قصة قصيرة لوجدي الكومي: نظر طلب لجوء سيد الفلك

2 June, 2025
ليلى اسكندري، «همس الأساطير»، أكريليك وزيت على قماش، 174×205 سم، 2023 (بإذن من الفنانة وجاليري زاوية).
في قصته القصيرة الصادرة حديثًا، يضيف وجدي الكومي إلى عالمنا الواقعي تفصيلة خيالية دينية، لكن هل سيغير الظهور غير المتوقع لأحد الأنبياء أي شيء؟
نُشرت «نظر طلب لجوء لسيد الفلك» في المجموعة القصصية «مليون كلمة طافية معبرًا لقوم نوح»، الصادرة عن دار العين بالقاهرة.

وجدي الكومي

مثَل الرجل الطاعن في السن، المستقيم القامة مع ذلك، اليوم في مكتب جلسات الاستماع التي تعقد لطالبي اللجوء بإدارة الهجرة في مدينة التشتيتين بكانتون سان جالن.

المبنى الذي كان يحتضن هذه الإجراءات بوابته إليكترونية زجاجية، ويرتفع لثلاثة طوابق. وفي مدخله ينتظر القادمين شابة بهية الطلعة، شقراء الشعر، ترتدي زيًا رسميًا مكونًا من قميص أزرق وبنطلون كحلي وفي نطاقها حزام يتدلى منه جهاز لاسلكي، ومعدات صغيرة؛ كشاف، وبخاخ يحوي رذاذ الفلفل الحار، تستخدمه في الأغلب إذا وقعت مشاجرات عنيفة، وعصا صغيرة سوداء تبدو شديدة البأس كهراوة سحرية قادرة على فلق البحر. وإلى اليسار من المدخل كان أول ما يصادف الزوار مقاعد انتظار ليستريح عليها طالبو اللجوء، الذين كانوا يأتون من المعسكر حيث يقيمون في الناحية الأخرى من المدينة، عبر أتوبيس خاص.

المجموعة القصصية «مليون كلمة طافية معبرًا لقوم نوح»، من إصدارات دار العين بالقاهرة.

الرجل العجوز، كان قد اجتاز رحلة طويلة حتى وصل إلى مدينة التشتيتن، لا تهم تفاصيل تلك الرحلة الآن، بقدر ما يهمنا أن نصف المكتب الذي اقتادوه إليه في هذا المبنى ليجلس فيه إلى مائدة صغيرة، مقسمة إلى جزئين بواسطة حائل بلاستيكي يمنع انتقال رذاذ الفم، كانت هذه الحوائل البلاستيكية قد انتشر تركيبها في كل الحجرات الحكومية المماثلة التي تزخر بتعاملات بين الموظفين والجمهور، بعد وباء العام 2020. جلس الرجل إلى طرف المائدة، بعدما استقبلته ثلاث سيدات؛ محققة ذهبية الشعر، بيضاء الملامح، في ثلاثينييات عمرها، متوسطة الطول ومع ذلك بدت قصيرة بالنسبة إليه بينما تصافحه وهي تعرفه بنفسها. ومترجمة، تتحدث عدة لغات، الفارسية، والعربية، والكردية والآرامية المحكيتين. وسكرتيرة لم تلفظ بكلمة، وهي تفحصه بنظرات فضولية، ولم تستطِع أن تحول عينيها عن جدائل شعره المغزولة في ضفائر كثيفة وثقيلة.

إلى طرف المائدة أرشدوه ليجلس، وبمواجهته جلست المترجمة، بينما جلست المحققة في منتصف الغرفة بمحاذاة المترجمة، فيما جلست السكرتيرة في الركن القصي من الغرفة، وبعد دقيقة لحق بهما شخص يعمل في مؤسسة حقوقية لدعم طالبي اللجوء، دخل الحجرة معتذرًا عن تأخيره، وجلس إلى يسار الرجل إلى مائدة أخرى، مواجهًا المحققة، متوسطًا في جلسته الحجرة بين العجوز والسكرتيرة، وهكذا بدأت جلسة الاستماع.

كان أول سؤال طرحته عليه المحققة اسمه وسنه، وإن كان له أقارب يعيشون في سويسرا، وبعدما جربت المترجمة ترجمة السؤال باللغة العربية والفارسية، والكردية، والآرامية، لم يستجب ولم يسفر لسانه عن أي إجابة، بل ظل يحملق في محدثته عبر الحاجز البلاستيكي بنظرات تخلو من معنى أو خوف، كأنه يحلم، فسألت المحققة زميلتها المترجمة إن كان يفهم أو إن كان به صمم، فأشارت المترجمة إلى أذنه وأطبقت أصابعها مُشكلة فم طائر وحركتهم حركتين ففتحتهم وأغلقتهم وهي تعني إن كان يستطيع الاستماع للكلمات أم أن بأذنه عطب، فأجاب الرجل بعد لحظة صمت:

اسمي نوح.. وعمري.. يربو على التسعمائة

فتنهدت المترجمة تنهيدة ارتياح، وترجمت ما قاله الرجل بالكردية للمحققة، وهي تخفي ارتباكها من قوله، فاستمعت المحققة إلى ما قالته المترجمة، وقالت بعد هنيهة تدبر:

ولكن يا سيد نوح.. يمكنك أن تتسمى كما شئت باسم نوح، لكن لا يمكن أن يكون عمرك تسعمائة عام.. لم يعد أحد يعيش هذه الفترات الطويلة، والأفضل بدلًا من أن تبدأ هذا التحقيق بادعاءات قد توصمك بالكذب، أن تفيدنا بعمرك، وتزودنا بأية أوراق ثبوتية تثبت سنك، وموطنك، ومحل ميلادك

كانت غضون وجهه تشبه جذع شجرة عتيقة وشائخة، ملامحه كانت متيبسة جافة، كأرض بور، شعر رأسه كثيف وغزير يكاد يجرجره وراءه، لولا أنه توصل إلى تضفيره في ضفائر متعددة وكثيفة، فصار متدليًا على كتفيه ملمومًا في جدائل مربوطة هي الأخرى بواسطة دوبارة تمنعها من الانحلال والتفكك. شعر ذقنه أيضًا كان غزيرًا للدرجة التي جعلته يصنع منه ضفائر صغيرة، خبأها كلها في جلبابه. آه، جلبابه هذا كان مسألة أخرى، قماشه ثقيل من الصوف، ليس له مثيل، ولم ترَه المحققة يُباع في أي سوق من أسواق المصنوعات الشرقية التي يجلبها الباعة من الهند أو باكستان أو من كشمير. كان عبارة عن قطعة واحدة من الصوف الثقيل خاطه خيَّاطه ليكون فضفاضًا ومفتوحًا عند العنق، ويتدلى حتى ساقه، وينتهي أسفل ركبتيه بسنتيمترات قليلة.

بعد فترة صمت قال الرجل:

ماذا تريدون أن أقول.. أنا نوح.. وفعلت ما فعلت بإراداتي، لم يأمرني بشر بفعله.

خيَّم على الحجرة صمت، تشكلت في أجزائه حيرة، ثم سألته المحققة:

منذ متى وأنت تعمل في تهريب الناس من بلدانهم إلى أوروبا؟

فأعادت المترجمة صياغة السؤال بالكردية التي يفهمها، فأجاب:

انتظرت ستمائة عام، حتى يكف الطغاة عن طغيانهم، ويعود السلام إلى الأرض، للمدن، للقرى، ويهجرها الباغون، لكن هذا لم يتحقق، وطال الانتظار، طورد الأبرياء بالتهم الملفقة، استعمر البغي في البلاد، ولم يصل إلى مقعد الحكم سوى طاغ، أو مستبد، أو زعيم عصبة من النهابين، كان لا بد من حل، شيدت سفينة، حينما أتاني صوت يأمرني بتشييدها.

قلبت المحققة في أوراق ملف نوح المكتظ بالأوراق والصور المستندية لسفينته لحظة رسوها على الشواطيء اليونانية، والجموع الغفيرة من المهاجرين غير الشرعيين الذين كانوا يستقلونها، بينما المترجمة تترجم إجابته، فأمسكت المحققة بقلمها، وأخذت تدون ملحوظات على ما سمعته، ثم استلت من ملفه صفحة جريدة مطوية، وفردتها، فوجدت صورة نوح تحتل أكثر من نصفها، وبجواره مانشيت رئيسي يقول كلماته: شرطة الأجانب تحقق مع «نوح»!!

بعدما انتهت المترجمة، فكرت المحققة هنيهة، ثم قالت في حسم:

يا سيد نوح.. نحن بحاجة لمعلومات يقينية.. أي تزرع في قلوبنا اليقين تجاه موقفك، ودافعك لتشييد السفينة وتهريب المهاجرين إلى أوروبا، وعليه، فإن حديثك عن الطغاة، والبغاة، والمستبدين في البلاد، لا يخدم قضيتك، نحن نرغب في الحصول على إجابات لعدة أسئلة، أولها: منذ متى وأنت تمارس نشاط تهريب الناس من بلدانهم إلى أوروبا؟ ومن أمرك بتشييد السفينة، ولماذا اخترت أوروبا لتجلب إليها راغبي الهجرة بطرق غير مشروعة؟

تجشأ نوح بصوت مسموع، يبدو أنه كان غير راض عما ترجمته له المترجمة من أقوال وأسئلة المحققة، لم يجب مباشرة، ظل يرسل نظرات عميقة ساهمة إلى السيدة، مسح بعينيه الحجرة، ثم قال بكلمات بطيئة، لكنها ليست متلعثمة:

أأفضح سرًا أئتمني عليه من أوجدك وأوجد الكون، وأتاح لك أن تكوني ما أنتِ عليه الآن، لا نعرف حكمته، الاختيار كله له، إن كان قدر أن أشيد السفينة، فلا يمكن لكائن بعدها أن يسألني عن أسباب تشييدها، وإن كان قدر السفينة أن تستوي هنا، على الساحل الذي تسمونه «أوروبا» فلا يمكن لك أن تسجوبيني هذا الاستجواب، لم أيمم سفينتي شطر بلدك، أو ما تتخيلين أنه بلدك، فالبلاد بلاد خالقها، والحدود ليست حدودك، والأرض ليست ملكك لتمنعي عنها من تشائين وتسمحي لمن تشائين بولوجها.. اكتبي ما تشائين في أوراقك، أتظنيني أخشاك أو أخشى نتائج تحقيقك..

دوَّنت مساعدة المحققة ما قاله نوح، حارت المحققة وارتأت أن تبتر جلسة التحقيق هذا اليوم لتعود إلى رؤسائها ولتنظر ما هي فاعلة في أمر هذا الشخص، كتبت ملحوظة، أنه بلا هوية تؤكد عمره الحقيقي، وأنه ينتحل شخصية النبي نوح، وأوصت بعرضه على طبيب نفسي وإحالة ملفه إلى لجنة أعلى منها بسلطات أوسع لتحديد الرأي في حالته.

***

عاد الرجل إلى مركز اللجوء في مدينة التشتيتن على الحدود مع النمسا. حراس المكان تأملوا شعره الغزير وجلبابه، وكان أصلًا يقيم في هذا المكان قبل التحقيق الذي جرى ذلك اليوم منذ طرق بقدميه الأراضي السويسرية التي وصلها بعد رحلة مشي طويلة منذ رسو سفينته على ساحل اليونان. لم تقبل اليونان أن تؤويه، فسار إلى الشمال مع مجموعة من رفاقه الذين اصطحبهم في السفينة، كانت رحلة السير في الغابات والشوارع السريعة المحاذية لها ليست خطرة لكنها مهلكة، اجتازوا معًا بعض الأنهار الصغيرة الضحلة، أو العميقة التي كانت تعترض خط سيرهم، إلى أن وصلوا إلى نقطة قريبة من الحدود السويسرية الفرنسية. وهناك اعترضتهم دورية شرطة فرنسية، لكنها آثرت ألا تقبض عليهم، وأمروهم بمواصلة الزحف عبر الغابات حتى يصلوا سويسرا، وأرسلوا معهم حارسًا يرشدهم إلى الطريق كي لا يضلوا ويعودوا مرة أخرى إلى فرنسا. بوليس الهجرة الفرنسي ارتأى أن من الأفضل أن يكمل هؤلاء المهاجرون غير الشرعيين رحلتهم إلى سويسرا، بدلًا من أن يتورطوا هم في التعامل معهم. فهذا يعني كم هائل من العمل المكتبي الذي يتخلله كتابة تقارير ومراسلات لا حصر لها، والموظفين الذين سينحون قضايا اللاجئين الأخرى ليتحملوا عبء هذه المجموعة، هكذا تُركوا ليعبروا الحدود السويسرية، وكان من السهل، بسبب مظهرهم الغريب المثير للاشتباه، بذقونهم الطويلة وأثمالهم وشعورهم الكثة، أن يصل إليهم بوليس الحدود السويسري، ويجمعهم في حافلتين، ويقلهم إلى مركز اللجوء.

حراس المعسكر فتشوا نوح ورفاقه بدقة، لكن تفتيشه هو استغرق وقتًا أطول بسبب شعره، ارتدوا قفازات مطاطية كعادتهم عند تفتيش كل شخص يدخل معسكر الإيواء الذي يقيم فيه طالب اللجوء إقامة مؤقتة خلال فترة نظر طلبه والتحقيق معه والاستماع لأسبابه التي دعته لهجر وطنه والمجيء إلى أوروبا طلبًا للجوء.

التفتيش يتم كل مرة يعود فيها طالب اللجوء إلى المعسكر، بعد خروجه لأي غرض من أغراض التسوق، أو التنزه، حتى إذا خرج لغرض رسمي كالذهاب إلى مبنى التحقيق الذي تُعقد فيه جلسات الاستماع، وتكون مهمة الحراس هي الاطمئنان أن كل نزيل في المعسكر لا يصطحب عند عودته مواد محظورة كأسلحة، أو مُديات، أو أي أدوات قد تصلح للاعتداء.. حتى إذا كانت مظلة تحمي من المطر.

لدى دخوله المعسكر للمرة الأولى، استسلم نوح للحراس وهم يفتشونه، وهو لا يعرف ماذا سيفعلون به في هذا المكان. رفاقه الذين كانوا معه تولوا إرشاده، بل تولوا شرح كل ما يستغلق عليه، على الرغم من قدومهم معه على السفينة، إلا أنهم كانوا أسرع منه في الحصول على المعرفة فيما يتعلق بالإجراءات ممن سبقوهم، بينما هو أغلب الوقت بدا غير مبالٍ. والحارس لم يرهقه تفتيش جلبابه، لطريقة تفصيله العجيبة التي جعلته يخلو من أي جيوب، كما حار أمام جدائل شعره الغزيرة، وخاطر يمر في رأسه، أن هذه الجدائل التي تشبه دغلًا صغيرًا محمولًا على الرأس، قد تحوي ممنوعات، ثم أومأ لرفيقه إلى شعر نوح وقال له هامسًا:

أينبغي علينا أن نفتش شعره؟

فرمق زميله شعر نوح، وأشفق من الجهد الذي سيبذله زميله حال بدأ في تفتيش هذه الجدائل والضفائر الغزيرة، فقال ناصحًا:

اسأله أولًا، هل خبّأ أي ممنوعات في شعره، وأخبره أنه إذا عثرنا على أي منها في رأسه، فسنضعه في السجن..

تلا الحارس على نوح ما نصحه به زميله، لكن بعبارات بسيطة بالإنجليزية، فهز نوح رأسه في حيرة، وقال:

لا أفهم..

لم تكن لغة نوح معروفة أيضًا، لم يتحدث لغة يتكلمها الحراس، أو لغة يتحدثها طُلاب اللجوء، إذ كان يستخدم خليطًا من كلمات تعلمها من الناجين من الطوفان، ولغة الوحي الإلهي ظلت سرية لا يمكن التيقن منها. حاول الحارس سؤاله مرة أخرى إن كان يفهم ما يقوله له، وأخذ يشير بأصابعه إشارات تجاه رأسه وفمه، محاولًا أن يشرح له ما يريد أن يسأله عنه، وكان الوقت يمر وتكدس على البوابة عائدون راغبون في دخول المعسكر، واتصل مدير فريق الحراس بالبوابة يسأل عن أسباب تعطل التفتيش وتكدس الراغبين في الدخول بالخارج، فاستدعى الحارس مشرفًا من مشرفي الإعاشة وطلب منه استلام نوح وتولي عملية تسكينه وتسليمه فراشًا.

بعد أيام كان قد صار نزيلًا.. لم يُبت في أمره حتى اللحظة التي تُكتب فيها هذه السطور، مر أسبوعان منذ دخوله معسكر اللجوء وإقامته فيه بصفته طالب للجوء، هو لم يطلب شيئًا، إدارة المعسكر طلبت توقيعه على طلب الحصول على اللجوء، ليتسنى لها استضافته، فالمعسكر لا يستضيف متهمين، فوقع على استمارة طلب اللجوء، ورشحوا له تلك المكتوبة باللغة العربية بعدما علموا أنه جاء بالسفينة من منطقة الشرق الأوسط، وهكذا صار طالبًا من طُلاب اللجوء، ينتظر جلسة استماع، وقرار لجنة المحققين، لكن قرار اللجنة تأخر.

في يومه الأول فحصته طبيبة من أطباء المركز، سألته عن الأمراض التي يعاني منها، وعن عمره، فأجاب عنه زميل يخاطبه بالكردية إجابته التي منحها للمحققة بعد ذلك: تسعمائة. فحصت شعره، بعدما ساعدته على حل جدائله، وجدت قشرًا كثيفًا في طبقاته وطيات جلد رأسه، فأعطته شامبو طبي مجاني، يحصل عليه كل طُلاب اللجوء وطلبت منه الاستحمام وغسل شعره أكثر من مرة خلال اليوم.

لم يعبأ نوح بطلبها، ولم يرفض حمل زجاجات الشامبو، مع ذلك غادر مكتبها حائرًا، دون أن يعرف إلى أين يجب أن يذهب، فعاد إلى بوابة الخروج، واستأذن للمغادرة، فقال له الحارس هناك:

بل توجه إلى المشرفين ليدلوك إلى مكان مبيتك.

تسلمه مشرف يعمل في المكان، واقتاده بهدوء إلى عنبر في طابق علوي من طابقي المبنى، دخل العنبر الذي كان يحوي عشرين سريرًا، بعضها فوق بعض، أسرة من مستويين. امتزجت رائحة العنبر بعرق أبدان المقيمين، وبروائح تبغ وسجائر مدخنة، وأطعمة مكدسة ومشروبات مسكوبة على بلاط العنبر ولوثته.

أشار له المشرف إلى فراش خال، وقال:

هذا فراشك.. وسأجلب لك وسادة وملاءة ومنشفة للاستحمام.

في الأيام التالية اعتاد نوح المكان، عرف أين الحمام الكبير الذي يستحم فيه نزلاء المعسكر، واعتاد النزول من العنبر إلى المطعم في أوقات الطعام بعدما تعلم أن يتبع الجمع، تحددت حياته بين وقت الإفطار الذي يبدأ في السابعة صباحًا حتى الثامنة، ووقت الغداء الذي يحل في منتصف اليوم.. الثانية عشرة ظهرًا، ووجبة العشاء التي تحل في السادسة مساء.

مع الأيام بدأ يلتقط بعض الكلمات من اللغات المتناثرة حوله في المعسكر، لينتقل من تعلم لغة الطير والحيوان في السفينة إلى تعلم ما يتفوه به البشر عبر ألسنتهم، فتعلم مفردات إنجليزية، وألمانية، وصار الآن قادرًا على رد التحية بـالأفغانية، والآرية وبدأت تزداد استجابته لما يُطلب منه.

لم يكن بحوزة نوح كباقي نزلاء المعسكر أي أمتعة، لم يستخدم الدولاب المعدني الصغير الذي كان يجاور كل فراش في العنبر. ولم يكن معه تليفون محمول يتلقى عليه مكالمات يُطمئن عليه خلالها أحبابه، ولا اهتم مثل الآخرين باستذكار قصص يقنع بها سلطات بوليس الهجرة ودوائر اللجوء ليقبلوه. وهكذا كان يمضي يومه إما صامتًا متأملًا بالساعات في حديقة المعسكر المسورة بسياج حديدي مرتفع، ليمنع فرار المقيمين في المكان إلى البيوت المجاورة له، أو متنزها في أرجائه، مستطلعًا ما يحويه.

جزء من صالة المطعم كان يتحول في المساء إلى غرفة معيشة، يتراص على مقاعدها طُلاب اللجوء إما لمشاهدة التلفزيون الذي كان قنواته تُبث باللغة الألمانية. وإما للتسامر أو للتفكر في المستقبل، والأطفال الذين كانوا بصحبة ذويهم خُصصت لهم حجرة صغيرة بها ألعاب بلاستيكية وكتب ملونة، وأقلام وأوراق للرسم والتلوين. في نفس الطابق الأرضي وبمواجهة المطعم وُجد مقصفُ يشتري منه طُلاب اللجوء بضاعة يحتاجون إليها ولا يحصلون عليها من مشرفي المعسكر، كزجاجات عطر، أقفال لتأمين دواليبهم، وسجائر، ومشروبات غير كحولية، وعصائر، وبسكوت، ومشترك كهربائي، وأمشاط للشعر، وزجاجات شامبو، وغيرها من السلع المحدودة التي لا تمثل خطرًا على أحد.

اعتاد نوح أن يبدأ يومه في الخامسة فجرًا، يستيقظ قبل الآخرين في العنبر، ويعتدل جالسًا متربعًا في فراشه منتظرًا إيقاد الأضواء في السابعة، ودخول الحمام، ثم يتبع الجمع إلى المطعم، فيتناولون الإفطار المكون كل يوم من جبنة شيدر ومربى وعلبة زبادي وشرائح توست يستخدمونها كخبز، وأحيانًا كانوا يضيفون إلى هذه العناصر في الإفطار بيض مسلوق، أو شرائح لحم بقري.

لم يستفسر مثل الآخرين من طُلاب اللجوء مسلمي الديانة في المكان عن نوع اللحم الموجود في قائمة طعام الغداء، كان يأكل ببساطة كل ما يقدم إليه في طبق بلاستيكي يحصل عليه كل شخص عقب دخوله إلى المطعم، وكان يتعين عليه أحيانًا أن يعمل في وظائف صغيرة يحددونها له، كتنظيف السلالم أو مسح الأرضيات، أو مساعدة الطباخ في غسل الأطعمة، أو حمل المعلبات والبضائع من عربات الموردين إلى مخازن المعسكر.

لم يعترض على أي مهمة موكلة له، وهو ما بدد حوله الشكوك والخوف من أن يكون نبيًا حقًا، كيف لنبي ألا يثور وألا يحتج على الوظائف المهينة الموكلة إلى كل طالب لجوء!!

يتولى مشرفو المعسكر توزيع المهام والوظائف على الجميع، كل طالب لجوء عليه أن يؤدي وظيفة ما لمدة سبعة أيام، ثم يتركها إلى غيرها. وكانت الوظائف متنوعة لكنها مرتبة، فالمستجدين عليهم في أسبوعهم الأول نظافة العنبر الذي ينامون فيه . هكذا أمضى نوح أيامه السبع الأولى، بالتأكيد عدد من أبناء قومه، الذين حملهم على سفينته، عرضوا عليه المساعدة، وطلبوا منه ألا يعمل على أن يتحملوا هم مشقة عمله، لكن نظام المعسكر الصارم يرفض أن يتولى البعض التطوع بأداء مهام بالنيابة عن الآخرين، نوح نفسه لم يكن ليقبل.

في كل صباح، بعد تناول وجبة الإفطار، ولمدة سبعة أيام، لم يكن أحد ليصدق أن ثمة نبي يمضي مصطحبًا مسَّاحة وجردلًا وصابونًا سائلًا، لينظف سلالم معسكر اللجوء في تلك المدينة المنسية في آخر الحدود السويسرية مع النمسا، لكن نوح كان يؤدي المهمة دون أن يفكر في كينونته تلك التي يقدم بها نفسه إلى المحققين في جلسات الاستماع، تعيَّن عليه هو وآخر مسح العنبر وتطهيره من كل بقايا علب المربى التي يلتهمها مدخنو الماريجوانا بغزارة طوال الليل لمعادلة مفعولها في رؤوسهم وداخل أبدانهم، لم يفهم بالضبط ماذا تفعله المربى مع الماريجوانا، لكنه مضى بصبر في مسح البلاط من كل المشروبات المسكوبة عليه حيث يبتاع نزلاء العنبر هذه المشروبات من الخارج، أو من مقصف «الكامب»، ويشربونها بجوار أسرتهم قبل النوم.

في الأسبوع الثاني لنوح في المكان، كانت شعبيته قد ازدادت، بدأت تتوافد على المكان مظاهرات ينظمها دعاة فتح الحدود وشبيبة حزب الاشتراكيين، حاصروا المعسكر، ورفعوا لافتات عليها صورة نوح التي حصلوا عليها من الصحيفة السويسرية الأبرز «نيو زيورشر تسايتونج Neue Zürcher Zeitung». لم يعبأ حراس المعسكر بالمظاهرات، لأن مهمتهم ليست التصدي لها ، بل تأمين «الكامب» ونزلاءه ، بينما جاءت قوات الشرطة المحلية بقرية التشتيتن واهتمت بتأمين المعسكر من الخارج. وقف صف من الجنود يرتدون ملابسهم الواقية، والخوذ الصلبة ويحملون بأذرعهم الدروع الشفافة المصنوعة من بلاستيك صلد شديد البأس مشكلين سياجًا أمام بوابة «الكامب»، بينما أعداد المتظاهرين تتزايد، وقد توافد بعضهم يحملون لافتات مكتوب عليها بالألمانية: Frei Noah lassen.. أطلقوا سراح نوح.

في المعسكر، اضطر نوح، نظرًا لكثرة المهام المتعلقة بالنظافة ونقل المعدات أو الأوعية الثقيلة، إلى تشذيب شعر ذقنه الكثيف، وقص بعض ضفائر شعره التي كانت تثقل من حركته وتُصعب من كفاءة أداءه للمهام الموكلة إليه، تغير شكله قليلًا وصار إلى المدنية والعصرية أقرب، خاصة حينما اضطر للتخلص من جلبابه، بعدما غسله ذات مرة، ولم يجف بسرعة بسبب صوفه الثقيل، فجلب له بعض زملاءه أردية أخرى، بنطلون جينز وتي شيرت ثقيل بأكمام، ومعطف ثقيل منحه مشرف من المعسكر هدية من مخزن الملابس المستعملة التي يتلقونها من المواطنين المُحسنين المتعاطفين مع طُلاب اللجوء، خاصة هؤلاء الذين يجلبهم حظهم العثر ليقيمون في معسكر تلك المدينة المنعزلة، التي تتلقى ضربات الرياح النمساوية العاصفة بما تحمله في ثناياها من نسمات مثلجة من الجبال، لتضرب بها سفوحها، هكذا تحول تقريبًا نبينا إلى شخص آخر، يتحرك ببساطة ذهابًا ومجيئًا كأن ما يحدث في الخارج يدور حول شخص آخر، كانت أعين الحراس عليه مثبتة، وتتابعه باهتمام، بينما أصوات الهتاف ترج المكان، وأفراد قومه يتبادلون الحديث في حماس عن الخطوة المرتقبة، وعن احتمالات أن يحصل نوح، «سيد الفلك» كما بدأوا يدعونه، على البراءة من تهمة تهريب البشر بغية الاتجار فيهم، بل بدأوا يأملون أن تمنحه سويسرا صفة لاجيء سياسي، وإقامة من درجة B «ب».

في الأسبوع الثالث لنوح في «الكامب»، كانت المظاهرات في الخارج قد تحولت لاعتصام، نصب شبيبة الحزب الاشتراكي اليساري خيامًا في الشارع المواجه لمعسكر اللجوء، في الصباح يفطرون وسط تردديهم الأغاني الثورية بالألمانية، وفي المساء يوقدون نارًا للتدفئة، ويغنون ويعزفون على الآلات الموسيقية الخفيفة، ثم بدأوا يدعون منظمات حقوقية لزيارة مقر الاعتصام. في هذه الأثناء، كان يتعين على نوح أن يعمل في المطبخ مع الطباخ الرئيسي، وطباختين أخريين، إحداهما نمساوية طويلة ريانة الجسد وناهدة الثديين، تدعى ميكائيلا، ولأن نوح طيع يستجيب لما يُطلب منه، وينفذ التعليمات دون احتجاج، لفت نظر رؤساءه إلى نظافته، واعتناءه برائحته الطيبة. وخلال هذا الأسبوع كانت الطباخة النمساوية ترمق تفانيه في العمل بإعجاب، وبالطبع عضت على شفتيها أكثر من مرة حينما مرق بجوارها ببدنه الممشوق وجدائل شعره التي تم تقصيرها وذقنه المشذبة، ورائحة الصابون تسبقه، فإذا بشعيرات جسدها ترتعش، وإذا بحلمتي ثدييها تنتصبان انتصابًا مريبًا، وجربت شعورًا في جسدها ظنت أنها لن تجربه مرة أخرى على الرغم من أنها تتذكره حينما التحمت بزوجها في ليلة دخلتهما منذ عقد من الزمان.

داعبت نوح مرة وهي تتحسس ذراعه الممشوق المُشعر، قائلة بالألمانية:

ما كل هذا الشعر الذي يغطيك؟ إنني افتقد هذا الملمس في الرجال..

ثم وضعت أصابع كفه على ساعدها المشعر بزغب أصفر خفيف قائلة:

إنني لا امتلك ربع ما تمتلك من هذه الغابة..

لم يفهم، ولم يعقب، وخلت نظرة عينيه من أي دعوة، أو رفض، بل شعرت الطباخة أنه لا يهتم بملحوظتها، فربتت على كتفه، وهنا كانت فرصة أخرى لها كي تشعر بملمس بدنه العملاق بالنسبة لها، وقالت بهمس:

هذه الأدغال التي تحملها على جسدك.. أتوق إليها.

ومرة أخرى تجاهل نوح كلمتها ببساطة لأنه لم يفهم ثلثي جملتها، ثم مر يومان، وجاء مسئول من إدارة الهجرة إلى مقر الاعتصام محاولًا تهدئة المعتصمين، وحملهم على فض اعتصامهم، منددًا بإزعاجهم للمنازل المقابلة للمعسكر، خصوصًا حينما يعزفون الموسيقى في الليل، وذكرهم بأنهم يخرقون عدة قوانين لنمط الحياة السويسرية منها Nacht Ruhig أو سكون الليل، ثم تطرق إلى القضية بكلمات رسمية قال فيها:

إن السيد نوح لم يقدم لنا أي قرائن تثبت براءته من التهم الموجهة إليه بالاتجار في البشر، وعليه نحن نراه وفقًا للقانون، مذنبًا حتى يتمكن من تعيين محامي للدفاع عنه لأن الأدلة تثبت أنه شيَّد سفينة، وحمل عليها أناسًا من بلدانهم، والنتيجة هي تواصل هذا المد من الهجرات غير الشرعية الذي تعاني منه أوروبا.

قاطعت المسئول فتاة في العشرينيات من عمرها، بدا واضحًا من حزمها وصرامتها في حديثها إلمامها بشتى جوانب المسألة، وهذا كان حديثها:

أولًا أنتم كموظفين في إدارة الهجرة، لا يمكنكم أن تحكموا في قضايا لم يكتمل نظرها بعد، فالسيد نوح لم تثبت بحقه تهمة تهريب البشر، والسيد نوح هو معجزة زمنية، وأنتم تتجاهلون هذا الأمر، الرجل عاش تسعمائة عام، وشيد السفينة لأن قوى إلهية أمرته بهذا، لكي ينقذ الناس من طوفان الاستبداد والحروب الأهلية والديكتاتورية الذي غمر الشرق الأوسط.

تواصلت المجادلة السياسية بين الفتاة التي عرفت نفسها بأنها قائدة الاعتصام، وبين الموظف في إدارة الهجرة، بينما في الداخل، كانت الطباخة ميكائيلا تتولى اليوم مسؤولية تسلم البضاعة من الموردين، فطلبت اصطحاب نوح لمساعدتها في هذه المهمة. كان هذا أمرًا معتادًا؛ يصطحب الطباخ المسئول عن تسلم البضاعة، شخصين من اللاجئين، ليحملا البضاعة التي تكون في العادة أجولة أرز وقمح، وحبوب، وعلب سمن، وصلصة، ومعلبات مسطردة، وزجاجات صويا صوص، ومياه معدنية. المهمة تقتضي، ليس فقط استلام البضاعة، بل ترتيبها أيضًا في المخازن ترتيبًا يسمح بالسحب منها دون إحداث فوضى، أو إسقاط أشياء أرضًا.

لكن ميكائيلا بدلًا من أن تطلب شخصين لمساعدتها في استلام البضاعة، طلبت شخصًا واحدًا، نوح، ومضت به إلى عربات الموردين التي وقفت بعيدًا بسبب الاعتصام، وبينما الجدال يتواصل بين الفتاة من شبيبة الحزب الاشتراكي السويسري، وموظف إدارة الهجرة الذي يدافع عن سياسات عمل مساعديه وموظفيه، ويشرح ضعف أسانيد نوح، كان هذا يحمل عُلب السمن وأجولة السكر والأرز بقبضتيه، ويسندهما إلى صدره من عربة الموردين البعيدة، إلى مخزن «الكامب»، ومر في هذه اللحظة بجوار الفتاة والموظف اللذان كانا فيه هذه اللحظة يحتدان في نقاشهما اللانهائي، وكل منهما يتمسك برأيه، دون أن يلحظاه بعدما اعترته التغيرات، وجعل منه الجينز والبلوفر شخصًا عصريًا لا يمت للنبوة بصلة.

انتهى ميكائيلا ونوح من جلب البضاعة إلى المخزن، وفرغا من ترتيبها وتنظيمها، وحينما أدركت أن عليها العودة، توترت ملامحها، واحمرَّت وجنتاها، وعزمت أمرها، وتوجهت نحو الباب، وأغلقته عليهما، ثم اقتربت منه وهي تتنفس بسرعة أنفاسًا متلاحقة، واجهته وهي تتحسس جسده غير مصدقة، ثم عانقته، فلم يعانقها، ظل واقفًا صلدًا بجسده قبالتها كحائط، فسألته بالألمانية:

ألا أعجبك؟

وخرج سؤالها مستعطفًا، على الرغم من إنها حاولت أن تغلفه بالاستنكار، وخلعت طربوش الطباخين، الذي كان يحجم شعرها، فانفردت على صدره وكتفيها سلاسله الذهبية، ولم يعقب نوح، فتناولت كفه ووضعتها على ثديها الأيمن قائلة:

انظر كيف ينبض قلبي بقوة لك..

لكن نوح لم يهتز له جفن، وحملقت ميكائيلا في شفتيه الغليظتين المتشققتين، واقتربت منه، وبللتهما بشفتيها، ثم ضغطت على شفتيه بقوة شفتيها، ممسكة جانبي وجهه بكفيها كأنها تطمح لأن تدس نفسها في فيه.

ولم تكتفِ بذلك، دست كفها في طيات بنطلونه، وأمسكته من عضوه، ثم فكت زر بنطلونه، وشدته عن حوضه، فهالها طول شيئه، والتصقت ببدنه، وتغشته ببدنها، ومر الوقتُ عليها سريعًا، ولم تدر كيف يوجد من هو مثله على سطح الأرض، واعتبرت نفسها حواء.. التي كانت المرأة الوحيدة المحظوظة برفقة أول رجل خُلق على سطح الأرض، فلم تخش عليه من فتنة، ولم تخترع روحها مشاعر الغيرة عليه من أخريات.

جعلت نوح يفعل لها ما يفعله لها زوجها، لكنها اكتشفت إن ما تختبره هذه اللحظة من مشاعر نشوة ومتعة، لم تختبره قط طوال حياتها، طوال اللحظات التي مارست فيها الجنس مع زوجها، أو مع رجال آخرين عابرين في حياتها، أو مع زملاء خلال شيفتات العمل الضجرة، أو مع أصحاب مطاعم كانت تقنعهم بتعيينها بجعلهم يلجونها، أو مع ضيوف تعرفوا عليها خلال حفلات طبخت لهم الطعام، وأرادوا أن يتذوقوا متعة جسدها بجانب متعة طبخها، جسدها ذلك الذي دخل في دلتاه المئات من الرجال، يعيش الآن تجربة مضاجعة نصف رجل، نبي كامل.

انقلب حال الطباخة، طلبت من أحد مشرفي المكتب الإداري في المعسكر تمديد عمل نوح بقسم المطبخ، بدلًا من سبعة أيام، ليظل فيه طوال فترة وجوده إذا ظل موجودًا في المعسكر، ثم طلبت من زميليها أن تتولى دائمًا مهمة استلام البضاعة من الموردين، وتعدد انفرادها بالنبي.

لكن لم يدم الحال هكذا بالطبع، بدأت جرعات إدمانها له تتزايد، تأخرت عن العودة إلى منزلها ذات يوم لأنها رغبت في اصطحاب نوح إلى حجرة في نزل بقرية التشتيتن، وقلق عليها زوجها وأطفالها، فاتصلوا بها، وكانت وقتها تعُب من رحيق جسد الرجل وتلتهم كل خلجة من خلجاته، وتطعم نفسها منه طعامًا نهمًا أشبعها آنيًا، لكن لم يسد رمق جوعها للأبد.

أما نوح، فلم يكن متذمرًا، ولم يستاء، لكنه لم يكن راضيًا أيضًا عما يفعله، وكان ينعزل كل مرة يفعلها معها، ويسترضي ربه، محاولًا أن يستنزل الرحمات والمغفرة عليه، وكان يشفق عليها وهو يراها متيَّمة به، ويخشى أن تُجن أو تموت من الشبق، فيمنحها ما تريده حتى ترضى وتهدأ، يشعر أن لا فكاك منها، بل بدأ يُحدث نفسه بأن ما يفعله تجاهها هو أقرب لوصية، أو عطاء مما أفاء به عليه ربه من نعم وفحولة، لم يكن يبرر لنفسه، أو يبحث عن ذريعة، فالذريعة كانت موجودة، وإن غاب عنه اليقين، فعوض شكه بالاستغفار، عقب كل لقاء.

***

في صباح أحد الأيام كما هو متوقع أن يحدث ذلك، تلقى خطابا من وزارة الهجرة يخطرونه برفض لجوءه، كانت مثل هذه الخطابات ترد كل فترة لمجموعة من طُلاب اللجوء، يستقبلها المرفوضون بالضجيج والصراخ وأحيانًا بالبكاء، وينزوى المقبولون في أماكن سرية ليبكون هم أيضًا بكاء دخول الجنة السويسرية كما يظنون، ويكتمون فرحتهم بينما عواء المرفوضين يصلهم، لكن نوح لم يبكِ أو يغضب، كان الخطاب يعلمه بمعلومتين، أولها إسقاط الاتهامات ضده، وثانيها مطالبته بمغادرة البلاد، لم يغضب نوح، لكن من غضب كان ثلاثة، المعتصمون، ورفاقه في السفينة وميكائيلا.

في الخارج تعالت صيحات المتظاهرين أعضاء شبيبة الحزب الاشتراكي السويسري، ورفعوا لافتات جديدة كتبوا عليها:

Noah bleibt.. “VB” raus

نوح يبقى.. حزب الشعب يغادر..

الإشارة إلى حزب الشعب هنا عنى بها المعتصمون رفضهم للسياسات اليمينية ضد اللاجئين وطُلاب اللجوء والحماية، والتعسف في منح الملاذ لراغبيها، والتضييق على اللاجئين المقيمين على أرض سويسرا بتخفيض أموال الإعانات التي يحصلون عليها وحصارهم بالضغط عليهم لتشغيلهم في وظائف النظافة، أو مسح الأرضيات والشوارع، أو جمع أوراق الخريف المتساقطة وتنظيف الحدائق منها.

وفي داخل المعسكر، كان قرار طرد نوح بالنسبة لميكائيلا كارثة تعادل في قسوتها اليوم الذي اكتشف فيها زوجها خيانة من خياناتها المتعددة له، حينما فاجأها تضاجع أحد أرباب عملها، بكت وانتحبت، ونسيت على النار حلة ضخمة كانت تطهي فيها عشرة كيلوجرامات من الأرز لوجبة الغذاء فاحترقت عن آخرها، ما أخر الوجبة وجعل طُلاب اللجوء يتذمرون ويصيحون صيحات مستهجنة، أما رفاق السفينة، فكان الأمر بالنسبة لهم صادمًا، خاصة أن بعضهم حصل بالفعل على اللجوء، وسُمح لهم بالإقامة في سويسرا، وهو ما دفع بعض منظمي الاعتصامات والاحتجاجات الداعمة له لكتابة عرائض لمنظمات حقوقية تستنكر فيها رفض لجوء نوح بينما بعض من قدموا معه على سفينته نالها، لكن الرد عليهم دائمًا كان بكلمتين: «هذه هي سويسرا.. بكل متناقضاتها».

لم يهتم نوح بشيء، لم يعرف أيضًا إن كان طرده مصيبة، أم نعمة، كان بالنسبة له أن يعيش خارج هذا المكان الذي شهد مغامرته مع الطباخة أفضل من أن يختم حياته الحافلة كماعون تروي منه ظمأها، أهكذا يكافيء نفسه؟! أو يكافئه الرب بعدما بنى السفينة وصبر على الكثير لينقل الكثيرين على متنها؟! ربما يكون فرصة لبداية جديدة مع ربه. ربما يتلقى منه تكليفًا جديدًا.

في جلسات النميمة لم يجد زملاء ميكائيلا من العاملين في المعسكر تسلية لأنفسهم خيرًا من قصة عشقها لـ«مهرب البشر»، هكذا كانوا يصفونه، ثم بعد قليل بدأوا يتهكمون عليه بوصفه «النبي»، ولم يتعاطفوا معها حتى بعدما كانوا يرون عيونها المحمرة من البكاء، قصة حرق الأرز ظلت نكتة يذلونها بها طوال أسبوع قبل مغادرة نوح المكان، في النهاية لم يستطيعوا أن يصدقوا نبوته، سوى قدرته على أن يجعل نمساوية مثلها تسهو عن عملها وتحرق الأرز، كانت صدمتهم أن فتاة نمساوية بمكانتها الاجتماعية، تقع في حب شخص مثله، مهرب للبشر، وينتمي للعالم الثالث، هكذا كانت تسليتهم تنقلب في أمسياتهم إلى سيل من التعليقات العنصرية البغيضة التي تنال منه، لا منها.

في الأسبوع الرابع له جاء مشهد مغادرته للمعسكر عجيبًا وغريبًا، المعتصمون في الخارج تجمهروا وعلت صرخاتهم الغاضبة من حناجر متحفزة منتفخة من كثرة الصراخ والهتاف، وقوات الشرطة تفرض عليهم سياجًا صارمًا، والجنود يصطفون يحمون السياج، ويقفون متقابلين وجهًا لوجه قبالة المتجمهرين، بينما كاميرات الصحفيين تضوي فلاشاتها، وتصور الجموع الغاضبة. تحول معسكر اللجوء في قرية التشتيتن السويسرية من مكان مهجور منسي في كانتون سان جالن، إلى مركز الكون، من هنا سيخرج نبي بعد قليل، جاء على متن سفينة، حافيًا مرتديًا جلبابًا واسعًا فضفاضًا بدون جيوب، والآن يرحل منتعلًا حذاء، مرتديًا جينز، ومعطفًا يقيه برد سويسرا القارس، وبرفقته شنطة سفر.

خرج نوح أولًا، ووقف ينظر إلى الجميع الذي ينتظره بلهفة وفضول شديدين، وقف المصورون الصحفيون فوق أسطح سياراتهم، جلب بعضهم رافعة ميكانيكية عملاقة يجرها جرار زراعي يملكه أحد فلاحي القرية، وجلس في «الكمبوشة» العملاقة التي ترتفع لأمتار بواسطة آلات الرافعة، وأخذت عدسة كاميرته الطويلة المدفع تلتقط عشرات الصور الواضحة لوجه نوح لتبرز خلجاته، وارتعاشات جلده، وشرود نظرات عينيه في الجمع، لكنه كان يمنح الجميع نظرة خالية من أية مشاعر.

خرج من المعسكر حراسه لتأمين بوابته، وخرج مع نوح بعض من رفاق السفينة الذين لم يُبت بعد في أمرهموخرج العاملون في «الكامب» يودعونه، المشرفون، والطباخون. وجاءت ميكائيلا بوجهها المحتقن من البكاء، وعانقته أمام الجمع، ثم دست في قبضته هاتفًا محمولًا، وفتحت حقيبته وجلست على الأرض لترتب فيها بدلة بحجمه، من بدلات زوجها التي لم يعد يرتديها، وكتبت له عنوانًا في ورقة، وأعطتها له قائلة:

في هذا العنوان ينتظرك شخص سيساعدك على دخول النمسا، ويسكنك في حجرة بنزل على الحدود، وسنلتقي غدًا، أنا رتبت كل شيء.

كانت ميكائيلا تظن أن بمقدورها الاستمرار هكذا، تضاجع نبيًا نصف نهار، وتعود لحياتها في نصفه الآخر، لكن الأمور لا تستقيم بسهولة. غادر نوح المعسكر، ترجل هابطًا السلالم، وسار في حراسة الشرطة التي أقصت عنه كل الصحفيين الذين تهاوت أسئلتهم على رأسه، بالفرنسية والألمانية والإنجليزية، كل يطمح أن يزفر بكلمة من النبي، يعود فيصنع منها «مانشيت»، لكن نوح لم يجب أحدًا، بل ولى ظهره الجمعَ، غادر المعسكر عازمًا ألا ييمم وجهه شطر العنوان، بل سلك الطريق القصير المفضي إلى محطة قطار التشتيتن، وهناك نظر إلى حقيبة ملابسه والورقة التي دستها ميكائيلا في يده، ثم طواها ودسها في حقيبة ظهره، كان الجو باردًا، فضم ياقة معطفه على صدره ورقبته وقد بدأ يشعر للمرة الأولى بأنه يرتعش، ربما جاءت الرعشة من داخله، فسيمضى لا يعلم ماذا يخبيء له ربه، ووضع في الحقيبة هاتفها المحمول، ثم تركها على الرصيف، وهو يرمقها بنظرات متشككة، كأنه لا يدري.. أحقًا يجب عليه أن يقطع صلته بهذه الفترة التي تلت استواء سفينته على شاطيء أوروبا، ووقف ينتظر القطار، وحينما جاء، يبدو أن ميكائيلا كانت تحاول الاتصال به، إذ أطلق الهاتف رنينًا مزعجًا، فتلكأ نوح وهو يفكر، لكنه حسم موقفه، وركب القطار.

وجدي الكومي، كاتب مصري بدأ النشر الأدبي بروايته الأولى العام 2008 الصادرة عن دار العين بعنوان «شديد البرودة ليلا» لينشر بعد ذلك تسع أعمال أدبية بين القصة والرواية هي «الموت يشربها سادة» 2010، «خنادق العذراوات» 2013، «إيقاع» 2015، «النسوة اللاتي» 2020 ، «دفتر أمي» 2022، «بعد ١٨٩٧ صاحب المدينة » 2022.

كما يكتب القصة القصيرة وصدر له فيها ثلاث مجموعات هم «سبع محاولات للقفز فوق السور» 2013 ، و«شوارع السماء» 2017، و«مليون كلمة طافية معبرًا لقوم نوح» 2015.

نالت كتاباته جوائز أدبية عديدة، أبرزها جائزة مؤسسة الفكر العربي في الرواية العام 2016، وجائزة أفضل مجموعة قصصية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب العام 2018، ووصلت مجموعته القصصية الثانية «شوارع السماء» للقائمة الطويلة لجائزة الملتقى العربية في القصة القصيرة العام 2017.

يدرس وجدي الكومي حاليًا في جامعة زيوريخ للفن بسويسرا منذ العام 2022 لنيل درجة الماجستير في الدراسات الثقافية فوق التخصصية، ويعمل مترجمًا ومدرسًا ووسيطًا ثقافيًا للأسر العربية المقيمة في كانتون زيوريخ وبرن، كما يعمل في جامعة زيوريخ منذ مطلع هذا العام بإحدى مشروعات مستشفى زيوريخ الجامعي التي تستهدف مساعدة اللاجئين على الاندماج.

قصة قصيرةنظر طلب لجوء سيد الفلكوجدي الكومي

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member