قصة قصيرة لعلي المجنوني: جلسة علاج نفسي مجانية بمناسبة زيارة الرئيس

ترامب يزور الرياض (الصورة لجوردان الغرابلي)

علي المجنوني   By • 6 OCTOBER 2025

في قصة جديدة بديعة لعلي المجنوني، يدور مجموعة من الأصدقاء بين حدائق ومقاهي الرياض، وعندما يزور الرئيس الأمريكي ترامب المدينة، يتغير الكثير.

كنا قد انعطفنا من شارع الفجر إلى آخرَ أصغر لا أتذكر اسمه الآن عندما شهدنا الحادثة. كان الوقت ضحى، يوم جمعة أو يوم سبت، ولم يستيقظ كثير من الناس بعد. بدأت ظلال الشارع تتراجع فعلًا أمام الشمس الصاعدة وئيدًا ولكن بإصرار. كنا ثلاثتنا قد قضينا الليل كلّه في مقهى كِرْمِز، وبعد الشروق مشينا لنستكمل حديثنا الذي بدأناه في المقهى عن الواقعية الأدبية.
لم تخفّ حماسة عبد الله عن ضرورة إحداث ثورة في الأدب السعودي، موضوعه الأثير الذي يعود إليه كلما التقينا. يتكلم وكأنما قد استهل حديثه عن الموضوع توًّا. عبد الله، وهو شاب من مدينة ساجر التي يعود إليها كل أسبوعين، لم يكتب شيئًا، أو على الأقل لم ينشر شيئًا كتبه من قبل أو أرانا إياه. لكنه يتحدث وكأنه كاتب بالفعل، لا سيِّما حين يتكلم عن الواقعية، وأرى أن كثيرًا من أطروحاته حولها لا تنقصه الوجاهة. ومع أنه لم يُنتج شيئًا مكتوبًا فإني أشعر تجاهه بنوع من الحسد، أو ربما أحسده لأنه لم ينشر، فهو لم يرتكب الخطأ الذي ارتكبته ولم ينكشف بعدُ كاتبًا. لا بد أن يشعر الكاتب المنشور بشيء من الخزي غير المسترد، ولذا يسعى إلى توريط مَن لم يكتب وينشر بعد. الأمر أشبه بما يشعر به المتزوجون تجاه العزَّاب من غلٍّ يجعلهم يريدون أن يقتصوا منهم بتحبيبهم إلى الزواج واستمالتهم إليه.
طالما استخدم عبد الله استعارة المرآة للتعبير عن علاقة الأدب بالواقع، وبشكل أكثر دقة عن العلاقة التي ينبغي أن تكون بينهما. وكثيرًا ما يطيب له أن يقول شيئًا من قبيل ما ذنب المرآة إنْ كان الواقع الذي تعكسه مكسورًا؟ يقول هذا مفترضًا تفادي الكتّاب استخدام الواقعية خوفًا من ردة فعل المجتمع. ومع ذلك فلا أنسى كيف أبطل فوازُ ذات يوم حجّة عبد الله حين أخبره بأن قصة «مقهى كرمز»، القصة التي آمن بها عبد الله ونبهني شخصيًا إلى وجودها، موضوعة ولا أساس لها من الصحة. يُنسب اسم المقهى الأجنبي إلى شاب أمريكي من تكساس. في المقهى خريطة معلقة تحوي خطًا زمنيًا يوضح بالسنوات انتقال الشاب، رائد الأعمال الأمريكي المتخيَّل ذاك، إلى الرياض للعمل، ثم لقائه بزوجته ثم ولادة أبنائه ثم العودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثم تاريخ افتتاح المقهى، وتواريخ أخرى. وليس هناك سبب أمام مَن يقرأ هذه القصة المصورة كي لا يصدقها، فكثير من المطاعم والمقاهي تُدرج قصة نشوئها في قوائم الطعام، كما أن اسم المقهى الغريب يتطلب توضيحًا من نوع ما.
في الشارع الصغير لم يتناسب الصراخ الذي سمعناه مع هدوء الضحى. من محلٍّ في الجانب الظليل من الشارع خرجت العاملة أولًا، وتوقفت حيث كان وجهها مقسومًا بين الظل والضوء. كانت تومئ بيديها في انفعال شديد وتحتجّ بعربية ركيكة. سمعتها تقول إنها ليست هكذا. ولا أعلم على وجه الدقة ماذا تقصد بـ«هكذا»، لكني استطعت أن أخمّن. ثم ما لبث أن ظهر إلى الشارع بعدها رجل عاري الصدر يأتزر بمنشفةٍ يمسك بها كيلا تقع، ويرفع سبابته مُشهرًا إياها في الهواء، ما جعله يبدو مثل تمثال لفيلسوف إغريقي. علا ملامح الرجل مزيجٌ من الغضب ورباطة الجأش. لم تكن العاملة قد توقفت عن احتجاجها بعد، فكرّر الرجل واثقًا: «أنا دافع فلوس»، ولا أذكر أنه التفت لحظة إلى الشارع، أو أبدى أدنى اكتراث بالتجمهر الصغير. لم نكن موجودين تمامًا، ما أعطانا انطباعًا بأننا نشاهد مسرحية على خشبة أو فيلمًا من وراء شاشة أو شيئًا نراه بمقدار من البُعد. وفي اللحظات التي وقع بصره فيها علينا لاحقًا لم يتغير سلوكه، وعلى الأرجح لم يكن يعتريه شعور بالمهانة، ومع ذلك فقد بدا في حاجة إلينا. لقد بدا بحاجة إلى أن يُرى ويلاحَظ، وأن يتحكم في الطريقة التي نراه بها ونلاحظه.
في هذه الأثناء أقبل علينا من فم الشارع عامل توصيل راكبًا دراجة نارية، وحين اقترب منا أوقف دراجته وترجّل وهو ينظر إلى الهوشة. فكّ رباط الصندوق الخلفي وأخرج أكياسًا ورقية أنيقة. مدّ يده بالأكياس إلينا وهو يتفحص شاشة هاتفه. قال متثبّتًا: «ورق عنب؟»، وحين لم يلقَ جوابًا نظر إلى هاتفه من جديد وذكر اسمًا. هززنا رؤوسنا فعاد أدراجه.
ومن حيث خرج الرجل والمرأة المتشاجران هرعت إلى الشارع امرأة أخرى، سرعان ما ميزتُها على أنها مديرة المحل الذي لا بد أنه صالون، وأخذت بذراع العاملة المحتجة تجرها إلى الداخل. أخذت تسحب العاملة كي تجبرها على الدخول إلى الصالون، ولكن العاملة ثبتت قدميها وحرنت. كأنها أرادت أن تقول بيانها في الشارع، على رؤوس الأشهاد الذين هم نحن. قالت العاملة إن الرجل طلب منها أن تقف فوق جسده بحذاء عالي الكعب، وهي لا تفعل ذلك. والرجل لم يفهم سبب اعتراضها. تخلى عن حجّة الفلوس وقال إنه لم يطلب أن يقف هو فوق جسدها، وإنما أن تقف هي فوق جسده وتمشي. وتخيّلتُه بالفعل بكعب عال يمسّج ظهر العاملة. هو يرهص ظهرها العاري ويفرد ذراعيه مُحاذرًا أن يقع، وهي تئن لذة أو ألمًا أو كليهما.
شرع فواز يحلل شخصية الرجل بما توفر له من معلومات. قال إنه يرجّح أن يكون هذا الرجل شخصية مهمة أو بارزة حتى، تأتي في غفلة من المدينة إلى الصالون لتتمتع بوخز مسامير الكعب، وتجرِّب اللذة والألم مجتمعَين. لدى الرجل خيالات تتعلق بالهيمنة، يجسِّدها بخضوعه، بانبطاحه عاريًا مكشوفًا بينما يطأ أحدهم، بالأحرى، تطأ إحداهن ظهره العاري بكعبها الحاد. ويجد في الاستسلام وإنزال المسؤولية وقلب الأدوار اليومية راحة فريدة، حيث يتنازل مؤقتًا عن سلطته لصالح طقس من الإشباع الخاص، فيه الألم البدني والخضوع النفسي والإذلال المقنّن، وهكذا يتعافى على ما يبدو من سموم المدينة والعمل والأسرة التي لا تنتهي عند حد.
راغت المديرة إلى الصالون واختفت في العتمة، لكنها ما لبثت أن عادت وهي تمسك بزوج حذاء يتدلى من بين أصابعها. ناولت العاملة الحذاء فوضعته الأخيرة على الأرض ثم اتكأت على الجدار ثم انحنت قليلًا وشرعت ترتديه. أخذت العاملة تُدخل قدمها وهي تدمدم كلامًا غير مفهوم. أما الرجل فاتكأ على الجدار وهو ما يزال ممسكًا بالمنشفة من عند خصره. وأخذ يفتش عبثًا في إزاره المرتجل، يتحسسه بحثًا عن دخان وقداحة. ثم تقدم إلينا وطلب من عبد الله سيجارة، ثم بعد السيجارة قداحة. رماها عبد الله في الهواء وحين التقطها الرجل كاد أن يفلت المنشفة. وآنذاك دخلت العاملة الغاضبة، ثم المديرة، ثم تلاهما الزبون الذي رمى سيجارته مشتعلة. وسمعنا المديرة تقول لنا وهي تغلق باب المحلّ: «يلّا انصرفوا»، ثم سمعناها تقول للرجل شيئًا عن التأمين. وعجبنا لكفاءتها في إدارة الفضيحة، أو بالأحرى في الحيلولة دون أن تقع. وبانتهاء الفرجة اكتسح الشارعَ ضوء الشمس، مثلما تنتشر أضواء مسرح بعد العرض.
فيما بعد قصصت حادثة المساج هذه على شيماء، وأخبرتها أن هذا المشهد سيكون جزءًا من قصة قصيرة أخطط لكتابتها. ومع الوقت انشغلتُ وتأخر الموضوع كثيرًا. لم أنشغل بالضبط، ولكن المشهد لم يطوِّر جذورًا من حوله. القصص التي أكتبها عادة ما تبدأ بهذه الكيفية. تكون في البداية مشاهد سردية مفردة، ومع التفكير فيها بما يكفي من الوقت تنمو لها جذور في كل اتجاه، أو في اتجاهات معينة، مثلما تنمو جذور بذرة في اتجاه الأرض وبراعمها في اتجاه الضوء. وهذا ما لم يحصل مع حادثة مساج حذاء الكعب. ظلت شيماء تطالبني بإكمال القصة وتحثني على تطويرها وأنا أقول: طيِّب طيِّب. لكني لم أحرز تقدمًا… إلى أن جاء دونلد ترامب إلى الرياض.

ترامب يزور الرياض

زار الرئيس الأمريكي الرياض أولًا، كما فعل في فترته الرئاسية الأولى. في هذه المرة ارتدى ربطة عنق أرجوانية بلون الخزامى الذي يتلون به سجاد المراسم. وسواء كان ذلك مقصودًا أم مصادفة فقد فرح الناس بهذا الاختيار الدبلوماسي وامتلأت صدورهم فخرًا. في يوم استقباله لم يذهب التلاميذ إلى المدارس، وقعد أغلب سكان المدينة في بيوتهم، إما لأنهم أخذوا إجازة من تلقاء أنفسهم لتفادي الزحام، وإما لأنهم أُجبروا على العمل عن بُعد.
وفي ذلك اليوم أيضًا انتشر فيديو للموكب المهيب لرئيس أكبر دولة في العالم في ظهيرة الرياض، يُظهر لوحة إعلانية على أحد الجسور لمطعم الرومانسية. كان الإعلان عن حملة للتوصيل المنزلي بخمسة ريالات. عندما ظهر الفيديو، والحملة الدعائية التي بُنيت عليه، لم يتذكر الناس متى كانت آخر مرة اشتروا فيها من المطعم القديم. فالمطعم قد أفل نجمه وخرج من الموضة سريعة التبدُّل. ولكن بفضل هذه الحادثة أصبح المطعم «ترند» في الحال. لقد تلقَّف فريق الإعلان في المطعم هذه المصادفة وحلبها في وسائل التواصل الاجتماعي مستغلًا عبادة الناس للصورة. وحدث واقعٌ منشؤه الصورة بالكامل، واقع استهلاكي صار الجميع جزءًا منه. وعلى الأرض أُغلقت مداخل طريق الملك سلمان، الذي هو طريق المطار أيضًا، فحُبسنا في الشمال. وكلما مرَّ موكب ضعُف إرسال الشبكة حتى انقطع تمامًا. كما مُنعت دراجات توصيل الطلبات النارية من السير في الطرق التي تمر بها المواكب الدبلوماسية وتلك المُفضية إليها.
ثم حدثت الفوضى. زادت طلبات الناس من المطعم وزاد الضغط على تطبيقات الشراء. وعمَّال التوصيل الذين طالما رأيتهم يقيلون في ظلال أشجار الحدائق والمحلات قيد الإنشاء، أرسلتهم الزيارة الرئاسية في القيظ يجوبون الشوارع المتاح لهم التحرك فيها، فكانوا يُرون متدرّعين بخوذات الجماجم والملابس الواقية التي لا بدّ أنها تشويهم في الظهيرة. وجعلني الوضع أتذكر فيلم الرسوم المتحركة الياباني «خدمة توصيل كيكي» لهاياو ميازاكي، حيث تطوف كيكي فوق مباني المدينة وطرقها وجسورها لتوصل طلبات العملاء بمكنستها الطائرة.
اختلطت طلبات الزبائن في تطبيقات التوصيل ببعضها. امتلأت سلال التسوق الافتراضية في حسابات المستخدمين بأشياء لم يطلبوها. خُصمت مبالغ من أرصدتهم البنكية وأجريت عمليات مالية لم يعتمدوها. لقد جاع كثير من الناس، وطالب أكثرهم باسترداد فلوسه بغضّ النظر عما إذا كان الطعام في الطريق. تفجر الوضع متجاوزًا صبرهم وقدرتهم على الاحتمال، وشعر بعضهم أنه استُدرج إلى كمين أو مؤامرة كونية فاشتكى وتذمَّر في السوشل ميديا مُشرِكًا حسابات المطعم في شكواه. وصعَّد جزءٌ منهم الشكاوى إلى الجهات التي اعتقدوا أنها ذات اختصاص، حتى الدوائر التي لا علاقة لها بالموضوع لا من قريب ولا من بعيد نالها نصيب من الشكاوى الغاضبة، فصار عليها أن تردّ وتصدر بيانات تشرح موقفها فيها وتتنصل من المسؤولية.

***

بعد إغلاق مقهى كرمز المفاجئ تفرّق شملُ كثيرين. وتساءلتُ عمّ أصنع بالقصة التي كنت أكتبها عنه. وكأن القصة لن يكون لها معنى لو أغلق المكان. أعلنت حسابات المقهى في السوشل ميديا الخبرَ من دون ذكر السبب، وذكّرت المتابعين بأن فرعًا آخر ما يزال مفتوحًا يستقبل زبائن المقهى الأوفياء الذين يرغبون في مواصلة الرحلة. قلنا إن السبب غالبًا رفع الإيجار. وندمنا على تقاعسنا في دعم المقهى. أنا ندمت على إحضاري قوارير الماء من البيت بدلًا عن شرائها من المقهى. ربما كان سيصمد فترة أطول. وقالت شيماء هكذا هم المبدعون، لا يأتي من ورائهم إلا الفقر.
يقع المقهى في طابقين. تتوسط الطابق الأرضي طاولة بلياردو لم أشاهد أحدًا يلعب عليها قط، بل لم أرَ كُراتها، ربما لأن وجودها لا يتناسب مع طبيعة زبائن المقهى. إذ كان المقهى ملتقى للكرييتڤز، يبقون فيه ٢٤ ساعة. وحتى الذين لا يكونون موجودين فإنك تسمع أسماءهم عرَضًا في الأحاديث الدائرة في المقهى. وحين تكون هناك مواعيد تسليم مهمة، مثلما يحدث في مواسم التقديم على المنح أو مهرجانات الأفلام، فإنك تراهم يسارعون إلى إكمال مشاريعهم في آخر رمق وإرسالها. وقد يحدث أن يتساعد المقدّمون في جوٍّ تعاوني لا مثيل له.

وفي الصباح، حين يكون الوضع أهدأ، تجدهم مدفونين في الكنبات في العتمة. يغافلون العامل لكي يدخنوا الڤيب، يمزون مزات قصيرة متعاقبة وينفخون الدخان من وراء أكتافهم لئلا يراهم عاملٌ يجلس وراء منضدة يعطيه الجالسون في الطابق العلوي فواتيرهم، فيُحضر لهم طلباتهم إذا أرسلها المصعد إلى فوق. فور أن ينتهي المبدعون من كتابة الفصول أو المشاهد أو أيًّا كان ما يعملون على إنجازه، يقومون ثم يتمطّون قليلًا وتظهر ثيابهم المكرمشة مطويةً آلاف الطيات. يمشون على امتداد طريق أبي بكر الصديق قليلًا أو كثيرًا. ثم يدخلون إلى الحيّ، إلى اليمين كما فعلنا يوم رأينا رجل المساج صاحب النزوة الغريبة.
مرة قابلت شيماء في ركن الطابق العلوي من المقهى، قبل أن يقفل بالطبع. كنت أراها وأنا أصعد الدرج فتبينُ لي شيئًا فشيئًا من الركن المعتم. ما تواعدنا في مكان وجئت قبلها. ودائمًا ما كانت تؤنبني على هذا وتعتبره مؤشرًا على أني لا أحبها، وكنت لا أجادل، فأنا صديقها لا أكثر. حين انضممت إليها حطت قبعتي على قبعتها بعد أن وضعتُها على الطاولة، وقالت هذا لأننا لا نستطيع أن نفعل مثلما تفعل القبعتان. لم أقل شيئًا، وفعلتُ ما جعلها تزيد: «لِمَ تتقنفذ هكذا؟» وكم كان دقيقًا وصفُها، فأنا أتقنفذ وهذه طريقتي في مواجهة ما تأتي به الحياة. لا أعرف ما إذا كنت أستمد سلوكي من الحيوان أو أني أعبر عن نفسي من خلاله. فقد عشت طفولتي قريبًا من الطبيعة، عشتها في مملكة الحيوان تقريبًا. ولا عجب أن أقضي وقتًا كافيًا في التفكّر في سلوك الحيوان وتأمله. وطالما أعجبني القنفذ، فحين يدبّ يكون أنفع الدواب، فهو لا يدع سامة إلا ويأكلها. يتناول الأفعى من وسطها، يطبق فمه عليها وتظل تضرب نفسها، تخبطها على ظهره المشوَّك حتى تكلّ وتظل تتلوى وهي حسيرة إلى أن تخمد نهائيًا. لكن القنفذ يعجبني أكثر ما يعجبني في تماسكه وصموده في وجه التحديات، إذ يتدرع وينغلق مثل ثمرة شوكية. وفي أكثر من مرة رأيت القطط والكلاب تدحرجه بمخالبها حائرة في كيفية التعامل مع كرة الشوك المحصنة تلك.
وكثيرًا ما أمسكت القنفذ بيديَّ في ضوء القمر ليلًا وحملته بين راحتيَّ الصغيرتين. يستمر منكمشًا، وبعد مرور دقائق يتخلى عن شكّه فيفكّ نفسه رويدًا رويدًا فيُظهر خطمه البارد أولًا ثم أذنيه وباقي رأسه. وحين يستأمن تمامًا يُظهر بطنه، منطقة رخوة بيضاء ما إن ألمسها حتى ينكمش نصف انكماشة ويعود مطمئنًا للانكشاف من جديد.
لكن نقطة ضعف القنفذ، وهو ما يحبطني فعلًا، أنه يهبها مجّانًا، وبطريقة تجلب الحسرة، إلى طائر حقير سيئ الذكر. إنه يقضي عمره في صون نفسه إلى أن يرى طائر الرخمة فيستسلم. يستلقي على قَرَا ظهره، كاشفًا مناطقه الرخوة البيضاء مفتوحة في العراء في تسليم تام. ينقضّ الجارح على القنفذ ويغرس مخلبه في تلك المنطقة ويرتفع بها إلى السماء بحثًا عن مكان يمزقها فيه. وهذا الطبع، الاستسلام القدري، رأيته أيضًا في الحمار. إنه ما إن يرى الضبع أو يسمع حسّها تخور قواه ولا تعود أقدامه تقوى على حمله، ينهدّ مثل خرقة مبلّلة. ولا يستلزم الأمور حضور الضبع بنفسه فالحمار أيضًا لا يقوى على حمل بردعة مصنوعة من جلد الضبع. يشمّها فينهار متذكرًا العِداء القديم. لكني لا أشبه الحمار في شيء. أنا، كما وصفتني شيماء، مثل القنفذ. أفضّل أن أظل منكمشًا على أن تظهر منطقتي الرخوة البيضاء أمام أحد.
تعرف شيماء كثيرًا عن سلوك الإنسان، فهي تستمد معرفتها من علم النفس والأبراج وعلوم مركز الطاقة أو الشاكْرا، وتنتقل بين هذه المعارف بخفة، وتستطيع تفسير سلوك الإنسان بكلّ منها بلا تعارض. وشيماء لا تحبني. أظن أني أُعجبها فحسب. لكنها دائمًا ما تبتزني بتلك الملاحظات والتعليقات الحميمية. وحين وضعتْ في المقهى قبعتها فوق قبعتي وقالت لأننا لا يمكن أن نفعل هذا لا بد أنها تقصد بالضبط لأن ما بيننا لا يسمح بهذا. لكنه يسمح بأشياء أخرى. فقد أسرَّت لي اليوم أن شعرها يتساقط وأظافرها تتقصف ووجهها يتنفخ. لم ألاحظ شيئًا من هذا، فأنا ضعيف الملاحظة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالبنات. ذات مرة أجرت شيماء عملية ليزك في عينيها واستغنت عن النظارة الطبية ولم أتنبَّه إطلاقًا إلى تغيير يفترض أن يكون واضحًا مثل هذا. تقابلنا وتحدثتْ كثيرًا ذلك اليوم وكانت تُكثر النظر إليَّ، وحين خرجنا بالسيارة لنأكل شيئًا قالت: «ما لاحظتَ شيئا؟»، قلت: «لا»، قالت: «ركّز»، وزاد هذا الطين بلّة، إذ جعلني أعصر دماغي وأنا أكره أن أستعمل دماغي تحت ضغط الوقت لأن النتيجة دائمًا ما تكون عكسية. أخيرًا قلت: «غششيني»، فقالت: «عيوني»، وإن كنتم تحسبون أن هذا ساعدني فأنتم مخطئون. لقد خاب كلّ أمل في أن ألاحظ عينيها المجردتين، فضلًا عن أن أتغزل بهما. وكل ما يمكن أن أقوله في ذلك الموقف البائخ سيكون باهتًا وفاترًا مثل الطعام البائت. ولذا فحين تقول إن شعرها يتساقط وأظافرها تتكسر فليس لي بالطبع إلا أن أصدّقها.
وحين يحدث لها ما يحدث الآن تستخدم تطبيقًا يقدم خدمات رعاية ورفاهية نفسية. أرتني التطبيق يومًا، ورأيت أن فيه حزمًا غريبة للموظفين لا أدري كيف يستفيدون منها. وتخيلت موظفي شركةٍ ما يُساقون إلى مكان واحد للرعاية النفسية. وربما توزع عليهم اشتراكات في التطبيق على شكل حوافز أو هدايا. لم أستخدم التطبيق من قبل، ولكني عرفته من شيماء وفواز، فهما يتبادلان المعالجين النفسيين فيه حتى لقد جرّبا كل المعالجين. ويعرف فواز المعالج الذي تجربه شيماء كما تعرفه هي، والعكس صحيح. وحين يسأل أحدهما الآخر عن اسم جديد يكون أول سؤال: «يصرف وصفة؟»، فهما خبيران في التعامل مع جلسات التشخيص ويقدمان فيها الإجابات التي تؤدي إلى الوصفة فحسب. وليس بمستبعدٍ أن يعرف أحدهما أكثر مما يعرف بعض الممارسين في المجال.

***

في يوم المطعم الشهير كنا معُا، أنا وفواز وشيماء، أما عبد الله فكان في ساجر. كنّا قد طلبنا من المطعم نفسه استجابة للعرض الرئاسي السخي. أجرى فواز الطلب من حسابه فور أن وصلنا إلى حديقة تتوسط مجتمعًا مسوّرًا وتحمل في اسمها «التلال»، ولا أدري عن أي تلال يتحدثون. حين فرشنا بساطنا في الحديقة تذكرت شيماء أن لديها موعدًا لجلسة علاج نفسي في التطبيق. قامت تمشي وكانت تظلل شاشة الجوال بيدها كيما ترى وباليد الأخرى تنقر الشاشة. وكانت حين تطبع شيئًا على الشاشة نسمع نقر أظافرها الذي يشبه صوت نقر طير. لم تتوقف عن الحركة إلا حين وصلت إلى شجرة في ركن النجيلة وأصبحت في ظلها. من البساط الذي فرشته على الأرض رأيناها أنا وفواز تضع السماعات في أذنها وتكسر بيدها ما يبس من الغصينات وهي تتكلم وتومئ بعصبية في الظل. وحين تقع بقع ضوء الشمس عليها يبدو كأن يدها تضيء. وتذكرت قصة المساج ذلك الضحى، وعجبتُ كيف يتصرف الناس وفق أنساق خفية تتكرر وغالبًا ما تفوت على انتباهنا.
وكان علينا أن ننتظر وصول الغداء نصف ساعة إضافية ثم ربع ساعة أخرى. كان فواز قد تركني بمفردي بعد أن نهض من على البساط وسمَّر عينيه في شاشة الجوال يتتبع مركبة التوصيل وهي تدبّ في شوارع الرياض مثل نملة، أو مثل جلطة صغيرة في وريد. وكلما التفتُّ إليه وجده ابتعد أكثر حتى خرج من الحديقة إلى كشك البوابة عند مخرج المجمَّع وكأنه بهذا سيحلّ المشكلة. أظن أنه أراد أن يقوم بكل شيء ممكن، حتى إني رأيته يلتف بجذعه وهو يمشي، كأنه يحاكي حركة مركبة التوصيل في المرور. أما أنا فأعرف أن في الشمال عليك أن تتحلى بالصبر وأنت تنتظر مزيدًا من الأشياء أن تُفتتح، المطاعم المحلية والسوبرماركتات الكبيرة ومراكز التسوق وبعض الخدمات. ولذا يفرح المرء إذا ما افتُتح شيء جديد كل شهر أو شهرين، فافتتاح مزيد من الأشياء يجعل سكان الشمال يشعرون أنهم في قلب المدينة لا طرفها، ولذلك يقابلون تلك المناسبات باحتفاء مبالغ فيه. وكثيرا ما ينعكس هذا على المحلات نفسها فتعمد إلى المبالغة في الاحتفال.
لما عادت شيماء ألقت الهاتف على البساط وهي واقفة ثم ما لبثت أن ارتمت وراءه مُطلِقة نخرة عالية. بعد أن جلست قالت: «الغداء ما وصل؟»، ولمّا لم أجب سألت: «أين فواز؟»، أجبت عن السؤال الأول قائلًا: «خرج إلى الشارع العام»، فالتفتت إليَّ وقالت: «تريد جلسة؟»، وخمنتُ بالفعل أنها تقصد جلسة علاج نفسي لكني نظرت إليها مستفهمًا. وعندئذ التقطتْ هاتفها من جديد وقالت: «تجيك رسالة على رقمك»، لقد حصلتْ، نظرًا إلى عدد المرات التي استخدمت فيها خدمات التطبيق، على جلسة مجانية تهديها إلى صديق. وقبل أن يعود إلينا فواز بالغداء سمعتُ هاتفي يهتز. وتذكرتُ أنّي مثل نبتة لا تحبّ إلا أن تنمو في الظل أو قنفذ ينتظر أن يُحمَل بين راحتين صغيرتين حتى ينفتح. ثم قلت لنفسي إنها ستكون جلسة وحيدة. ومع أن شيماء استحقت الجلسة بسبب عدد مرات استخدامها التطبيق، فقد طاب لي أن أفكر أنها استحقتها بسبب زيارة ترامب، وأنا لن أفوّت غنيمة الرئيس.

علي المجنوني

علي المجنوني علي المجنوني كاتب ومترجم وناقد من السعودية. صدرت له مجموعتان قصصيتان هما «طاولة الحزن» و «لقمة وأموت» إضافة إلى رواية للطفل بعنوان «إجازة للشمس». ترجم إلى العربية روايات وقصصًا قصيرة من الإنجليزية، منها «زنج» و«أنشودة المقهى الحزين» و«راگتايم». وهو باحث في الأدب المقارن والدراسات الثقافية، نشر كتاباته عن الأدب والسينما والفنون البصرية في منصات مثل «مدونة ختم السلطان» و«ثمانية» و«معنى».

Join Our Community

TMR exists thanks to its readers and supporters. By sharing our stories and celebrating cultural pluralism, we aim to counter racism, xenophobia, and exclusion with knowledge, empathy, and artistic expression.

مواضيع مشابهة

Arabic

قصة قصيرة لعلي المجنوني: جلسة علاج نفسي مجانية بمناسبة زيارة الرئيس

6 OCTOBER 2025 • By علي المجنوني
قصة قصيرة لعلي المجنوني: جلسة علاج نفسي مجانية بمناسبة زيارة الرئيس
Arabic

قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: هذه ليست قصة عن جورج وسوف

29 SEPTEMBER 2025 • By محمد عبد الجواد
قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: هذه ليست قصة عن جورج وسوف
Arabic

قصة قصيرة لحسين فوزي: باللمبة النيون قام

8 SEPTEMBER 2025 • By حسين فوزي
قصة قصيرة لحسين فوزي: باللمبة النيون قام
Literature

قصة قصيرة لمحمود سليمان: على الرغم من كونه بلطيًا…

25 AUGUST 2025 • By محمود سليمان
قصة قصيرة لمحمود سليمان: على الرغم من كونه بلطيًا…
Arabic

قصة قصيرة لمحمد النعاس: سن الحمامة الذهبية

25 AUGUST 2025 • By محمد النعاس
قصة قصيرة لمحمد النعاس: سن الحمامة الذهبية
Fiction

قصة قصيرة لبدار سالم: نونينال-2

18 AUGUST 2025 • By Badar Salem
قصة قصيرة لبدار سالم: نونينال-2
Arabic

قصة قصيرة لهدى الوليلي: قطارات فائتة

11 AUGUST 2025 • By هدى الوليلي
قصة قصيرة لهدى الوليلي: قطارات فائتة
Literature

قصة قصيرة لنسرين خليل: تسعة أرواح

4 AUGUST 2025 • By نسرين خليل
قصة قصيرة لنسرين خليل: تسعة أرواح
Literature

قصة قصيرة لآلاء عبد الوهاب: تلك العين البعيدة جدًا

28 JULY 2025 • By آلاء عبد الوهاب
قصة قصيرة لآلاء عبد الوهاب: تلك العين البعيدة جدًا
Arabic

قصة قصيرة لمروان عبد السلام: دمية الإله

28 JULY 2025 • By مروان عبد السلام
قصة قصيرة لمروان عبد السلام: دمية الإله
Arabic

قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: عمرو دياب لا يأكل ماكدونالدز

21 JULY 2025 • By محمد عبد الجواد
قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: عمرو دياب لا يأكل ماكدونالدز
Arabic

قصة قصيرة لهبة عبد العليم: قبيل النهاية بقليل

21 JULY 2025 • By هبة عبد العليم
قصة قصيرة لهبة عبد العليم: قبيل النهاية بقليل
Arabic

قصة قصيرة لسميرة عزام: أسباب جديدة

14 JULY 2025 • By سميرة عزام
قصة قصيرة لسميرة عزام: أسباب جديدة
Arabic

قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كازانوفا بلا أجنحة

14 JULY 2025 • By أحمد الفخراني
قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كازانوفا بلا أجنحة
Arabic

قصة قصيرة لمي المغربي: النوم أمام قهوة الجمهورية

30 JUNE 2025 • By مي المغربي
قصة قصيرة لمي المغربي: النوم أمام قهوة الجمهورية
Arabic

قصة قصيرة لإيمان اليوسف: القلب الزجاج، القلب الهواء

23 JUNE 2025 • By إيمان اليوسف
قصة قصيرة لإيمان اليوسف: القلب الزجاج، القلب الهواء
Arabic

قصة قصيرة لمحمد فطومي: الدور

16 JUNE 2025 • By محمد فطومي
قصة قصيرة لمحمد فطومي: الدور
Arabic

قصة قصيرة لإيمان عبد الرحيم: فصام

9 JUNE 2025 • By إيمان عبد الرحيم
قصة قصيرة لإيمان عبد الرحيم: فصام
Arabic

قصة قصيرة لإيمان اليوسف: تثغى

2 JUNE 2025 • By إيمان اليوسف
قصة قصيرة لإيمان اليوسف: تثغى
Arabic

قصة قصيرة لوجدي الكومي: نظر طلب لجوء سيد الفلك

2 JUNE 2025 • By وجدي الكومي
قصة قصيرة لوجدي الكومي: نظر طلب لجوء سيد الفلك
Arabic

قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كغيمة مرت

12 MAY 2025 • By أحمد الفخراني
قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كغيمة مرت
Arabic

قصة قصيرة لكريم عبد الخالق: كابوري يا روبي

12 MAY 2025 • By كريم عبد الخالق
قصة قصيرة لكريم عبد الخالق: كابوري يا روبي
Arabic

قصة قصيرة لفادي زغموت: اختياراتي مدمرة حياتي

17 MARCH 2025 • By فادي زغموت
قصة قصيرة لفادي زغموت: اختياراتي مدمرة حياتي
Arabic

ثلاث قصص قصيرة للكاتبة العمانية ليلى عبد الله

17 FEBRUARY 2025 • By ليلى عبد الله
ثلاث قصص قصيرة للكاتبة العمانية ليلى عبد الله
Arabic

تلويحة للسماء

10 FEBRUARY 2025 • By نهلة كرم
تلويحة للسماء
Arabic

ليل حيفا الطويل

10 FEBRUARY 2025 • By مجد كيال
ليل حيفا الطويل
Arabic

ممكن نتواصل مع حضرتك؟

20 JANUARY 2025 • By مي المغربي
ممكن نتواصل مع حضرتك؟
Arabic

حديد في الهواء

20 JANUARY 2025 • By علي المجنوني
حديد في الهواء
Arabic

قصة قصيرة لكارولين كامل: مرجانة

23 DECEMBER 2024 • By كارولين كامل
قصة قصيرة لكارولين كامل: مرجانة
Arabic

قصة قصيرة لضياء الجبيلي: الدمية ذات الوشاح الأرجواني

11 NOVEMBER 2024 • By ضياء الجبيلي
قصة قصيرة لضياء الجبيلي: الدمية ذات الوشاح الأرجواني
Arabic

قصة قصيرة لنورا ناجي: يقين

11 NOVEMBER 2024 • By نورا ناجي
قصة قصيرة لنورا ناجي: يقين
Arabic

قصة قصيرة لعبد الله ناصر: شارب فريدا كالو

11 NOVEMBER 2024 • By عبد الله ناصر
قصة قصيرة لعبد الله ناصر: شارب فريدا كالو
TMR Bil Arabi

قصة قصيرة لأحمد وائل: ولو في الصين

4 NOVEMBER 2024 • By أحمد وائل
قصة قصيرة لأحمد وائل: ولو في الصين

اكتب تعليقًا

لن ننشر الإيميل الخاص بك، الرجاء ملء إضافة جميع المعلومات المطلوبة

eleven − 6 =

Scroll to Top