قصة قصيرة لهبة عبد العليم: قبيل النهاية بقليل

سارة شمة، بدون عنوان، زيت على قماش، 100×100، 2025 (بإذن من sarashamma.art).

21 JULY 2025 • By هبة عبد العليم
سارة شمة، بدون عنوان، زيت على قماش، 100×100، 2025 (بإذن من sarashamma.art).
في عالم كابوسي، تدور سيدة في متاهة لا نهاية لها، وتكشف شيئًا فشيئًا عن كل ما ترسب بداخلها، قصة قصيرة جديدة لهبة عبد العليم.

 

هبة عبد العليم

 

لا أذكر كيف بدأت الأحداث، لا أذكر سوى عدوي عارية في شوارع مدينة غريبة، أنا أعدو، أعدو بكل ما أوتيت من قوة، أعدو وخلفى ما لا يقل عن مئة كلب ضال ينبح، أعدو فأضل في طرقات مدينة لا تشبة أي من مدني السابقة.
جدرانها مصمتة، بلا أبواب ولا نوافذ. لا أفهم إن كانت المباني التي أمر بها بيوتٌ أو سجونٌ أو قلاع.
لا دليل… فوق رأسي سماء كابية لا أميز لونها، بلا نجمة، بلا شمس ولا قمر.
تحتي أرض صلبة شائهة، ربما قُدَّت من صخر أو من رخام.
لا شيء سوى البرودة التي تخترق لحمي وتدق عظامي، وجسدي الذي يعدو.
تتأخر الكلاب عني، يخفت صوت النباح قليلًا، فأتوقف لألتقط أنفاسي. أسند جسدي إلى جدار مصمت فيهتز. أنظر إليه فأرى أمامي بابًا هائلًا يتشكل كأن يد الله ترسمه أمام عيني. اتسمر مكاني ولا أتحرك حتى يكتمل الباب، ضخمًا هائلًا مهيبًا، يفصل بين عالمين. وأنا في أقصى حالات قوتي ضعيفة.
أطرق الباب بمزيج من رجاء وتمنى، أطرق الباب رغبة في الدخول، في تجاوز الجدران لما وراء الجدران. أطرق الباب رغبة في الهرب من نباح الضواري الذي يتعالى في أذني.
أطرق الباب بيديَّ، بيديَّ الاثنتين أطرقه، بقلبي، بعقلي، بروحي.
أطرق الباب بكل ما كنته يومًا وبكل ما آمل أن أكونه. أطرقه بسرعة، بحدة، بغضب. ثم أطرقه بأمل، برجاء، ببطء، بيأس.
أطرق الباب كأن نجاتي معلقة بفتحه، كأن حياتي معلقة بفتحه. كأنه لا أمس ولا غد إن لم يُفتح. أطرقه وأفكر كم عليَّ أن أدفع ليُفتح.
أطرق الباب وأرفع عيني للسماء فلا أجد السماء. أطرق الباب وأخفض عيني للأرض فلا أجد الأرض. أطرقه وأعلم أن لا أرض ولا سماء إن لم يُفتح.
تكل يداي من الطرق. تتورم عظامي ويهترأ جلدي ويتسرب الدم من بين شقوق كفي الغائرة. تحفر دموعي مجرًى دائمًا على وجهي. أيأس. تموت رغبتي فيما وراء الباب وأواريها تحت عتبته.
أسمع زمجرة تأتي من خلفي، أدير ظهري للباب، مرة أخرى أواجه الزمرة المسعورة تريد تمزيق لحمي، واستسلم يائسة لما قد تفعله بجسدي، والباب الوحيد الذي رأيته في هذه المدينة لن يُفتح لي.
فجأة ينفتح الباب، تمتد يد غريبة تجذبني من ضفيرتي المحلولة على ظهري للداخل.
ينغلق الباب.
أتلفت حولي فأجدني في بيت كالمتاهة، غريب كالمتاهة، قديم كالمتاهة، جدرانه قديمة متآكلة، أرضيته كالحة، وإلى كل جدار تستند أريكة خشبية ذات طراز قديم.
عشرات النساء يجلسن على الأرائك، يحكن الأسود ويرتدين الأسود. وأنا بينهن غريبة عارية.
يلقين إليَّ بثوب أسود. أخاف. بداخلي يقين يؤكد لي أنني إن ارتديت أسودهن فسأصير منهن إلى الأبد. سأجلس على أريكة أرتدي الأسود وأحيك ثوبًا للقادمة الجديدة. شعرب برغبتي في الفرار من ذلك البيت ومن تلك المدينة. أترك الثوب وأمضي بعيدًا عنهن.
أمامي ردهة طويلة في نهايتها غرفة مفتوحة الباب، أتوجه إليها بوشاح أسود يلف رأسي. من لف رأسي بالوشاح؟ لا أعرف. لا أريد أن أعرف.
أدخل الغرفة، فأجده مسجًّى أمامي.
هو، ولا أحد سواه. هو، أعرفه من بين كل رجال العالم.
جسد بلا روح مسجًّى أمامي على طاولة بلا معالم. أصرخ. أمزق وشاحي الأسود.
أسجد فوق الجسد العاري الضامر وأضمه إلى صدري. النساء تركن جلستهن وأحطن بنا. أنظر إليهن بغضب فلا يقترب من جسدينا أحد. أحمله على كتفي وأشق طريقي وسطهن بصعوبة.
أهرب به من النسوة الملتفات حولنا. تخترق حوقلاتهن وبسملاتهن أذناي فأسرع في العدو أكثر وأكثر. أضم عريه لعريي وأرفع جسده الثقيل على كتفي المتعب، أستر سوأته بضمها لصدري.
أخرج من البيت بصعوبة من الباب المهيب، فأرى انعكاسي في كل مكان حولي.
تحوَّلت جدران المدينة المصمتة إلى مرايا. ولم أرَ سوى انعكاس صورتي والجسد الميت فوق كتفي على الجدران.
كان تأثير المرايا المتقابلة مفزعًا؛ مرآة تعكس الطريق والمقابلة تعكس الانعكاس الظاهر فيها. دائرة لا تنتهي وجدتُني في منتصفها. تداخل الإنعكاسات أشعرني بالدوار. هاجمتني نوبة صداع وشعرت أن رأسي سينفجر. رفعت الجسد الذي أحمله بذراع بينما الأخرى تضغط جبهتي. رأيت آلاف الانعكاسات لنساء يشبهنني يحتمين من صداع رؤوسهن بأذرعهن. بكيتُ فبكين جميعًا معي وعليَّ.
يتعالى من حولي النباح مجددًا، أتمالك نفسي وأتجاهل ألمي وأعدو.
أعدو. انكفئ على وجهي. أنهض أواصل العدو. أتعثر مرة أخرى. أنهض وأواصل العدو. أواصل العدو. أواصل العدو.
عشر سنوات من العدو من ضواري تسعى لنهشي، بين جدران لا تحبني ومرايا لا تعكس شيئًا سوى وحدتي ومخاوفي، وجسد خالٍ من الروح يضمر ويتيبس كلما تقدمت.
ينتهي الطريق. أخرج به أخيرًا من مدينة الجدران والمرايا.
أنزله من على كتفي وأنظر إليه، أجده بين ذراعيَّ كومة من رماد.

Join Our Community

TMR exists thanks to its readers and supporters. By sharing our stories and celebrating cultural pluralism, we aim to counter racism, xenophobia, and exclusion with knowledge, empathy, and artistic expression.

Learn more

RELATED

Arabic

قصة قصيرة لأحمد جاد الكريم: وحيد على حافة الموت

13 OCTOBER 2025 • By أحمد جاد الكريم
قصة قصيرة لأحمد جاد الكريم: وحيد على حافة الموت
Arabic

قصة قصيرة لعلي المجنوني: جلسة علاج نفسي مجانية بمناسبة زيارة الرئيس

6 OCTOBER 2025 • By علي المجنوني
قصة قصيرة لعلي المجنوني: جلسة علاج نفسي مجانية بمناسبة زيارة الرئيس
Arabic

قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: هذه ليست قصة عن جورج وسوف

29 SEPTEMBER 2025 • By محمد عبد الجواد
قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: هذه ليست قصة عن جورج وسوف
Arabic

قصة قصيرة لحسين فوزي: باللمبة النيون قام

8 SEPTEMBER 2025 • By حسين فوزي
قصة قصيرة لحسين فوزي: باللمبة النيون قام
Literature

قصة قصيرة لمحمود سليمان: على الرغم من كونه بلطيًا…

25 AUGUST 2025 • By محمود سليمان
قصة قصيرة لمحمود سليمان: على الرغم من كونه بلطيًا…
Arabic

قصة قصيرة لمحمد النعاس: سن الحمامة الذهبية

25 AUGUST 2025 • By محمد النعاس
قصة قصيرة لمحمد النعاس: سن الحمامة الذهبية
Fiction

قصة قصيرة لبدار سالم: نونينال-2

18 AUGUST 2025 • By Badar Salem
قصة قصيرة لبدار سالم: نونينال-2
Arabic

قصة قصيرة لهدى الوليلي: قطارات فائتة

11 AUGUST 2025 • By هدى الوليلي
قصة قصيرة لهدى الوليلي: قطارات فائتة
Literature

قصة قصيرة لنسرين خليل: تسعة أرواح

4 AUGUST 2025 • By نسرين خليل
قصة قصيرة لنسرين خليل: تسعة أرواح
Literature

قصة قصيرة لآلاء عبد الوهاب: تلك العين البعيدة جدًا

28 JULY 2025 • By آلاء عبد الوهاب
قصة قصيرة لآلاء عبد الوهاب: تلك العين البعيدة جدًا
Arabic

قصة قصيرة لمروان عبد السلام: دمية الإله

28 JULY 2025 • By مروان عبد السلام
قصة قصيرة لمروان عبد السلام: دمية الإله
Arabic

قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: عمرو دياب لا يأكل ماكدونالدز

21 JULY 2025 • By محمد عبد الجواد
قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: عمرو دياب لا يأكل ماكدونالدز
Arabic

قصة قصيرة لهبة عبد العليم: قبيل النهاية بقليل

21 JULY 2025 • By هبة عبد العليم
قصة قصيرة لهبة عبد العليم: قبيل النهاية بقليل
Arabic

قصة قصيرة لسميرة عزام: أسباب جديدة

14 JULY 2025 • By سميرة عزام
قصة قصيرة لسميرة عزام: أسباب جديدة
Arabic

قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كازانوفا بلا أجنحة

14 JULY 2025 • By أحمد الفخراني
قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كازانوفا بلا أجنحة
Arabic

قصة قصيرة لمي المغربي: النوم أمام قهوة الجمهورية

30 JUNE 2025 • By مي المغربي
قصة قصيرة لمي المغربي: النوم أمام قهوة الجمهورية
Arabic

قصة قصيرة لإيمان اليوسف: القلب الزجاج، القلب الهواء

23 JUNE 2025 • By إيمان اليوسف
قصة قصيرة لإيمان اليوسف: القلب الزجاج، القلب الهواء
Arabic

قصة قصيرة لمحمد فطومي: الدور

16 JUNE 2025 • By محمد فطومي
قصة قصيرة لمحمد فطومي: الدور
Arabic

قصة قصيرة لإيمان عبد الرحيم: فصام

9 JUNE 2025 • By إيمان عبد الرحيم
قصة قصيرة لإيمان عبد الرحيم: فصام
Arabic

قصة قصيرة لإيمان اليوسف: تثغى

2 JUNE 2025 • By إيمان اليوسف
قصة قصيرة لإيمان اليوسف: تثغى
Arabic

قصة قصيرة لوجدي الكومي: نظر طلب لجوء سيد الفلك

2 JUNE 2025 • By وجدي الكومي
قصة قصيرة لوجدي الكومي: نظر طلب لجوء سيد الفلك
Arabic

قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كغيمة مرت

12 MAY 2025 • By أحمد الفخراني
قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كغيمة مرت
Arabic

قصة قصيرة لكريم عبد الخالق: كابوري يا روبي

12 MAY 2025 • By كريم عبد الخالق
قصة قصيرة لكريم عبد الخالق: كابوري يا روبي
Arabic

قصة قصيرة لفادي زغموت: اختياراتي مدمرة حياتي

17 MARCH 2025 • By فادي زغموت
قصة قصيرة لفادي زغموت: اختياراتي مدمرة حياتي
Arabic

ثلاث قصص قصيرة للكاتبة العمانية ليلى عبد الله

17 FEBRUARY 2025 • By ليلى عبد الله
ثلاث قصص قصيرة للكاتبة العمانية ليلى عبد الله
Arabic

تلويحة للسماء

10 FEBRUARY 2025 • By نهلة كرم
تلويحة للسماء
Arabic

ليل حيفا الطويل

10 FEBRUARY 2025 • By مجد كيال
ليل حيفا الطويل
Arabic

ممكن نتواصل مع حضرتك؟

20 JANUARY 2025 • By مي المغربي
ممكن نتواصل مع حضرتك؟
Arabic

حديد في الهواء

20 JANUARY 2025 • By علي المجنوني
حديد في الهواء
Arabic

قصة قصيرة لكارولين كامل: مرجانة

23 DECEMBER 2024 • By كارولين كامل
قصة قصيرة لكارولين كامل: مرجانة
Arabic

قصة قصيرة لضياء الجبيلي: الدمية ذات الوشاح الأرجواني

11 NOVEMBER 2024 • By ضياء الجبيلي
قصة قصيرة لضياء الجبيلي: الدمية ذات الوشاح الأرجواني
Arabic

قصة قصيرة لنورا ناجي: يقين

11 NOVEMBER 2024 • By نورا ناجي
قصة قصيرة لنورا ناجي: يقين
Arabic

قصة قصيرة لعبد الله ناصر: شارب فريدا كالو

11 NOVEMBER 2024 • By عبد الله ناصر
قصة قصيرة لعبد الله ناصر: شارب فريدا كالو
TMR Bil Arabi

قصة قصيرة لأحمد وائل: ولو في الصين

4 NOVEMBER 2024 • By أحمد وائل
قصة قصيرة لأحمد وائل: ولو في الصين

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

2 + 16 =

Scroll to Top