مقال لسارة شاهين: لا مكان إلا القاهرة، لا حيلة مع القاهرة

9 June, 2025
محمد خضر، “ميدان طلعت حرب”، القاهرة، أكريليك على قماش، 190×90 سم، 2014 (بإذن من الفنان).
عن القاهرة القديمة وشوارعها، تكتب سارة شاهين بلغة رصينة وممتعة في الوقت نفسه، من داخل أوتوبيس نقل عام، أو من «استقبال النساء»، تتغير نظرتها نحو مدينة القاهرة التي لا تزال أسيرتها.

 

سارة شاهين

 

اكتشفت هوسي بالمدن والأماكن في سنوات الكلية في لحظة معينة أتذكرها بوضوح، رغم أني محوت حصيلة هذه الفترة من عقلي لا إراديًا؛ كنت أقف في الباص المزدحم بعد انتهاء اليوم الدراسي المعجنة، والذي بدأ في الصباح وانتهى قبيل العشاء، أنظر من نوافذه المضببة نصف المفتوحة للقاهرة، وهي تستحيل إلى شريط من مصابيح وشوارع وأسوار تاريخية ومبانٍ مهيبة في الليل، يمر بي بهدوء بسبب الازدحام. يلتمع وجه المدينة في الظلام، وتنجلي عن الأنظار غلالة التراب النهارية، كنت أقف مذهولة أمام هذا المشهد كأني أشاهد سيركًا غرائبيًا خليق بأن يستحوذ على انتباهي في كل لحظة، وينسيني نصب اليوم وشقائه، ويشعرني بأسًى شاعري لطيف.
تحولت تلك اللحظة لهوس حالٍ. الشوارع تخلب لبي، العمارة تعنفني بجمالها، أشعر بمادة الحياة في نهب أرض المدينة مشيًا. وهكذا اندفعت للقراءة، شُغلت بمن شغلوا بمدنهم في الكتابة، هذا يقول مدينتي حزينة وخائرة القوى، وهذا يقول مدينتي قاسية لا ترحم، وآخر يقول مدينتي حلوة ومبهرجة كأنها احتفال دائم. رغبت في أن أعرف مدينتي كما عرفوها، شابهت تلك اللحظة من يحاول العثور على تاريخ عائلته في الماضي، علاقتهما قديمة وسابقة على لحظة الاكتشاف، وأثرت فيه بأكثر مما يتصور، لكن معرفتهما ببعضهما جديدة. أخذت أفكر كيف أتحدث عن القاهرة؟ كيف هي حقًا وأنا التي لم أعرفها تمامًا؟ قررت معرفتها محاولةً تخطي عدم ترحيبها المضمر بأهلها.
كان أول ما حاولت تعلمه عنها هو تاريخها، وكان تاريخها كافيًا أن يخر المرء صريعًا في هوىً مجنون. هذه المساحة من أرض الله كانت مسرحًا لمأساة وملهاة دائمتين، تتفكك الخلفية ويُعاد خلقها بمشاهد جديدة. أمشي وأقول كم اصطخبت الدنيا تحت موضع قدميَّ الآن. كل هاته السنين. كل هؤلاء البشر. كل تلك الدول. ما معنى مرور الزمن إذًا وهو متكدس في مكان واحد؟
تقلبت في جغرافيتها تقلبًا واعيًا بعد أن كنت أتقلب في أماكن معينة على عهدي الطفولة والمراهقة. توزعت في جنباتها ذكريات الصداقة والمشي مع الأشخاص، والطرق من وإلى المستشفيات المختلفة، وطعم أكلاتها في حلقي، وروائحها المزعجة والمألوفة، والشريط الصوتي الذي أعده بعناية كي يرافقني في رحلات الشوارع. هكذا اختبرت ما قاله الشاعر عن مدينته: «يا نصيبي من الصور والرسايل، كل شمس غاربة وكل ظل مايل».
وإلى جانب هوسي بالمكان ومفهوم المدينة بشكل عام؛ بفكرة أن الإنسان ينظم العالم من حوله على مثال في عقله، وبالقاهرة كمكان بشكل خاص، تطورت رغبتي في الهرب، تلك التي يتشاركها جميع الأقران في القاهرة، والتبست العلاقة بيننا إلى حد أني كنت أفكر: أريد أن أعيش في القاهرة ولكن في مكان آخر، أريد أن آخذها ونعيش في مكان آخر. أريد تحرير المكان من نفسه. واكتشفت أن هذا شعور متكرر يتشاركه كل مواطني المدن غير الرحيمة، تقول الشاعرة عن مدينتها أحمد آباد: «هذا مكان سيكون بيتي للأبد، هذا مكان لن يكون بيتي أبدًا».
تتخطفك مدينتك للأبد. أقول قولي هذا لأني شعرت أن ذروة علاقتي بالقاهرة كانت في اكتشاف قصيدة قسطنطين كفافيس المعروفة وعنوانها «المدينة». تمنحك المدينة أصوات حياتك وأنوارها ولياليها وأصدقائها وبهجة مصادفاتها، والتاريخ والجغرافيا، والعمل والذكريات، ولذلك فهي تمنحك ذاتك، وتأسرها كذلك. هذه القصيدة التي روَّعتني وزلزلتني، عن مثل الذي يريد الهرب من مدينته كي تنمحي أخطائه السابقة ويعيش من جديد. يحذره الشاعر: «لن تجد بلادًا جديدة، لن تجد ضفةً جديدة»، كل ما حدث في مدينتك لم يحدث فقط في المكان؛ بل حدث بداخلك. «هذه المدينة ستطاردك، ستمشي في الشوارع نفسها، ستشيخ في الأحياء نفسها». شعرت بأني فهمت تلك اللحظة التي ظللت فيها ساعتين واقفة في باص متهالك أنظر للقاهرة تمضي كأني أرى السحر. هذه هي حياتي الخارجية والداخلية. أنا أسيرتها للأبد، ولو غادرت، ولو هربت. ما حدث فيها سأحمله معي، ما انهار فيها لن تصلحه الأماكن الجديدة. في النهاية، لا مكان إلا القاهرة، لا حيلة مع القاهرة.

***

لست موهوبة جغرافيًا، وأذكر أني تحدثت من قبل عن حقدي على القبائل الأصلية في أميركا اللاتينية التي تمتلك نظامًا إشاريًا للاتجاهات مضفرًا في لغتها اليومية العادية، وأن الواحد/ة منهم في أي لحظة من يومه يعرف موضعه بالنسبة إلى الاتجاهات الأرضية، وإلى البحر والنهر، وإلى بيته. ولولا أني مولعة بالمشي لأصبت بالجنون، لأني كلما سرت تهت، حتى لأشبه النملة المذعورة، أسير أضعاف المسافة كي أصل، لأني أُبتلع في تضاعيف الطريق وتخاريمه ونهاياته الميتة.
غير أني اضطررت لتعلم جغرافيا القاهرة وتاريخها بسبب «استقبال النسا». مبتدئةً من موقعي في شارع بورسعيد وعلى مبعدة أمتار بسيطة من جامع السيدة زينب، أجد نفسي مضطرة لمطالبة السيدات المتوقع ولادتهن طبيعيًا بالمشي، كل على حسب عدد ولاداتها السابقة، وفحصها الحالي، وتوقعي لاقترابها من لحظة الولادة. في كل مرة يقلن لي «سأسير للمكان الفلاني»، وفي البداية كان يسقط في يدي، إذ ما شأني بالعزبة والدرب وسوق السلاح والجامع الأحمر الكبير؟ أين مني هذه المواقع؟ وأنا كل ما أردت معرفته هو إن كانت هذه الأماكن المذكورة قريبة أم بعيدة، وهل ستلد المرأة على قارعة الطريق أم ستعود بسرعة وأجدها على حالها الأول من مخاض خامل؟
وهكذا اضطررت لخلق خريطة ذهنية أضع فيها جنبات القاهرة، وأصنفها على درجات من القرب والبعد، وأناسبها بالتاريخ المرضي لبناتي في استقبال النساء. يعني ما إن تقول إنها ستتمشى للعزبة أو لسوق السلاح أدرك على الفور أن المسافة هيِّنة. وإن قالت أنها ستتمشى ناحية الجامع الأحمر (جامع أحمد بن طولون، ذهبت إليه كي أتأكد أن حجارته حمراء فعلًا، لأن هناك جامع أحمر حقيقي في الموسكي) فهذه مسافة متوسطة تناسب الولادات البكرية. أما نواحي القلعة والسيدة نفيسة وشياخة الخليفة ففيها نظر.
وضعت نفسي في شبكة من الأماكن مركزها شارع بورسعيد المهول. وجذبني هوسي الدائم بالأماكن والمباني وتعاقب الزمان عليهما لمعرفة تلك البقاع التي تتكرر في حكايات المريضات، ومن هنا ابتلعتني دوامة جنونية، ذلك أن تشذر الجغرافيا في عقلي أصلحه -بسهولة- ترابط التاريخ. كان عقلي يدوخ محاولًا الوصل بين الخليفة والقلعة والسيدة والزاوية والدرب الأحمر وباب الشعرية وشارع بورسعيد والضاهر. أعرف أنها جميعًا متلاصقة، لكني لم أستطِع قط -بعين الخيال- تعيين موضع كل واحد بالنسبة إلى الآخر.
مضيت أتتبع الخريطة الجيوسياسية العتيقة، بداية من موقعي؛ شارع بورسعيد الذي أظنه لا ينتهي أبدًا، والذي كان خليجًا يصل النيل بالبحر الأحمر حتى تم ردمه، على شاطئه كانت توجد قنطرة السباع التي بناها بيبرس البندقداري. شارع سنقر الذي يشير إليه جوالي لأنني أتسكع فيه كلما ذهبت للمستشفى، هو شارع مسجد آق سنقر السلاري الأمير في عهد الناصر بن قلاوون، والذي تنسب إليه الناصرية، واحد من أحياء السيدة التي أصنفها «متوسطة البُعد في الولادة».
أنتبه إلى أن المناطق القريبة، والسيدات اللاتي يأتين لي رأسًا منها دون المرور بمستشفيات أخرى، يتراوحن بين مناطق المماليك البحرية والسلطنة القلاوونية. ثم هناك السيدات المحولات من مستشفى الحسين واللاتي يتحدثن عن باب النصر ومنطقة الجمالية وشوارعها التي علمتني أسماء «قوصون المستولي على عرش السلطان الناصر»، و«بيبرس الجاشنكير»، أو «بيبرس الثاني» المعروف بـ«ركن الدين»، وهو غير الظاهر على المغول، والذي كان أقرب لمستشفى باب الشعرية التي قضيت فيها امتيازي، وأغلق مؤقتًا قسم النسا فيها، ولذلك فأنا أستقبل الوالدات من ناحية «البيبرسين».
أما المناطق المسماة للمماليك البرجية، وبخاصة الغورية المنسوبة لقنصوه، فلا أسمح للوالدات بالعودة إليها لأنها بعيدة مني، منطقة الغورية وباب زويلة الذي انتهت عنده دولة المماليك في مصر، وجامع برقوق الذي لم أرَه حتى الآن ولم يستقر بشكل ثابت في خريطتي المختلقة. هنا أستبقي النساء احتياطًا لأني لا أعرف.
في الساعات الصغرى من ليل النباطشية، وبينما يصبح الزمن خفيفًا ومخادعًا من أثر الإرهاق وقلة النوم وتعاقب الحالات، أشعر أني أقفز عبر التواريخ المتتالية. أخرج لسحب النقود من الماكينة المكتوب عليها بنك مصر-درب الجماميز، وهي منطقة أمراء المماليك المترعة بأشجار الجميز، ثم أعود للسيدة الآتية من ناحية السوق الرابض أسفل المسجد الأحمر (جامع أحمد بن طولون المستقل بسلطنة مصر عن الخلافة العباسية، والسابق للمماليك طرًا)، وأطلب منها العودة للمسجد مشيًا، وللسيدة الآتية من سوق السلاح الذي ظننته وأنا حديثة عهد بالمستشفى أنه سوق سلاح حالٍ، لكنه كان مزود القلعة بالسلاح على عهد المماليك، وأقول لها: «تعالي غدًا»، يصيبني مس من جنون جذل كالذي أصاب خيري شلبي في «رحلات الطرشجي الحلوجي». أشعر بتبدد عائق الزمن وبترابط الأشياء في المكان والزمان وبأني فهمت أخيرًا، بأنني جزء من العالم والأشياء؛ حتى تأتي المرأة تخبرني أنها ساكنة في الإمامين، هل تذهب إليهما مشيًا وتعود؟ ثانية واحدة! مين الإمامين دول كمان؟ خليكي جنبي احتياطي لأني عمياء جغرافيًا.

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member