرة أخرى وهو ينظر إلى جسده في توتر، شاهد الكلاب وقد عادت، تحوم في الحديقة وهي تنبح، يتشممون جسد الكلبة الميتة، وقف مكانه ينظر إليهم، وعندما رأوه جُنَّ جنونهم، نبحوا في وجهه وزمجروا، صوَّب مسدسه ناحيتهم عدة مرات عاقدًا العزم على اقتناص أحدهم وتقليل حجم مشكلته، ولكنه تراجع في النهاية خوفًا من فقدان آخر أمل له؛ هذه الرصاصة أصبحت القشَّة التي يتمسَّك بها لكي ينجو من مفاجآت هذا اليوم.
وجوده بجوار جسد مصطفى يُقلِّب عليه هواجسه، أراد الخروج من الغرفة دون حاجة للرجوع إليها، قرر أن يأخذ منها ما يريده ثم يغلقها ويعسكر في مكان آخر، بعثر كل شيء فيها فعثر على الكثير من الكنوز القيّمة، يجهل ثمنها ولكنها بالتأكيد ستدرُّ عليه مالًًا جيدًا.
لاحظ بجوار الفراش ظرفًا أنيقًا مغلقًا مكتوب عليه بخط سيِّئ «وصيتي – مصطفى الرفاعي» تركه في مكانه وأكمل عبثه، وكلما لاحت منه التفاتة ناحية جسد مصطفى زحف إحساس كئيب على قلبه، لقد رأى أجسادًا خاوية من الحياة من قبل، وكان هو شخصيًّا سببًا مباشرًا في خروج بعض الأرواح من أجسادها، ولكن هذا الرجل يثير لديه إحساسًا غامضًا بخوف لم يعتده.
يتذكَّر تلك المرة في بداياته، ليلتها اقتحم منزل فوجد صاحبه أمامه، دار بينهما حوار قصير ثم اختفى الرجل فجأة وظهر مرة أخرى وبيده مسدس، وانتهى الأمر بهما متواجهين، كُلٌّ منهما في يده مسدس، أطلق الرجل على أمير ثلاث رصاصات في الوقت الذي أغلق فيه أمير عينيه وأطلق رصاصة واحدة، عندما فتحهما وجد الرجل يسقط على الأرض ميتًا بعد أن اخترقت رصاصته الوحيدة وجهه أعلى حاجبه الأيسر، بينما أمير لم يُصِبْه شيء، تمَّم على سلامة جسده في ذعر قبل أن ينظر إلى الحائط خلفه ليجد الرَّصاصات الثلاث تصنع ما يشبه إطارًا مُحكمًا حول رأسه وعنقه، لقد نجا يومها بمعجزة لم يتعظَّ منها ولم يتعلم بعدها شيئًا.
وهو اليوم بحاجة لمعجزة مشابهة، وأثناء انتظارها لا يستطيع أن يبقى ساكنًا، عليه أن يشغل نفسه في جمع كل ما في هذا المنزل قبل أن يقوده يأسُه إلى الجنون.
