
عن عامل بناء مشغول بعالمه، يكتب محمود سليمان ناقلًا لنا تفاصيل عالم بلطي، المهووس بالزمالك وبإثبات وجوده في هذا العالم.
محمود سليمان
– خمسة بوكس وتلت مجلات.. واديني علبة ميريت فاضية لو عندك.
– آمين.. معاك كدا أربعة وستين باقي المية.
أمام الكشك المنزوي خلف سور محطة مترو الملك صالح، يقف بلطي ليشتري خمس سجائر بوكس فرط والمجلات الثلاث الخاصة بأخبار نادي الزمالك؛ الزمالك اليوم وزمالكاوي ومجلة الزمالك الرسمية، وهي عادة حافظ عليها لأكثر من ثلاثين سنة، حتى بعد ظهور صفحات الفيسبوك والأخبار السريعة القصيرة لآخر مستجدات النوادي على تيك توك، لأنه – كما أخبر الأسطى عربي الأحمر آلاف المرات – يجد متعة غير قابلة للشرح في قراءتها أثناء شرب شاي الفطار في كل مواقع الشغل التي يذهب إليها.
يعمل بلطي عجَّان مساعد لمبيضيّ المحارة، لأنه ومنذ خلق الله أظافره المتسخة، لم يعرف صنعة غير تلك، وسيعتبرها الورث الوحيد الذي جناه من والده الحاج فاروق، حتى بعد الحادثة التي أصابت قدمه اليسرى بعرجة خفيفة، ليترك بعدها لعب الكرة خلف ساحة جامع عمرو بن العاص، ويتخلى عن حلمه في أن يصير شيكابالا جديدًا، ليظل مواظبًا طوال حياته على شغل المعمار وتشجيع الزمالك واختلاس نظرات نارية لجسد الست لمياء جارته.
يعبر بلطي نفق الصالح على قدميه، وعند مدخل المنيل سيقف عند السور المطل على النيل ويخطف نظرات إعجاب معتادة نحو العيال الذين يعومون في الأسفل، وبعدها سيشير إلى أحدهم، وينط في أي ميكروباص عابرًا من كوبري عباس للجيزة، ومن هناك يركب ميكروباصات أكتوبر حيث يعمل مع الأسطى عربي في فيلا ضخمة، يصفها بلطي بأنها أكبر من كل بيوت شارع السكر والليمون.
يسمّي الله، ثم يبدأ يومه بتشغيل أغنية «بقولك إيه بلاش كده.. هاتلف ليه وتدور كده» لمطربته المفضلة سيدة غريب، في الهاند فري، ومن وراء الشباك الزجاجي للميكروباص يبدأ في تسول رؤية منحنيات أجساد الستات من حوله، عله يحفظ تقاطيع مؤخرة مثالية أو صدر طري ليتذكره قبل النوم، وفي نهاية الطريق وقبل النزول مباشرة، تهجم على باله الرائق الفكرتان المكررتان نفسيهما؛ الأولى أنه يكره مهنة العجان ولن يصبح صنايعيًا مهما انحنى ظهره، والثانية أنه يكره عربي الأحمر بشدة.
– ما تحاسب يا عم.. خبطتني.
– ما تلمي كتفك يا أستاذة طيب.. مش عارف أنزل.
يرمي بلطي الجملة بعد فعلته المتعمدة، ويستدير مشعلًا سيجارة، ثم يضطر للمشي خمس دقائق كاملة في التراب الأصفر الذي يحيط بالكومباوند، وعند البوابة يقابل الأسطى عربي الأحمر بجسده الضئيل وقميصه الأخضر وشنبه الذي يقترب من كثافة شنب الفنان حسن الهلالي، ممسكًا هو الآخر بسيجارة بوكس، ثم يتركان بطاقتهما الشخصية ويدخلان.
– عندنا إيه النهاردة يا أسطى؟
– ياض متقاطعش.. مبحبش المقاطعة في الشغل.
نفس الردود المعتادة من الأسطى عربي، بأسنان أكلها هباب السجائر، ويد تصلبت من مسكة البروة(1).
– مش قولتلك ميت مرة.. إن والمصحف نفس الأخبار الموجودة هنا.. هي نفس الأخبار الموجودة هنا.. هي هي نفس الأخبار الموجودة هنا؟
على الرغم من كون الأسطى عربي زمالكاويًا، فهو فاقد الأمل في فريقه منذ هدف التعادل الذي سجله أبو تريكة في نهائي كأس مصر 2007، وهي الصدمة التي لوثت عقل ابنه البكري محمود وجعلته يهذي لسنوات دون أن يجد له حلًا عند طبيب وشيخ وقسيس، وظل الابن هكذا حتى تعافى تدريجيًا على قدم أيمن حفني وباسم مرسي ومصطفى فتحي، حتى أتى محمد مجدي قفشة وقضى على ما تبقى من عقله في نهائي القرن 2020، ومن وقتها وهو يلف منطقة الجيارة باحثًا عن القدم التي ستسمو وتعيد للزمالك الأمجاد الضائعة، ولذلك كله أصبح الأسطى عربي زمالكاويًا ضالًا متأثرًا بحالة ابنه، لا يكترث بشأن الفريق كثيرًا، ويعيب على بلطي شغفه المبالغ فيه بفريق صار مهلهلًا ماسخًا أقصى ما يمكنه فعله، مداعبة حلمات فرق الدوري المصري والاسترخاء بعدها، أو على حد تعبيره:
– الفريق بقى آخره ي. ي. ي… يدوبك يقدر يبعبص.
يشرد بلطي أثناء حديث الأسطى، ويفكر في أنها نفس الأسباب التي جعلته يتعلق أكثر بالزمالك، تلك الهزائم المتكررة والإحباط الدائم، كركنين أساسيين في حياته، فهو الوحيد الذي لم يتزوج من إخوته الأربعة، ولم ينجح في توفير سكن خاص به، ولا يزال يعيش في شقة العيلة بمنطقة العلواية مع أمه نعناعة التي كلما رأته يمسك موبايله يتصفح مقاطع رقص لورديانا على تيك توك، دعت الله بأن يخلق حازم إمام جديدًا ينقذ الغلبان من أوهامه.
عند مدخل الفيلا يحييان الخفير الغافي على دكة في الهواء الطلق أمام الفيلا، ويدخلان إحدى الغرف لتغيير ملابسهما، سيلاحظ بلطي بعد عدد لا نهائي غيَّر فيها مع الأسطى عربي، أن جسده النحيف أبيض بياضًا باهرًا، رغم اسمرار ذراعيه ووجهه بسبب الشمس، وهو البياض الذي لا يليق بأسطى محارة ولد في شارع أبي سيفين بالجيارة، وأتى جده نازحًا، في زمن قديم، من سوهاج.
– أنت عندك أصل إيطالي يا أسطى؟
-آه جدتي زكية جت م اليونان عوم.. إيطالي إيه يا ابن المهبوشة!
– وليه برضو سموك أحمر؟.. مع إنك زمالكاوي.
– لاء دي حكاية معرصة إزاي متعرفهاش.. مختصرها إني زمان وأنا عيل.. أخدت شريط كاست أحمر وخبيته في هدومي لما أبويا كان ياخدني صلاة العشا بالعافية.. الشريط ده كان عليه أغنية عيلة تايهة بتاعت عدوية.. وروحت مركب الشريط في التسجيل وقربت ميكروفون الجامع منه.. وعينك ما تشوفه إلا علقة بنت شرموطة.. ومن وقتها سموني عربي الأحمر.
على الرغم من شكل الحدوتة المصمم بدقة، فقد شعر بلطي أن الأسطى عربي يكذب لأنه لم يسمع بها في المنطقة، والأرجح أن عرق بحري قادم من بلاد قبرص مسه، خصوصًا أنه لا يزال يتنطط على السقالات كفرقع لوز ويحمل طواليش(2) المونة الثقيلة، حتى بعد تجاوزه الستين من عمره، ومرَّ بخاطره خالد أخوه التوأم الذي يعمل في جمع الزبالة بقبرص، وتذكر أنه قد نسيهم تمامًا.
– يا بلطي انجز يلا عايزين نحضر للشغل.
وبعد فطار الفول والطعمية وشرب الشاي أثناء قراءة المجلات المليئة بمانشيتات حراقة عن مباراة القمة مع الأهلي الليلة، يتهيأ الاثنان لتوضيب شغلهما في الصالة وعمل صندوق مونة كافٍ لتبييض حوائطها الكبيرة.
– بص.. الأول عايزين ننقل الكراكيب دي.. عشان نوسع لنفسنا.
يتأفف بلطي لكرهه نقل أي أغراض منزلية مركونة بسبب انتشار النمل والبق بداخلها، وهو الذي يرتعب من البق ويجري بعيدًا إذا رأى واحدة. اعتادت الدكتورة صاحبة الفيلا نقل الكراكيب القديمة من مسكنها إلى هنا، تمهيدًا لفحصها وبيعها، فتراكمت حتى أصبحت كتلة كبيرة تعيق السير في الفيلا. أسطوانات قديمة، غسالة نصف أوتوماتيك قديمة، لعبة طاولة بقطع ذهبية وفضية اللون – سيفكر الأسطى عربي فيما بعد بسرقتها – وسفرة صغيرة، ونيش جوازها القديم، ومراتب قطن، ومشغل شرائط فيديو، ومراوح سقف واستاند، وتلفزيون باناسونيك قديم 42 بوصة إصدار 2000 وزنه يتعدى المليون طن.
– وحياة أمك لو الزمالك خسر النهاردة ومجتش الشغل بكره لازعلك يا بلطي.. شُغل ابطل يوم بعد ما الزمالك يخسر ده فكك منه.
ينفلت سباب خافت من فم بلطي تجاه الأسطى أثناء نقل كراسي فشخ ترابها عينيه، فكح وشخر وأصدر أصوات مؤخراتية إثر أكلة الفول الصباحية الثقيلة.
– سبيني والنبي يا أسطى عربي في اللي أنا فيه.. مستحيل الزمالك يخسر.. ده ماتش الدوري يا باشا.
يضحك الأسطى حتى تدمع عيناه، ويتكلم عبر سحابة دخان السيجارة البوكس:
– ما هو لو انت مركز في الصنعة كدا زي الدوري.. كان زمانك بقيت صنايعي زي أبوك الحاج فاروق الله يرحمه.
ينزل بلطي من فوق ظهره ترابيزة بلياردو صغيرة للأطفال، ويبتسم ابتسامة جوكرية بوجه ملأته الأتربة السوداء والبيضاء والبنية، ويعلق بشخرة صغيرة:
– أهو إلا أبويا يا أسطى عربي والنبي بقى.
يدخل الاثنان في وصلة شخير ضاحك، رافسين بقدميهما الأرض، بعدها يذهب الأسطى للتعليق على الشاي في الكاتل، ويشغل بلطي «يا دي النعيم اللي إنت فيه» لجورج وسوف، ثم يكمل نقل الكراكيب، حتى يتعثر في ذلك الشئ الوهمي ذي الملمس المعدني الناعم، تبهره الدقة المتناهية في تفاصيله، الزخرفات والنقوش المرسومة بلغة غير مفهومة، وبعد أن يمسحه بكف يده، يتعجب من ذلك النور المشع الذي ينعكس من جسمه الذهبي، النور الذي اخترق دماغه وشتتها، ها.. ها هو فعلًا.. مصباح علاء الدين الذي رآه على الشاشات فقط، في حجم حمامة بالغة، كأنه الحقيقي والله، كأنك لو دعكته كما تدعك قضيبك في الليل، سينتفض عفريته وتحقق كل أحلامك المؤجلة، يهمس بلطي. ينظر حوله متأكدًا من خلو الصالة من الأسطى وشبح الخفير، ومسرعًا سيخفيه في منطقة آمنة بعيدًا عن العيون، ويكمل نقل الكراكيب وكأن شيئًا لم يكن.
يا قلبيييي من بعد العذاب
كان لك حبيب تشتاق إليه
واتردلك بعد الغييييياب
ظل بلطي طوال اليوم يفكر في طريقة جهنمية لإخفاء المصباح عن أعين الأسطى والخفير، والخروج به سالمًا غانمًا من بوابة الكومباوند دون لفت نظر الأمن، يفكر في الذهاب بعيدًا به متحججًا بشخة ثقيلة طارئة وتهريبه من فوق السور، لكن الكاميرات في كل مكان، وهكذا سيضخم الفعلة بلا مبرر، واتته كل الأفكار الممكنة وغير الممكنة، حتى فكرة حشره داخل ملابسه، ووجد أن كرشه لن يسع لحشر أي شئ بجانبه، إلى أن فاحت فكرة في عقله كما تفوح رائحة المجاري حين تضرب وتسيل على منحدر العلواية، أن يأخذ بعضًا من العدة: طالوش ومسطرين(3) وبروة ومنجفرَّة(4)، ويطمس المصباح تحت كل ذلك، متعللًا بأن هناك شرخ في بيت أمه يحتاج عجينًا من الجبس لمدارته، وهي الفكرة التي لاقت قبولًا متشككًا من الأسطى، على أساس:
– هاتعملي فيها صنايعي ياض.. هاتعيش وتموت عجان مساعد.
نجحت الفكرة بعد أن تعرق بلطي من جسده كله وتسلخ من عند منطقة الفخد، وهو في طريقه للخروج من بوابة الكومباوند، وفي الميكروباص جلس ناسيًا عربي الأحمر وصدور النساء وسجائر البوكس، وانشغل بالمصباح وبكم الأماني الممكنة التي يمكن تحقيقها بدعكه ليلًا، وحده، دون شريك آخر بعيدًا عن عيون ناس الجيارة المتبجحة، وعن النظرات الحزينة لأمه التي يكرهها.
يصل بلطي للمنطقة ومعه سيجارة وحيدة متبقية من غنيمة الصباح، يترك الأسطى دون تحية أو أخذ جزء من يوميته كمصروف، ويمشي بعقل قلق، متحسسًا وشاعرًا أن كل العيون تترصده، رامي القهوجي الذي يدين له بلطي بسبعين جنيهًا، والأسطى سامح الخول متحرش الأطفال، والست لمياء بقميص نومها الفوشيا وجسدها البرميلي، حتى يصل للبيت، ويدخل أوضته – وهي الأوضة الثانية في الشقة التي كان ينام فيها مع إخوته الأربعة – متجاهلًا سؤال نعناعة: «احطلك الغدا يا حبيبي؟». يفض شنطة العدة البلاستيكية ويستخرج المصباح، يظلم الغرفة، يتحسسه ماشيًا بأطراف أصابعه على نقوشه البارزة، ويهمس:
– شغل صنايعي على ميه بيضة ده.
يبدأ مهدهدًا في دعك المصباح ببطء، واحدة واحدة، بشويش، يسرع الرتم أكثر فأكثر، منتظرًا أن يقذف المصباح بالعفريت، ليتمنى أمنيته الوحيدة، المنتقاة بعناية من خلف كل ركام الأماني الذي حوشه عبر السنين، يتعرق فيمسح بيده اليسرى مقدمة رأسه التي ورث منها الصلع المبكر عن أبيه فاروق الله يرحمه، ويظل باليمنى يدعك ويدعك، حتى يخيم على الغرفة نفس ثقيل، روح أحس بلطي أنها تخنقه، هل هذا الدخان الكثيف مصدره عم علي هَوْهَوْ ملك الكفتة الكلابي أم عفريت المصباح الأزرق؟. رجح أنه للثاني وقرر أن يلقي أمنيته بكل ما أوتي من عرق وزرنخة عبأت الأوضة:
– يا رب الزمالك يكسب الأهلي النهاردة أربعة صفر.
لم ينم بلطي طيلة الليل، ظل منفجل العينين، استمنى أكثر من خمس مرات، دون جدوى، حاول نسيان ما حدث، كل هدف من الأربعة كان أشبه ببعبوص أصاب طيزه، وكم تحملت طيزه من البعابيص الكروية.
انتهى لقاء القمة بأربعة أهداف للأهلي مقابل لا شئ للزمالك، مفارقة جعلت بلطي يسب أديان العالم كله خاصة الديانة اليهودية بسبب كرهه الفطري لإسرائيل، حاول معاتيه العلواية التحفيل عليه أمام البيت بعد المباراة، فخرجت نعناعة سبَّت لمقام الإمام سيد حلاوة الكائن في نهاية شارع أبي سيفين من ناحية سور مجرى العيون، وشخرت لهم قائلة:
– ما تسبيوه في حاله يا ولاد الوسخة.
يقوم بلطي في الصباح بعد تسع وستين رنة من الأسطى عربي، يرتدي ملابسه، يضع المصباح في شنطة خضار سوداء ويخرج، وبعد مروره عبر نفق الصالح والوصول لمدخل المنيل، يقف متأملاً في اعتياد العيال الذين يعومون بالأسفل، ليقرر بعدها النزول لهم، يتجاهل رنات الأسطى في البداية، ثم يغلق هاتفه، يجلس على حجر صغير متأملًا العوم الكلابي للعيال، ومن بعيد على الضفة الأخرى للنيل يلاحظ ولد وفتاة، يخمن من هيئة لبسهما وملامحهما البعيدة، أنهما في سن الثانوية، وعلى الأرجح هاربين من المدرسة، يجلسان متقاربين على السور الإسمنتي القصير، يتلامسا من عند منطقة الكتف، ويلف الولد ذراعه حول وسط الفتاة الصغير.
– ازيك يا عم بلطي.. مش رايح الشغل النهاردة ولا ايه؟
بكلوت سبعة أبيض صغير، يقف العيل الذي كان يشاور له بلطي كل صباح.
– ازيك يا ياض يا حمو.. أبوك عامل ايه؟
– كويس.. ما تيجي تعوم معانا.
يسمع بلطي جملة حمو، فيهتز جسده برعشة قديمة وغامضة، ويتعكر صفو مراقبته للولد والفتاة وتوقعه بأن قبلة قريبة الحدوث بينهما، لكن الجملة الوسخة الأخيرة نبهته لشئ غامض في داخله، فكررها لنفسه ثم لحمو «أعوم!»، ولأنه لم يخبر أحدًا طوال حياته بتلك الحقيقة، فقد قرر مصارحته، بلا مبالاة لم يعهدها في نفسه:
– أنا مبعرفش أعوم يا حمو.
– أومال اسمك بلطي ليييه؟
تنفلت ضحكة قصيرة مندهشة من بلطي، ويحكي مسترسلًا أن أصل اسم بلطي الذي اكتسبه في صغره، لم يأتِ من تشبيهه بالسمك البلطي، بل من تلك الحادثة التي سببت له العرجة الخفيفة.
– وأنا صغير طرطرت لابويا في طالوش المونة.. لما عرف سكت ومعملش حاجة.. وبعدها غفلني وأنا واقف جنبه وراح فالت من ايده عرق خشب بلطي(4).. وقع على رجلي وعملي الجرح ده.
وقام بتعرية قدمه، فرأى حمو قطعًا طوليًا بمشط القدم، جعلها تبدو مشوهة بشكل ما، فآثر العيل الصمت ولم يجد في عقله الصغير ردًا مناسبًا، وعاد بلطي لمراقبة الولد والفتاة.
– روح العب مع صحابك.
وحين التف حمو المكلوم، ناداه بلطي مجددًا:
– تعرف أبويا فاروق مات إزاي الله يرحمه.. في مرة كان واقف على سقالة سقف بيبطَّنه(5).. ولقى سلك عريان نازل من عند الجَنْش(6).. افتكر إن مفيش كهربا في السلك.. راح عضه ببوقه عشان يقطعه فاتكهرب مات.
قالها وابتسم في وداعة واطمئنان، ثم أشعل آخر سيجارة بوكس متبقية في العلبة الميريت، وأخرج المصباح وأهداه لحمو، وعندما عاد ببصره للولد والفتاة وجدهما قد نهضا من جلستهما ورحلا، وتأكد من أن قبلتهما، أكيد، فاتته.
(1) البروة: قطعة حديدية لها يد من الخشب، تُستخدم في فرد المونة على الحوائط.
(2) طواليش: جمع طالوش، وهو عبارة عن قاعدة خشبية مثبت بها يد خشبية، يستخدمها العجان المساعد لوضع المونة عليها ونقلها يدًا بيد للصنايعي.
(3) مسطرين: أداة من الحديد لها يد دائرية وعلوية من الخشب، تُستخدم لتقليب المونة وغرفها على الطالوش.
(4) خشب بلطي: هو نوع من الأخشاب يُستخدم في صناعة ألواح خشبية طويلة توضع على السقالات للمشي عليها، وهي تتميز بمرونتها وخفتها.
(5) بيبّطنه: التبطين يعني وضع طبقة من المونة الخفيفة للسقف الخرساني تمهيدًا، لتبييضه بمعجون جبسي أبيض.
(6) الجَنْش: قطعة من الحديد في منتصف السقف، يُعلق عليها المراوح والنجف.
