تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة - مقتطف من رواية لشادي لويس بطرس

في هذا المقتطف من رواية شادي لويس بطرس الأخيرة، تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة، تخفي لعبة العد البريئة لطفل حقيقة مزعجة.

 

شادي لويس بطرس

ترجمت النسخة الإنجليزية عن العربية سلمى مصطفى خليل

 

ثلاثون خطوة بالضبط بين باب البيت إلى ناصية الشارع، وبشكل أكثر تحديدًا بين منتصف عتبة البيت ورأس الزاوية القائمة لبيت أبو نبيل، النقطة التي يصب عندها شارعنا في شارع ٢٤. كانت تلك الدقة المستعارة من عالم الكبار كافية لأن تصبغ لعبتي بقدر لا بأس به من الجدية. كنت أبحث عن اليقين بين أشياء أخرى، عن الثقة في شيء ثابت يمكن الاعتماد عليه، وبدت لي الدقة واحدة من الملاذات القليلة الممكنة. يوم بعد يوم، وفي مساءات الصيف المضجرة، بنيت في ذهني خريطة صارمة ومفصلة من الأعداد للمنطقة، كم خطوة من نقطة إلى أخرى وبين بيت والتالي ومن دكان إلى آخر، عدد الدرجات صعودًا وهبوطًا بين طوابق الأبنية، ومن الرصيف إلى عتبات دخولها، قصيدة مرقمة للحركة والذكرى، يعني فيها كل عدد شيئًا محددًا، وتعني فيها الأعداد جميعها شيئًا واحدًا، هو الطمأنينة. كان يمكنني التجول معصوب العينين، بثقة الأعمى في الظلمة، ثقة لا تمنحها الكلمات عادة ولا وعود الكبار التي ثبت كذبها دائمًا.

وحدها لعبة الأرقام كانت قادرة أن ترتق فراغات حياة البالغين العصية على الفهم. فعالم لم أملك حينها سوى النظر إليه من أسفل، من القاع وبلا حول ولا قوة كان من المرهق التمسك بقبوله كما هو. ومع الوقت، أضحت خرائطي المرقمة عالمًا بديلًا عن ذلك الذي يعيش فيه الكبار، نسخة منه وبين ثناياه، أكثر دقة وبريئة تمامًا، أبعادها محسوبة ومعروفة مسبقًا ويمكن توقعها، بلا مفاجئات مخيفة ومبهجة.

"افتح عينك، بدل ما تنكفي على بوزك!"

 كنت قد وصلت في العد إلى رقم ستة، حين نهرتني ماما، وسحبتني وراءها، بخطواتها المسرعة، وهي تحمل بيدها الأخرى الكيس الأسود الكبير. جرجرتني على الرصيف كحلم ميت، وقاومت بعزم أن أستفيق، فالعناد كان كل ما تبقى لي، بعد أن جُردت من كل شيء آخر.

تم نشر تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة باللغة العربية في العام 2021 من قبل دار العين.

أغلقت عينيّ بإحكام، مع أول فرقعة مكتومة لارتطام رأسها بحائط المطبخ السميك، ولم أفتحهما حتى وهي تسحبني إلى الخارج لنغادر البيت. فعلت هذا في كل مرة كان بابا يضربها فيها. أغمض عيني عن كل شيء حولي وأعد، أصغي لصوت ألمها المنتظم كتكات الساعة، أحسب كم ضربة قبل أن يتحول أنينها إلى صراخ، كم ضربة وينقلب صراخها طلبًا لنجدة لا تأتي أبدًا إلى سُباب، كم ضربة حتى تنتهي لعناتها تلك إلى حشرجة مستسلمة.

كانت تلك طريقتي في أن أختبئ وأظل هناك معها، شاهدًا مؤتمنًا وجبانًا، أتكوم على نفسي من الخوف وأهرب من عار خذلاني لها، يشعر الأطفال بالعار أيضًا، أسوء أنواع العار، العجز المطلق أمام الكبار. كنت أسجل كل شيء لأجل خاطرها، أعد كام خبطة يبدأ بعدها أنفها في النزيف، عدد الصفعات اللازمة لتتورم شفتها العليا، بوكس واحد أم أكثر وتتحول الهالات السوداء حول عينها إلى الأزرق، بعد كام ضربة بالركبة بين فخذيها وتسقط من طولها، عدد الشهقات التي تطلقها وهي ترفص بساقيها وجسدها يتقلب على الأرض قبل أن تفقد الوعي، ويسيل خيط من اللعاب مستسلمًا على جانب فكها، كنت أحسب كم دقيقة لازمة حتى تفيق، وتتحول استفاقتها إلى عويل، وعويلها إلى بكاء يتكوم على الأرض، ويتسرب بطيئًا كخيط من ألم خافت تتشربه الجدران الصماء، بكل استهانة، بلا تلذذ أو رغبة.

كنت أعد وأسجل كل هذا في ذاكرتي بدأب، كل شيء يغدو أكثر احتمالا حين يتحول إلى رقم، كتقارير أعداد القتلى في نشرة أخبار التاسعة مساءً بالضبط. تخلق الأعداد مسافة مناسبة من الألم، بعيدة بما يكفي حتى تتوارى تفاصيله، وعلى مقربة تسمح بتعويض الشعور بتأنيب الضمير. سبع ضربات، مائتان وثلاثة وعشرون مفقودًا، اثنتا عشر صفعة، تسعة وثلاثون قتيلًا، بوكسان، ثلاث دقائق، مائتا جريح، هكذا، ومع التكرار، تتحول محاولات الاحتمال إلى اعتياد، والاعتياد يُضحي تأقلمًا على مضض، والتأقلم إلى حياد متجرد من المشاعر المفسدة للدقة، ومع المزيد من التكرار والمزيد من التدقيق يتحول كل هذا إلى لامبالاة منكبة على عمليات الحساب، ومرهفة تجاه تفاصيلها فقط لا أكثر ولا أقل.


استكملتُ عد الخطوات مغمض العينين، وماما مازالت تسحبني وراءها، ووصلنا إلى نهاية الشارع، ثلاثون خطوة بالضبط من باب البيت كالعادة، وابتهجت، لا المباني تزحزحت ولا الشوارع غيرت أطوالها، كل شيء في مكانه، وكما ينبغي أن يكون. انحرفنا يمينًا في شارع ٢٤، وهو شارع أوسع قليلًا من شارعنا، ولا يزيد عنه في شيء سوى بنادٍ للفيديو كانت أفيشاته نصف العارية لأفلام نادية الجندي وصورة ضخمة لسلسلة أفلام "روكي" مثيرة لتلصصنا ولشهوة مشوشة ونص بريئة. وعلى قمة الناصية التالية انتصب جامع ناصع البياض، بمبنى تفاصيله شحيحة وخالي من أي زخرفة وكأنه مجسم مصغر لمسجد أكثر منه مسجدًا حقيقيًا. وكان الكولدير الملتصق بجداره هو ما جعل الجامع حقيقة أمام ظمأ أطفال المنطقة وللعبهم الماجن. ففي نهارات الصيف المخضبة بالعرق وغبار مباريات الكرة، كان الشاهد على طفولتنا هو الصوت المنعش لتدفق الماء البارد من صنابير الكولدير الثلاثة، ولمعة الارتواء على الأكواب فضية اللون المقيدة به بسلال معدنية نص صدئة، والرائحة الرطبة لطبقة الطحلب الرقيقة التي نمت على حنفياته بإصرار مع الزمن.

مشينا في شارع ٢٤ خمس عشر خطوة، حتى وصلنا إلى ناصية شارع منشية التحرير، الخط الذي ينتهي عنده الأفق الذي يمكنني الشعور فيه بالأمان، فهو كان الشارع الرئيسي الأول الذي كان علينا أن نمر به للخروج من منطقتنا، ولم يكن مسموحًا لي بعبوره وحدي حينها. فالمرور كان مزدحمًا بالسيارات على عكس شوارعنا الجانبية الهادئة، والانتقال من ضفتنا إلى الضفة المقابلة كان يعني عبورًا من مساكن الحلمية إلى مشارف عين شمس، حيث يمكن للأمور أن تكون خشنة بعض الشيء، عبور نحو المجهول، الجانب الآخر الذي ولأننا لا نعرفه بما يكفي، تظاهرنا بأنه غير موجود.

عصرت ماما يدي بقبضتها، بقليل من القسوة المصطنعة، وهي تتهيأ لعبور الشارع، وفتحتُ عينيّ أخيرًا. لم تلتفت هي لا جهة اليمين ولا جهة اليسار، كان تدفق السيارات لا يهدأ، تمر مسرعة واحدة وراء الأخرى، وتلقي بأزيز احتكاكها بالهواء خلفها، ضاربة على ضفتي الشارع بأمواج من الغبار والاستهانة بالواقفين على الجانبين. تجمّدت ماما بضع لحظات مركزة عينيها أمامها بنظرة غائمة، كانت تنصت إلى هدير السيارات الزاعق الآتي من بعيد، في تأمل، بغية تفسير دلالته، وبحثًا عن علامة خافتة لتردده ولحظة مناسبة للاقتناص. وكانت تلك هي الحكمة التي تعلمتها من حياة ضئيلة عاشتها دائمًا تحت رحمة الآخرين؛ الترقب والبحث عن ثغرة.

هبطت بقدم واحدة في حرص إلى حافة الطريق، وغمستها فيه للحظة، وطارت أمامنا سيارة مسرعة بصوت رجرة عنيفة على الأسفلت غير المستوي، ورفعت ماما قدمها وعادت بها مرة أخرى إلى الأمان، وكررت الأمر مرة ثانية لم تكن ناجحة أيضًا، وفي الثالثة، وبوثبة باتساع نفاد صبرها ألقت بنفسها وبي معها في عرض الشارع. سحبتني، وجرت بعزم من لا تملك سوى هشاشة جسدها لتقذف به في وجه العالم وتعطل دوران عجلاته ولو لحظة واحدة، لحظة واحدة من الاعتراف بوجودها فيه، ولو كمشروع جثة هامدة.

جريت معها بين السيارات إلى الجهة الأخرى، كان الأمر أشبه بترقيصات في منطقة الجزاء يتفنن فيها لاعب لا يعنيه إحراز الهدف بل اللعبة الحلوة، وكان جسدي يرتجف بلذة المخاطرة القصيرة جدًا، وأطلقت صرخة فرملة التاكسي الأسود الذي توقف أمامنا فجأة صفير النهاية لمباراتنا الصغيرة مع الموت، ولصالحنا. كادت سيارة الأجرة أن تخبطنا بالفعل، وكادت السيارة النصف النقل التي خلفها أن تصطدم بها. وخرج السائق برأسه من الشباك، وضرب بقبضته على باب تاكسيه بخبطات غاضبه:

يا مرة يا وسخة.

وكانت ماما تضحك بقساوة المنتصر الذي لم تصبه لعنات المهزومين سوى بمزيد من الخيلاء. وتابعت هي سيرها وكأن شيئًا لم يحدث، وأرخت قبصتها قليلًا من على معصمي.

إحنا رايحين فين يا ماما؟

ظهرت علامات الصدمة على وجهها، ولم أفهم لماذا أزعجها سؤال متوقع وبديهي إلى هذا الحد.

امشي وأنت ساكت، مش ناقصاك، كفاية اللي أنا فيه.

مشينا اثنين وسبعين خطوة في شارع منشية التحرير، حتى وصلنا إلى أحد نواصيه، وكان هناك عاملان يضربان بمرزبتين ضخمتين واحدة من تلك الحوائط الصغيرة المبنية بالطوب الأحمر، والتي كانت تنتصب في الماضي أمام مداخل العمارات. وكان والدي قد أخبرني ذات مرة، بأن وظيفة تلك الحوائط هي حماية المباني أثناء الغارات، فانفجارات القنابل، حتى وإن لم تصب المبنى مباشرة، كان يمكن أن تدفع بإعصار هائل من ضغط الهواء إلى داخله، وتحطمه تمامًا لولا وجود تلك المصدات. وكان تلك أشياء محيرة جدًا لطفل في سني حينها، فكيف للهواء أن يسقط هذا المباني الضخمة من الخرسانة والحديد المسلح، وكيف لحائط صغير مثل هذ أن يتحدى القنابل وينقذ عمائر كاملة بسكانها من الانهيار! وكان أبي دائمًا ما يذهلني بمعارفه تلك كلها، عن الحرب والأشياء الخطيرة الأخرى التي خبرها بنفسه، ويعرفها هو وغيره من الرجال البالغين.

كان العاملان قد أثارا ضجة عالية وغبارًا كثيفًا أرغمنا على أن نحيد بضع أشبار عن خط سيرنا، لنتفادى الركام المتطاير. والتفت إلى ماما بحثًا عن تفسير لتغير ملامح الشوارع التي نعرفها:

هما بيهدوا الحيطة دي ليه يا ماما؟

ردت هذه المرة ببعض اللطف، عشان الحرب خلصت من زمان، وبدا وكأن سؤالي هذا أعفاها من الحديث عن وجهتنا. وشجعتني ابتسامها لي على أن أسأل سؤال آخر، بحثًا عن ضمان: يعني مش ممكن ترجع تاني؟

وبدت هي مشغولة بمعاركها الأصغر، الأقرب والأكثر إلحاحًا، أي كيف تعبر الطريق، وجهتنا المجهولة، التورم على وجهها، ذراعها التي تخدلت من جرجرة كيس الزبالة الأسود وراءها، وأنا عبؤها وبهجتها الوحيدة المستترة، كانت الحروب الكبرى آخر ما تريد التفكير به، وأقل من أن تعني لها أي شيء:

ماعرفش، ماتوجعش دماغي بقي.

انحرفنا بعد ذلك يمينًا في شارع صعب صالح، وكان شارع مملًا، بروح منطفئة، تصطف على جانبية عمارات سكنية، رمادية اللون ومتوسطة الارتفاع، ولا تتجاوز الواحدة منها خمسة أدوار في نصفه الأول. وكلما تقدمنا في سيرنا، فيه، باتجاه عين شمس، كانت المباني تزداد بلادة وارتفاعًا وتظهر بقع الرطوبة وشقوقها الدقيقة أكثر وأكثر على واجهاتها. وكانوا يقولون إن الشارع نال اسمه من رجل سعودي كان قد انتقل ليعيش فيه في أزمنة بعيدة، حين كانت المنطقة صحراوية تمامًا، وكان لديه مزرعة بها مائة من الخيول العربية الأصيلة، وثلاث مضخات للمياه الجوفية تسقي سكان المنطقة من حوله.

وكلما مررت بالشارع، كنت أتغلب على قبحه متوسط المستوى بتصور الصحراء التي كان هنا في يوم من الأيام، ففعلت ما كنت أفعله دائمًا، سليت نفسي بقلب العمارات إلى تلال من الرمال تخفى كثير من الأعاجيب خلفها ومداخلها إلى كهوف مليئة بالقصص غير المعروفة، وتحولت السيارات أمام عيني ودون جهد كبير مني إلى وحوش عملاقة وقاسية القلب تزمجر وتطلق صيحاتها الآلية لتخيف المارة، وعادت أشباح الأحصنة العربية التي امتلكها الرجل الغريب لتنطلق إلى الشوارع وتتقافز من حولنا، والصغار وأنا منهم يجرون وراءها أو منها، بينما كانت الطلمبات تقذفنا بزخات من الرذاذ المنعش كالنوافير. ولم يدم الأمر طويلًا، فتلك كانت واحدة من الخيالات الكثيرة التي صنعتها للتغلب على بلادة عالم البلاغين وركوده الثقيل، وأضحت مع الوقت والتكرار أكثر بلادة منه، ولم يكن هناك خيارات كثيرة أفضل من العودة إلى الواقع الكالح، والتخفف من الجهد المبذول في الخيالات بلا طائل.


 قطعنا الشارع من أوله إلى آخره، ولم تنبس أمي بكلمة طوال الوقت، وكان من المفترض أن يكون عدد الخطوات ثلاثمئة وخمس وستين، ولكن فيما يبدو أنني أخطأت في العد، فالطريق كان طويلًا، وكان الشعور بالملل قد شتتني قليلًا. وحين وصلنا إلى نهاية الشارع بتقاطعه مع شارع "الشهيد أحمد عصمت"، أصابني المنظر القبيح للكنيسة الكبيرة على الناصية بقليل من الأسى، كانت تلك الكنيسة تحرق، دوريًا، مرتان في العام تقريبًا. والغريب في الأمر أن تلك الحرائق لو وقعت في الشتاء كانت تحدثت في أكثر صباحاته دفئًا وصفاء ولو حدثت في الصيف كانت غالبًا ما تقع في ليله تلطفها نسائم منعشة وقمر نظيف ومكتمل.

وفي كل مرة، كان رعية الكنيسة، وبعد كل حريق، يقومون بترميمها، وتمحير الحوائط ودهانها بألوان أكثر بهجة من السابق، وتعليه السور المحيط بها، وتقوية الأبواب الحديدية، وإضافة المزيد من القضبان المعدنية لشبابيكها، وإقامة احتفالية بهيجة بمناسبة إعادة الافتتاح، وكانت أمي تحرص على اصطحابي إليها بملابس مهندمة وبزينة كاملة. وبعد هذا كله، كان يظهر عدد أكبر من العساكر على الأبواب، ثم تعاد الكرة مرة أخرى. يلقي أحدهم صفيحة من البنزين وعود ثقاب واحد لا أكثر ولا أقل، فهذا كل ما يحتاجه الأمر لإحداث كثير من الخراب والحزن، وبعد الحريق الأخير، لم يهتم أحد بعمل الترميمات تفاديًا لحرقة القلب، أو ربما لأن الجميع قد مل من تلك اللعبة الرتيبة والتافهة، استمرت الكنيسة مفتوحة للصلوات، وبقيت حوائطها الخارجية مسودة بالكراهية، ويشع منها رائحة الخشب المتفحم والخوف، والمبنى كله تُرك كخرابة مؤذية للعين والقلب عمدًا، جاثمة على الطريق لتأنيب العابرين على ما حدث وتحذير الداخلين إليها من القادم. ودفعني المشهد المقبض والتعب من السير، إلى الإلحاح على سؤالي البديهي: هو احنا رايحين فين يا ماما؟

وظهر عليها نفاد الصبر، مش عارفة، استريحت كده، امشي بقي وأنت ساكت. وهي كانت لا تحب الكلام عادة، أو بالأحرى لم تكن تعرف أن تتكلم جيدًا. كانت إجاباتها دائمًا بسيطة، وعلى قد السؤال، وأحيانًا مجرد ركلة للأسئلة بعيدًا عنها، مملؤة بالخوف مما يجلبه التفكير. ظهرت عليها علامات الحيرة لوهلة، وكأن سؤالي هو ما ذكّرها مرة أخرى إلى أن رحلتنا كانت بلا وجهة محددة، ولم يكن غياب الهدف هذه المرة من باب الفسحة، بل من باب الاضطرار، أسوأ أنواع الاضطرار، أن تفعل شيئًا مجهول النتائج وأن تسلك طريقًا لا تعرف نهايته، فلم يكن لديها بديلٌ آخر غير أن نمشي، نذهب بعيدًا بقدر الإمكان، في انتظار أن يحدث شيئ أو نصل في النهاية إلى مكان ما.

يا ماما، هما مش هيصلحوها الكنيسة؟

لا، كده أحسن، عشان مفيش حد هيبقى عايز يحرق حاجة محروقة أصلًا.

لم تكن إجابتها مقنعة جدًا، لكنني ابتهجت لطرافتها. نجحت في توريطها في فخ الكلام، وأن أخرجها من صمتها وأصرفها عن الأسئلة التي بلا إجابة، وسحبتها إلى الخارج بشبكة الأخد والعطا الحنونة، إلى حواف شاطئ وحدتها. وكانت تلك هي اللحظة التي قررت فيها أن تغادرها، وتمد يدها طلبا للمساعدة. توقفت لوهلة، وتلفتت حولها، ناظرة إلى الخلف تجاه الكنيسة بعد أن كنا قد تجاوزنا بوابتها بعدة خطوات. وشدتني بعزم من ذراعي راجعة إليها. وفيما بدأنا في الاقتراب شعرت في صدري ببعض الضيق، الانقباض المعتاد الذي يعتريني حين أمر بالقرب من الكنائس أو حين دخولي إليها.

في الخارج، كان هناك جنديين نحيلين، مطروحين على جانبي بواباتها المعدنية، وكانت واحدة من تلك البوابات التي تنزلق على بكرات صغيرة من الصلب يمكن تخيل صرير حركتها المزعج حتى وهي ساكنة. وكان أحد الجنديين ناعسًا بفم مفتوح على كرسي بلاستيك، بلا مسند للظهر، يشبه طقاطيق المقاهي أكثر ما يشبه كراسيها. والآخر كان على الجانب المقابل واقفًا بوجه ممصوص، وهو يسند كعب بندقيته بتراخٍ على الأرض، وماسورتها موجهة نحو الأعلى بميل خفيف إلى جانبه. وكان علينا المرور بين الجنديين، كعادة دخول الكنائس. وانتهزت الفرصة، ونظرت في تلصص داخل فوهة البندقية المائلة تجاهنا، فمشهد الأسلحة أمام الكنائس وحولها كان دائمًا ما يصيبني بخليط من الريبة والفضول، وفي كل مرة رأيت عن قرب واحدة من أدوات القتل تلك، شببت على أطراف أصابعي للنظر، ولم يكن هناك في داخل الماسورة سوى مهابة لون الظلام الأسود، وخوفي من أن تنطلق رصاصة، وتستقر في رأسي على سبيل الخطأ.

كدت أن أنكفئ على وجهي، وهي تسحبني إلى الداخل، تعثرت في إطار البوابة السفلي المرتفع قليلًا عن الأرض، لكن ماما كانت ممسكة بيدي بأحكام. اختل توازني، للحظة، وتهاوى جذعي في عنف إلى الأمام، وبحركة خاطفة شدت هي ذراعي إلى الأعلى، ورفعتني في الهواء، نصف مشنوق ونصف طائر، وكان في هذا شعورٌ غامرٌ بالطمأنينة.

اتنيل بص قدامك، وامشي عدل.

في الداخل عبأت رائحة الخشب المحترق الحوش المفتوح سقفه إلى السماء، وطبقة من السخام الأسود لونت حوائطه، وكانت الأرضية مفروشة برمل جديد نظيف وناصع، ولم يشوهها سوى خط من الرماد الدقيق المتساقط بمحاذاة سور الكنيسة وحوائط مبانيها.

 قطعت ماما الحوش تجاه قاعة الكنيسة بخطوات متأنية، وتبعتها بنفس الحرص وأنا أحصي عدد خطواتي من نقطة إلى أخرى كالعادة، ست عشر خطوة من الباب إلى الباب، ودخلت هي بقدم واحدة إلى داخل القاعة الفارغة، وكان هناك شيء ملفت وجذاب في مشهد الكنيسة المحترقة من الداخل، يشبه تلك الوداعة التي تغلف الخرائب، مسحة من جمال تنكشف بهدوء، من تحت طبقة الدمار الظاهرة على السطح، بسببها وبالرغم منها.

 رشمت ماما الصليب على عجل، ووجهها شاخصٌ إلى المذبح. ووقفت أمام أيقونة للعذراء والطفل، وكان جسد يسوع الصغير عاريًا ومكتنزًا ومملوءًا بالترهلات، واحدة من تلك الأيقونات التي يظهر فيها الأطفال بملامح ممسوخة كأوجه البالغين أو تحوير مخنث لها، وبابتسامات مملؤة بنوع من الخبث المتقد بالشقاوة. تمتمت ماما بضع كلمات، لم أتبين منها سوى " يا أم النور..يا ملكة" وهي ترفع يديها إلى أعلى في توسل، وكانت نظرة العذراء لها باردة ومستسلمة. وبظهرها تراجعت من قاعة الكنيسة بقليل من التردد، وخرجت مع زفرة ارتياح كأنها أدت واجبًا ثقيلًا.


واستعادت خطواتها الثقة مرة أخرى، حين استدارت قاصدة الغرفة الوحيدة التي لم تمسها النار في الحوش. فبقية الغرف بدت محترقة بالكامل، على الأقل من الخارج، كان هناك كانتين يبيع الوجبات الصيامي الخفيفة والمشروبات الغازية، ومكتبة للأيقونات والكتب الروحية وشرائط الترانيم، وكشك صغير لفرّاش الكنيسة الذي كان يمشي بعرجة خفيفة، كل هذا قد ذهب في الحريق. وبمجرد أن اقتربنا، اتضح أنها لم تكن غرفة حقًا، بل أقرب إلى الكشك، ويبدو أنها بنيت على عجل بعد الحريق الأخير، بمسمرة ألواح من الخشب الحبيبي مع بعض عروق الخشب المزروعة في الأرضية الرملية، ومن فوقها طبقة من أغطية المشمع للحماية من عوامل الجو.

خبطت ماما بقبضتها على باب الكشك المفتوح، ودون أن تنتظر ردًا تخطته. في الداخل كان هناك قس شاب ونحيل، بعباية سوداء متسخة قليلًا، وذقن شبة جرداء، أضفت على مظهره قدرًا شحيحًا جدًا من الدفء والمهابة. وحين خطونا إلى الداخل كان الرجل في نصف غفوة، مسترخيًا على كرسي خشبي ويحيط به أكوام من الصناديق الكارتونية المرصوصة على الأرض في أكوام. وفتح الرجل عينيه ببطء، وبدت من الطريقة التي حدق بها فينا أنه ضعيف البصر، وابتسم في وجهينا، معتذرًا عن الفوضى التي تعم المكان، وسأل أمي عن غرض زيارتها، باندهاش حاول أن يخفيه قدر المستطاع. ودون أن ترد، دفعتني هي برفق في اتجاه الباب.

استني أنت بره يا حبيبي، عايزة أبونا في كلام بتاع كبار.

نكست رأسي علامة على الرضوخ، وخرجت، ولم أبعد كثيرًا عن مدخل الكشك، جلست على الأرض على بعد أشبار، وسليت نفسي بالعبث برمل أرضية الحوش، وأزحت بعضًا من حبيباته كاشفًا عن طبقات الرماد من تحته، ورجعت فردمتها مرة أخرى، كأني أخفي آثار جريمة قيدت ضد مجهول أو ماض لا يريد أحد أن يتذكره، وفيما كنت أفعل ذلك، كنت قادرًا على إصاخة السمع، دون مشقة كبيرة، والإنصات إلى حديث أمي مع الكاهن في الداخل، ولم يكن هناك ما ينبغي إخفاءه عني، فأنا كنت أعرف كل شيء، وشاهدًا على كل شيء، وشريكًا أيضًا في كل شيء. وكان هذا ما يزعجني دائمًا، فلماذا يصر البالغون على قناعتهم بأن الأطفال عميان، لا يرون ما يجري من حولهم! وأنهم صم لا يسمعون صوت التأوهات واللطمات على الوجوه وهمهمات الخوف؟ وما كان يغضبني أكثر أنهم في الحقيقة لم يبذلوا جهدا ليخفوا عنا نحن الصغار كل تلك الأشياء الرهيبة.

كنت أعرف كل ما حدث، وكنت مبتهجًا حين لململت ماما بعض من ملابسها وملابسي ووضعتها في شنطة بلاستيك سوداء، واحدة من شنط القمامة الكبيرة تلك، فلم يكن لدينا حينها شنط سفر. وقبل أن تفعل هي ذلك، كنت قد سمعت أنا وعمو رجائي وطنط هيلانة خمس خبطات آتية من المطبخ، وكنت متيقنًا تمامًا بأن هذه أصوات ارتطام رأسها بالحائط، وإن بابا كان يضربها. خرجت هي بعدها بثوانٍ وأبي ورائها، ولم يبدو عليها أي حزن ولا غضب، كان نصف جبهتها الأيمن متورمًا قليلًا مع بعض الاحمرار، وحاولت أن تخفى ذلك كله بابتسامة فاترة، ومع برودتها كانت صادقة تمامًا.

دخلت إلى الصالة مهرولة، ورن في صوتها شعور ثقيل بالذنب وهي تعتذر لطنط هيلانة، والله والله ماجاش علي بالي..حقك عليا، ورفعت بعجلة الأكل الصيامي التي كانت قد وضعته أمام الضيفة ، وجرت إلى المطبخ، والأطباق ترتجف في يديها. وعادت ماما إلى الصالة بالفتة الفطاري، ووضعتها أمام الضيفة مثل بقيتنا. وكانت طنط هيلانة مذهولة مما يحدث، ونظرت حولها بحاجبين مرفوعين من الدهشة، وفم فاغر على آخرة في توسل يستجدي تفسيرًا ممن حولها.

وفجأة فهمت، وانفجرت طنط في البكاء، فقد أدركت أن هذا كله حدث بسببها.
حرام عليك ياموريس، تنكد علينا كده ليه! هو أنا ناجصة، مش كفاية الغلب اللي أني فيه!

وربت عم رجائي على كتف زوجته بشفقة، وضمها، وطلب منها أن تهدأ خوفًا على صحتها، فالحزن مضر بها، كغيره من العواطف الجياشة، والأكل المقلي، وأشياء أخرى كثيرة، وكنا جميعًا نعرف ذلك طبعًا، وكيف تنساه ماما! فقبل عدة شهور اكتشف الأطباء أن طنط هيلانة مصابة بالمرض الوحش، وأنه انتشر من ثدييها إلى بقية أعضائها الداخلية، وكان كل من حولها يعرف أن حالتها تتدهور بسرعة، وأنه لم يكن أمامها وقت طويل.

تقدمت ماما تجاه المرأة نصف الميتة، وأخذتها بين ذراعيها، وضمتها محاولة تهدئتها، وبدت وكأنها تغالب دموعها حتى لا تسيل، وتزيد من حزن ضيفتها، لكن مواساتها لم تنجح سوى في تهييج طنط هيلانة، التي بدأت في قرع صدرها بكفها.

يا حبيبتي... أنت برضوا اللي تطبطبي عليا!

 رفضت طنط أن تضع لقمة في فمها، وأصرت ألا تذوق الزاد مع كل توسلات زوجها ومحايلة ماما. وبعد كثير من المناهدة، قبلت أن تصعد إلى غرفة النوم لتمدد جسدها وتستريح قليلًا، وأعطتها أمي كتفها لتستند عليه، اثنتي عشر درجة من الدور الأرضي إلى بسطة السلم صعدتها وهي متكئة على صدر أمي، وكنت أعد وراءهما، واستراحت على البسطة لبرهة كافية لأن تأخذ نفسها وتضم ماما وتقبل رأسها، وأكملت الثلاث درجات الباقية وصوت لهاثها يخفت مع كل خطوة.

كنت معهما، في غرفة النوم نصف المظلمة، وكانت طنط هيلانة مطروحة على ظهرها على الكنبة الأسيوطي، دون أن تغير ملابسها، وتتكلم وهي شاخصة إلى السقف بعينين مفنجلتين، وقالت لأمي أن عليها أن تسيب البيت وتمشي، وألا تصبر على هذا الغلب، فالزعل هو ما أصابها هي بالمرض الوحش، الزعل هو ما سمم بدنها، ونهش أحشائها قطعة قطعة، القولون أولا فالكبد وبعد هذا إلى الرحم فخلايا الدم، والآن فات الأوان، ضرب السرطان في كل جسدها، ولم تعد لمحاولات عمو رجائي تعويضها عن القسوة التي رأتها معه وبسببه أي جدوى.

ألحقي نفسك يا أم شريف، ما تغلطيش غلطتي.

كنتُ لا أزال جالسا ألعب بالرمل في حوش الكنيسة، حين سمعت ماما تكرر جملة طنط هيلانة تلك لأبونا أكثر من مرة. كنت مبتهجًا لأننا تركنا البيت ساعتها، وممتنًا للضيفة المريضة ونصيحتها وإلحاحها عليها، كانت تلك هي المرة الأولى التي تفعلها ماما من نفسها، فهو من كان يطردنا دائمًا بعد كل خناقة، وأحيانًا يفعلها دون مقدمات، فبعد يوم رتيب وخالٍ من الأحداث، ينتظر حتى حلول الليل وينتزعنا من أسرتنا ويلقى بنا إلى الشارع. وكان يفعل ذلك كله بصرامة هادئة، بلا تشفّي أو غضب، وكأنه يقوم بدور حزين مجبر عليه، وينفّذ قانونًا ما لعدالة معصوبة العينين.

كنت سعيدًا حقًا أننا رحلنا، فلم يكن هناك ما هو أكثر مرارة من حياة تحت التهديد المزمن، العيش مع الخوف من أنه سيرمينا زي الكلاب في انصاص الليالي، كما يقول. لا يكسر القلب شيئًا أكثر من ألا تشعر بالطمأنينة في بيتك، أن يكون سريرك منبتًا للخوف، وأبواب المنزل المحكمة سببًا أدعى للتوجس، وأن تضحي الجدران التي تستتر خلفها من الغرباء أسوارًا للقلق وظلًا ثقيلًا لحالة لا تنتهي من الترقب، وأن تكون اليد المفترض بها أن تربّت على صدرك وتمسح على جبينك هي التي تنتزعك من نومك وتلقي بك إلى كوابيس اليقظة ووحوشها.

"يعني احنا نقدر نعملك إيه دلوقتي يا بنتي؟"

كان صوت أبونا مهزوزًا قليلًا بفعل الحيرة أو ربما من العجز، ولم يكن لدى أمي إجابة جاهزة. فما روته للقس لم يكن يسير نحو نهاية مقررة سلفًا أو خلاصة واضحة، كانت هي تعرف أنه من السهل الحديث عن الحزن، وهي تحفظ من قصصه الكثير، فما أكثرها، وأبونا أيضًا على الأغلب سمع عنه الكثير، بحكم وظيفته.

وتعرف هي أيضًا أنه من الأصعب أن يروي المرء قصصًا عن السعادة، ولم يكن لديها ما تقوله بشأنها ولم يكن يعنيها أن تحكي عنها، فكل ما سعت إليه هو أن تعطي القس فكرة منصفة عن مدى تعقيد قصتها وعن الطبيعة التافهة للتعاسة.

لم تكن هذه مرتها الأولى، فهي كانت هناك مرات كثيرة، وتعرف ما يقوله الكتاب، الرجل يترك أباه وأمه ليلتصق بامراته، ليكونا جسدًا واحدًا، فكيف للجسد الواحد أن ينقسم؟ وكيف لها أن تقطع الرأس وتفصله عن بقية الأعضاء، فالرجل رأس المرأة كما أن المسيح رأس الكنيسة، هكذا يقول الكتاب. وما يجمعه الله، لا يفرقه إنسان. كانت تعرف ما سيقوله القس، وغيره من الناس، هذه شوكتها، صليبها الذي عليها أن تحمله بصبر. وكان سيضرب لها القس مثلا بالعذراء، التي جاز في نفسها سيف، واحتملت.

وكانت هي سترد كالعادة: "بس أنا مش العدرا يا أبونا".

 

شادي لويس بطرس (مواليد 1978) روائي وصحفي مصري تهتم كتاباته بالتقاطعات الثقافية والسياسية داخل العالم العربي وخارجه. يعيش في لندن، حيث أمضى سنوات عديدة في الخدمة الصحية الوطنية وإدارات الإسكان في السلطة المحلية، حيث عمل مع المشردين والمرضى ذوي الاحتياجات المعقدة. نشر ثلاث روايات حتى الآن، بدءا من طرق الرب (2018). ترجمت روايته الثانية "على خط جرينتش" (2020) إلى الفرنسية والألمانية. الثالث هو تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة (2021). تتناول رواياته التاريخ الاجتماعي للمسيحيين الأقباط ومسارات الهجرة من مصر إلى الغرب.

سلمى مصطفى خليل مترجمة مصرية وباحثة اجتماعية وسياسية مقيمة في لندن. تهتم أعمالها في الترجمة بالبحث على قضايا النوع الاجتماعي والأقليات، سواء في العالم الناطق بالعربية أو بين المغتربين في جميع أنحاء أوروبا. وهي باحثة مشاركة في جامعة برمنغهام وجامعة بنسلفانيا ومترجمة في مركز الشرق الأوسط في كلية لندن للاقتصاد. تتماشى أعمالها الأدبية واهتماماتها مع أبحاثها الأكاديمية، حيث تركز على تمكين أصوات الشباب العربي في كل مكان من خلال التوجيه التحريري والترجمة.

العرب المسيحيونالأقباطالعنف المنزليمصرالكتاب المصريون

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *