حرز مكمكم: أحمد ناجي يكتب عن الكتابة في السجن

12 فبراير، 2024
يعد كل من حرز مكمكم ومحاكمة ناجي نفسها محاولة لتعريف الأدب والكتابة، أو على الأقل الغرض الأساسي منهما.

 

حرز مكمكم: القراءة والكتابة في سجن مصري، تأليف أحمد ناجي
McSweeneys 2023
الترقيم الدولي 9781952119835

 

لينا منذر

 

الآن، أصبحت هذه القصة الإضافة المعتادة بعد أي مقدمة لاسم أحمد ناجي: في العام 2015، نُشر مقتطف من الرواية الثانية للكاتب المصري الشاب "استخدام الحياة" في مجلة أدبية في القاهرة. رفع رجل يبلغ من العمر 65 عامًا قضية ضد ناجي وناشره، زاعمًا "أن قراءة المقتطف تسببت له في خفقان القلب والإحساس بالمرض وانخفاض ضغط الدم". عندما تمت تبرئة ناجي وناشره في نهاية المحاكمة، استأنفت النيابة العامة بحجة أن نص ناجي "أضر بالآداب العامة". في المحاكمة الثانية أدين ناجي وحكم عليه بالسجن لمدة عامين. قضى عشرة أشهر في السجن قبل استئناف آخر - قدمه الدفاع - قبله القاضي وأطلق سراحه. 

حرز مكمكم هو سرد غير خطي لتلك الأشهر العشرة، في مزيج من المذكرات والأحلام والتأمل اليومي. نشر ناجي في الأصل باللغة العربية في العام 2019 ، وصف ناجي، في محاضرة في "سيتي أوف أسيلم"، العملية غير التقليدية للترجمة، وهو عمل تعاوني بينه وبين المترجمة كاثرين هولز والمحرر دانيال غومبينر. وبدلًا من السعي إلى نقل "أمين" للأصل العربي، تم التعامل مع الترجمة، بناء على إلحاح ناجي نفسه، كنص إنجليزي في حد ذاته وتم تحريرها على هذا النحو، بغض النظر عن ما يتطلبه ذلك من ابتعاد عن الأصل. 

حرز مكمكم لأحمد ناجي من إصدارات McSweeneys.

الكتاب ليس مذكرات سجن، بقدر ما هو مذكرات عن وقت قضاه في السجن. وذلك لأن ناجي، منذ البداية، ينخرط بجدية في فكرة النوع الأدبي، مدركًا تمامًا لأعرافه وقيوده. يخبرنا ناجي أن "أدب السجون في ذهن السجين السياسي هو سمة لا مفر منها للنضال السياسي [...] امتدادًا لنشاطه". كما أنه يوجب الكتابة عن السجناء الآخرين، وهو ما يتجنبه ناجي في الغالب هنا، معتبرًا أنه انتهاك لخصوصية الناس، وكذلك إذا لم يكن المرء حريصًا على جعل "إحباط السجن وإذلاله من دون اختزال ضحاياه وأسرارهم إلى شخصيات درامية"، انتهاكًا لـ"علاقة الالتزام" التي تفرضها الروابط التي ينتهي به الأمر إلى تبادلها مع زملائه السجناء. 

لكن القضية الحقيقية، كما يقول، هي: "معظم أدب السجون العربي الذي قرأته لا يهتم بـ"الفن". يكمن قصده بالأحرى في "المحتوى الوثائقي للنص، وما يمكن أن يفعله لخدمة القضية الأدبية السياسية". لكن ناجي يعلن نفسه "كاتبًا لا يبالي بالتاريخ"، وعلى هذا النحو يعلن أن كتابه محاولة ليس للكتابة عن السجن، بل للكتابة عن الكتابة (والقراءة) داخل السجن.

بلهجته، الكتاب ساخر، ومضحك بمرارة، وفي كثير من الأحيان رقيق من دون أن يكون عاطفيًا على الإطلاق، ينجز ناجي كل هذا وهو على مسافة ساخرة من جميع موضوعاته، بما في ذلك، أولًا وقبل كل شيء، نفسه. 

هذا كتاب عن الذات؛ عن ذات الكاتب، عن الذات مقابل المجتمع، والتي، إذا أردنا أن نتحدث بشكل عام، هي واحدة من الموضوعات الأساسية للأدب، شاغل خاص للأدب – والروائيين – من العالم العربي. سيكون من السهل الوقوع في الانقسامات بين الشرق والغرب هنا، حيث يكون الغرب هو المكان الذي يناصر الفرد عن طريق الاحتفاظ بالحريات الشخصية المقدسة، والشرق هو المكان الذي يجب أن يندرج فيه الفرد في توافق المجتمع الاستبدادي (حتمًا) وإلا فإنه يخاطر باللوم أو السجن أو ما هو أسوأ. لكن ناجي يرفض هذا الإطار السهل أيضا. من بين قائمة الموضوعات والأشياء المبتذلة التي يتحسر عليها، والتي يقول إنه "حاول جاهدًا الهروب منها"، هي: "الأصالة والحداثة. لماذا تخلف العرب بينما ازدهر الآخرون. الذات والآخر، الشرق والغرب". 

ربما، مع المخاطرة بالتعميم، يمكن القول إن الكتاب العرب أكثر إدراكًا بكيفية تشكيل وعيهم وخياراتهم من قبل القوى الاجتماعية، المحلية والسياسية على حد سواء. سواء اختاروا الكتابة عن القضايا الاجتماعية أو وضع المجتمع في الخلفية مع إبراز الفرد، كان اختيارهم دائمًا قرارًا واعيًا، يتم اتخاذه إما لمعالجة أو رفض قالب معين أو أدبي و / أو وجودي. يقف ناجي بثبات في الجانب الثاني، كما يتضح من عمله الأكبر بشكل عام، وهذا الكتاب بشكل خاص.

كل من الكتاب ومحاكمة ناجي (سخافاته المكتوبة بشكل مضحك هنا) هي محاولات، بشكل ما، لتعريف الأدب والكتابة، أو على الأقل هذا هو الغرض الأساسي منها. وينبغي أن يُقال إن حرز مكمكم هو تعريف للكتابة ضد التعريف الذي قدمته المحاكمة، حيث قدم أحد القضاة حيثيات لتبرير الحكم بالسجن لمدة عامين: "يحاول بغطرسة تعريف حرفة كتابة الرواية من جديد". تم تحديد حرفة الكتابة على انها "دعوة الكاتب إلى الأعمال الفاضلة، وإلى تزيين الذات بالأخلاق الحميدة، وأداء الأعمال الجديرة بالثناء" - وكلها، كما يقول القاضي، تمنح الكاتب دورًا لا يقل عن دور "لسان المجتمع، الذي يعبر بصدق عن آماله".

لكن قوة الأدب، بالنسبة لكل من الكاتب والقارئ، وفقًا لناجي، هي "شيء أسمى من الأخلاق والبناء". يتضح هذا بشكل مؤثر من خلال قصة عن أحد زملائه في الزنزانة، الملقب بـ"الخرتيت". في إحدى الليالي يستيقظ ناجي ليجد الخرتيت "المتغطرس وعديم الشعور" يبكي. عندما سُئل عن سبب بكائه، أجاب وحيد القرن: "شوية مشاعري تاعبني وعايزين يخرجوا". عند التحقيق أكثر في مصدر هذه المشاعر الكبيرة جدًا، يعترف وحيد القرن بأن بكاءه بسبب كتاب، وهو كتاب يخبرنا ناجي أنه من "النوع الرومانسي الإسلامي، أحد العناوين الرائجة". بمعنى آخر، بالكاد عمل "أدبي" كما قد تعرفه الأكاديمية أو المعيار الأدبي. ومع ذلك، فإن شيئًا ما في الكتاب حرك الخرتيت لدرجة أنه لم يستطع كبح البكاء. في مرحلة ما، يتصفح ناجي الكتاب، محاولًا معرفة السر الذي يحتويه والذي ربما يكون قد جعل رجلًا مثل الخرتيت يبكي. لكنه يجد أنه "لم يكن هناك سر في الرواية، بل السر في مكان آخر". يكمن في حقيقة أن هناك "شيء ما أثقل من مجرد متعة القراءة يختبئ داخل الأدب، شيء أعلى من الوعظ والتنوير، قوة مختزنة في جملة، في كلمة، في حرف". 

لا يقول ناجي هذا، لكنه في الواقع متضمن في كلامه: أن هذه القوة لا تظهر إلا في الخيمياء بين الكاتب والقارئ. وإلا فإن كل كتاب سيحرك كل قارئ. وهكذا في حين أن قوة (ووظيفة) اللغة هي في الأساس قوة موجودة فيما يتعلق بالسياق - كما يوضح الكتاب بجلاء من خلال فحصه لـ"اللغات" المختلفة المستخدمة في الكتاب: لغة السجن، والمحكمة، والشارع - فإن إدراك الإمكانات الكاملة للقوة الحقيقية للأدب يحدث من خلال العلاقة. علاقة لا يتلامس فيها طرفي العلاقة إلا على الصفحة ومن خلال الكلمات. وهي دائمًا علاقة متبادلة. بعد كل شيء، يُبدع الكاتب بالضرورة مع وضعه القارئ في الاعتبار، بغض النظر عن مدى تجريده أو عدم معرفته. لا تدوَّن الكلمات أبدًا من دون إدراك حقيقة أنها ستلمس شخصًا آخر على الجانب الآخر من الصفحة، أو من دون النظر في ما قد ينقله هذه الكلمات إلى ذلك الشخص (والذي، كما يعترف الكتاب المتمرسون على مضض، غالبًا يتصل بما قصده الكاتب من معنى بشكل ضعيف). 

هذا بالطبع هو جوهر القضية التي دخل ناجي بسببها السجن في المقام الأول: ما اعتبره هو غير ضار، خاصة عند مقارنته بالكتابات الأخرى ذات الطبيعة السياسية، نُظر إليه على أنه يسبب ضررًا لـ"الأخلاق العامة". ومن المفارقات أنه يجد أن "اللغة التي سُجن لاستخدامه [هي] اللغة القياسية داخل السجن".

بينما كان ناجي في الداخل، أصبح في "الخارج" شخصًا مشهورًا. منحته مؤسسة القلم في أمريكا  جائزة PEN/Barbey لحرية الكتابة. كما أرسلوا رسالة، موقعة من أكثر من مائة كاتب، إلى الرئيس المصري السيسي، "للمطالبة بالإفراج الفوري عن ناجي". (دليل على أن مؤسسة القلم في أمريكا تكون سعيدة بحشد نفوذها عندما ترى القضية غير مثيرة للجدل ودعمها لا يهدد الوضع الراهن، لكنني استطرد هنا). وهذا أيضًا مثير للسخرية، لأنه في كل منعطف في الكتاب، يرفض ناجي فكرة أن يكون شهيدًا لحرية التعبير، ويضع مسافة بينه وبين الكتاب الآخرين، مثل علاء عبد الفتا، الذين أرسلوا إلى السجن لشجاعة الأفكار التي آمنوا بها.

إن الكتابة مهمة مشهورة بعمقها - هي مواجهة لا هوادة فيها مع حدود عقل المرء وصبره وخياله - لدرجة أنه لن يجرؤ أحد على القيام بها إذا لم تكن هناك متعة متسامية بنفس القدر أثناء ممارستها.

في الواقع، يخبرنا: "طوال هذه المدة وحتى لحظة دخولي السجن لم أواجه نفسي أبدًا بالسؤال الوجودي لمعنى وغرض حياتي. لم أمتلك شجاعة تقديم نفسي ككاتب". وهو ما يجعل السجن دواءً مرًا يجب ابتلاعه. لقد كان مدركًا جدًا لـ"النسب التاريخي [الذي ينتمي إليه] على ما يبدو"، حيث يخضع الكتاب لأنواع مختلفة من العقاب بسبب عملهم الخارج عن المسار المتوقع. لقد حرص على أن يكون "حذرًا للغاية". وفي السجن، يلوم نفسه بسبب سوء تقديره: "لماذا فعلت بنفسك ما فعلت يا أحمد؟" يسأل نفسه. "هل تستحق تلك الأوهام التي تطاردها في الكتابة هذه التضحية؟" لقد كان فقط "يعبث، يقتل الوقت". وهكذا "بل كنت تلهو، فكيف وصلت في لهوك إلى هنا دون أن تعي خطورته؟"، لدرجة أنها أوصلته إلى السجن؟ 

هذا التعريف للكتابة على أنها "عبث" و "قتل للوقت" يهدف إلى رفض علاقته الأصغر سنًا والأكثر سذاجة بالكتابة. لكن نواة هذه الفكرة تظل مرئية في تقييمه الأكثر نضجًا لما تعنيه الحرفة بالنسبة له.

ويجادل بأنه بالنسبة له، فإن "المظاهر النبيلة" التي "يخفي" فيها الكتاب رغبتهم في الكتابة - "التنوير الفكري، والالتزام الثوري، والتعبير عن الذات، والحوار" - هي مجرد "ذرائع... محاولات الكتاب لصرف الانتباه عن دافعهم الأساسي، وهو إرضاء أنفسهم".

إنه في الواقع اقتراح بسيط وواضح: أن الدافع الأساسي وراء معظم الجهود، وبالتأكيد المجهودات الفنية (التي توفر القليل من المال)، هو المتعة. في الواقع، إن الكتابة مهمة مشهورة بعمقها - هي مواجهة لا هوادة فيها مع حدود عقل المرء وصبره وخياله - لدرجة أنه لن يجرؤ أحد على القيام بها إذا لم تكن هناك متعة متسامية بنفس القدر أثناء ممارستها. جزء من تلك المتعة هو في الواقع في مواجهة حدود الذات، ومن ثم العثور على الأماكن حيث يمكن توسيعها، أو حيث تكون مجرد حدودًا وهمية، مفروضة ذاتيًا وليست ثابتة. يكتب ناجي: "لم يكن لديَّ أي شيء أقدمه للمجتمع، لقد وجدت فقط أن الكتابة كانت وسيلة لمعرفة وفهم نفسي".

قد يبدو أن هناك تناقضًا متأصلًا في حقيقة أن ناجي يرفض باستمرار دور الفن أو الأدب كأداة للتغيير الاجتماعي، ومع ذلك يؤكد في مكان آخر أيضًا أن الكلمات هي "قوة رائعة لا يمكن المساس بها، قادرة على تدمير المجتمع وقيمه... لعبة رائعة." لكن الإجابة في الواقع تكمن في التناقض نفسه. فكما يؤكد ناجي في فصل مناسب بما فيه الكفاية بعنوان "ضد المانيفستو": "الكتابة هي في حد ذاتها وسيلة لفهم [الأبعاد الكاملة لعملية الكتابة]، وطريقة للشك والتساؤل. أجبرت على الدفاع عن نفسي"، وتابع: "شعرت دائما أن الدفاع نفسه أصبح سجنًا، حُصرت فيه علاقتي بالأدب". بموجب هذا التعريف، لا يمكن اعتبار حرز مكمكم - الشكوك والأسئلة والتناقضات وكل شيء - إلا محاولة ناجحة للخروج من هذا السجن بالذات.

 

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *