قصة قصيرة لهدى الوليلي: قطارات فائتة
هدى الوليلي   By • 11 AUGUST, 2025
أناستازيا سوسلوفا، «قطار فائت»، (مواليد كازاخستان)، ألوان مائية على ورق، 40×30 سم، 2023 (بإذن من ساتشي).

تتأمل سيدة في الخمسين من عمرها قطارات عمرها الفائتة، في قصة قصيرة رائعة لهدى الوليلي.

 

هدى الوليلي

 

أجلس في المحطة بانتظار موعد قدوم قطاري، أتأمل السكة الحديدية، أنظر إلى الوجوه المتعجلة المارة من حولي، وإلى الحقائب العابرة أمامي، أرفع عينيَّ إلى السماء باحثة عن مخرج، أو ربما مهرب. لا أثر لغيمة تنذر بمطر، نحن في أحد شهور الشتاء، والشمس تتوسط كبد السماء.
يقطع شرودي صوت بائع الجرائد الذي ينادي على بضاعته: اقرأ الأخبار… الأخبار الطازة!
أضحك، لا لأنه شبّه بضاعته برغيف خبز الصباح الذي تفوح رائحته في شوارع البلاد وتملأ الأنوف لتصل إلى المعدة، التي ما تلبث أن تكرَّر في حضرة ذلك الرغيف الشهي، المعينِ على بداية يومٍ شاق؛
وإنما لأنها أخبار بايتة، مكررة، لا جديد فيها؛ حروب وحوادث طاحنة، وملوثات تتراكم على الكوكب المسكين.
ثم يمر قطار سريع على شريط الخط المعاكس للقطار الذي أنتظره، وكأنه مرّ على قضبان ذاكرتي، إذ يتداعى إليَّ عقلي بكل الذكريات المؤلمة عن القطارات؛ لا تلك التي كنت أقرأها في الجرائد فحسب، كتلك التي يدّعي بائع الجرائد أنها «طازة»، بل تلك التي تذكّرني أمي بها دائمًا.
تقول لي أمي إن قطار الزواج قد فاتني.
تعاملني أمي كتذكرةٍ على أحد المقاعد في قطار فات موعده؛ إذ ما عادت تلك التذكرة التي ثمَّنتها سنوات عمري تصلح، إلا لتترك منسية حتى يأتيها اليقين.
حين أراد الزمان أن يصالحني أخيرًا بعد جفاءٍ دام خمسين عامًا عشتها وحدي، جاء الصلح على هيئة ذلك الفارس الذي أتى متصالحًا مع سِنّي، ومع ما مرّ من عمري، طالبًا يدي، لتقف أمي في طريق ذلك الزواج وتقول قولتها الحازمة:
– لا أوافق، فأنتِ صحتكِ على قدركِ، ولا تصلحين للزواج!
لا أتذكّر أنني عارضت أمي طوال حياتي، ولا حتى اختلفت معها من قبل.
يومها، نظرتُ إلى أخي الكبير، الذي كنتُ أحسبه في مقام والدي منذ وفاته. انتظرتُ أن يقول أي شيء، أن يدافع عني، أن يقول لها إنني ما زلتُ أصلح لأشياء كثيرة، منها ذلك الزواج. إلا أنه خذلني، جلس مطأطئ الرأس، ولم ينطق بحرف.
كنتُ أريد أن أصرخ في وجهيهما، وأن أتمرد على هذا الحكم الجائر الذي حكَما عليَّ به. لكنني أنا أيضًا خذلت نفسي؛ إذ خجلتُ من كل هذا العمر الذي عشته فتاة مطيعة. فهل آتي الآن، بعد كل هذا الزمن، لأعترض وأتمرد كفتاة مراهقة تهدد أهلها، إن لم يوافقوا على حبيبها، بأنها ستهرب معه وتجلب لهم العار؟!
كرر ذلك الفارس الطلب مرات ومرات، وألحَّ على أخي بحكم صداقتهما، لكن في كل مرة كان أخي يصدّه؛ ذلك لأن أمي أصدرت حكمها، وهي السيدة المخضرمة التي لا تخطئ في أحكامها، فبحكم ما عاشته من أعوام لا يُترك مجال لأي تأويل في قراراتها. وبالتالي، لا اعتراض على ما تقول.
أتذكر أنني حاولتُ مرات عدّة أن أقنعها بأنني لا أملك ما أخسره، كما حال ذلك الفارس، بعدما بلغ من العمر ما بلغ، وفقد زوجته إثر ذلك المرض الخبيث.
فأصرح لها قائلة:
– ليس لديّ ما أخسره، فقد فاتني قطار الأمومة من قبل أيضًا، فلن أؤذي أحدًا في طريقي.
لكنها كانت قد أصدرت حكمها، وانتهى الأمر.
والآن، أتذكر كل ذلك، وأضحك. لا لأن ما تذكّرته يدعو للضحك، لكنه ضحك حسرةٍ وألم؛ إذ ماتت أمي يوم تمّ تشخيصي بورمٍ خبيث، لأخوض معارك الفقد والألم وحدي، على مدار عامٍ كامل وحدي. أهرب أخيرًا من براثن الموت، كما قال الطبيب المعالج، لكنني خرجتُ منه ناقصة، امرأة ناقصة تعوزها الأنوثة.
أضحك مرة ثالثة، ولكن بانفعال حاد، حين أنتبه -حالًا- أن قطارًا آخر قد فاتني، لم تكن أمي تعرف به؛ قطار الأنوثة
أتذكر الآن فارسي، (الذي أطلقتُ عليه هذا اللقب حتى وإن لم تجمعنا الحياة يومًا)، وعودته الآن وتكراره لطلبه وإلحاحه فيه. لم تعد أمي موجودة لترفض، ولكنني لم أعد أصلح لأي شيء بعد الآن. مؤسف، أن يأتي الزمان لنا بأكثر ما نتمناه، بعد فوات الأوان.
أُغمض عيني في محاولة يائسة لأخفي كل تلك الذكريات من عقلي، وأهمس لنفسي بالمثل القائل اللي فات مات.
يُخرجني من كآبة أفكاري صوت طفل ينادي: أخضر ومنعش وجميل… يا نَعناع!
أفتح عيني، فأراه قادمًا من بعيد، بملابس ملطخة بالبقع، قد علِق بها كل أنواع الغبار والأوساخ واستقرت عليها. لكنه، حين اقترب، ظهر وجهه المبتسم الصغير الطفولي، المستدير كقمر، يحمل باقات من النعناع خضراء يانعة كقلبه. اقترب مني، إذ بدوتُ له الوحيدة التي ليست على عجلة من أمرها، على عكس الجميع المتعجلين في المحطة.
بدت ملامحه طفولية نال منها الفقر والعوز، بعدما لفحت الشمس الحارقة وجهه البريء. أشفقتُ عليه، وناديته بأسى، وأنا أخشى أن يكون قطار الطفولة أول القطارات الفائتة في حياته.
سألته عن اسمه، قال: «بسام».
فابتسمت، وابتسم… يليق به الاسم.
هزّ باقة النعناع التي يحملها بحرص، كباقة زهور يخشى عليها من التلف، ففاحت رائحة النعناع الزكية. فتحتُ حقيبتي وأنا مأخوذة بتلك البسمة الصغيرة على وجهه، وتخدر أنفي رائحة النعناع، أخرجت ورقة نقدية كبيرة من فئة المئتين جنيه، والتي، ما إن رآها، حتى لمعت عيناه. قلت له إنني سأشتري تلك الباقة كلها. ابتسم الطفل، وأخذها، وراح يُمطرني بوابل من الدعوات والتشكرات.
وبعدما سلّمني باقة النعناع وابتعد قليلًا، راح يتمايل في مشيته ويلفّ حول نفسه، تمامًا كطفلة «الريّال» في الفيلم، إذ أخيرًا ستبيت هي ووالدها غير جائعَين، لتحتفل معه برقصتها المشهورة وهي تقول: «معانا ريّال… معانا ريّال… ده مبلغ عالٍ ومش بطّال!»
تابعته بعيني، وهو يختفي في الأفق كقمرٍ طلع الصبح عليه. تمنيت ألا تفوته قطارات العمر.
فجأة، أنتبه أن قطاري الذي كنت سأستقله يغلق أبوابه! حملتُ أشيائي بعجلة وركضت سريعًا لألحقه، لكنه تركني وتحرك وغادر بالفعل. نظرتُ إلى تذكرة القطار بسخرية، ثم جعدتُها وألقيت بها في سلة المهملات القريبة. ثم عدتُ إلى المقعد الذي كنتُ أجلس عليه منذ قليل، والتقطت باقة النعناع التي كنتُ قد نسيتها وأنا أحاول اللحاق بالقطار. نظرتُ إلى لونها الأخضر اليانع، ثم رفعتُها إلى أنفي واستنشقت بقوة، عبرت رائحتها المنعشة الزكية من أنفي وملأت رئتي، حتى تخيلت أنني أصبحت خضراء مثلها.
ابتسمت، وحملتها مع حقيبتي، وغادرت.

Join Our Community

TMR exists thanks to its readers and supporters. By sharing our stories and celebrating cultural pluralism, we aim to counter racism, xenophobia, and exclusion with knowledge, empathy, and artistic expression.

هدى الوليلي

RELATED

Arabic

قصة قصيرة لحسين فوزي: باللمبة النيون قام

حسين فوزي   By • 8 SEPTEMBER, 2025
قصة قصيرة لحسين فوزي: باللمبة النيون قام
Literature

قصة قصيرة لمحمود سليمان: على الرغم من كونه بلطيًا…

محمود سليمان   By • 25 AUGUST, 2025
قصة قصيرة لمحمود سليمان: على الرغم من كونه بلطيًا…
Arabic

قصة قصيرة لمحمد النعاس: سن الحمامة الذهبية

25 AUGUST, 2025 • By محمد النعاس
قصة قصيرة لمحمد النعاس: سن الحمامة الذهبية

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

15 − 9 =

Scroll to Top