قصة قصيرة لأحمد كامل: موعد على العشاء

أحمد فريد، "فضاء لا يعرف الزمن"

أحمد كامل   By • 22 DECEMBER 2025

عن العلاقة المسمومة بين كاتب وزوجته، يكتب أحمد كامل قصة قصيرة بديعة، حيث يستكشف الديناميكيات التي تدفع الاثنين للبقاء معًا رغم كل شيء.

للولد الجرسون ابتسامة سمجة، منحوتة على وجهه؛ كأنه مولود بها، من النوعية التي يمنحها لكل زبون بلا فارق. ابتسامة مُهينة؛ ليست من حُسن الضيافة في شيء، فهي ببساطة تُهدر خصوصية الفرد وتساوي بين الناس، طالما في الجيب مقابل وجبة عشاء هنا، لا أكثر.
خطر هذا على بال محمد النوحي والجرسون يجذب المقعد المقابل في تهذيب كي تجلس ساندي النمر.
وفكّر النوحي، لماذا لا ينهض في إثره ويحاصره في أحد زوايا المطبخ، يضع سكينًا فوق عنقه ويهمس في أذنه: «يا ابن الكلاب، أنا النوحي، فزتُ اليوم بجائزة الروائي العربي، وأستحق ابتسامة مختلفة».
لكن هذا يحدث فقط في رواياته، حيث تسيطر على الأبطال حالة الحماقة الحكيمة، وتستشري الفانتازيا المهووسة بإمكانية ولوج الفيل في است نملة، فيما تتجاهل أي معنى أو مغزى لهذا الولوج، كما لا تتقيد بنتائجه أو مبرراته داخل النصّ، طالما أن أصدقاء النوحي يُمكنهم التكالب على أي قارئ يتساءل: «لماذا؟»
وبسبب هذه الخلطة الفنتازية، تعرّض النوحي (في زمنٍ مضى، وقبل صناعة مثل هؤلاء الأصدقاء) للانتقاد والرفض، وصولًا إلى نفي الموهبة عنه تمامًا من جانب البعض، رغم جماليات اللغة التي قامت بالتخفيف من أثر هذا التشوش، الخالي من أي مجهود عقلي، والمحكوم بأي ما يرد على باله أثناء الكتابة، دون ضابط ولا رابط، لكنه المُستحسن من ناحيته كدليل على قوة خياله. وهو الدليل المُستخدم بالأساس لمداواة شكوك النفس حيال عظمتها في الليالي السود، والذي يُمكن تعضيده بحيلة أخرى اسمها: «أنا أجرّب، كأي عظيم في بداية مساره». غير أن الحيلتين كانتا مطروحتين بالأساس للاستهلاك الذاتي، أكثر من تمثيلهما قيمة لرفع أسهمه في سوق الأدب.
ظلّ هذا حال النوحي لسنوات، إلى أن هداه اليأس والخشية من عبور الدنيا دون تذوق عسلها إلى فتح “الكراسة الصفراء”؛ نعمة اجتهاده بعد زمن البطالة، ويدّ السماء التي قررت التدخل في الوقت المناسب لإنقاذ موهبته.
حدث ذلك أثناء عمله مُعدًّا في أحد برامج الثقافة الخليجية، وبعدما تمكّن من إحكام قبضته على دماغ رئيس القناة، واستفراده بكل صغيرة وكبيرة في البرنامج، بما فيها مسؤولية اختيار الضيوف، الذين ينالون هكذا فرصة ظهور وسفر مع ظرف يحوي مبلغًا محترمًا.
هكذا كُتبت الأسماء في الكراسة الصفراء، يومًا بعد يوم، هكذا صار جميلُه فوق الرؤوس كشبكة عنكبوت، هكذا صاروا حجارته التي يستخدمها لبناء الهرم. فمنهم المتصدّون كجدار أمام أيّ نقدٍ يوجّه إليه، ومنهم المنوّهون بعظمته السردية فور صدور أي جديد، ومنهم -حتى- من يتولون ترشيحه لقوائم الجوائز، وهلم جرا… آهٍ لو اكتشف الكراسة قبل سنين…
«ألف مبروك يا حبيبي». كالعادة، ساندي، تقطع أفكاره، ابتسم لها في هدوء. ربما تُبارك للمرة العاشرة في غضون ساعة. تُبالغ في الفرحة، وذلك أيضًا مُهين؛ كأنها أم تشهد خطوة غير متوقعة من طفلها المعوّق. إن دليل العظمة -في نظره- استقبال المجد بلا مبالاة، في هدوء، لكن من يفهم ويمسك العقل؟
لن ينسى كيف جعلته ذات مرة مادة سخرية، بمبالغة احتفالية مماثلة، ومن يومها أقسم ألا ينساق أبدًا خلف هذا الهبل. فمنذ سنوات، نال جائزة في إحدى مسابقات الرواية للأدباء دون الأربعين، وأصرّت ساندي على حضوره الحفل بربطة عنق فراشية فاقعة اللون. ليلتها تلقاه ذلك الولد الذي نال المركز الأول، وكان هندامه أبسط من النوحي الذي احتلّ ربما المركز الثاني أو الثالث، فبادره بإمساك طرف الربطة ضاحكًا: «فرح مين يا نوحي؟» وكله من تحت رأس ساندي.
على أنها جميلة لا تزال، وما زال للجسد والوجه تكوين القطة؛ اسمٌ على مسمّى، نمرة صغيرة، رغم شحوب انكسار الآمال والهزائم الذي يكسو الوجه، والذي بات كطبقة عظيمة لم يفلح في كشطها أي انتصار حققه لها أو فرح. لكن ما يزعجه أن نظرتها دومًا تحمل اتهامًا بأنه أحد أسباب هذا الشحوب، بل سببه الأكبر. هكذا تعتبره حقًّا صليبها، هو أيضًا يراها صليبه.
فحتى هذا الذبول أمكنها توظيفه، ضمن أدواتها الأخرى، كي تتنزع منه ما تريد. ماهرة في إشعاره بالذنب، في اللوم، ماهرة في البكاء، في أغاني المظلومية؛ في دفعه كي يضع دماغه راضيا بين أسنانها عن طريق إيهامه بالتقصير، رغم أن المحبة كانت كفيلة بتقديم قلبه لأسنانها في أيامهما الأولى.
لقد أحبها وأحبته؛ وتعاهد الكفّان على الالتصاق أمام عمدان النور وأشجار الرصيف، أمام غرباء أرادوا الفصل بينهما والمرور، أمام أيام نشاط أحدهما وكسل الآخر، أمام ما أمام. لكن كفّها سرعان ما تململت وطفقت عيناها تتلفتان، وشعر بالكفّ تنتفض كعلامة همّ بالفكّ. وهنا تبدى لطموحها اتجاه مخالف تمامًا عن مساره.
هي تجلس قباله عند ضفة النيل صامتة والعبيط يدندن: «عمري ما اتعودت تبقا معايا وتفكر لوحدك عمري، قولي مالك ساكت ليه». مركبٌ شراعيٌّ يتهادى والموج ينفرج تباعًا قبال مقدمته المدببة كساقين عظيمتين، ما يلبث أن يصدّ غوايتهما الشاطئان. هي تنقر بالأظافر فوق مفرشٍ بلاستيكي مزركش بورود باهتة، تتناول رشفاتٍ قصيرة متسارعة من عصير برتقال، تفلتُ الكوبَ في عصبية، وتنظر نحوه باستياءٍ جاف، كأنه استثمار تأخرت عوائده. تثرثر حول انتقاله إلى بلدٍ خليجي، حول تدبير نقود كافية لفتح بوتيك، حول وجوب مباشرته عملًا محترمًا، عن العودة لحضن أبيه ومنع إخوته من الاستفراد بخير الرجل. وجب عليه وقتئذٍ أن يُصغي ولكنه لم… في رأسها أفكار حبيسة، خيالات شيطانة مكبث: «أمير غلامس أنت وكودور ولسوف تكون ما وعِدتَ به. لكنني أخشى طبعك. إنه أملأ مما ينبغي بحليب الإنسانية. تريد العظمةَ ولست خاليًا من طموح. لكنك بلا الشرّ الذي لا بد أن يصاحِب».
لقد اكتشفتْ أن لا ثمرة للأدب، كما تخيلتها بادئ الأمر، وتوجّب السعي في اتجاهٍ آخر. النوحي مُكرّس للكتابة، معزول، يريد صناعة الأمجاد انطلاقًا من حجرته، لقد خطط أن يذهب من هذا المكتب الخشبي المتهالك رأسًا إلى حفل نوبل. ساندي تضع طفلها الأول والبيت محاصر بمطالب، يغلي بطموح النمر، تُقارن حاله بالمحيطين وتزدري نضاله الذي لا يسفر عن غاية.
ربما لم يكن فتح شيء كالكراسة الصفراء أو الانغماس في ألعاب الحواة من شيم النوحي الأصيلة، ليس في ماضيه إشارة؛ لقد كان في صباه من أنبياء السذاجة. ربما اكتسبها من عِشرة مهووسة الأحلام، التي وضعت يدها على حُفَر الوهن والطمع في روحه، وظلت تضرب ما بينها بالمعول، قدر ما استطاعت، تاركةً للزمن فرصة وصل ما بينها كي يجري فيه التيار.
هي تُدثّر الصغير النائم، تقعد مُطرقة فوق طرف الفراش، تطوي في كومة ثياب ملمومة توّا من المنشر، تغمغم بكلماتٍ عن فطنة ونباهة النبتة المحتاجة إلى نورٍ وسقاية، كيما تنبت بالظلّ الوارف. وتنقل بخبثٍ أمومي، إعجابَ الناس بالنعمة التي حازها النوحي، فيما تعدد مزايا الطفل، الواردة بغبطة على لسان الناس. وتستعيذ من شرّ العين في خوف دلعٍ مُلفّق، ما يلبث أن يلقى تصديقًا أموميًا لينقلب فورًا، عبر نبرة شغوفة راجية، إلى خشية أصيلة.
تؤشّر بطرف الذقن نحو الطفل، ثم تحدج النوحي بنظرة ملام، وتتساءل عن مستقبلٍ مجهول. هو كذلك يتأمل الولد، لكنما بعيدًا عن وساوس ساندي. يلتصقُ بحافة الفراش، يتلمّسُ تقاطيعه، تتجمد أصابعه حول العنق ضاغطةً لبرهة، يغلي تساؤله بدوره: «أأنا مكبث أم بانكو! ملكٌ.. أم والد ملوكٍ وليس منهم!» يؤرّقه اقتصارُ دوره على الجسر اللازم لعبور ذريته، ويرغب بدلاً في توريث القلعة المنيعة، الموشّاة باسمه.
ظلت تحاصره النمرة، تضغط بلا هوادة، والنوحي (مستعينًا بالإيمان بنفسه وبشروق شمسه) جلده ثخين، لكن ذلك لم يمنع بحثه -بلا جدوى- عن انتصار سريع يسدّ به خشمها.
وعمومًا فهي لم تعول أكثر فتركيبتها عملية، وعند حدّ معين تصرفت كمقامرٍ عريق، استسلم لخسارة هذا الدور فانصبّت عيناه تلقائيا على الدور التالي.
ذهبت نحو مشاريعها، أينما كان المال ذهبت. هو انزوى أكثر في أحلامه. وقد أنزلته رويدًا من منزلة الزوج إلى منزلة طفلها الآخر، طالما لا يعيق ما تتخذه من قرارات.
لكن شيئًا في لحظةٍ ما نغصه، لمّا رأى في مكاسب ساندي ما ينتزع من رجولته الرمزية، ويؤدي بالتالي إلى إهمالها رجولته الهرمونية.
هذا وغيره سوف يرد على لسانه -في ما بعد- كمبررات، عند لصقه ورق التوت على قيح الخيانة. لكن ثمة من يعتقد أن الإنسان -في الأول والآخِر- حيوان، فيعزو تلك الغصّة الرجولية المزعومة إلى “الطفاسة” في المقام الأول، وأن ثوب التحضّر هو ما فرض على النوحي احالتها إلى كسر الرجولة الرمزية، لستر عورة شهوته.

أحمد فريد، “فضاء لا يعرف الزمن”، وسائط مختلطة على قماش، 175 × 225 سم، 2019 (بإذن من ahmedfaridart.com)

فتاته الجديدة طفلة؛ أصغر منه بأكثر من 10 سنوات، تتلمس خطواتها في العاصمة. زجّ بها النوحي في المصطلحات المستعصية وأوهام ملكوته مستقبل الأدب فنجح في إشعال الشرارة.
وعلى غير المألوف شاع غيابه عن البيت ولم تنتبه ساندي؛ هي أيضًا غير موجودة. لكنه أتى ذات ليلة وجلس على أطراف أطراف الفراش، كمن يستعد للركض بعد قذف طوبة. دفع الساقين المجهدتين بيدٍ مرتعدة وللرأس المُخدّر حكى؛ مبرزًا على الفور رغبة انفصاله دون مقدمات. فكانت الصدمة والاستيعاب، ثم الصراخ والسباب والبكاء، فالهدوء ومحاولات فهم، تنطوي على متى وأين، وتؤخِّر بعض الشيء “لماذا؟”. قبل السؤال في حذر عن خصمتها، من أين؟ ماذا تعمل؟ أتكتب؟ قبل أن يستولي تماما عليها الفضول، فتذهب إلى كيف تبدو؟ جميلة؟ شبه من؟ طويلة أم قصيرة؟ العين، والشعر، والبشرة، وأقرب ستايل؟ و… و… و…؟ ثم لأي مدى ذهبا؟ هل.. هل عاشرها؟ وبكاء يكتم السؤال عنها في الفراش، قبل الصراخ الوقح الذي يعلنه مهملًا جسدها على مدار شهور، وقد أحسّت قبل ظهور القرينة. وبهذه الحُرقة تعود إلى الذات، فتستعرض تضحياتها بلا نظام وفي تكرار، لكن من زوايا مختلفة، قبل بثّ الشكّ بشكلٍ متوارٍ في صدق الحب الجديد؛ «متأكد؟» تُلحّ ولا تسمع إجابة، فتُسمّيها نزوةً، نعم نزوة، من منطلق فهمي والعشرة أقول، واحذرْ، فلا بد وأن تنتهي بالندم. ما تلبث أن تجأر مغيظة في توعّد كعرافة ترى في مآله هذا الندم. كلّ ذلك قبلما تدنو وتحتضنه، بالدموع، التي تستدر منه أيضّا دموعًا ولا تدري، أتوبة أم شعور ذنب؟ أم إعلان عجزه عن مقاومة الحب الجديد؟ ينهنه كطفل وتأخذه؛ يهبط الرأسان على الوسادة، ثم تتردد همهمات واهنة لا مفهومة، تذهب بهما لنومٍ متقطع كثيف الأحلام.
وكان الصباح فكانت ظاهريا ساندي العادية، لكنما مُقنّعة بشيء من تحفظ حذر، أشبه بزيادة أدب؛ كأنها في حضرة غريب. وقد رأت في اعترافاته والنوم بين ذراعيها رغبة توبة؛ وبحسّها الأنثوي فضّلت ألا تعجنها وتتركها تختمر.
على أن الليل حمل تجدد الاعترافات، بل واحتوى سؤالها عمّا يناسبها من ترتيبات مستقبلية، قبل البكاء والنوم كالسالف.
هكذا ظلّ نهارهما أخرس والليل موحٍ باحتمالات؛ هدنة نهارية ثم جيوش مسائية من مكر توظيف العهود والعِشْرة والأبوة أمام شهوة مُقنّعة بلذة استعادة البدايات، يتخللهما إبداء مذلة وغضب استفاقات كرامة. ولم يرض أحدهما أبدًا أن يبادر بالانسحاب.
كانت ساندي تحمل في جيناتها شيئًا مدفونا بعمق، يرفض الخسارة أمام امرأة أخرى، شيء من أسلافها تملكّها بصورة غاية في البدائية، وتصرّف على عكس ما تبديه من قوة أو استغناء.
وكأنما تشحن أنفارًا لمزرعة شحنت لقضيتها أصدقاءه ومعارفه. هكذا أرادت استغلال حيرته وقتلها بالكثرة، كما رأت أن تلك اللقاءات تستلب من وقته المخصص للبنت.
أما النوحي، المتأرجح بين النمرة والحبيبة، الذي ينام طفلًا ويصحو كرجل، القابع في حِجْر ساندي كآدم في الجنّة، بأقل التزام أو أعباء، المُتفرغ هنا للأدب والجمال والفنّ، ثم المتخلّي خلال النهار في حُضن الصبية، وبكامل إرادته، عن هذا النعيم. النوحي الهابط بإثمه إلى الأرض، حيث ممارسة دفع العربة، وهو جانب نساه في زمن الأحصنة التي وفرتها ساندي، لكنه الجانب اللذيذ والدرامي ككل الخطايا، كمغامرة ابن ناس في الحواري بعد الحبسة في قصور الملل، على أن الجميع يعلم تمام العلم، أن مآل الولد العودة والاستحمام مع قصّ الأظافر، ثم إلى النوم في فراشه الذي ترعاه ملائكة.
لكن من ذا الذي يجد مسارًا مفتوحًا بين مغامرة الأرض وطمأنينة الجنة ويتعجّل غلقه! هكذا رأى النوحي أن لا ضير في إطالة وقت اللهو طالما ضمن أن باب ساندي سيظل مفتوحًا.
في هذه الأثناء، كان المقربون المدفوعون من قبل ساندي يتناوبون عليه كل مساء، مع تبني وجهة نظر الزوجة حيال كونها نزوة لا أكثر. وفي أحيان، وحينما تنتهي الجلسة بإبداء النوحي بعض اللين، يتناوله الصديق من يده نحو البيت ليضمنه برقبته ويطمئن إلى قيام الصلح، بما يوفر عليهما في هذه الليلة بكاء الحجرة ونزاعها.
على أن انكسار مقاومته بشكل متجدد دفع الجلسات إلى منحى زجره لاتخاذ قرار حاسم، يقطع أمل ساندي ويوفر عذابها.
ولا يعني ذلك غياب أشكال أخرى آمنت بحقه في الحبّ المتأخر منذ البداية. على أن بعضها كان مدفوعًا للسماع بغرض التلذذ بعيش مغامرة مرغوبة من جانبه، خصوصًا في ظلّ وجود باب توبة للنوحي المحظوظ، كما اعتبروه، لكن طباعهم البعيدة عن المقامرة بردّ فعل الشريكات كان يفرض الحذر.
على أن الأكثر غرابة هؤلاء، الذين حملوا في دواخلهم الأمنية ذاتها (عيش التجربة الأرضية) لكنهم (وبدافع ما يمكن تسميته الحقد على ما ناله النوحي من تسامح امرأته حتى الآن) حاربوه بضراوة، متلبسين المبادئ والانتصار لأخلاق العائلة والتعاطف مع الزوجة، ثم كانوا في ما بعد، لمّا قررت ساندي الانفصال، النواة التي اعتمدت عليها في تجريسه، وقد أبدوا الشماتة به فرحًا بوجود خسارة وثمن مدفوع لأفعاله.
إن هذه الجلسات، بما حرّكها من نوايا، ربما تُطرح في حديث آخر، فالأهم الآن تلك الأمسيات التي قضاها النوحي مع صديقه سعيد الجمل، والتي أقرّ لاحقًا بأنها أحد أسباب تركه الفتاة.
ففيها اعتمد سعيد، ببساطة، على رسم صورة جميلة لحاضر حبه ومن ثم سؤاله عما يتوقعه من الفتاة، حين يبلغ من العمر 50 أو 60 عامًا؛ وتكون البنت في أوجها، في الثلاثينيات مثلًا. هل يضمنها؟
هذا الشكّ الذي بذره سعيد تعزز بسهولة حصول النوحي على البنت، فهو من الطراز الذي تزوّج ساندي المحجبة، التي لم تسمح له قبل العقد بأكثر من يدها وأشياء مختلسة خفيفة، بذلتها من باب محبتها له بغير اشتهاء فعلي منها. وعلى ذلك، فالنوحي لديه في الداخل تلك الحدود وإن أبدى ظاهريا عكس قناعاته.
وهكذا، كان النوحي بصدد استنزاف تسامح ساندي لآخر قطرة وكانت العودة مسألة وقت. كما أنه أثبت لها بشكلٍ ما، من خلال مغامرته، أنه رجل لا يزال سوقه رائجا، وكان هذا في نظره مكسبا آخر تلازم ونفحة غرور، نحّت عنه الصدأ المتراكم من أيام جلوسه وحيدًا فوق المكتب.
غير أن خطأ وحيدًا ليس في الحسبان كان بإمكانه هدم المعبد. ذلك أن ساندي في لحظةٍ ما تتبعته ورصدت دخوله إلى عشّ غرامه الذي استأجره للقاء الطفلة، فكان الجنون وانفلات النفس. كانت تحاول انتزاع الباب كضابط آداب والنوحي وراءه عريان يبكي ويرجوها أن ترحل ويطلب الستر. قاطنو البناية يتوافدون، وساندي تشرح للكلّ أن “أبو العيال” في الداخل مع غيرها في الحرام.
هنا نحّت ساندي التسامح والاستعادة فكانت النمرة؛ جرّست أمه، علّمت على وجهه، شحنت الأنفار لكنهم تلك المرة، كانوا وراءه وهو يركب الحمار بالمقلوب.
حوصِر، غضِب، بكى، كره، كم كره! وحيد منبوذ والكلّ يركله. وبغض النظر عن كونه لن يتحمّل ترك الكورن فليكس والحفر بالأصابع في الجبل، فإنه قبل ذلك لن يتحمل التشهير والنبذ، والحسبة الذكية توشوشه بضرورة الحصول فورًا على غفران ساندي لإسكات الضرب العلني، ثم البحث عن صيغة ترقيع تُخفّض من درجة السخرية التي يتعرّض لها، كما يمكن وضع أشرار أخرين في القصة كي لا يكون وحده محور النمائم، أما البقية فيمكن تركها لتراب الزمن.
هكذا استقر النوحي وخطر له: لم تنل ساندي منه بالنعومة، لكنها تمكنت منه بإبراز أنيابها، وعزاؤه أنه -في كلّ الأحوال- كان إليها عائدًا.
وكما تناسى النوحي التأثير المستقبلي لاستسلامه أمام الضراوة، والذي قد يعززها كنمط في اخضاعه، تناسى أيضًا (في حضرة ساندي) أنه الذي بادر بالغواية في قصة البنت، تناسى فارق الزمن والخبرة اللذين لعبا لصالحه في هذا، تناسى كيف أوهمها بأمجاد الأدب، أنها الحرة وهو المربوط أبو الولد، فصوّر نفسَه كطفل بريالة، استدرجه خاطفوه الأشرار بمصاصة، عندما غفلت عنه ماما ساندي.
هكذا بررها للنمرة، كما برر لها هجومها عليه بأن ثمة من لعب في رأسها والتفت، فلم يجد غير جارة وجار تضامنا مع المرأة المقهورة في شهور الألم. ولم تمانع ساندي؛ قبلت أن يشيطنهما في سبيل لمّ العائلة. تركته يستخدمهم كقرابين على مذبح العودة، وافقت على تصويرهم كبكتيريا دخلت وسممت دمها، وهي الآن تعافت فلا بأس من طردهم.
هكذا صار من الممكن أن ينظر كل منهما في وجه الآخر بعد غرس الأظافر المتبادل في الوجه. هكذا وضعا على القيح ورقة توت.
ولتثبيت الحكاية أمام الناس، للخروج أمامهم بيدين متشابكتين يسير في ظلالها الطفل، سطر النوحي رؤيته في رواية، أشرارها الجارة والجار، ومعهم طبعًا الغاوية مُشهرة المصاصة؛ وضعهم كأكياس رملٍ نفث فيها غضبه وكراهيته، اللذين لم يستطع توجيههما إلى اليد التي ساطته بالفعل ومرّغت وجهه.
كان فعل الكتابة يحوّل التلفيقة في عقله إلى حقيقة لا تقبل الشكّ، وفضلًا عمّا وجده من تجمّل أو تنفيس أو ثأر، في إعادة الحكاية بهذا الشكل المتنصّل من الآثام الكبيرة، والمتبنّي لأخطاء أقل خطورة يمكن التسامح معها ويمكن عبرها تصديق الحكاية كي لا يكون الملاك، فقد عزز هذا صورته أمام نفسه ككاتب يحقق كلّ شيء عبر الكتابة فحسب، ولا يدين لأحد غيرها، وهذه في نظره شيمة عظماء.
وعبر هذا العمل اكتشف النوحي إمكانية جديدة للأدب، اسمها الانتقام، وأحس بها قوة غضب دافعة تجبره على الإنجاز، فقرر ألا يتخلى عنها. فمن هذه اللحظة سوف ينبش عن كل من أوجعه في يوم ما ويتوجه نحوه بالرصاص، رواية وراء رواية، وبهذا اكتسب لقبه الذي سيعيش في دوائر النميمة وراء ظهره، لقب: “أديب الانتقام”.
إن فعل الكتابة مازوخي بدرجة ما، فبه هذه المعايشة المتجددة للألم المختزن ومحاولة فرشها أمام الذات والغرباء، فيه دقّ هذا الألم بالحبر وتنعيمه، في محاولة صلح مع الآخر ومع الذات. لكن الألم بالنسبة للنوحي لم يكن الحكاية بل البندقية، ولحسن حظه أن ساندي قررت ألا تحرمه منه أبدًا.
لقد ظلت تُسقط ورقة التوت بين آنٍ وآخر، كجزء من تعافيها الطويل، كجزء من انتقام لا إرادي، كجزء من صراخ كتمته في حينه من أجل ألا تخسر والآن يمكنها الصراخ.
ظل النوحي موضع شكّ والنظر في وجهه وجع، أما وجهها فقد طفقت تتنامى فيه طبقات الذبول التي تذكره بالخطيئة.
ليالٍ من المناوشات، من اجترار التفاصيل والسؤال عن الأدق، من بكاء الشكّ في مكانها كأنثى، من توهان انعدام اليقين… على أن الاصطدام الكبير تبدى مع رغبتها في السفر بعد حصولها على عقد في بلد عربي.
النوحي يقاوح، لا يريد خسارة مركزية العاصمة وحضوره الأدبي، والنمرة مسؤولة عن دخل البيت وفي هذا لها القرار.
كانت مقاومته تشتدّ فاستحضرت نمط الضراوة؛ وضعته في مقارنة مع هؤلاء العقلاء، الذين أخذوه من يده ليلة وراء ليلة إلى البيت أيام الأزمة، كأولياء أمور تلميذ متعثر خائب. كانت تضعه تحديدًا في مقارنة مع سعيد الجمل، وتعلن بملء فمها أنها أرادت لابنها أبًا مثله.
كان نفي القدرة على الأبوة ثقيلًا، كان علقما. وبه سيكتب النوحي روايته الوحيدة الجميلة وسط هرم خرائه، رواية من المُر، بلا انتقام ولا فانتازيا، رواية حقيقة فقط، عن امرأة تشكك زوجها في أبوته لولده، فيهجرها هذا الزوج ويعيش وحيدًا في خياله، الذي تتراءى فيه المرأة الغادرة في أحضان غيره.
لقد فعلتها النمرة وهي تدرك أن في ذلك خضوعه، فالحسبة الذكية توشوشه من جديد، بأن هجره لها يعني أن تذهب لندّه ثم تبكي أمامه. ستقول تركني لأني قلت عنك العاقل، لأني قلت له كن رجلا مثله، لأني أريده أبا أحسن. إنه انكسار ليس بعده قيام أو إصلاح؛ إذًا يقع اللوم على الكلب الآخر. نعم.. هو الذي أغواها، هو الذي لبس الأدب الجمّ وبدا أمامها ملائكيا، بدا العاقل، خداع شيطان نرجسي، من يصدّق أنه بلا أخطاء، ها، استغل الكلب زلتي وسحبني إلى البيت ليبدو أمامها الأكبر، لم يكن مراده صلحا بل إثبات سيطرته؛ إن منبع خيره المزعوم غرور. أنا غاضب وأكره؛ فأين كيس الرمل؟
كان النوحي يبحث من جديد عن ورقة توت أخرى فوق قيح آخر، يُسمّي “سعيد” منبع الغواية، ويصوّب تجاهه البندقية.
«أنا فرحانه، أكلت بزيادة أوي». وتضحك ساندي. كان النوحي قد سبقها توّا إلى الشبع ويمجّ الآن دخانه.
لكن من قال إن السفر سيء، فكرتها تسببت في عمله في البرنامج، في كتابة الكراسة الصفراء. إن كل خير أصابه كانت سببه بشكلٍ ما، بقصد أو بدون، بل ربما بقصد وهو قصير النظر، فهي في ما يخص الحياتي تدرك أكثر. هل تفرق عنايتها به عن عناية أب حازم بأبنائه، هذا أقرب تشبيه لها. فكر في هذا وتناول يدها فلثمها في شكر.

أحمد كامل

أحمد كامل أحمد كامل، كاتب وروائي من مصر، صدرت له روايتان: "العهد القديم" في عام 2016 و"جبل المجازات" عام 2018، والتي حازت على جائزة يحيى حقي في دورتها الأولى عام 2021. كما حصل على منحة تفرغ من مؤسسة مفردات في عام 2020، لإنجاز مجموعته القصصية الأولى، التي صدرت بعنوان "جوارب عميد الأدب" في عام 2023.

Join Our Community

TMR exists thanks to its readers and supporters. By sharing our stories and celebrating cultural pluralism, we aim to counter racism, xenophobia, and exclusion with knowledge, empathy, and artistic expression.

Learn more

مواضيع مشابهة

Uncategorized

قصة قصيرة لأحمد كامل: موعد على العشاء

22 DECEMBER 2025 • By أحمد كامل
قصة قصيرة لأحمد كامل: موعد على العشاء
Arabic

قصة قصيرة لبلال حسني: الأزهار المسكِرة

20 OCTOBER 2025 • By بلال حسني
قصة قصيرة لبلال حسني: الأزهار المسكِرة
Arabic

قصة قصيرة لأحمد جاد الكريم: وحيد على حافة الموت

13 OCTOBER 2025 • By أحمد جاد الكريم
قصة قصيرة لأحمد جاد الكريم: وحيد على حافة الموت
Arabic

قصة قصيرة لعلي المجنوني: جلسة علاج نفسي مجانية بمناسبة زيارة الرئيس

6 OCTOBER 2025 • By علي المجنوني
قصة قصيرة لعلي المجنوني: جلسة علاج نفسي مجانية بمناسبة زيارة الرئيس
Arabic

قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: هذه ليست قصة عن جورج وسوف

29 SEPTEMBER 2025 • By محمد عبد الجواد
قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: هذه ليست قصة عن جورج وسوف
Arabic

قصة قصيرة لحسين فوزي: باللمبة النيون قام

8 SEPTEMBER 2025 • By حسين فوزي
قصة قصيرة لحسين فوزي: باللمبة النيون قام
Literature

قصة قصيرة لمحمود سليمان: على الرغم من كونه بلطيًا…

25 AUGUST 2025 • By محمود سليمان
قصة قصيرة لمحمود سليمان: على الرغم من كونه بلطيًا…
Arabic

قصة قصيرة لمحمد النعاس: سن الحمامة الذهبية

25 AUGUST 2025 • By محمد النعاس
قصة قصيرة لمحمد النعاس: سن الحمامة الذهبية
Fiction

قصة قصيرة لبدار سالم: نونينال-2

18 AUGUST 2025 • By Badar Salem
قصة قصيرة لبدار سالم: نونينال-2
Arabic

قصة قصيرة لهدى الوليلي: قطارات فائتة

11 AUGUST 2025 • By هدى الوليلي
قصة قصيرة لهدى الوليلي: قطارات فائتة
Literature

قصة قصيرة لنسرين خليل: تسعة أرواح

4 AUGUST 2025 • By نسرين خليل
قصة قصيرة لنسرين خليل: تسعة أرواح
Literature

قصة قصيرة لآلاء عبد الوهاب: تلك العين البعيدة جدًا

28 JULY 2025 • By آلاء عبد الوهاب
قصة قصيرة لآلاء عبد الوهاب: تلك العين البعيدة جدًا
Arabic

قصة قصيرة لمروان عبد السلام: دمية الإله

28 JULY 2025 • By مروان عبد السلام
قصة قصيرة لمروان عبد السلام: دمية الإله
Arabic

قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: عمرو دياب لا يأكل ماكدونالدز

21 JULY 2025 • By محمد عبد الجواد
قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: عمرو دياب لا يأكل ماكدونالدز
Arabic

قصة قصيرة لهبة عبد العليم: قبيل النهاية بقليل

21 JULY 2025 • By هبة عبد العليم
قصة قصيرة لهبة عبد العليم: قبيل النهاية بقليل
Arabic

قصة قصيرة لسميرة عزام: أسباب جديدة

14 JULY 2025 • By سميرة عزام
قصة قصيرة لسميرة عزام: أسباب جديدة
Arabic

قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كازانوفا بلا أجنحة

14 JULY 2025 • By أحمد الفخراني
قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كازانوفا بلا أجنحة
Arabic

قصة قصيرة لمي المغربي: النوم أمام قهوة الجمهورية

30 JUNE 2025 • By مي المغربي
قصة قصيرة لمي المغربي: النوم أمام قهوة الجمهورية
Arabic

قصة قصيرة لإيمان اليوسف: القلب الزجاج، القلب الهواء

23 JUNE 2025 • By إيمان اليوسف
قصة قصيرة لإيمان اليوسف: القلب الزجاج، القلب الهواء
Arabic

قصة قصيرة لمحمد فطومي: الدور

16 JUNE 2025 • By محمد فطومي
قصة قصيرة لمحمد فطومي: الدور
Arabic

قصة قصيرة لإيمان عبد الرحيم: فصام

9 JUNE 2025 • By إيمان عبد الرحيم
قصة قصيرة لإيمان عبد الرحيم: فصام
Arabic

قصة قصيرة لإيمان اليوسف: تثغى

2 JUNE 2025 • By إيمان اليوسف
قصة قصيرة لإيمان اليوسف: تثغى
Arabic

قصة قصيرة لوجدي الكومي: نظر طلب لجوء سيد الفلك

2 JUNE 2025 • By وجدي الكومي
قصة قصيرة لوجدي الكومي: نظر طلب لجوء سيد الفلك
Arabic

قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كغيمة مرت

12 MAY 2025 • By أحمد الفخراني
قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كغيمة مرت
Arabic

قصة قصيرة لكريم عبد الخالق: كابوري يا روبي

12 MAY 2025 • By كريم عبد الخالق
قصة قصيرة لكريم عبد الخالق: كابوري يا روبي
Arabic

قصة قصيرة لفادي زغموت: اختياراتي مدمرة حياتي

17 MARCH 2025 • By فادي زغموت
قصة قصيرة لفادي زغموت: اختياراتي مدمرة حياتي
Arabic

ثلاث قصص قصيرة للكاتبة العمانية ليلى عبد الله

17 FEBRUARY 2025 • By ليلى عبد الله
ثلاث قصص قصيرة للكاتبة العمانية ليلى عبد الله
Arabic

تلويحة للسماء

10 FEBRUARY 2025 • By نهلة كرم
تلويحة للسماء
Arabic

ليل حيفا الطويل

10 FEBRUARY 2025 • By مجد كيال
ليل حيفا الطويل
Arabic

ممكن نتواصل مع حضرتك؟

20 JANUARY 2025 • By مي المغربي
ممكن نتواصل مع حضرتك؟
Arabic

حديد في الهواء

20 JANUARY 2025 • By علي المجنوني
حديد في الهواء
Arabic

قصة قصيرة لكارولين كامل: مرجانة

23 DECEMBER 2024 • By كارولين كامل
قصة قصيرة لكارولين كامل: مرجانة
Arabic

قصة قصيرة لضياء الجبيلي: الدمية ذات الوشاح الأرجواني

11 NOVEMBER 2024 • By ضياء الجبيلي
قصة قصيرة لضياء الجبيلي: الدمية ذات الوشاح الأرجواني
Arabic

قصة قصيرة لنورا ناجي: يقين

11 NOVEMBER 2024 • By نورا ناجي
قصة قصيرة لنورا ناجي: يقين
Arabic

قصة قصيرة لعبد الله ناصر: شارب فريدا كالو

11 NOVEMBER 2024 • By عبد الله ناصر
قصة قصيرة لعبد الله ناصر: شارب فريدا كالو
TMR Bil Arabi

قصة قصيرة لأحمد وائل: ولو في الصين

4 NOVEMBER 2024 • By أحمد وائل
قصة قصيرة لأحمد وائل: ولو في الصين

اكتب تعليقًا

لن ننشر الإيميل الخاص بك، الرجاء ملء إضافة جميع المعلومات المطلوبة

19 − fourteen =

Scroll to Top