"قدماي المتمردتان" - قصة ديري ماروف

23 أكتوبر، 2023
يتوق صبي كردي في عائلة كبيرة إلى زوج مناسب من الأحذية يمكنه التباهي به أمام أبناء عمومته وزملائه في المدرسة.

 

ديري ماروف

 

قاس والدي طول قدمي بخيط سميك، وانطلق بسرعة ليلحق بالشاحنة الصغيرة التي كانت تنتظره. وضع جمانته ، وهو وشاح ذو خطوط طولية وعرضية يرتديه كعمامة، تحت ذراعه اليمنى ونظر إلى الوراء.

"إذا رعيت العجول، فسوف أحضر لك حذاء"، قال لي.

كان ذلك خبرًا رائعًا. تطلعت للحصول على حذاء جديد، لأنني نادرًا ما ارتديت أحذية جيدة. كان الطعام اللذيذ والملابس الدافئة والأحذية الجيدة كل ما أردت. شاهدت السيارة مع أشقائي الخمسة تختفي عن الأنظار، ثم ذهبنا لرعي العجول.

كانت قدماي متشققتين، وكلتا راحتيَّ متقرحة. كان من الصعب والمؤلم أن أمشي مرتديًا حذائي المتهالك المرقع. كان والدي قد وعد بشراء أحذية جديدة، وكان ذلك أحد أكثر الأشياء إثارة التي سمعتها في طفولتي. كنت أعرف أنه إن قال إنه سيفعل شيئًا، فلن يكسر كلمته.

كان ذلك في ظهيرة صيف دافئ في العام 1992. بعد عام واحد فقط من عودة عائلتي إلى بردبل، قريتنا، التي دمرها نظام صدام حسين في العام 1979. عاد عدد قليل من العائلات خالي الوفاض بعد اثني عشر عامًا. لم تكن هناك متاجر ولا كهرباء ولا مرافق عامة، لكن العائلات شعرت بسعادة غامرة لبدء حياتها الجديدة من دون أي شيء سوى الأمل الذي يوجهها إلى الأمام. تقع باردابل في منطقة نائية في محافظة السليمانية في شمال العراق، بالقرب من الحدود الإيرانية.

كان الطريق إلى القرية وعرًا وغير معبد. لبضع مرات في الأسبوع، ظهرت سيارة أو اثنتان، يمكن للناس ركوب سيارة إلى مدينة سيد صادق، على بعد حوالي عشرة أميال، حيث يتسوقون. اضطر والدي إلى العودة إلى المنزل مع حمولة ثقيلة إذا لم يكن محظوظًا بما فيه الكفاية ليعثر على سيارة.

تمنيت أن يعود قريبًا، حتى أتمكن من رؤية كيف يبدو الحذاء. لأسابيع، لم يكن لديَّ حذاء مناسب. كان الحذاء الذي كنت أرتديه مرقعًا بشدة لدرجة أنه لم يكن هناك مساحة لرقع جديدة. كانت بعض الرقع مزدوجة. كانت قدماي تنزفان أحيانًا، وكانت الأشواك تخترق الحذاء وتخز قدميَّ وتزيد من بثورهما.

كنت سعيدًا برعي العجول وأنا أتخيل حذائي الجديد. اللون والحجم وكيف يمكن أن يحتوي قدمي بشكل مريح. تمنيت أن يحضر حذاءً من نوع أديداس. فكرت كم سيكون شعورًا رائعًا أن أتباهى به أمام ابن عمي.

عاد والدي مساءً. لحسن الحظ، وجد سيارة متجهة إلى قرية قلبازة المجاورة، كانت على بعد طلقة نارية من قريتنا. أحضر معه حقيبتين كبيرتين. كان قد ربط كليهما بوشاحه ، ووضعهما على جانبي كتفيه، وحملهما إلى المنزل، كان يلهث ويتصبب عرقًا.

حاولت أخذ إحدى الحقيبتين منه، لكنها كانت ثقيلة جدًا. لم أجرؤ على السؤال عما إذا كان قد أحضر الحذاء حتى استراح وأعطته أمي كوبًا من الماء العذب من النبع القريب.

"من فضلك، اسألي أبي عما إذا كان قد أحضر حذائي"، توسلت إليها وهي تصنع الشاي الأسود على نار الحفرة. كانت والدتي ملجئي.

قال والدي: "أحضرت الحذاء. أعطني إبرة خياطة كبيرة لأضع ثقوب الأربطة".

رائع! دفعت يد أمي لأبحث عن إبرة كبيرة بسرعة. كان والدي قد وجد واحدة بالفعل، وبدأ في صنع الثقوب. لخيبة أملي العميقة، لم تكن الحذاء من نوع أديداس. كان من نوع بلاسكو  Plasko، لم تكن علامة تجارية شائعة. لا أعرف لماذا سميت بلاسكو ومن أين جاء الاسم، لكن كبار السن اعتادوا ارتدائها. إذا ارتداها الأطفال، فسوف يتعرضون للسخرية.

نظرت إلى التجاعيد المتناثرة عبر وجهه. ارتجفت أصابعي وتراجع صوتي.

قلت: "لا أحب الحذاء".

أجاب: "جربه الآن. امش بهدوء. انتبه حتى لا يضيع الحذاء".

ارتديته، لكنه كان كبيرًا جدًا على قدمي.

لقد احتفظ بالخيط الذي يقيس قدمي. أخرجه من جيبه وقاس قدمي مرة أخرى. كان يعلم أنه عندما عقد الخيط، زادت أصابعه السميكة من طول قدمي الحقيقي. استخدم الخيط لقياس قدمي لأنه كان أميًا ولم يكن يعرف كيف يكتب الأرقام، وعلى أي حال، لم يكن لدينا ورقة وقلم في المقام الأول.

طلبت منه تغيير الحذاء.

قال: "لست متأكدًا متى سأذهب إلى المتجر، ربما الشهر المقبل". كان بصدد بناء أول منزل من الحجر الطيني بنفسه. وكان قد بدأ العمل عند الحدود الإيرانية لإعالة الأسرة. والدتي، من ناحية أخرى، كانت ربة منزل. لذلك، اضطررت إلى الانتظار شهرًا آخر لأحصل على حذاء جديد، أو المعاناة بسبب ارتداء حذائي الكبير القبيح.

ارتديته.

آه، تحولت خطة التباهي أمام أبناء عمومتي إلى إحساس بالعار. كان الحذاء ساخنًا للغاية في الصيف. وضعت قطعًا من القماش داخل الحذاء ليصبح مقاسي. ارتديته بلا جوارب، ما جعله يصدر أصواتًا تشبه الضرطات. كالعادة، اشتكيت من الحذاء لأمي، وأخبرت والدي بما ضايقني. لكن رده كان الرفض.

كان يقول: "عندما كنت في عمرك ، لم يكن لدي ما أرتديه على قدمي".

كان هذا صحيحًا. حتى سن الثامنة، لم يكن قد ارتدى حذاءً قط. لكن الزمن قد تغير، وكان لدينا ما يكفي من المال لشراء حذاء مريح لي.

لقد فقدت فردة بطريقة ما، لكنني لم أجرؤ على إخبار والدي أنني فقدت الفردة اليسرى. عندما قابلته، كنت أخفي قدمي ببعض الملابس أو الأعشاب. بعد يومين، أخبرته أمي عن الفردة المفقودة.

"لن أشتري زوجًا جديدًا ما لم يهترئ هذا الزوج تمامًا"، حذرني. بكيت خلف السقيفة لفترة من الوقت، لكنه لم يظهر أي تعاطف. والدي شخص واقعي للغاية. لم يكن قلقًا بشأن المال على الإطلاق، لكنه أراد أن أكون أنا وإخوتي أكثر احترامًا للأشياء التي لدينا. كنت نصف حافٍ لعدة أيام وصارت قدمي اليسرى قذرة وسوداء، بينما كانت الأخرى محمية.

كان الأمر غير عادل. كانت إحدى القدمين محمية بينما أصيبت الأخرى وعانت. بالنسبة إليَّ، يرمز هذا إلى الحقائق المتطرفة الخاصة بالظلم البشري. البعض لديه كل شيء، أسلوب حياة راقي وسعادة، بينما يكافح الآخرون ويخاطرون كثيرًا لمجرد العيش.

بالنسبة للحذاء التالي، قام والدي بقياس قدمي مرة أخرى، وأحضر لي حذاءً جديدًا. تمنيت لو أحضر لي حذاءً من نوع أديداس الذي ارتداه أبناء عمومتي. لم يشترِ لي والدي قط الأشياء التي أحبها. لقد اشترى فقط ما اعتقد أنه مناسب من دون استشارتي.

هذه المرة كان الحذاء في كيس بلاستيكي. "ارتدِ هذا. لا تطلب مني تغييرها"، حذرني بشدة.

الحذاء كان ضيقًا جدًا!

ركلت الأرض في محاولة مني لتوسيعه. "إنه لا يناسبني"، غمغمت بحزن ونظرت إليه. كان يعلم أنه لم يكن جيدًا في اختيار الأحذية والأشياء الأخرى التي أريدها، لكن كل ما قاله هو: "هذا ما هو عليه".

طلب من والدتي أن تقدم له صينية أخرى من الشاي الأسود مع مكعبات السكر. كان رافضًا، وهي طريقته المعتادة في التعامل مع المواقف حيث ساءت الأمور والتي لم يرغب في مناقشتها.

اضطررت إلى ارتداء حذاء ضيق. ضُغطت قدمي وتحولت إلى اللون الأحمر وتشققت. عندما خلعته، كنت بحاجة إلى تهوية قدمي لأنهما كانتا ساخنتين جدًا، مع خدوش غير مريحة على بشرتي بسبب ضيق الحذاء. لم أشتكِ. تمنيت أن أعود إلى الحذاء القديم الواسع. كان حذائي غير المريح يذكرني أحيانًا بالسياسيين العراقيين. كان الجميع مستائين من النظام الجديد وتمنوا عودة عهد صدام حسين القديم. خلال نظام صدام حسين، اشتكى الجميع منه، ولكن بعد ذلك تمت الإطاحة به، وتولى بعض السياسيين الفاسدين الجدد السلطة.

مررت بالعديد من الأيام الحزينة وصدمني الحذاء الضيق. عندما ذهبت إلى المدرسة فكرت في كيفية ارتدائه في الأيام الباردة، عندما يكون باردًا للغاية، أو كيفية المشي والجلوس لعدة ساعات في الفصل من دون أن أشعر بالانزعاج والألم. كلما شعرت بألم في قدمي، زاد تأثيره على جسدي وعقلي. لم أستطع التنفس جيدًا وتحدثت بصوت عال.

اشترى لي والدي حذاءً جديدًا بعد أكثر من عامين، لكنه كان حذاءً غير مريح وغير مرغوب فيه. وضعت خطة لأتمرد وأطالب بحذاء وملابس أفضل. كانت حياتي بحاجة إلى التغيير، وكان عليَّ أن أجد طريقة للقتال من أجلها. تعمدت تمزيق حذائي وقلت لوالدي إن السبب هو صغر حجمه. على الرغم من أنه لم يثق فيما قلت، إلا أنه التزم الصمت.

توسلت إلى أمي أن تشتري لي حذاءً. لقد استمعت إليَّ كما كانت تفعل دائمًا مع أخواتي الأربع. تقليديًا، كان الآباء يجلبون الأشياء الضرورية لأبنائهم، كما فعلت الأمهات لبناتهن. حتى ذلك الوقت، كنت الوحيد الذي اشترى له والدي ما يحتاج، لأن أخي الأكبر، آري، اشترى احتياجاته بنفسه، بينما اشترت والدتي احتياجات إخواتي. كان فريق والدتي محظوظًا. تحدثت مع أخواتي قبل الذهاب للتسوق. قررن جميعًا ما يحتجن إليه. فكرت في الانشقاق والتحول إلى فريق والدتي حيث كانت هناك حرية اختيار.

قلت لها إنني لن أرتدي أي حذاء أو ملابس إذا اشتراها والدي. لقد كان ذلك انقلابًا على والدي. كان عليَّ أن أفعل ذلك، كنت بحاجة ماسة إلى ذلك. والدي لطيف جدًا ويحب أطفاله كثيرًا، لكنه لا يعبر أبدًا عن الحب بالكلمات، بل بالأفعال. لم يكن المال هو القضية قط. لقد اشترى الأشياء من دون أن يهتم به كثيرًا.

وعدت أمي بإحضار حذاء مارادونا لي عندما ستذهب إلى الطبيب في السليمانية في المرة القادمة. سُمي حذاء مارادونا على اسم أسطورة كرة القدم الأرجنتينية دييغو مارادونا. لقد كانت علامة تجارية جديدة، كان العديد من الأطفال والمراهقين مهووسون بها. لم تتمكن والدتي من العودة في نفس اليوم الذي زارت فيه الطبيب بسبب قلة وسائل النقل، وبالتالي كانت بحاجة إلى البقاء في منزل أحد الأقارب إما في السليمانية أو سيد صادق.

انتظرت بصبر حذاء مارادونا الجميل. انتظرت يومًا وليلة. أخبرت جميع زملائي وأصدقائي. تخيلته وتخيلت الأشياء الأخرى التي قالت إنها ستحضرها، حلويات مثل لقمة القاضي ، والكعك الكردي. أصبحت أكثر يقظة مع مرور الوقت. إنها واحدة من أقوى ذكريات طفولتي، ذلك الوقت في انتظار عودة والدتي. انتظرت شيئًا كنت متأكدًا من حدوثه. كنت واثقًا من نجاح انقلابي الاستراتيجي الصغير، وكنت أتطلع إلى أن أظهر لوالدي كيف فعلت والدتي أشياء عظيمة من أجلي.

في انتظار نهاية الأيام غير السارة للأحذية غير المريحة، تخيلت كيف ستذهب والدتي إلى المتجر وتساوم على الحذاء وتخبر صاحب المتجر عن شغفي العميق بحذاء مارادونا. أخيرًا، عادت وأحضرت الكثير من الأشياء في أكياس ضخمة. انتظرت في ترقب. لا يمكن للكلمات أن تعبر عن مدى حماسي. ركضت وعانقتها واستنشقت رائحة القرنفل الرائعة على صدرها.

"أحضرت حذاء مارادونا"، أعلنت منتصرة.

قفزت بفرح حولها. الأربطة السميكة، والكعب الصلب، والثقوب الكبيرة، كل هذا جعلني سعيدًا للغاية. شددت الأربطة وأنا أرتدي الحذاء. لقد حان الوقت للتباهي أمام أصدقائي وأبناء عمومتي. شعرت بالقوة والثقة مثل بوابة فولاذية.

كانت حذاء مارادونا أيضًا واسعًا قليلًا، عانيت في الأيام الباردة لأن ذلك الشتاء كان شديد البرودة. لكنني ما زلت أحب حذاء مارادونا الخاص بي. إنه إحساس لطيف عندما تحب شيئًا ما أو شخصًا ما، لذلك حتى لو كنت تعاني، فأنت تشعر أنك بخير، كما لو كان الأمر يستحق ذلك. احتفظت بحذاء مارادونا في مكان آمن تحسبًا لمحاولة سرقته. عندما ذهبت للسباحة، غطيته بأوراق الشجر. ألهمني حذائي ومنحني إحساسًا بالاستقلالية. كان خطوتي الأولى نحو اتخاذ قراراتي الخاصة والنضال من أجل حقوقي. تعلمت أنه لا يمكن أن تحدث أي تغييرات تريدها ما لم تفعل شيئًا حيالها، أو تدفع الثمن. هذا ينطبق بالتأكيد على الأنظمة الحكومية. ومن دون نضال، لن يحدث أي إصلاح.

لقد علمتني رحلتي من الأحذية غير المناسبة إلى مواجهة نظام فاسد أن التغيير ممكن فقط عندما نجرؤ على الظهور والكلام.

 

ديري ماروف، كاتب كردي كندي غير روائي وصحفي مستقل. انتقل إلى فانكوفر من العراق في العام 2017 ، حيث ركز على الكتابة غير الخيالية، كتب مؤخرًا فصلين لكتابين يختصان بمشروعين مختلفين. ينشر أيضًا في New Canadian Media مركزًا على قضايا المهاجرين والوافدين الجدد في كندا. حصل على درجة الماجستير في التاريخ من جامعة بيون في الهند في العام 2013.

حربالعراق كردستانالعراق الفقرصدام حسين

تعليقان

  1. لقد أثرت هذه القصة في بشكل كبير وأثارت بعض ذكريات طفولتي الخاصة ، فيما يتعلق بتجاربي المخيبة للآمال في الأحذية.

    1. شكرا لك يا غون على قراءة قصتي. أنا سعيد لأنك استمتعت به ولكن آسف لسماع أنك مررت بنفس الصعوبات التي واجهتها.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *