قصة قصيرة لإيمان اليوسف: تثغى

تيسير بركات، «نسيج الحياة رقم 1»، ألوان مائية حبر وصبغات على ورق، 50×70 سم، 2001 (بإذن من الفنان وجاليري زاوية).

إيمان اليوسف   By • 2 JUNE 2025
تيسير بركات، «نسيج الحياة رقم 1»، ألوان مائية حبر وصبغات على ورق، 50×70 سم، 2001 (بإذن من الفنان وجاليري زاوية).
في قصة قصيرة شاعرية، تكتب إيمان اليوسف عن رجل ينتقم من معذبيه بعد سنوات من غيابهم.

إيمان اليوسف

أقبل يسحب إحدى قدميه وراءه، فتكونت دوامات من غبار وتراب صغيرة على طول الطريق. توقف أمام محل ذي مدخل صغير، فتوقفت العواصف الترابية. عالج الباب الحديدي الصدئ بصعوبة بكلتا يديه، ثم رفعه فارتفع جسده النحيل معه وكاد أن يطير.

يضحكه هذا الطقس الصباحي كل يوم، وينشر بعض الفراشات التي ترفرف بنشاط في معدته. مع أنه لم يكن من الرجال الذين يتخيلهم كل من يعرفهم ضحوكين بشوشين. مثل بوابة محله الضيقة الصغيرة، تخيله الجميع بفم لم يُخلق ليبتسم أو حتى يُفتح، لا للأكل أو الكلام.

«حيوانات»، تمتم ثم كح وأخرج بعض البلغم بصعوبة.

أشعل سيجارة، ثم جلس على عتبة المحل ذلك الفجر الدافئ يفكر في حل لمشكلته. هذه هي المرة الثالثة التي يخربش مراهقو الحي فيها على جدران محله بمجرد أن يصبغه. يرشون أصباغًا فوق الصبغ الحديث الطلاء، فتختلط الألوان، وينتج مزيج «مقرف» على حد تعبيره.

هذه المرة، لم يقوَ حتى على إطالة النظر إلى الجدران المشوهة. ألوان فاقعة على الصبغة الهادئة الرزينة التي اختارها للمحل. مجرد خطوط متماوجة، ليست حتى رسومات غرافيتي أو رسومات لأنصاف قلوب تخترقها السهام مثلًا، كما يحدث مع بقية جدران شوارع الحي.

فرك الشعيرات القوية القصيرة النابتة بشكل غير مشذب على ذقنه وخديه. أكمل سيجارته، ثم أشعل الثانية قبل أن تذوي الأولى. سحب قدمه بكلتا يديه. نظره الثابت على الشارع الجاثم أمام المحل. على عكسه، لم يتغيَّر الشارع بأتربته الصفراء، ومحلاته المتهالكة كثيرًا منذ خمسين عامًا انقضت.

تعوده صور اليوم الذي غيَّر حياته للأبد، لن تُمحى من ذاكرته ولا من هذا الشارع. مع أنهم غادروا، جميعهم. يومها التم عليه زملاؤه من مدرسة الحي، أمام هذا المحل الذي يملكه عمه. سحبوه من قدمه الهزيلة التي يسحبها خلفه. سألوه لم تبدو قدمه هذه أنحف من قدمه الأخرى؟ أخبره أحدهم أنها قدم معزة، وأن أمه لا بد نصفها حيوان لتلده بهذا الشكل المشوه. أخبره آخر أنهم سيساعدوه في التخلص منها. التفت دوامات التراب والغبار حولهم، فلم يستطع الرؤية جيدًا. تحولت إلى طين على وجهه، وعينيه من أثر الدموع. عشرات الأيادي تضربه. تسحب قدمه الهزيلة بقوة. أحدهم يبصق عليه، وهو يبكي بصمت.

أنقذه والده، وعمه. لكن زملاؤه من مدرسة الحي أخبروا الجميع كيف رؤه يبلل بنطاله. كان ذلك آخر يوم له في مدرسة الحي، وأول يوم له في هذا المحل. هنا وُلد منذ خمسين عامًا. هنا يبقى كل يوم، هو وقدمه الهزيلة ودوامات الأتربة في هذا الشارع الأصفر المتهالك. كلهم رحلوا، وبقي هو.

تخلص من أعقاب السيجارتين على الرصيف أمام المحل، ثم نهض ليدخل. اتصل بعُمَّال الدهان من الصبَّاغين. نعم، سيدهن المحل للمرة الرابعة. لكن هذه المرة، ستكون الأخيرة.

ربَّت على قدمه. ابتسم. حان وقت الانتقام من مراهقي الحي أخيرًا. أعلن للمحلات المجاورة من السوق أنه سيدهن المحل يوم غد مجددًا. أبدى حزنًا شديدًا أمام هذه الخسائر المالية الجسيمة. مثَّل الدور بامتياز، لكي لا يثير أي شك في نواياه وخطته هذه المرة.

«شباب طايش»، واساه بعض أصحاب المحلات المجاورة. فهز رأسه. بينما أعطاه بعضهم السجائر.

في المرتين الثانية والثالثة، حاول أن يشتكيهم للشرطة ثم، وحين لم تهتم دورية الحي بهذه المشكلة «التافهة» على حد تعبيرهم، نثر مصائد الحيوانات على أرض المحل. فشلت تلك الطريقة أيضًا، إذ أصبح ذلك اليوم والمصائد على حالها، والجدران مدهونة بالخرابيش من جديد.

استنشق رائحة الدهان الطازج على الجدران بلذة. ألقى نظرة أخيرة على المحل ثم أغلق الباب الحديدي الصدئ. ابتسم، وتمشى ببطء مبتسمًا نحو منزله ذلك المساء. تقلب كثيرًا على سريره، ولم يكد يلمح أول شعاع للشمس حتى أسرع بارتداء ملابسه، والخروج إلى المحل. حتى دون فنجان قهوته الصباحي. اليوم يأخذ بثأره القديم. اليوم ينتصر أخيرًا لنفسه.

شعر بما يشعر به حين يسحب أول نفس لسيجارته بعد انقطاع، بأن جذوة نار تنتشر في أوصاله. أن الحياة تدب فيه، بل الشباب يعود إليه. لكن فجأة، عاد ركضًا يسحب قدمه بنشاط إلى منزله. دخل الحمام، اغتسل جيدًا وحلق ذقته وشاربه وخديه. ارتدى قميصًا وبنطالًا كان قد ارتداهما في العيد الكبير قبل خمس أعوام حين زاروا أهل زوجته في الجنوب. سرح شعره الأبيض المختلط ببعض سواد ثم عاد يمشي الشارع الأصفر، والأتربة دوامات صغيرة خلف قدمه الهزيلة لائقًا هذه المرة بمشهد الانتقام. ولأول مرة يشعر أن كل هذه التفاصيل المملة تشبه طقسًا احتفاليًا صاخبًا.

اقترب، حاول رفع الباب الحديدي الصدئ، فلم يفلح. حاول مجددًا بكل قوته. بدا أن الباب مقفل من الداخل بجسد قوي. تسارعت دقات قلبه. جف ريقه. لمح ظلًا اختفت وراءه أشعه الشمس الحارقة. لكن لم يرفع رأسه ليتعرف عليه.

ـ ألم تسمع؟ أغلقت الشرطة محلات هذا السوق إلى أن يتعرفوا على الفاعلين.. حسبي الله ونعم الوكيل عليهم.

رحل الرجل مبتعدًا بظله. عادت أشعة الشمس تضرب عينيه، فلم يتعرف على الرجل أيضًا. لم يفهم ما حدث. سمع الرجل الذي غادر يتمتم.

ـ ربنا يحمينا.. أكيد شباب طايش.

ومن داخل محله المقفل، هيئ له أنه سمع صوت معزة تثغي.

إيمان اليوسف

إيمان اليوسف

إيمان اليوسف، كاتبة إماراتية ومختصة في مجال الدبلوماسية الثقافية والقوة الناعمة. لها ثلاث مجموعات قصصية وأربع روايات وسلسلة قصص لليافعين بعنوان «خيوط تربطنا» وصلت للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب هذا العام.

هي الإماراتية الأولى التي تحصل على الزمالة في الكتابة الإبداعية من جامعة آيوا في الولايات المتحدة الأمريكية، كما فازت روايتها «حارس الشمس» بالمركز الأول لجائزة الإمارات للرواية.

Join Our Community

TMR exists thanks to its readers and supporters. By sharing our stories and celebrating cultural pluralism, we aim to counter racism, xenophobia, and exclusion with knowledge, empathy, and artistic expression.

مواضيع مشابهة

Arabic

قصة قصيرة لعلي المجنوني: جلسة علاج نفسي مجانية بمناسبة زيارة الرئيس

6 OCTOBER 2025 • By علي المجنوني
قصة قصيرة لعلي المجنوني: جلسة علاج نفسي مجانية بمناسبة زيارة الرئيس
Arabic

قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: هذه ليست قصة عن جورج وسوف

29 SEPTEMBER 2025 • By محمد عبد الجواد
قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: هذه ليست قصة عن جورج وسوف
Arabic

قصة قصيرة لحسين فوزي: باللمبة النيون قام

8 SEPTEMBER 2025 • By حسين فوزي
قصة قصيرة لحسين فوزي: باللمبة النيون قام
Literature

قصة قصيرة لمحمود سليمان: على الرغم من كونه بلطيًا…

25 AUGUST 2025 • By محمود سليمان
قصة قصيرة لمحمود سليمان: على الرغم من كونه بلطيًا…
Arabic

قصة قصيرة لمحمد النعاس: سن الحمامة الذهبية

25 AUGUST 2025 • By محمد النعاس
قصة قصيرة لمحمد النعاس: سن الحمامة الذهبية
Fiction

قصة قصيرة لبدار سالم: نونينال-2

18 AUGUST 2025 • By Badar Salem
قصة قصيرة لبدار سالم: نونينال-2
Arabic

قصة قصيرة لهدى الوليلي: قطارات فائتة

11 AUGUST 2025 • By هدى الوليلي
قصة قصيرة لهدى الوليلي: قطارات فائتة
Literature

قصة قصيرة لنسرين خليل: تسعة أرواح

4 AUGUST 2025 • By نسرين خليل
قصة قصيرة لنسرين خليل: تسعة أرواح
Literature

قصة قصيرة لآلاء عبد الوهاب: تلك العين البعيدة جدًا

28 JULY 2025 • By آلاء عبد الوهاب
قصة قصيرة لآلاء عبد الوهاب: تلك العين البعيدة جدًا
Arabic

قصة قصيرة لمروان عبد السلام: دمية الإله

28 JULY 2025 • By مروان عبد السلام
قصة قصيرة لمروان عبد السلام: دمية الإله
Arabic

قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: عمرو دياب لا يأكل ماكدونالدز

21 JULY 2025 • By محمد عبد الجواد
قصة قصيرة لمحمد عبد الجواد: عمرو دياب لا يأكل ماكدونالدز
Arabic

قصة قصيرة لهبة عبد العليم: قبيل النهاية بقليل

21 JULY 2025 • By هبة عبد العليم
قصة قصيرة لهبة عبد العليم: قبيل النهاية بقليل
Arabic

قصة قصيرة لسميرة عزام: أسباب جديدة

14 JULY 2025 • By سميرة عزام
قصة قصيرة لسميرة عزام: أسباب جديدة
Arabic

قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كازانوفا بلا أجنحة

14 JULY 2025 • By أحمد الفخراني
قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كازانوفا بلا أجنحة
Arabic

قصة قصيرة لمي المغربي: النوم أمام قهوة الجمهورية

30 JUNE 2025 • By مي المغربي
قصة قصيرة لمي المغربي: النوم أمام قهوة الجمهورية
Arabic

قصة قصيرة لإيمان اليوسف: القلب الزجاج، القلب الهواء

23 JUNE 2025 • By إيمان اليوسف
قصة قصيرة لإيمان اليوسف: القلب الزجاج، القلب الهواء
Arabic

قصة قصيرة لمحمد فطومي: الدور

16 JUNE 2025 • By محمد فطومي
قصة قصيرة لمحمد فطومي: الدور
Arabic

قصة قصيرة لإيمان عبد الرحيم: فصام

9 JUNE 2025 • By إيمان عبد الرحيم
قصة قصيرة لإيمان عبد الرحيم: فصام
Arabic

قصة قصيرة لإيمان اليوسف: تثغى

2 JUNE 2025 • By إيمان اليوسف
قصة قصيرة لإيمان اليوسف: تثغى
Arabic

قصة قصيرة لوجدي الكومي: نظر طلب لجوء سيد الفلك

2 JUNE 2025 • By وجدي الكومي
قصة قصيرة لوجدي الكومي: نظر طلب لجوء سيد الفلك
Arabic

قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كغيمة مرت

12 MAY 2025 • By أحمد الفخراني
قصة قصيرة لأحمد الفخراني: كغيمة مرت
Arabic

قصة قصيرة لكريم عبد الخالق: كابوري يا روبي

12 MAY 2025 • By كريم عبد الخالق
قصة قصيرة لكريم عبد الخالق: كابوري يا روبي
Arabic

قصة قصيرة لفادي زغموت: اختياراتي مدمرة حياتي

17 MARCH 2025 • By فادي زغموت
قصة قصيرة لفادي زغموت: اختياراتي مدمرة حياتي
Arabic

ثلاث قصص قصيرة للكاتبة العمانية ليلى عبد الله

17 FEBRUARY 2025 • By ليلى عبد الله
ثلاث قصص قصيرة للكاتبة العمانية ليلى عبد الله
Arabic

تلويحة للسماء

10 FEBRUARY 2025 • By نهلة كرم
تلويحة للسماء
Arabic

ليل حيفا الطويل

10 FEBRUARY 2025 • By مجد كيال
ليل حيفا الطويل
Arabic

ممكن نتواصل مع حضرتك؟

20 JANUARY 2025 • By مي المغربي
ممكن نتواصل مع حضرتك؟
Arabic

حديد في الهواء

20 JANUARY 2025 • By علي المجنوني
حديد في الهواء
Arabic

قصة قصيرة لكارولين كامل: مرجانة

23 DECEMBER 2024 • By كارولين كامل
قصة قصيرة لكارولين كامل: مرجانة
Arabic

قصة قصيرة لضياء الجبيلي: الدمية ذات الوشاح الأرجواني

11 NOVEMBER 2024 • By ضياء الجبيلي
قصة قصيرة لضياء الجبيلي: الدمية ذات الوشاح الأرجواني
Arabic

قصة قصيرة لنورا ناجي: يقين

11 NOVEMBER 2024 • By نورا ناجي
قصة قصيرة لنورا ناجي: يقين
Arabic

قصة قصيرة لعبد الله ناصر: شارب فريدا كالو

11 NOVEMBER 2024 • By عبد الله ناصر
قصة قصيرة لعبد الله ناصر: شارب فريدا كالو
TMR Bil Arabi

قصة قصيرة لأحمد وائل: ولو في الصين

4 NOVEMBER 2024 • By أحمد وائل
قصة قصيرة لأحمد وائل: ولو في الصين

اكتب تعليقًا

لن ننشر الإيميل الخاص بك، الرجاء ملء إضافة جميع المعلومات المطلوبة

six − one =

Scroll to Top