أشلاء زمن وانمساخ وطن

محمود الحاج، "الجيل الثالث رقم 3"، أحبار صبغية على ورق فني مطفي 230 جرام، 46.5×35.5 سم، 2024 (بإذن من الفنان، mahmoudalhaj.com).

دعاء سعيد   By • 15 SEPTEMBER, 2025

من غزة تكتب دعاء سعيد ملقية الضوء على ما نعرفه، بلغة راقية تخبرنا برؤيتها للحرب والموت والمقاومة، وتتأمل ما حدث وتأثيره على أهل غزة، ما يدفعنا لتأمل تأثير حرب الإبادة علينا أيضًا.

إنّه الوقت. وسيلة انقضاء أيّ شيء، كلّ شيء. الوقت الذي يقيم معنا أو هناك. في الأمكنة كلّها.
الوقت لكي تذهب إلى أبعد ما في الخسارة، إلى أوحش ما في الخلاء، لكي لا تكفّ عن الذهاب إلى الأوقات الفائتة، إلى الذين ما عادوا هنا، إلى المكان الضائع لشدّة ما يشبه الأمكنة الأخرى، لشدّة ما ليس هو، لشدّة ما ضللته في الطريق إليه.
…ما يكفي لهدم مدينة لبناء محرقة جماعية.

بسّام حجار: الوقت الوقت

في الزمن الذي تتفلتُ فيه الحياة تحت وطأة الحرب، لا شيء يبقى على حاله، ولا شيء يُمكن أن يعود كما كان. ليس الزمن فقط، بل كلّ شيءٍ ينزاح إلى مكانٍ آخر، يحمل على كاهله غُربةً أو ثِقلًا لا فكاك منه، نحمله حيثما ذهبنا؛ أشلاءُ زمن، أنقاضُ مدينة، ملامحُ تائهة، أرواحٌ مشوَّهة، وإنسانيّةٌ ضائعة، وحِسٌّ أخلاقيّ ينحدرُ إلى الحضيض.
هذا المشهد المنكوب المتواتر التي يمنُّ به التاريخ على العالم، مشهدٌ لا نملكَ سوى أن نكون جزءًا منه، الجزءُ المُتآكل، الذي لا ضير عند العالم إنْ مُحِيَ من الوجود، فالعالم لا ينهارُ بخرابه، بل يستمر من دون أن يلتفت، الزمنُ يتوقف هنا فقط، الأيام تمرّ، لكن الحياةَ لا تتحرك، كلّ شيءٍ مُؤجل، كأننا عالقون في مشهدٍ واحدٍ يتكرر حتى يَفرغ من معناه، لا ندركُ مرورَ الوقتِ إلا حين نَتَنبَّه هَشاشَ عظامنا، أو احتراق جلودنا. مواقيت اليوم نتتبعها بملاحقةِ دورِ الخُبز والماء، والتواريخ بموعدِ تسلّم المعونة.
وهكذا، يغدو كلّ يومٍ مُجرد نسخةٍ مشوّهةٍ من اليوم الذي يسبقه، ليست حياةً راكدة، بل طاحونةٌ يوميّة، تطحن الإنسان وهو يجرّ جُوعه على حوافِّ القلقِ والموت، يُبقي جسده واقفًا، ويُسحقُ داخله.
في اللغة الروسية، الطحين والعذاب كلمةً واحدة كتابةً، واللفظُ فقط هو ما يُفرّق بين المعنيين. هامشٌ لقصيدةٍ لمارينا تسفيتايفا تقول فيها:
أيها الناس، كونوا على ثقة:
نحن نحيا بالحُزن! وبالحُزن وحده فقط نحن ننتصر على الضجر.
أكل شيءٍ ينطحن- أيغدو طحينًا؟
لا، الأفضل أن يكون عذابًا.
ورغم طاحونة العذاب هذه، لا زالَ العالم تتأرجح ازدواجيته ما بين التمجيد والموت، بين النضال والتهلكة، الإنسان هنا يُسحق وهم يُنكرون موتنا ويطالبوننا بالصبر والصمود. كم أنّ الحياة ساخرة! فليس غريبًا أن فعل التمجيد من الممكن له أن يتسم بالوضاعة، فقد قيل من قبل إنه لطالما كان الطغاة في أذهانِ عبيدهم أبطالًا، وليس غريبًا أن أُناسًا بعيدون كل البعد عن دائرة الحرب لا زالوا يمجدون الموت ويتغنون به، أُناسٌ اضمحلت بهم الإنسانية – وبكلّ انحطاط – يُعزّون أنفسهم بأمجادٍ واهية، مُتجاهلين عمدًا كلّ الموت واليأس والذلّ الذي تُخلّفه الحرب، وراجمينَ عبر أصوات ثُغاءهم كلّ ما هو ضدّ، كلّ ما هو حيّ، كلّ ما هو حُر.
وأعرف، كما يعرف غيري، أن الموت والخراب والانمساخ، ليسوا في المهرجان الدموي وحده، بل في أفواهٍ مفتوحة على الفراغ، ومن الفراغ. أفواهٌ صارت، كما القذيفة والمدفع، آلةً لقتل الصوت، حين يجرؤ على الصراخ في وجه هذا الموت. في محاولةٍ لخنق كلّ محاولة للفهم، وسحق كلّ تساؤل ورفضٍ واعتراض، بالقمع والتخوين، لطمس المعنى الأخير الذي نملكه للحياة.
لا يهم إن كان الغزّي ميتًا أو جريحًا، جائعًا أو مسحوقًا؛ المهم أن يصبح الموت هو الخطاب الرسمي لوجوده، والركام هو الصورة الوحيدة للمدينة، لا ملامح ولا ذاكرة. فالمهم أن يظلّ حماسهم أعلى من نحيب الأموات.
والغريب، أن يشهد كلّ منهم الخِزي ويجهله، أو يتجاهله. وجدتُ الخِزي في بشرٍ تاجروا باللحمِ والدمِ من دون أن يرفّ لهم جفن. فقد أصبح القبحُ يحثُ خطاه في كل بقعةٍ هنا. والناس هناك تتغنى بالموت وترقص طربًا له، فهم يحترفون تحويلَ القهرِ إلى فضيلة، من دُون أن تلمح أذهانهم القاصرة الموتَ الذي نُعانيه.
ولا أقصد الموت الفدائي الذي يُفرض علينا حين تُمارس المقاومة بلا بصيرة، مع أنّ هذا لا يعني انتفاءَ وجوبِ المقاومة حين يُستدعى مقامها، ولا يُناقض إيماني بالمقاومة ومشروعيتها، فهي بالمقام الأول، علامة وجود، ورد فعل فطري تجاه القهر والسلب والقمع والقتل وعنجهيّة المحتل، ولكن يحدث أن تصير المقاومة عِبئًا وجُرمًا حين لا تتحلّى بالمنطق وتخلو من الإنسانية، حين تتحول إلى مؤسسةٍ وحكومة، وتضع الشعب على هامش حساباتها. حين تصبح صَنعة مَن لا صَنعة له، وتتحول تدريجيًا إلى طقسٍ مقدّس فوق المساءلة، رغم أنها تُمارَس بنفس القدر من البلاهة والبطش الذي يُمارسه العدو، وتبني نصرها على الاستعطاف والرجاء، وتنجرّ وراء أوهامٍ فكرية من دون أن تأخذ بالحسبان فكرةَ اختلاف الزمن وموازين القوّة والتاريخ المشوّه والمزوّر.
الحقُ نزوةٌ من دون قوةٍ تعملُ على إحقاقه، فعليه أن يكون على قدر أهليته وأن يُدرك أركان اللعبة، وأقول لعبة، لأن كلّ ما يحدث أشبه باللعبة، تموت إن لم تلعب بعنايةٍ ودراية؛ لعبة إطلاق الصواريخ من الأماكن التي لجأ إليها النازحون يرتجون فتات أمن مطحون، لعبة التلاسن في المفاوضات، لعبة الانفجارات ودويّ الصافرات، لعبة قطع الطرق والمتاجرات. إنها لعبة الفرار من الموت، إذ لم نعد شهداءً إنما ضحايا، قالها درويش مرة.
لكن ثمّ هناك موت آخر وآخر، هناك جرائم الانتقام والشرف، وكله تحت غبار هذا الموت الذي نموته، هناك الموت الذي نعيشه لأجل أن نحيا، موتٌ يتخفى بالتحرش والابتزاز والانحلال والدجل وتقيح النفس، هناك التذلل لأجل لقمة العيش، وبيع الكرامة والجسد، هناك الحاجة؛ أنذل ما أودع الله في مخلوقاته الضعيفة، هناك قصصٌ تعايشها وتسمعها، ولا تملكُ من أمرك قبالتها إلا أن تصير دمعًا، دمعًا ساخنًا وسخيًا وقليل حيلة. ليس ممكنًا حتى أن تنطق بكلمة، لأن النظرة الساخطة المقابلة لا تستدعي شفقة، بل من الممكن لها أن تُحقِّرك. فملعون هذا العالم، العالم الذي يتجاوزنا ولا يتوقف عن الدوران، بل يُصيبك بالدوار.
فهل بقي وطن، بعد أن بات وجه الحرب حاضرًا في كلّ شيء؟ هل يستمر فيه شيء من هويته؟ أم أننا، في كلّ لحظة، نرى في مرآته صورة ضبابية، مُحاكة من الضياع، انمساخًا للهيئة والهوية؟
ها نحن جميعًا، نقف الآن، كلٌ في احتراقه، لا حاجة لأن نبكي، لا شيء يحزننا بعد الآن، الحزن منعطف إلى هوةٍ في عين عذابنا الأزلي، هوّة مكسوةٍ بالتحجر والصلادة والعظام الناتئة والصلوات المرتعشة. نعرف معنى الجحيم المنبثق من الدمّ الأحمر القاني والفؤاد المشتعل، ما عاد ضروري أن يعرف أحد، ماذا تفيد المعرفة، كل أشكال الموت الفظ عرَّت وجودنا ولا جدوى؛ فلا شيء يحدث في العالم المتمدن عدا الحملقة في ساعة النصر الملعون.
كنا لا نستحق موتًا، فما هكذا تستعاد الهوية، هكذا أخبر درويش في “حالة حصار”، الآن نرتجي موتًا أصبح يعتنق هويتنا بعد أن أبطل الوطن قيمة الحياة فينا، أركز على كلمة “قيمة” وأنا أشهد الإنسان ينحل من كل قيمة ومبدأ ويرخي يديه لحبال عبوديةٍ أحلّت شريعة الغاب، ربما لم يكن هذا سوى ارتكان للذعر الذي ينال من المرء إذ أدرك مدى تفاهة حياته في مدينة رُهنت للخراب حين ساقوها مرة تلو الأخرى إلى مسلخ دمٍ ليعلوْا، وما علَوْا إلا تتبيرًا، فما يتموضع بين الشر والشقاء محض خطوة، ينزلق إليها المرء بكل إرادته وحماقته وفسوقه.
والتعايش مع هذا القبح لا يعني مجرد قبوله، بل التعود عليه، فعندما يصبح القبح جزءًا من الواقع للحدّ الذي ما عاد هناك حاجة للدهشة أو الشجب، نعيش فيه فقط لأن هذا ما هو موجود. وكأن الظلم أصبح جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، نستهلك التفاهة والخراب، حتى أصبحت لدينا مناعة عاطفية، جمود حِس وإنسانية مهترئة، بتنا محصنين ضد الألم والقسوة، وحتى الموت، نعيش رتابة حزنه، كمشهدٍ مكرر، لا حاجةَ للوقوف عنده، فبابه مفتوح على مصراعيه.
فهل من الممكن أن نعيد معنى الحياة خارج هذا الإطار الخرب الذي نعيشه، أم أن القبح أصبح ببساطةٍ جزءًا لا يتجزأ من البشرية، والتعايش معه أمرٌ محتّم؟
أريد أن أصدق أن الخيار الأول قابل للتحقق، وغدًا يوم آخر، لا موتٌ آخر.
قضيتُ اليوم فترة ما بعد الظهيرة، أرقبُ فراشة بيضاء، تكاد أجنحتها تكون شفيفة لشدة رقتها، تلاعب زهرةَ صباحٍ صفراء ناعمة، في غرامٍ مع الشمس الملتهبة، وعلى ذا الأمل نعيش، أو نحترق، لا مفر.

دعاء سعيد, من غزة التي كانت. تعيش حاليًا في جحيم خيمة ما في مواصي خانيونس.

Join Our Community

TMR exists thanks to its readers and supporters. By sharing our stories and celebrating cultural pluralism, we aim to counter racism, xenophobia, and exclusion with knowledge, empathy, and artistic expression.

مواضيع مشابهة

Arabic

أشلاء زمن وانمساخ وطن

15 SEPTEMBER, 2025 • By دعاء سعيد
أشلاء زمن وانمساخ وطن
TMR Bil Arabi

مقال لدينا شحاته: حين اختبأت مع القطة تحت السرير

4 AUGUST, 2025 • By دينا شحاته
مقال لدينا شحاته: حين اختبأت مع القطة تحت السرير
Arabic

مقال لمنار السيف: قراءة ما بين سطور الأرض

30 JUNE, 2025 • By منار السيف
مقال لمنار السيف: قراءة ما بين سطور الأرض
Arabic

نظرة إلى متعددة ولادات عظمى

23 JUNE, 2025 • By سارة شاهين
نظرة إلى متعددة ولادات عظمى
Arabic

مقال لسارة شاهين: لا مكان إلا القاهرة، لا حيلة مع القاهرة

9 JUNE, 2025 • By سارة شاهين
مقال لسارة شاهين: لا مكان إلا القاهرة، لا حيلة مع القاهرة
Arabic

النزوح… ندبة في وجه البيت

19 MAY, 2025 • By ضحى كحلوت
النزوح… ندبة في وجه البيت
Arabic

تقويم الشتات

5 MAY, 2025 • By ديمة البيطار قلعجي
تقويم الشتات
Arabic

طريق البيت

5 MAY, 2025 • By دلير يوسف
طريق البيت
Arabic

الباب المغلق

3 FEBRUARY, 2025 • By عدي الزعبي
الباب المغلق
Arabic

زمن الوحوش

23 DECEMBER, 2024 • By ليلى العمار
زمن الوحوش

اكتب تعليقًا

لن ننشر الإيميل الخاص بك، الرجاء ملء إضافة جميع المعلومات المطلوبة

two × 5 =

Scroll to Top