
من بيت والديها في دمشق، تصف ديمة البيطار قلعجي ما استرجعته من ذكريات طفولتها، وتحدثنا عن أدب المنفى السوري في أوروبا، ثم تعود لتنظر إلى ابنتها بعيني العائدة بعد غياب أحد عشر سنة إلى سوريا.
ديمة البيطار قلعجي
أفتح باب البراد في منزل والديَّ في دمشق لأسحب صحن لبنة مصفَّاة، آكل لقيمات قبل الغداء، فتنهرني أمي مرتين؛ الأولى لأنني ما زلت لا أنتظر طعام الغداء و«أنقرش» قبل أن يجهز، لم أتوقف عن عادتي السيئة رغم أنني كبرت وسافرت وصرت أمًّا! والثانية لأنني لا أفتح وأغلق باب البرَّاد بالسرعة المطلوبة حتى لا تتسرب البرودة التي يحاول البراد الاحتفاظ بها للنجاة بما فيه مع غياب التيار الكهربائي ساعات طويلة. المرّة الآخيرة التي زجرتني أمي لنفس هذه الأسباب بالضبط كانت قبل أكثر من أحد عشر عامًا.
أغلق باب البراد فتواجهني صورة صغيرة باهتة لي، كان عمري ست سنوات، ربما، ألبس فستانًا أحمر منقوشًا بزهور بيضاء ناعمة، شعري قصير مجعد، ومشبك شعر بلاستيكي يحاول التعلق بعناد بخصلة ملفوفة، أنظر بثبات وهدوء إلى الكاميرا، وتطفو ابتسامة خفيفة على شفتيَّ. ثُبِّتت الصورة بشريطين ممغنطين سوداوين عند الزاويتين العلوية والسفلية، فبدت مثل إعلان حداد.
أقف أمام الصورة وقد نسيت صحن اللبنة البلدية اللاذعة في يدي، أنظر إلي الصورة التي تغيَّرت ألوانها بفعل الشمس عامًا بعد عام، كما تغيَّرتُ أنا. أحاول أن أمرر شريطًا من السنوات بيني وبين الصغيرة، تروِّعني الأشياء التي أعلم أنها ستمر بها والأصدقاء والأحباء الذين ستفقدهم، مرَّت عليها لحظات كثيرة شعرتْ أنها امتلكتْ العالم بالطبع، لكن الفقد سمة ستطبع حياتها. أشعر تجاهها بشعور أمومي، وأن عليَّ أن أنقذها وأرعاها وأطمئنها، لكنني لا أفلح في أن أقول لها إن كل شيء على ما يرام، فهو ليس كذلك، وتبدو وكأنها هي من تطمئنني بابتسامتها الثابتة. كيف تكون هي أنا؟ لم أذكر أنا ولم تذكر أمي إن كانت الصورة موجودة قبل غيابي الطويل، وجلَّ ما قالته عندما سألتها «من زمان».
منذ أربعة أشهر، تغيَّر وجه الأدب السوري في الشتات، تغيَّرت المواضيع، وطرق معالجة النصوص، الروح والكلمات، حلت مفردات بدل مفردات وجمل محل جمل، ومشاعر طغت على أخرى. طُويت حقبة اللجوء والمنفى بشكلها الأقسى، وإن استمرت. وفاضت شبكة الإنترنت بنصوص وصور العودة، وأعلنا واحدًا بعد آخر – نحن الأوفر حظًا – انتهاء حقبات شتاتنا الفردي التي غالبًا ما امتدت لأطول من عقد، ليفوق الأربعة عند البعض.
يمتلك سورييو وسوريات الشتات تقويمًا خاصًا. يبدأ بتاريخ مغادرتهم البلاد، مهما كان شكل هذه المغادرة وأينما كانت وجهتها، نزوحًا تحت قصف، أو تهريبًا خوفًا من اعتقال، أو قبولًا في جامعة خارج البلاد، أو إقامات حماية وإعادة توطين، لا يهم فعلًا، فعدَّادك يبدأ يوم مغادرتك؛ البعض يؤرخ سنويًّا، والبعض يضيف الأشهر، وآخرون يؤرخون أيضا بالأيام. قليلون من يهابون الوقت والسنوات فيدونون تواريخهم ولا يعدُّون بعدها السنين. في تقويم الشتات أيضًا تتجمد صورة وذاكرة البلاد، ولا يهم فعلًا إن كنت تتحدث مع آخرين هناك، أو ترى صورًا ومقاطع فيديو على انستغرام وفيسبوك ونشرات الأخبار. لا يمر الزمن ولا يتغير المكان ولا تتميز أحداث ولا تتطور مفردات اللغة بعد مغادرتك، حتى من يموتون، لا يموتون حقًا.
ونحن إذ نعود اليوم ونعلن انتهاء حقبات شتاتنا، ندرك أن الزمان مر والمكان تغيَّر وهرِم، وأن قبور من لم نستطِع وداعهم ولا تأبينهم عديدة، وأن أهالينا كبروا كثيرًا في غيابنا، فندرك كم كبرنا نحن أيضًا.
ونحن وإن عدنا معًا، لكن لكل منا سوريته التي يعود إليها، وقد تتداخل سورياتنا وتتقاطع أو تختلف. نعود لنواجه البلاد التي لفظتنا، نواجه أنفسنا التي تركناها فيها مرة، وأنفسنا التي صرناها في منافينا. ولنواجه مجددًا فَقْدَ من غُيِّبوا، مرَّة حين غُيِّبوا، ومرَّة حين لم يعودوا، ومرَّة حين لم نعرف عنهم أي شيء. نعود ونحن نحاول أن نطابق بين الأحياء التي تشبثنا فيها في رؤوسنا، وتلك التي أمام أعيننا وتحت أقدامنا، إن كانت ما زالت قائمة.
أنا أيضًا عدت مع من عادوا بعد عدد سنوات يفوق العقد، وأثناء وجودي هناك كنت أشعر أحيانًا أن أيامه ذابت عن كتفي كأنها لم تكن قط، وأن برلين صارت بكل ما فيها ذاكرة بعيدة جدًا وكأنها حياة أخرى، لكن بيني وبين الفتاة التي واجهت صورتها على باب البراد عدادات وتقاويم شتات كثيرة، أقربها غربة والديَّ في الثمانينات وحتى منتصف التسعينات، ومنفاي ولجوئي خلال الأحد عشرة سنة الماضية. كيف تكون هي أنا؟
وُلدت ابنتي في برلين وتعيش في برلين وتكبر في برلين، ستبلغ عامها التاسع قريبًا. لم تزُر سوريا قط، وجل ما تعرفه عنها هو ما أخبرتها إياه أنا وأبوها. وُلدت في السنة الثالثة من تقويم الشتات، ورافقتني إلى مظاهرات ووقفات منذ أن كان عمرها أشهرًا، شرحت لها الأغاني وعلمتها كيف نصفق جمعًا ونرد الهتافات، في عمر صغير كان عليَّ أن أشرح لم لا نستطيع زيارة عائلتها هناك، ولا رؤية مدرستي – وإن كانت تبدو كمعتقل صغير – ولا تذوق البوظة التي أفضلها في دمشق. حكينا كثيرًا عن السلطة والقوة والأنظمة والظلم والاستبداد والعدالة، وكل سنة كانت أسئلتها تزداد صعوبة، وكنت أسأل نفسي عن ثوريث القضايا وعدادات الشتات والفَقْد والغُيَّاب. وحين طلبت قبل عامين أن ترى صورة للدكتاتور، حتى إن هرب يومًا وصادفته في برلين تخبر الشرطة!
تفاجأت، وأدركت كم هو راسخ في ذهني لدرجة أنني لم أفكِّر يومًا أنها لا تعرف شكله!
في صباح الثامن من كانون الأول، أيقظتها مبكرًا وأخبرتها أن نبوءتها الطفولية تحقَّق نصفها، لقد هرب الدكتاتور فعلًا، ولكننا لن نصادفه هنا في برلين، فقد هرب إلى روسيا! «سوريا هذا الصباح حرَّة يا ماما»، عانقتني طويلًا، ثم سألتني متى سنسافر؟
حين اجتمعنا يومها مع باقي السوريين والسوريات في ساحة الأورانين في برلين لنحتفل بسقوط النظام، دُهشت من كثرتنا، وعِظم سعادتنا وسخاء دموعنا، وعندما قررت العودة إلى دمشق وحدي بعد أيام دونها؛ سألتني إن كنت سأتذكر الطريق إلى المنزل لأنني غبت طويلًا، وماذا إن سقطت قنبلة حيث أنا؟ أجبتها بالإيجاب عن الأول والنفي عن الثاني، ووعدتها أنني في المرة المقبلة سأصطحبها معي.
بعد أيام سأعود مرة ثانية، وكفُّها الصغيرة تمسك بكفِّي هذه المرة كما وعدت. لا أعلم من منا تأخذ بيد الأُخرى، وستمتزج سوريا التي نسجتها في رأسها مع سوريا ستقابلها. سأصطحبها إلى سوريتي، وإلى صورة الفتاة الباهتة، ولا أعلم بعدُ كيف سأعرف البلاد معها، وكيف سأرويها لها، وكيف ستراها هي، وكمن يعرِّف من يحب إلى ما يحب، قلبي يخفق بفضول وترقب… هل سيرق قلبها لها؟
