
في عالم كابوسي، تدور سيدة في متاهة لا نهاية لها، وتكشف شيئًا فشيئًا عن كل ما ترسب بداخلها، قصة قصيرة جديدة لهبة عبد العليم.
هبة عبد العليم
لا أذكر كيف بدأت الأحداث، لا أذكر سوى عدوي عارية في شوارع مدينة غريبة، أنا أعدو، أعدو بكل ما أوتيت من قوة، أعدو وخلفى ما لا يقل عن مئة كلب ضال ينبح، أعدو فأضل في طرقات مدينة لا تشبة أي من مدني السابقة.
جدرانها مصمتة، بلا أبواب ولا نوافذ. لا أفهم إن كانت المباني التي أمر بها بيوتٌ أو سجونٌ أو قلاع.
لا دليل… فوق رأسي سماء كابية لا أميز لونها، بلا نجمة، بلا شمس ولا قمر.
تحتي أرض صلبة شائهة، ربما قُدَّت من صخر أو من رخام.
لا شيء سوى البرودة التي تخترق لحمي وتدق عظامي، وجسدي الذي يعدو.
تتأخر الكلاب عني، يخفت صوت النباح قليلًا، فأتوقف لألتقط أنفاسي. أسند جسدي إلى جدار مصمت فيهتز. أنظر إليه فأرى أمامي بابًا هائلًا يتشكل كأن يد الله ترسمه أمام عيني. اتسمر مكاني ولا أتحرك حتى يكتمل الباب، ضخمًا هائلًا مهيبًا، يفصل بين عالمين. وأنا في أقصى حالات قوتي ضعيفة.
أطرق الباب بمزيج من رجاء وتمنى، أطرق الباب رغبة في الدخول، في تجاوز الجدران لما وراء الجدران. أطرق الباب رغبة في الهرب من نباح الضواري الذي يتعالى في أذني.
أطرق الباب بيديَّ، بيديَّ الاثنتين أطرقه، بقلبي، بعقلي، بروحي.
أطرق الباب بكل ما كنته يومًا وبكل ما آمل أن أكونه. أطرقه بسرعة، بحدة، بغضب. ثم أطرقه بأمل، برجاء، ببطء، بيأس.
أطرق الباب كأن نجاتي معلقة بفتحه، كأن حياتي معلقة بفتحه. كأنه لا أمس ولا غد إن لم يُفتح. أطرقه وأفكر كم عليَّ أن أدفع ليُفتح.
أطرق الباب وأرفع عيني للسماء فلا أجد السماء. أطرق الباب وأخفض عيني للأرض فلا أجد الأرض. أطرقه وأعلم أن لا أرض ولا سماء إن لم يُفتح.
تكل يداي من الطرق. تتورم عظامي ويهترأ جلدي ويتسرب الدم من بين شقوق كفي الغائرة. تحفر دموعي مجرًى دائمًا على وجهي. أيأس. تموت رغبتي فيما وراء الباب وأواريها تحت عتبته.
أسمع زمجرة تأتي من خلفي، أدير ظهري للباب، مرة أخرى أواجه الزمرة المسعورة تريد تمزيق لحمي، واستسلم يائسة لما قد تفعله بجسدي، والباب الوحيد الذي رأيته في هذه المدينة لن يُفتح لي.
فجأة ينفتح الباب، تمتد يد غريبة تجذبني من ضفيرتي المحلولة على ظهري للداخل.
ينغلق الباب.
أتلفت حولي فأجدني في بيت كالمتاهة، غريب كالمتاهة، قديم كالمتاهة، جدرانه قديمة متآكلة، أرضيته كالحة، وإلى كل جدار تستند أريكة خشبية ذات طراز قديم.
عشرات النساء يجلسن على الأرائك، يحكن الأسود ويرتدين الأسود. وأنا بينهن غريبة عارية.
يلقين إليَّ بثوب أسود. أخاف. بداخلي يقين يؤكد لي أنني إن ارتديت أسودهن فسأصير منهن إلى الأبد. سأجلس على أريكة أرتدي الأسود وأحيك ثوبًا للقادمة الجديدة. شعرب برغبتي في الفرار من ذلك البيت ومن تلك المدينة. أترك الثوب وأمضي بعيدًا عنهن.
أمامي ردهة طويلة في نهايتها غرفة مفتوحة الباب، أتوجه إليها بوشاح أسود يلف رأسي. من لف رأسي بالوشاح؟ لا أعرف. لا أريد أن أعرف.
أدخل الغرفة، فأجده مسجًّى أمامي.
هو، ولا أحد سواه. هو، أعرفه من بين كل رجال العالم.
جسد بلا روح مسجًّى أمامي على طاولة بلا معالم. أصرخ. أمزق وشاحي الأسود.
أسجد فوق الجسد العاري الضامر وأضمه إلى صدري. النساء تركن جلستهن وأحطن بنا. أنظر إليهن بغضب فلا يقترب من جسدينا أحد. أحمله على كتفي وأشق طريقي وسطهن بصعوبة.
أهرب به من النسوة الملتفات حولنا. تخترق حوقلاتهن وبسملاتهن أذناي فأسرع في العدو أكثر وأكثر. أضم عريه لعريي وأرفع جسده الثقيل على كتفي المتعب، أستر سوأته بضمها لصدري.
أخرج من البيت بصعوبة من الباب المهيب، فأرى انعكاسي في كل مكان حولي.
تحوَّلت جدران المدينة المصمتة إلى مرايا. ولم أرَ سوى انعكاس صورتي والجسد الميت فوق كتفي على الجدران.
كان تأثير المرايا المتقابلة مفزعًا؛ مرآة تعكس الطريق والمقابلة تعكس الانعكاس الظاهر فيها. دائرة لا تنتهي وجدتُني في منتصفها. تداخل الإنعكاسات أشعرني بالدوار. هاجمتني نوبة صداع وشعرت أن رأسي سينفجر. رفعت الجسد الذي أحمله بذراع بينما الأخرى تضغط جبهتي. رأيت آلاف الانعكاسات لنساء يشبهنني يحتمين من صداع رؤوسهن بأذرعهن. بكيتُ فبكين جميعًا معي وعليَّ.
يتعالى من حولي النباح مجددًا، أتمالك نفسي وأتجاهل ألمي وأعدو.
أعدو. انكفئ على وجهي. أنهض أواصل العدو. أتعثر مرة أخرى. أنهض وأواصل العدو. أواصل العدو. أواصل العدو.
عشر سنوات من العدو من ضواري تسعى لنهشي، بين جدران لا تحبني ومرايا لا تعكس شيئًا سوى وحدتي ومخاوفي، وجسد خالٍ من الروح يضمر ويتيبس كلما تقدمت.
ينتهي الطريق. أخرج به أخيرًا من مدينة الجدران والمرايا.
أنزله من على كتفي وأنظر إليه، أجده بين ذراعيَّ كومة من رماد.