قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: هذه ليست قصة عن جورج وسوف

أناهيتا أموزرغار، "فوضاي المريحة"، أكريليك على قماش، 91×91 سم، 2022 (بإذن من الفنانة، anahitaamouzergar.com).

محمد عبد الجواد   By • 29 SEPTEMBER 2025

يقلد عمرو عبد السميع جورج وسوف، ويعلن عن مسابقة لملكة جمال في مصر، ويتحول خلال مدة بسيطة إلى ثري ذي سلطة، هذا ما يظهر على السطح فحسب، بينما تحته تشتعل أمور أخرى. قصة قصيرة جديدة لمحمد عبد الجواد.

كان دخول عمرو عبد السميع دخولاً مشهودًا كل شهر في حي الطابق السابع. كان يحل بجلبة كبار، يلوح من خلف زجاج عربته البي إم البيضاء، موديل التسعينات، بالبلوفر عالي الرقبة، والجاكت البني، مثل سيد له مطلق الصلاحية على حياته في فيلم مقاولات قديم، اعتاد أن يقف بالعربة عند كبابجي أبو منة، فيسلم على المعلم سيد أبو منة، ويطلب كيلوين من الكباب والكفتة بمشتملاتهما، يمر بواحد منهما على أمه الست حنان الورد، التي لُقبت بهذا الاسم لأنها كانت تبيع الورد قديمًا في حي المعادي القريب، تقف مع هدأة الصباح في ميدان دجلة، وتتسول الحياة بشرف وعلى حساب الفل البلدي والياسمين الهندي. ثم تقاعدت عن العمل عندما تعرضت لحادث مؤسف لم تحكه لأحد، ولكنها ظهرت بوجه حزين، وفم ملطخ بالأزهار، واكتفت بتربية الورود في بيتهم بالطابق الأرضي، حتى تقدم لها الأستاذ عبد السميع، والد عمرو، الذي كان قد تخطى الخمسين ويبحث عن فتاة مطيعة وحنون وتحيا بالقليل، وقد سألها ليلة العرس عن سبب توقفها عن عملها الشريف هذا، والذي ورثته من أبيها، أحد أكثر بستانيي المعادي اجتهادًا، والذي كان يفخر بإدخال الزهور اليابانية لمصر، قالت بهدوء:
– دع ما تبرزناه أمس بموضعه في الكنيف.
فلم يعد لسؤالها مرة أخرى عما جرى، وظلت زوجة ناجحة وبها فضيلة الصبر والانصات، حتى توفي الأستاذ عبد السميع وقد ملأت شقته بالورود التي كانت تضعها في كل مكان.
بعد ذلك، كان عمرو عبد السميع يمر بالكيلو الآخر على أخيه عامر عبد السميع، أستاذ الفيزياء المصاب بمرض المباديء، والذي يحيا على الكفاف لامتناعه عن الدروس الخصوصية، ثم يسلم على بناته الثلاث وزوجته مخذولة الهيئة، ثم يخرج من عنده وقد غسل ضميره وصار أكثر خفة وقبولاً للمزاح والجلوس مع زملائه القدامى في حي الطابق السابع. منذ طفولته، ظهر طموحه في عينيه الضيقتين الفائضتين بالذكاء، ووجهه المسحوب مثل وجه قط بلدي، يؤكد أنه سيكون أغنى وأشهر أفراد الحي، وسيناطح جورج وسوف الذي انهوس به وبأغانيه، وكان يردد أن صوته الذي احترق بلوعة الحشيش صوت حقيقي، يناسب حزن الكبار وشرود الصبية وتيه الشباب. تعلم أغانيه بالحب والصدفة وهو يعمل تباعًا على خط الطابق حلوان، واستطاع فهم الشفرات السرية في أغانيه، التي لا يفهمها سوى السائقين الأكثر خبرة، يحددون عن طريقها حكمة الحياة وكيف تُعاش. ثم عمل بعدها على ميكروباص وحده، وأثبت موهبته بطريقته الفريدة في المناداة على الركاب بصوت حسن، ونغمة مكررة، بدون الاحتياج إلى تباع. حتى توقف عن العمل على الميكروباص ذات يوم، عندما أوقفه ثلاثة رجال يرتدون جواكت جلدية سوداء ثقيلة، ولهم هيئة مستطيلة مقلقة، فركبوا معه بدون كلام، وأكمل طريقه وهو يغني باقة من ألمع أغاني جورج وسوف، ونغّم نداءه الشهير عند أول محطة قريبة، وهناك اقترب أحدهم، وكانوا يجلسون في الأريكة خلفه، من العارض الخشبي الذي يفصل بين قمرة القيادة وبين الركاب، فصفعه فوق قفاه صفعة أقلقت ملاكًا شاردًا كان يبحث عن موضوع للتفاؤل في أرض بلا أمل، وقال بهدوء:
– اسكت يا بن الوسخة، حكومة وهذه مأمورية.
اضطر عمرو عبد السميع بعدها إلى القيادة بهم في مجاهل شوارع لا يعرفها، مهتديًا باشاراتهم فقط. توقفوا عند بناية كالحة في النهاية، عند مقلب قمامة نواحي المقطم، فنزل الثلاثة من الميكروباص، وقال أحدهم، وكان أكبرهم سنًا، بنبرة أب طيب:
– ابق في مكانك وإلا قامت قيامتك.
لم ينتظر عمرو عبد السميع، وقاد عربته بجنون وهو يغني “حِلف القمر” بصوت شجي، حتى وصل إلى موقف الطابق، وأعطى الميكروباص لصاحبه وقال:
– لن أعمل في هذه المهنة الوسخة حتى أموت.
ظل يحكي بعدها عن هروبه من رجال الأمن، ويؤكد جدارته بالجرأة التي اشتُهر بها كشاب يفعل ما يريد، عندما طلق التعليم في نهاية الإعدادية، بسبب شجاره مع مدرس كان يرى صوته مبحوحًا ويشبه صوت القطط المريضة في ليالي الشتاء، ولم يستطِع أحد التشكيك في قصته، خاصة مع معرفتهم بوجود رجال بنفس المواصفات، يظهرون لقادة الميكروباصات في ليالي بلا قمر ويستغلون الميكروباص لمأمورية يوم أو يومين، كما حكى عن حلاوة الغناء لجورج وسوف عندما يشعر الإنسان بالخطر والتعاسة.
أخذته الدنيا بعيدًا وأعادته، وعمل في مطعم برجر في ثكنات المعادي، يقدمها بأسعار الزمن الجميل، وكان دوره يتمثل في وضع قطعة اللحم بعد الانتهاء منها في الشطيرة، مع طبقات الجبن والبصل والخس، وكان يغني وهو يقوم بإعداد الشطيرة ما يتراءى له من فضائل جورج وسوف، وسمعه زبون له أذن لاقطة، ذات مرة، فصوره بالهاتف المحمول ، ونشر الصورة على الفيس بوك معنونة بالعثور على جورج وسوف في مطعم البرجر، لينتشر الفيديو سريعًا خلال يومين، ويذهب مهندس صوت يعمل في ستوديو قريب بالمعادي إلى المطعم، بعدما شاهد الفيديو على الفيس بوك، و سأل صاحبه عن المكان، فقضم قطعة من الشطيرة التي طلبها، وهو يراقب عمرو عبد السميع وهو يغرد، وقال مبتسمًا:
– الطعم سيء، ولكن صوتك تحفة يا ابن اللعيبة.
كانت بداية موفقة، فقد جذب ذاك المهندس عمرو عبد السميع إلى عالم الغناء منذ هذه اللحظة، كما كان يردد، خاصًة أغاني المهرجانات، حيث غنى عشرة أغاني لم يسمعها أحد، وعلمه كيف يستخدم طبقة صوته الشعبية ليغني أغاني عن قهر المدينة وحزن الشوارع ليلاً والحب الأزرق المهبب في مهب الريح، بطريقة جورج وسوف مع ألعاب الموسيقى الحديثة، وهو الوقت الذي بدأ عمرو عبد السميع يختفي فيه من الحي، ويظهر بعدها في هيئة محدث نعمة، يبتسم بترحيب للجميع، ويعزز أسطورته بمظهر تجار أفلام المقاولات هذا، ويوزع أغانيه على ورش تصليح التكاتك والميكروباصات، ويبشر بنفسه مسيحًا جديدًا لأغنية المهرجان، مع توزيع وسوفي، محاطًا بشائعات لا تنتهي حول الأغاني التي يرددها في أعراس خفية، والمال الذي غرق فيه. ثم اختفى فجأة بعد شهرته، وقالت أمه الست حنان الورد، من بين ورود شقتها التي لا تنتهي، التي حولتها إلى صوبة صغيرة، أنه سافر إلى الإمارات لدراسة الغناء على أصوله، والعودة منافسًا لمحمد رمضان. كانت تتميز بالطيبة الكافية لترى مجاله هذا مجال عمل حلال، لأنه يمتع الناس، ويدفعهم إلى الرقص في أيام النحس، وقد تعلمت المزاج الرائق هذا وقبول الجميع من زوجها المرحوم الأستاذ عبد السميع، العامل في مصنع سيور الفرامل القريب، والذي كان له تعليق شهير طوال حياته:
– لو أراد ربنا أن يخسف بهم الأرض لفعل، فهل أنا ربنا حتى أحكم على أحد؟
اختفى عمرو عبد السميع لعام، ولم يكن يظهر فيه سوى من خلال بريد يحوي هدية، أو مبلغ مالي مُحول إلى حساب الست حنان الورد في البنك، كافٍ لشراء ورودها التي تزين بها الشقة من الخارج والداخل. وبعد ذلك، في أحد الأعوام قبل رمضان، ظهر بعربة مرسيدس ومظهر معُدل، أكثر أناقة، ودخل الحي بلا سلام، فتوقف عند كبابجي أبو منة، وطلب الكباب وهو مستمتع بترحيب المعلم الذي يتذكر جيدًا أن عمرو عبد السميع لم يكن يتناول سوى أرغفة الحواوشي، يقسمها بينه وبينه أمه، قبل كيلوين ما قبل الشهرة، ثم الخمسة كيلوهات الحالية. بعد ذلك، أعلن عن طريق مصدر سري، أنه ترك غناء المهرجانات، ويعمل حاليًا في إعداد البرامج الغنائية في الإمارات، وعزز مظهره والثراء البادي عليه من هذه الشائعة، وخاصة مع السلسلة الفضية الكبيرة التي كان يطوِّق بها رقبته، وينزل بها من العربة، تلتمع تحت وهج أول أضواء المساء البرتقالية.
لم يكن يشرح الكثير لأستاذ عامر عبد السميع، ويكتفي بالسؤال العادي عن الصحة والأحوال، ويؤكد أن الخليج مليء بالمال، ولكنه يحتاج اليد الكبيرة التي تغترف منه بعد التسمية بالله، ويتحدث عن القضايا التي صارت تعقد أونلاين، والدراسة عن بعد، والعربات التي تقود نفسها بنفسها، والمطابخ التي تعد الطعام في اللامكان، وكان يردد بين الحين والآخر:
– اكتشفت هناك أننا من ناحية كل شيء دولة من العالم السادس، ولكن من ناحية الناس فنحن عالم أول.
لم يذكر سوى أنه يحيا في المهندسين في شقة حسنة التأثيث، ويمارس عمله في الإعداد للبرامج الهامة وفرز الوجوه الجديدة التي تنضم لمسابقات مثل “عرب أيدول” وباقي تلك المباهج الحديثة، وكان يحتفظ بغموضه وهو يقابل رجال الحي، أو يصلي الجمعة بوجه متحفظ، بعد أن يضع السلسلة الكبيرة في حقيبته، أو يشارك في فرح أو عزاء. حتى حل اليوم الذي أعلن فيه عن المشروع الأهم في حي الطابق السابع، كما قال.
استيقظ سكان الحي حينها على لافتات تملأ ما بين البنايات، وتصنع جبالاً من الظل يحتمي فيها المارة من الشمس. كُتب عليها أنها مسابقة للبحث عن ملكة جمال مصر، تحت رعاية أكاديمية عمرو عبد السميع الخاصة للفنون والسفر إلى الخارج، وقد أعقب ذلك زيارة عمرو عبد السميع نفسها، حيث تعامل بطريقة طبيعية، ولم يعلن عن محتوى اللافتات هذا، مثيرًا ضجة خفيفة في بحر الرابعة عصرًا الراكد. وفي المساء، قال في المقهى إنه سيعقد مؤتمرًا تعريفيًا بالمشروع في نادي الكهرباء، بعد اتفاقه مع السيد سمير عرفان، رئيس النادي، على استقبال أهالي الحي فيه، وأن موعده اليوم التالي في السابعة مساءً.
امتلأ النادي منذ الصباح بطاولات معدة لاستقبال آنية طهي يشرف عليها شيف شرقي محترف، ومقاعد بلاستيكية مع طاولات صغيرة فوق كل منها زجاجة ساقع وعلبة جاتوه، ثم منصة كبيرة، خصصت فيها مقاعد لعمرو عبد السميع وسمير عرفان وبعض رجال الحي الفضلاء، وظلت الشائعات تردد أن عمرو عبد السميع يبحث عن مرشحة لبرنامج من البرامج الكبرى. قرابة العصر، امتلأ النادي بوجوه غضة لفتيات محجبات ومكشوفات الرأس، يرتدين ألبسة بألوان الطيف، ويتحدثن جميعًا بوقار مصطنع وهن يفكرن في المسابقة والفائزة المنتظرة، وهذا رغم أن تفاصيل المسابقة لم تعلن بعد، بصحبة أمهاتهن، كما كن يفعلن وقت امتحانات الثانوية العامة، ملتزمات بالصمت والتحفظ الكافي حتى لا يظهرن بمظهر البائعات لبناتهن. بدأ المؤتمر متأخرًا ساعة، وحضره عمرو عبد السميع ببدلة بيضاء وربطة عنق حمراء فاقعة اللون، وبان بصلعته الجديدة مثل بطل مافيا شعبية، وقدم شكرًا في البداية للمسئولين في الحي والقائمين على المسابقة، وبعدها أثنى على الحماسة في حضور الفتيات قبل معرفة التفاصيل، وبين بهدوء أن هناك ثلاثة فائزات، سيعتمد اختيارهن على معايير تخص طريقة انتقاء الثياب بشكل حضاري مناسب – وقد اعتذر وسط ذلك عن كلمة “حضاري” هذه، ليوضح أن الجميع أولاد ناس، ولكنها معايير الخليج – وبين فرصة العمل كعارضة أزياء ملتزمة لمجلات الخليج مع راتب محترم، وأكد أن هناك مسابقة أكبر ستجري بعدها في دبي، يتم اختيار فيها الأجمل من مصر، وقال مبتسمًا:
– وقد تم اختيار الطابق السابع تحديدًا بسبب العبد لله، ولإعطاء فرصة لجمالنا القومي للظهور.
حدد يوم المسابقة بعدها بثلاثة أيام في المكان نفسه، وشدد على الأدب في الظهور وعدم استخدام الثياب المثيرة، مؤكدًا سعادته بالفكر التقدمي لسكان الحي، وفهمهم أن الأمر كله عبارة عن شغل ومضمون، و كان يوم المسابقة يومًا مشهودًا، فقد امتلأ النادي منذ الصباح بالفتيات أنفسهن، وحفظت الكثيرات منهن قصائد شعر خارج سياق الحياة، وحاولن الالتزام بالهدوء والتعامل بطريقة فتيات التيك توك، بمط الكلمات وقت نطقها مع مزجها بكلمات انجليزية، واللعب بالرمش والحاجب، بما لا يخالف القواعد الاجتماعية، وأضيفت طاولة، جلست عليها ثلاثة فتيات بملامح أجنبية، قيل أنهن روسيات خبيرات في صناعة الفنانات، وامرأة ممتلئة بالنعمة مثل أم طيبة، اسمها السيدة هدى الماوردي، خبيرة تجميل، منوط بهن الاختيار طبقًا لمعاييرلا يعرفها غيرهن.
استمرت المسابقة حتى منتصف الليل، وشهد النادي شجارات عدة بين شباب حاول الوصول إلى فتيات المسابقة وذويهن للفت الانتباه بطريقة سيئة، وشهد الخارج انتشار لباعة التسالي وكل شيء، مع حوارات امتدت من بيت إلى بيت حول كواليس ما يجري، والناس الذين فقدوا عقلهم، وانتهت المسابقة بالواحدة صباحًا، بعد تناول ما يزيد عن خمسمائة علبة جاتوه، وزجاجات ساقع لا نهاية لها، وإتلاف عشرين مقعدًا، وقفز البعض في حمام السباحة المغلق في النادي احتفالاً بالمناسبة التي انشغل فيها الجميع بالمسابقة، ومشاهدة فتيات الحي وهن يخطرن بمشية حزينة فوق المسرح الصغير أمام الطاولة والمنصة. أُعلنت الفائزة، هند عاطف الميرغني، ومعها رباب يسري في المركز الثاني، وسماء محمد في المركز الثالث، وقد بكت هند عاطف عندما اقتربوا منها بالميكروفون وسألوها عن شعورها في هذه اللحظة المهمة في حياتها فقالت:
– أشكر ماما التي صبرت معي كثيرًا وبابا الذي احتمل جنوني لأعوام وصديقاتي في مدرسة الشهيد الرائد يسري محمد الثانوية بنات وأبلة نعمات التي ذكرت لي أن عندي مواهب فنية وشجعتني.
تابع الجميع بعدها عملية التتويج التي تمت بتاج من الورود الاصطناعية التي صنعتها الست حنان الورد بنفسها، وعقود من الذهب الصيني، برعاية متاجر ريمون وهبة للذهب، ثم انتهت الليلة بنجاح، وموجات حسد عامة للفتيات الثلاث، معللة بتأكيد أنهن لسن الأجمل، مع إشاعات بأن هند عاطف هزت مؤخرتها أمام لجنة المحكمات، ما ساعدها على اجتياز المسابقة، التي لم تكن سوى مشية خفيفة أمام الطاولة فوق المسرح الصغير بلا سلام ولا كلام، مع اجتهادات شخصية من المتسابقات.
خلال الأسابيع التالية، حضرت أسر الفتيات الثلاث إلى مكتب الأكاديمية الذي قام عمرو عبد السميع باستئجاره قرب مبنى الكوبانية القديمة، وتم توقيع استمارات تسهل على الفتيات السفر إلى الإمارات، وتتكفل بالصرف عليهن حتى تنتهي المسابقة، وقال عمرو عبد السميع بجدية:
– والكل فائز.
انقطع خبره بعدها، كما اعتاد سكان الحي، وكانت الفتيات يراسلن أسرهن بالتطورات وهن يلتقطن صورًا لمراحل التدريب على التعامل مع الحياة بطريقة فنية من الفتيات الروسيات اللاتي حضرن المسابقة كمحكمات، مع الإعداد للسفر، وبعدها ذكرن شيئًا حول المسابقة التي ستبدأ والسفر الذي يلزم معه قطع التواصل. ثم انقطعت أخبارهن تمامًا، حتى اضطرت أسرهن إلى تقديم بلاغات في قسم الحي ضد عمرو عبد السميع، يتهمنه باختطاف بناتهن، وحدثت ضجة قيامية عند بيت أمه الست حنان الورد، فخرجت من الشرفة وقالت بهدوء:
– عمرو ابني قلبه أكثر بياضًا من دجاج أم هناء.
بينما حاول الأستاذ عامر عبد السميع التأكيد بطريقته الرقيقة في الحديث أن أخيه محل ثقة، رغم عدم معرفته بما يقوم به في حياته. لم تُحل المسألة بسهولة، وذهبت الأسر إلى سفارة الإمارات للتأكد من سفر بناتهن، ولكنهم لم يجدوا أي دليل خاصة مع امتناع السفارة عن الرد. ولكن بعد خمسة أشهر من المعاناة والترقب والحزن والدموع، ظهر عمرو عبد السميع بطريقته المميزة، ومعه الفتيات الثلاث، وكن يرتدين ثيابًا فاخرة وظهرن بمظهر سيدات ناضجات خبرن الحياة، فهدأ غضب الأسر، واستمعوا لقصتهن عن المسابقة في الخليج والنجاح الذي وصلن إليه، وبطاقة الإقامة الذهبية. أعيد تطويب عمرو عبد السميع رجل مهام أصيل وابن حقيقي للحي، وكان يرد على التساؤلات بهدوء، ويؤكد حق الأسر في القلق، ولكنه اعتذر بغضب خفيف عن عقده مسابقة جديدة، بسبب الشك الذي حام حوله والمشاكل التي واجهها مع الحكومة. ثم عاد للاختفاء بعد سحب الشكاوى، وذهبت معه الفتيات مرة أخرى، ولأنني كنت على يقين أنهن لم يعملن بالفن كما رددن، ولا أن هند عاطف الميرغني قد تعرفت على نانسي عجرم كما ذكرت بلهجة واثقة، وإنما شممت رائحة عفنة تفوح من ذلك الرباعي الشؤم، عمرو عبد السميع والثلاث فتيات، وأوصيت صديقًا يعمل في تهريب الهواتف الآيفون، يجلبها على دفعات خلال شبكة معقدة من المعارف، لهم جميعًا سبوبة جيدة، ويعيد البيع في السراج مول بمدينة نصر بهامش ربح عادل، ليتأكد من سمعة عمرو عبد السميع في الإمارات، لأنه كان يعرف عُمد المصريين هناك. وبعد شهرين من التهاون غير الحميد، والانشغال بأعماله التي لا تنتهي، قال إنه سمع من صديق له اسمه مصطفى علي، يعمل في مجال البناء هناك، ويعرف حكايا دبي الحقيقية وبعض بؤرها السوداء، أن هناك شاب مصري يعمل في القوادة بطريقة مبتكرة، يستغل فيها صوته الذي يقارب صوت جورج وسوف، ويرتدي قمصانًا لامعة بالترتر والورود، ويقدم حفلات مسائية بصحبة ثلاثة فتيات يغنين خلفه ككورال حزين، ويقدمن خدماتهن بضمير ولياقة، وأن هذه الحفلات التي تُعقد في فنادق الكبار، وخاصة التي يأتيها القادمين من السعودية والبحرين، لا تنتهي أبدًا بطريقة مناسبة. أكد له مصطفى ذاك أن هذا الشاب المصري، عديم الحياء، يغطي نشاطه ويدلل عليه بعروض يغني فيها “طبيب جراح” و”الأيام دي صعبة” و”اتأخرت كتير” و”صابر وراضي” وباقي أغاني جورج وسوف الشهيرة، خاصة مع المنافسة الحادة بسبب رواج سوق المغربيات اللاتي يمارسن الحب مع الغسيل بالطمي المغربي وعمل المساج بطرق مراكش القديمة، واللبنانيات اللاتي يرطن بالفرنسي ويمارسن الحب بغنج الكلمة والضحكة، والسودانيات والغانيات اللاتي يوزعن الحب بعروض تشبه عروض محال الشطائر، وعندما سأله صديقي عن اسمه الحركي، لأنه او يظهر باسمه الفعلي؛ قال مصطفى هذا:
– جورج وسوف، بالطبع، يخفي اسمه الحقيقي ابن المومس.
وقد استفاض وحكى لصديقي قصصًا أخرى لا تصدق عن فتيات فقدن كرامتهن بحثًا عن الإقامة الذهبية، وعن تسعيرة الليلة للمغربية واللبنانية والأوكرانية، وقلة سعر المصرية الذي أكد أنها تمارس الحب بكدر الشعور بالذنب، ما يعكر صفو اللحظة الحمراء، وخمن مكاسب هذا الشاب لتكون كافية ليكون سيد محلي في حيه الملعون بمصر. كان هذا كافيًا تمامًا لأتأكد من صدق ظنوني، ولذلك ذهبت إلى بيت الست حنان الورد المزهر، وطرقت الباب المغطى بنبات متسلق، ففتحت لي، ولاحت من بين الورود مثل شجرة عجوز وهي تبتسم، فقلت لها بدون مقدمات:
– ابنك خول يا ست حنان.
فابتسمت بمزاج طيب، ثم أعطتني وردة حمراء بلا رائحة، وقالت:
– ربنا يهدي قلبك يا بني.
ثم أغلقت الباب في وجهي، فذهبت للجلوس ناحية صندوق الكهرباء، مثلما اعتدت منذ عقود، وبعد ذلك فتحت كشك السجائر، وبدأت البيع بكدر واضح، دفع الحاج حسين المنياوي إلى اعطائي درسًا عن أهمية الوجه الحسن في البيع، والحقيقة أنني ارتبكت بسبب كلمات الست حنان الورد، لأنها أصابت كبد الحقيقة، ولا أعرف كيف يكون من مثلها قريبًا من ربنا، وتعرف خبايا الناس، بينما ابنها قواد وابن كلب. وحتى يفهم الجميع سبب اهتمامي فقد أحببت هند عاطف الميرغني منذ رأيتها لأول مرة، تقترب من الكشك في هدوء الخامسة عصرًا، وتطلب علبة سجائر مارلبورو أصفر لأبيها الأستاذ عاطف، ثم فطنت بالخبرة وحدها إلى أنها تشرب من هذه السجائر، وأنها تسرق بعضًا منها بذكاء محسوب، وكانت زيارتها هذه تتم كل خميس، نتبادل الابتسامات بأريحية، ثم تسألني عن الفروق بين سجائر الجمل والدافيدوف الجديدة، وكانت تبتسم بتواطؤ عندما تفتح العلبة، لتعد السجائر كما تفعل كل مرة، لأن بعض أولاد الحرام أخبروها بأنني أحتفظ ببعض السجائر لنفسي، وتجد سجائر زيادة من نوع بالفراولة، لأقول حينها:
– لأجل الورد ينسقي العُليق يا أبلة.
ولكنها انقطعت عن ذلك عندما ظهرت قصة مسابقة النحس هذه، وبانت بملامح صارمة لامرأة ناضجة، وأخذها عمرو عبد السميع عندما ميز ما ميزتُهُ منذ البداية بأنها الفتاة الأجمل في حي الطابق السابع المحروم من نور الشمس، لأُلقى وسط خراطيش السجائر مرة أخرى، أسمع جورج وسوف كل ليلة، وأنظر للقمر الذي رآه ينطق ويقسم بالجمال، منتظرًا عودة قواد حينا حتى أكشفه بين الجميع، رغم حزني على سمعة حبيبتي التي تمرغت في التراب، وأربط بين اللوعة المتجددة في صوته في “حلف القمر”، وبين شعوري بجفاف الحلق وألم البطن عندما كانت تبتعد عن الكشك، وتختفي في صفحة المساء والضوء النيون لمصباح الواجهة يلقي بلونه الشاحب على جلدها اللامع، يكون مع القمر الذي يطل على حينا لوحة بمباهج الحزن المنكهة بحشيشة صوت عمنا جورج وسوف، قبل أن أبكي وأن ألعنه بكل حب.

محمد عبد الجواد

محمد عبد الجواد كاتب مصري من مواليد 1988، مقيم في القاهرة، صدرت أول رواياته «٣٠ أبيب» عن دار بتانة العام ٢٠٢٢، ثم صدرت ثلاثيته  «الصداقة كما رواها علي علي» و«عودة ثانية للإبن الضال» و«جنازة البيض الحارة» عن دار المرايا العام ٢٠٢٣، وروايته «أميرة البحار السبعة» العام ٢٠٢٤ عن دار المرايا أيضًا، صدرت أحدث رواياته «الواقعة الخاصة بأموات أهله» العام ٢٠٢٥ عن دار تنمية والتي ستعيد نشر أعماله السابقة.

Join Our Community

TMR exists thanks to its readers and supporters. By sharing our stories and celebrating cultural pluralism, we aim to counter racism, xenophobia, and exclusion with knowledge, empathy, and artistic expression.

مواضيع مشابهة

Arabic

قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: هذه ليست قصة عن جورج وسوف

29 SEPTEMBER 2025 • By محمد عبد الجواد
قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: هذه ليست قصة عن جورج وسوف
Arabic

قصة قصيرة لحسين فوزي: باللمبة النيون قام

8 SEPTEMBER 2025 • By حسين فوزي
قصة قصيرة لحسين فوزي: باللمبة النيون قام
Literature

قصة قصيرة لمحمود سليمان: على الرغم من كونه بلطيًا…

25 AUGUST 2025 • By محمود سليمان
قصة قصيرة لمحمود سليمان: على الرغم من كونه بلطيًا…
Arabic

قصة قصيرة لمحمد النعاس: سن الحمامة الذهبية

25 AUGUST 2025 • By محمد النعاس
قصة قصيرة لمحمد النعاس: سن الحمامة الذهبية
Fiction

قصة قصيرة لبدار سالم: نونينال-2

18 AUGUST 2025 • By Badar Salem
قصة قصيرة لبدار سالم: نونينال-2
Arabic

قصة قصيرة لهدى الوليلي: قطارات فائتة

11 AUGUST 2025 • By هدى الوليلي
قصة قصيرة لهدى الوليلي: قطارات فائتة
Literature

قصة قصيرة لنسرين خليل: تسعة أرواح

4 AUGUST 2025 • By نسرين خليل
قصة قصيرة لنسرين خليل: تسعة أرواح
Literature

قصة قصيرة لآلاء عبد الوهاب: تلك العين البعيدة جدًا

28 JULY 2025 • By آلاء عبد الوهاب
قصة قصيرة لآلاء عبد الوهاب: تلك العين البعيدة جدًا
Arabic

قصة قصيرة لمروان عبد السلام: دمية الإله

28 JULY 2025 • By مروان عبد السلام
قصة قصيرة لمروان عبد السلام: دمية الإله
Arabic

قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: عمرو دياب لا يأكل ماكدونالدز

21 JULY 2025 • By محمد عبد الجواد
قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: عمرو دياب لا يأكل ماكدونالدز
Arabic

قصة قصيرة لهبة عبد العليم: قبيل النهاية بقليل

21 JULY 2025 • By هبة عبد العليم
قصة قصيرة لهبة عبد العليم: قبيل النهاية بقليل
Arabic

قصة قصيرة لسميرة عزام: أسباب جديدة

14 JULY 2025 • By سميرة عزام
قصة قصيرة لسميرة عزام: أسباب جديدة
Arabic

قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كازانوفا بلا أجنحة

14 JULY 2025 • By أحمد الفخراني
قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كازانوفا بلا أجنحة
Arabic

قصة قصيرة لمي المغربي: النوم أمام قهوة الجمهورية

30 JUNE 2025 • By مي المغربي
قصة قصيرة لمي المغربي: النوم أمام قهوة الجمهورية
Arabic

قصة قصيرة لإيمان اليوسف: القلب الزجاج، القلب الهواء

23 JUNE 2025 • By إيمان اليوسف
قصة قصيرة لإيمان اليوسف: القلب الزجاج، القلب الهواء
Arabic

قصة قصيرة لمحمد فطومي: الدور

16 JUNE 2025 • By محمد فطومي
قصة قصيرة لمحمد فطومي: الدور
Arabic

قصة قصيرة لإيمان عبد الرحيم: فصام

9 JUNE 2025 • By إيمان عبد الرحيم
قصة قصيرة لإيمان عبد الرحيم: فصام
Arabic

قصة قصيرة لإيمان اليوسف: تثغى

2 JUNE 2025 • By إيمان اليوسف
قصة قصيرة لإيمان اليوسف: تثغى
Arabic

قصة قصيرة لوجدي الكومي: نظر طلب لجوء سيد الفلك

2 JUNE 2025 • By وجدي الكومي
قصة قصيرة لوجدي الكومي: نظر طلب لجوء سيد الفلك
Arabic

قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كغيمة مرت

12 MAY 2025 • By أحمد الفخراني
قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كغيمة مرت
Arabic

قصة قصيرة لكريم عبد الخالق: كابوري يا روبي

12 MAY 2025 • By كريم عبد الخالق
قصة قصيرة لكريم عبد الخالق: كابوري يا روبي
Arabic

قصة قصيرة لفادي زغموت: اختياراتي مدمرة حياتي

17 MARCH 2025 • By فادي زغموت
قصة قصيرة لفادي زغموت: اختياراتي مدمرة حياتي
Arabic

ثلاث قصص قصيرة للكاتبة العمانية ليلى عبد الله

17 FEBRUARY 2025 • By ليلى عبد الله
ثلاث قصص قصيرة للكاتبة العمانية ليلى عبد الله
Arabic

مقتطف من رواية محمد عبد الجواد: الواقعة الخاصة بأموات أهله

17 FEBRUARY 2025 • By محمد عبد الجواد
مقتطف من رواية محمد عبد الجواد: الواقعة الخاصة بأموات أهله
Arabic

تلويحة للسماء

10 FEBRUARY 2025 • By نهلة كرم
تلويحة للسماء
Arabic

ليل حيفا الطويل

10 FEBRUARY 2025 • By مجد كيال
ليل حيفا الطويل
Arabic

ممكن نتواصل مع حضرتك؟

20 JANUARY 2025 • By مي المغربي
ممكن نتواصل مع حضرتك؟
Arabic

حديد في الهواء

20 JANUARY 2025 • By علي المجنوني
حديد في الهواء
Arabic

قصة قصيرة لكارولين كامل: مرجانة

23 DECEMBER 2024 • By كارولين كامل
قصة قصيرة لكارولين كامل: مرجانة
Arabic

قصة قصيرة لضياء الجبيلي: الدمية ذات الوشاح الأرجواني

11 NOVEMBER 2024 • By ضياء الجبيلي
قصة قصيرة لضياء الجبيلي: الدمية ذات الوشاح الأرجواني
Arabic

قصة قصيرة لنورا ناجي: يقين

11 NOVEMBER 2024 • By نورا ناجي
قصة قصيرة لنورا ناجي: يقين
Arabic

قصة قصيرة لعبد الله ناصر: شارب فريدا كالو

11 NOVEMBER 2024 • By عبد الله ناصر
قصة قصيرة لعبد الله ناصر: شارب فريدا كالو
TMR Bil Arabi

قصة قصيرة لأحمد وائل: ولو في الصين

4 NOVEMBER 2024 • By أحمد وائل
قصة قصيرة لأحمد وائل: ولو في الصين

اكتب تعليقًا

لن ننشر الإيميل الخاص بك، الرجاء ملء إضافة جميع المعلومات المطلوبة

four × 5 =

Scroll to Top