مقال لدينا شحاته: حين اختبأت مع القطة تحت السرير

4 August, 2025
سارة شمة (مواليد دمشق 1975)، “وحش”، زيت على قماش، 150×125 سم، 2017 (بإذن من الفنانة، sarashamma.art).
عن مشاعر طفل يبحث عن مكان آمن ورفيق، تكتب دينا شحاته مقالًا هو الأول من سلسلة مقالات تأملية رمزية عن علاقتنا بالرموز الحيوانية في الوعي الجمعي، وتقاطعات هذه الرموز مع مفاهيم الخوف، النجاة، الجسد، واللغة.

 

دينا شحاته

 

من داخل رحم آمن تخرج إلى الدنيا الواسعة، تنتقل من بين أحضان أمك، إلى النوم بجوارها، إلى الاستقلال عنها في سرير يخصك، في البدء يمثل السرير الراحة فوقه، وتحته يبدأ اللعب، كلعبة الاختفاء، الاستغماية، تخيُّل عالم جديد بألعابك البلاستيكية بعد أن ترصها صفًا واحدًا كجيش صغير مستعد للمعركة، تنتصر بهم في حروبك الخيالية التي لا يعرف عنها أحد.
ترافق تحته حيوانك الأليف، قطة بيضاء على الأرجح، يتناثر شعرها الأبيض على بيجامتك القطنية، وشعرك الهائش من الركض طوال اليوم يشهد على طفولة لا تهدأ.
لكن تحت هذا السرير، سيحدث أمر مختلف. لن يكون اللعب لعبة، ولن تكون القطة مجرد رفيقة للركض.
حين تختبئ تحت السرير، لا يكون معك إلا جسدك المرتعش، وقطة غالبًا ما لا تفهم، لكنها تظل بجوارك. لا تسألك لماذا تنكمش هكذا، ولا تحتج على الظلمة أو الضيق. فقط تستلقي، تتنفس بهدوء، وتترك شعرها يتناثر على البيجامة. وربما، دون أن تدري، تمنحك ما لم يمنحه لك أحد في تلك اللحظة؛ شريك في الصمت.
تكتشف حينها أن القطة لا تنبح مثل الكلاب، لا تصرخ، لا تستدعي أحدًا لإنقاذك. وجودها وحده يقول: «فلنختبئ معًا، هذا كل ما يمكننا فعله الآن».
وهكذا، تتعلم أن النجاة أحيانًا لا تحتاج إلى صوت، بل إلى حضورٍ يقبلك كما أنت؛ خائف، صغير، ولا تفهم كل ما يحدث.
هناك، بينما تحبس أنفاسك تحت السرير، وجسدك الغض الذي يحتضن القطة، تخطر على بالك حكايات قبل النوم التي تهدهد بها خوفك، تفكر في الذئب، الذئب التي التهم ليلى وجدتها، الذئب التي كان حجة كاذبة على لسان أخوة يوسف كي يخفوا فعلتهم، تتساءل؛ عن الذئب الذي يحوم في الحكايات ولا نراه أبدًا، لكنه دومًا متهم.
تسأل نفسك فجأة: لماذا هو دائمًا؟ لماذا لا يكون أحدٌ غيره؟
هل كان الذئب هناك فعلًا، أم أننا نحتاجه فقط لنرتاح من حقيقة لا نقدر على مواجهتها؟
حينها يبدأ الشك. ليس في الذئب، بل في القصص.
تفكّر؛ ماذا لو لم يكن الذئب وحشًا؟ ماذا لو كان شاهدًا؟ أو حتى ضحية مثلنا، وجد نفسه في قلب الرواية بلا دفاع؟ ماذا لو كان الذئب هو أنت، حين يراك الآخرون خطرًا فقط لأنك خائف؟
الاختباء تحت السرير ليس فقط فعلًا جسديًا، بل هو تمرين مبكر على البقاء، على التظاهر بعدم الوجود، على التقلص كي لا تُرى.
ومع الوقت، تدرك أن الذئب الحقيقي لم يكن في الخارج دائمًا، بل ربما في الداخل أحيانًا. ليس ككائن مفترس، بل كجزء فيك يتعلم أن يختبئ كي لا يُفترَس.
الذئب الذي تخيلت أنه وراء الباب، صار لاحقًا صمتك في مواجهة من يصرخ، نظرتك الثابتة في وجه من يتوقع دموعًا، انسحابك من جدال لا جدوى منه.
صار طريقتك في النجاة، وفي التخفي، وفي حمل الحكاية من دون أن تحكيها.
الذئب لم يكن صوتًا مرتفعًا، بل هو ما تعلّمته تحت السرير؛ لا تصرخ. أن تكون موجودًا من دون أن تُرى،
أن تحافظ على جسدك من الانكسار، حتى إن كلّفك ذلك أن تبدو غريبًا، جامدًا، باردًا.
الذئب، ببساطة، هو من نكونه حين لا نملك أن نكون شيئًا آخر.
في ثقافتنا، يُحمّل الذئب ما لا يُقال. يُوضع في موقع الاتهام مسبقًا، فيُريحنا من عذاب البحث عن الجاني الحقيقي. نقول “أكله الذئب”، ونعني: لا تسأل أكثر. نحوله إلى غطاء، إلى استعارة جاهزة لكل ما نخاف أن نكشفه.
لكن، ماذا لو كان الذئب هو كل من صمت؟ كل من اختبأ؟ كل من تعلّم أن النجاة في هذا العالم لا تكون بالصوت العالي، بل بانخفاض النَفَس، وخفوت الخطى، وتجنب النظر إلى العيون؟
تربينا على أن الصمت حكمة، وأن السكوت علامة الرضا. لكننا لم نسأل من الذي يستفيد من هذا الصمت؟ ومن الذي ينجو به، ومن الذي يُسحق تحته؟
الصمت في ثقافتنا ليس حيادًا، بل وسيلة. وسيلة لتجنّب العقاب، للحفاظ على الشكل، للنجاة من الذئاب… أو ربما للتحوّل إلى واحد منهم. فهل الصمت هنا شكل من أشكال الحكمة، أم وجه آخر للخوف؟ هل هو بُعد وجودي، أم إرث ثقيل نمرّره من جيل إلى آخر دون أن ننبش ما تحته؟
في لحظات الذعر، لا تبحث عن منطق، بل عن رفيق لا يطالبك بشرح. شيء يتنفس بجانبك فقط، يعرف من دون أن يسأل، يرتجف بنفس الإيقاع، ويفهم أن الخوف لا يحتاج إلى ترجمة.
لهذا كانت القطة هناك.
ربما لم تكن تفهم ما يحدث، لكنها شعرت بك. تمددت بجوارك تحت السرير، التقت عيناك بعينيها، وفي الصمت بينكما سكن شيء ما؛ اعتراف غير منطوق، حلف خفي بالبقاء.
في كل بيت قصة مع حيوان شارك لحظة ذعر. كلب جلس بجوار طفل يبكي من دون سبب واضح. عصفور توقف عن الزقزقة فجأة كأنه التقط نغمة خوف في المكان. حيوانات لم تتكلم، لكنها عرفت. لم تتدخل، لكنها لم تتركك وحدك.
هي لا تملك اللغة، لكنها تقرأك. تراك حين تختبئ، وتقبلك بلا حاجة إلى شرح. وجودها نفسه ردّ فعل على هشاشتك، وكأنها تذكرك أنك حيّ، وأنك لست وحدك في الغريزة.
هؤلاء شهود صامتون على ما لا نقوله، يشبهون الذئب الذي لم يكن وحشًا، بل مرآة لما نخفيه، لما نخافه، ولما نرتجف أمامه في العتمة.

تحت السرير، وُلدت لغة لم تُكتب. لغة لم تُنطق، لكنها قيلت بالعيون، بالارتجافة، بالأنفاس المكتومة. كانت القطة تعرفها، وأنت تعرفها، والذئب الذي تخشاه كان جزءًا منها.
لغة بلا أبجدية، لكنها دقيقة، صادقة، عارية. لغة لا تحتمل البلاغة، ولا تتسع للكذب، لأنها لغة النجاة. تحت السرير لا مجال للمجاز، فقط الإشارة، فقط الفِعل، فقط القلب حين يسرع فجأة دون إذن منك.
هناك، في هذا الحيّز الضيق بين الخوف والحياة، ينشأ شكل آخر من المعرفة. معرفة لا يمكن أن تُقال، لكنها تسكن فيك، وتخرج لاحقًا في نظراتك، في صمتك، في حكاياتك غير المكتملة.
تحت السرير، تكوّنت لغتك الأولى؛ تلك التي لا تحتاج إلى صوت لتُفهم.

الخوف يجرّد اللغة من زينتها. تجفّ الحروف على طرف اللسان، تتحول الجمل إلى أصوات مشروخة، ثم إلى لا شيء. حين تختبئ، لا تبحث عن كلمات، بل عن ألا تُسمع. الصمت يصبح درعًا، والسكوت حيلة دفاعية، بل هو اللغة نفسها وقد تبدّلت وظيفتها؛ لا لتُقال، بل لتُخفى.
اللغة في لحظة الخوف تتحوّل إلى ما قبل اللغة. إيماءة، شهقة، نظرة، انكماش جسد. إنها تتراجع، تتقوقع، تختبئ معك تحت السرير، تحبس أنفاسها، وتتحول إلى ظلّ.
كأنك تدرك فجأة أن كل ما تعلّمته عن الكلام لا يهم. أن اللغة التي في الكتب، وفي الخطابات، وفي الأحاديث العابرة، لا تصلح للنجاة. النجاة تحتاج إلى لغة أعمق، لغة جسدية، غرائزية، خام، لا يسمعها إلا من يعرفها.
لهذا كان الذئب هناك، ليس كوحش، بل كأحد الناجين. كمن يعرف أن الكلام قد يفضحك، وأن الصمت أحيانًا هو الطريق الوحيد للعبور.
الذئب أحد الناجين، لأنه يعرف متى يصمت. ليس دائم الافتراس كما يُروى في الحكايات. في الغابة، الذئب لا يهاجم إلا حين يكون مضطرًا، ولا يعوي إلا حين يأمن الطريق. يعرف الانسحاب، يعرف المراقبة، يعرف التخفي، وكلها أدوات نجاة.
حين تختبئ، تكتشف أنك تشبهه أكثر مما تظن. أنت أيضًا تتراجع، تراقب، تحسب خطواتك، تكمش أنفاسك، وتتعلم كيف تحيا دون أن تُرى. الذئب الذي خفته في طفولتك، قد يكون هو من علمك أول دروس الحذر، أول دروس النجاة.
ثم إن الذئب، بخلاف ما يقال، لا يعيش وحيدًا. له جماعة، وله ولاء، وله روابط لا تظهر على السطح. لكنه يُتهم دومًا، يُحمَّل الذنب، يُرسم له دور الوحش في كل قصة، ربما لأنه نجا أكثر من اللازم، صمت أكثر مما ينبغي.
الذئب أحد الناجين لأنه لم ينتظر من يُبرِّئه. بقي في الظل، خارج الحكاية، لكنه ظلّ يركض، خفيفًا، صامتًا، كامل الحذر، كما كنتَ أنت تحت السرير، تتعلّم لغتك الأولى مع الخوف.
تحت السرير، كنت ترتجف بصمت، والقطة تلتحف بك، لا تقول شيئًا، لكنها معك. الذئب في صدرك لا يزمجر، فقط ينتظر أن تعترف به. هناك، في أضيق مساحة، تعلّمت أن الخوف لا يُهزم بالصوت، وأن اللغة التي تنقذك أحيانًا، هي تلك التي لم تجد لها كلمات بعد.

دينا شحاتة، كاتبة روائية مصرية مواليد 1987 وعضو اتحاد كتاب مصر، تهتم بتوثيق التراث المصري والعربي عبر السرد، مركزة على الهوية والتحولات الاجتماعية. صدر لها خمس روايات، «ما ألقاه الطير» (العين، 2024) و«ثلاثاء آخر» التي تتناول التراث الصعيدي الجنائزي (2021). نالت منحة من المورد الثقافي عن روايتها «رحيل وغربة» (2021)، وأقامت بمدينة جدة التاريخية حيث أنجزت «نداهة أصيل: من لندن إلى جدة» (العين، 2025).

حين اختبأت مع القطة تحت السريردينا شحاتهمقال

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member