قصة قصيرة لحسين فوزي: باللمبة النيون قام

8 September, 2025
أنس البريهي (مواليد سوريا 1991)، بلا عنوان 4، زيت على قماش، 60×60 سم، 2024 (بإذن من مور شاربانتييه، باريس).
عن مخاوف الطفولة وأرق التعامل مع الأب العائد بعد غياب طويل، يكتب حسين فوزي قصة قصيرة مبهرة، حيث تحاول الشخصية الرئيسية التعامل مع هلاوسها وخيالاتها التي لا تهدأ.

 

حسين فوزي

 

أحمد لمبة كان جتة العرص لكن صوته رفيع بخنة طفولية، مثل ميكي ماوس، هكذا برروا أنه نادرًا ما تكلم، حتى لا يقضي على هيبته.
كنا ست أطفال نلعب كرة القدم في الشارع، كل فريق منا مكون من ثلاثة لاعبين، والجون المشترك باب جراج بيتنا الصاج. بينما أنا على وشك أن أحرز هدفًا دوَّت صيحة من بعيد: «أحمد لمبة وصل، فلَّق ياله».
العيال هربت، خرج بعضهم للطريق للرئيسي حيث السيارات سريعة وعمياء، والبعض الآخر ترجى أصحاب محلات البقالة أن يقبلوهم في حمايتهم حتى تزول الزوبعة: «ماشي يا حبيبي تعالى ادخل». ولأني تحت بيتي كانت العودة لأدراجي أسرع الحلول. قفزت على السلالم الطويلة المؤدية للبوابة وانخلع شبشبي، هبطتُ لألتقط الشبشب فرأيته يقترب جالبًا معه عاصفة ترابية وبكل يد لمبة نيون، يقبض عليهما كالسيف المهند. عدتُ مسرعًا إلى المدخل مترجيًّا ألا يكون قد لمحني واختبأت في حوض الزرع الكبير، ومن الخوف نسيت غلق بوابة البيت الحديد.
رفعت رأسي لأتفقد إن ولَّتْ العاصفة، لأجدني أحدق في الهاوية؛ عينا أحمد لمبة النهمتان لطفل واقع، فريسة شهية. شمس العصرية خلفه. قفز على السلالم وفي ثانية أصبح وجهه المثلث العامر بالحفر والندوب في وجهي الصغنون البرئ، وقد امتزجت في أنفي رائحة عرقه الحمضية برائحة المجرور المنبعثة من فمه. رفعني برأس اللمبة الأنبوبية من أسفل ذقني بيد واحدة، رغم أني كنت قلبوظة، أفلتَ اللمبة الثانية من يده الأخرى، فكُسِرَت على الأرضية الخرسانية، تناثر مسحوقها وتشظَّى الزجاج. أخرج طوبة من جيبه وضربني بها على عضدي. عنده ست أصابع في كل يد، لا يرتدي سوى كلوت سبعة اصفرَّ من فرط الاستعمال، وفانلة داخلية مطينة تحتها شعر صدره الملبّد، ومن صفي أسنان لم يتبق سوى قاطع وحيد. أول ما بدأت أنزف من ذارعي، خرج منه صوت لم آلفه، أعود الآن للخلف فأفكر فيه كصوت نشوة لُبَّيَت. صامتًا خرج، وأنا كنت مرعوبًا لدرجة أني لم أُطلِق آهة واحدة حتى اختفى. لما الجو هدأ، طلعت لماما وأطلقت لدموعي العنان.
تلك كانت أول مرة قابلتُ فيها أحمد لمبة. جاهلًا، ردة فعلي كانت بطيئة لأني احتجت بعض الوقت كي أستوعب علام الجدل والدوشة.
الطوبة اللي ضربني بيها على دراعي عمري ما نسيتها، والتروما من بعدها بقت بتحركني من قبل ما أعرف معنى الكلمة أصلًا. أول ما أسمع حد بيصرخ أحمد أو لمبة بطلع أجري في أي حتة، أي بوابة مفتوحة، أي محل أتحامى بيه.
كان لأحمد لمبة جدول مواعيد، يجوب  الشوارع كلها، وليس شارعنا حصريًا الذي يأتي دوره في وقت موحد كل يوم تقريبًا، حوالي واحدة ونص، فتوقفنا عن النزول وقت وصوله إذ حفظنا روتينه، لتفادى أي طوبة غدر. لكن ذكاء أحمد لمبة تفوق علينا. لما لاحظ أنه في كل مرة يأتي شارعنا يجده خاليًا من الأطفال، قرَّر تغيير روتينه من فترة لأخرى لدرجة أنه استحال علينا توقع مواعيده.
كنا نلعب السبع البلاطات عندما رأينا العاصفة الترابية في الأفق، فنفدنا بجلدنا هاربين. ولما عدنا اكتشفنا أن لمبة رحل بالبلاطات، كرهائن. فضيعنا المتبقي من اليوم في تجميع بلاطات أخرى صالحة للعب. لكن الأمر تكرر، نهرب تاركين البلاطات خلفنا، نعود لنكتشف السرقة، فقررنا إعلان الحرب على أحمد لمبة: كفاية بقى نعيش في خوف.
حاولنا نصب الكمائن له. نسمع صرخات الأطفال في الشوارع المجاورة فنعرف أنه قريب. نختبئ في الجحور وخلف الأشجار والشوارع والبيوت والحوائط وجيوبنا عامرة بالطوب، كي نحظى بأفضلية المباغتة والضربة الأولى. لكن بصراحة أحمد لمبة كان أحسن حد ينشن في الدنيا، قناص. طوبة في رأس ولد هنا، طوبة في عين ولد هناك. عدنا من الحرب جارّين الهزيمة وخيبة الأمل.
بدأت الدراسة، فغيَّر لمبة مواعيده، يظهر السابعة صباحا ونحن في طريقنا إلى المدرسة، أو عند الثانية عشر ظهرًا مع بداية الفترة المسائية. مجردين من أي أسلحة، يلوح طيف أحمد لمبة.
لما شكيت همي لماما وخالي، طيبا بخاطري، وقالا لي: «ماتعملش عقلك بعقله، مخه تعبان، والعيال بتقعد تتريق عليه وتضربه ولسة مخيط عشر غرز في دماغه».
ولأني كنت طفلًا حساسًا ذا ميول فنية، فكرتُ: مش يمكن أحمد لمبة فعلًا بني آدم غلبان والزمن اللي عمل فيه كدا؟ يعني أكيد في يوم من الأيام كان عنده ماما وخالو، وكان طفل زينا بيلعب في الشارع وبيروح المدرسة، وبيرجع البيت يلاقيه نضيف ومستنيه أكل، مش يمكن هو طيب أو على الأقل كان طيب بس شقاوة العيال أجبرته يكون أعنف؟
أحيانًا وأنا على العجلة أراه جالسًا على صخرة ضخمة إزاء موقف الأتوبيسات، ينظر لمياه النيل الجارية أمامه. مدفوعًا بالشفقة، أُجمِّد قلبي، أركن العجلة وأذهب للوحش بقدمي، وأقول له: إزيك يا أحمد، عامل إيه؟»، مرة يتجاهلني، ومرة يزمجر، ومرة رأيت الدموع سائلة نهرين على خديه وهو يراقب الغروب وسمعت صوته الميكي ماوس لأول مرة: «سيبني دلوقت في حالي». لم يوقف عادته بمطاردة الأطفال صباحًا في الأيام الدراسية، وعصرًا في الإجازات الشتوية والصيفية، لكنه على الأقل أصبح أرق ناحيتي.
ضيعت المتبقي من سنين ابتدائي أحاول أثبت لأحمد لمبة أن هناك أطفال طيبين في الدنيا عادي، وأفهمه بطرق ملتوية أن العدوانية ليست دائمًا الجواب الصح. شتاء يعقبه ربيع، وصيف يعقبه خريف، خلايا تموت وخلايا تتجدد، أكبر وجسمي يتغير بشكل لا أفهمه، ويتبقى أحمد لمبة، كابوس المنطقة، هو الثابت الوحيد في المعادلة. إلى أن اختفى لمبة من شارعنا، ومن كل الشوارع المجاورة، بلا مقدمات، فص ملح وذاب. شهرًا فالثاني، عرفنا أن الهم انزاح.
وفي مرة بليلة صيفية، كنا أنا والعيال جالسين على السلم نلعب بكروت Yu-Gi-Oh. واحد منهم قال:
– مش دخلوا شقة أحمد لمبة؟
متعجبًا قلتُ:
– أحمد لمبة عنده شقة؟
فرد الواحد:
– آه إيجار قديم، صاحبها كسر الباب علشان يغير الكالون ويعمل مفتاح جديد، بس فكك مش دا المهم، مش هتصدق لقوا إيه جوا.
أنا والعيال في نفس واحد:
– إيه يا ترى؟
رد:
– قطط مدبوحة في كل حتة، وكل اللمبات اللي كان بيلمها عامل بيها أشكال هرمية مبهرة منورة بمليون لون، وبنى بالبلاطات اللي سرقها مجسم صغير لبيت من دور واحد.
نظرت للنجوم التي زينت السماء ليلتها وتساءلت: «يا ترى إنت فين دلوقت يا أحمد يا لمبة يا بتاع العيال؟».
اللمبة اتحرقت، والشوارع عادت ملكنا. تطورات جسمي صاحبها تطورات في وعيي. فجأة، خدت بالي إني ماعنديش بابا في البيت زي بقية العيال. سألت ماما، فتنهَّدتْ كأنها تمنَّتْ طوال السنين المنصرمة ألا  يحل ذاك اليوم.


الحكومة شدت عودها مؤخرًا، فقلت إنها فرصة للتوبة. كل يوم أقع على خبر مثل: «القبض على أكبر شبكة مراهنات تهدد الاقتصاد القومي (…) المادة الـ ١٤ من قانون العقوبات تنص على الحبس لمدة لا تقل عن سنتين وغرامة لا تقل عن مئتي ألف جنيه».
ولأن العمر مش بعزقة، ولأن أنا معايا كام ٢٠٠ ألف جنيه أصلًا؟ أرسلت لزبائني على مجموعتي الإلكترونية: «يا نسور الجو، مساء الخير، أنا مسافر روسيا وبحضر ورقي الفترة دي، أنا كلمت وكيل تاني محترم جدًا وثقة ورحب إنكم تخشوا الجروب بتاعه، كلموه على الأكونت دا zeby_mango69@، وربنا يجعل أيامكم كلها مكسب ويجبر بخاطركم دايما».
سحبت فلوسي من محافظي الإلكترونية المربوطة بشرائح الـ 4G عبر الـ ٤ شركات اتصالات، على خمس أيام بسبب الحد الأقصى للسحب. لما لاحظوا، بدأ موظفو خدمة العملاء يتصلون بي ويسألوني عن سبب السحب المتكرر بمبالغ كبيرة، فأخبرتهم أن أحد أفراد عائلتي عنده سرطان ومحتاج لكل مليم الفترة دي. اقتنعوا وسابوني في حالي، لحد ما فضيت حساباتي، تركت ثلاثين ألف جنيهًا في محفظة فودافون كاش لزوم توزيع الهدايا على تيك توك وتانجو.
قسمتُ المال لمئة وردة وحُوتَين على تيك توك، والمتبقي اشتريتُ به بوكيهات ورد على تانجو.
كل هدية أرسلتُها على تيك توك وتانجو كانت بنية أنها صدقة على روح ماما الله يرحمها ويحسن إليها، إلا أني كنت أستمد سعادتي من ردود الفعل؛ الشحاتين العرقانين على تيك توك، وشراميط العشوائيات السِمان على تانجو. أمارات السعادة على تيك توك كانت صيحات النصر: كفووووو، ينصر دينك يا «بتاع الغلابة» – اسمي المستعار على تيك توك – وعلى تانجو كانت رقصات على الخاص في لانجيري شفاف، وكس أسود يفيض بالعسل مع كل هدية جديدة، تتوقف عن الفرك وتسألني: «معلش اسم حضرتك إيه؟» أجيبها: «دكتور صلاح». فتتأوه: «أنا شرموطة دكتور صلاح.. أنا شرموطة دكتور صلاح».
بعد تصفية الحسابات، كسرت خطوطي التليفونية القديمة، واشتريت خطوطًا بأرقام تليفونية جديدة وربطتها بمحافظ إلكترونية نظيفة أشحنها على قدر الحاجة. ألقيت بهويتي القديمة في البلاعة. رغم ذلك، استطاع  المدمنون  الوصول إليَّ:
«دكتور صلاح، ممكن خمس آلاف جنيه سلف؟».
«دكتور صلاح، ممكن تشحنلي بتسع آلاف جنيه لعبة الكرستالة؟».
«دكتور صلاح، أنا في الفورمة النهارده وكسبت خمسميت جنيه بعد ما راهنت على فوز ستوك سيتي وعايز أسحبهم علشان أشحن عداد الكهربا».
قفلت الصفحة وشديت عليها السيفون، والانشغال الآن كله بالمستقبل؛ فين أحط فلوسي قبل ما أصرفها وتخلص؟ أشتري دهب وأركن؟ ولا أحطهم في البنك وأسيب التضخم والتعويمات تاكلهم؟
ثم ألهمني ربنا بالفكرة بسبب قطع الكهرباء المتكرر. يُفصَل النور عن بيتي، فأخرج لأجد شوارع المدينة ظلامًا في ظلام، أقابل اللاجئين السودانيين والليبيين والسوريين والعراقيين وقد غزوا الشوارع، أغلبهم طلبة جامعيين ويتحركون في جماعات. هربوا من حروب وأوضاع سياسية مضطربة في بلادهم ودخلوا مصر، بلد الأمن والأمان، سالمين، واعتبرناهم ضيوفًا عندنا. قررت الحكومة أن أنسب طريقة للتعامل مع أزمة الطاقة التي استفحلت أن يعلنوا جداول لمواعيد فصل الكهرباء عن كل منطقة علشان الناس تعمل حسابها، مع ذلك خالفوا جداولهم أوقاتًا كثيرة. أرى أشباح اللاجئين في عتمة الشوارع يتحلقون حول عواميد النور الصفراء، يتأبطون الكتب الدراسية، ولم يتبقَ منهم سوى ظلال.
سلعة يقابلها طلب؛ افتتاح مكان يضمهم خاص بالمذاكرة والاجتماعات، co-working space يعني، مكيف وواسع ومقسم لكبائن وغرف وصالات بين خاصة وممتازة وعادية، وكلٌ بحسابه.
المكان موجود وجاهز للإيجار، لكن يتبقى الأثاث والمستلزمات؛ مقاعد بدواعم للقطنية، طاولات عمل كبيرة لفرق العمل وصغيرة للأفراد، مكاتب مزودة بمنافذ شحن، وحدات تخزين، بار قهوة، غلاية كهربية، أكواب، صحون، معالق، ثلاجة عرض، طابعات متعددة الوظائف، سبورات للغرف المغلقة التي سيؤجرها مدرسون الثانوية والإعدادية، ميكروفونات، أدوات مكتبية، طاولات قابلة للثني لطلبة عمارة، مصابيح موفرة، ومولدات كهربية لضمان استمرار الطاقة في المكان.
حددتُ أعدادًا مبدئية للأدوات المطلوبة وتكلفتها مع تجنيب مصاريف التسويق والإيجار الشهري وأجرة العمالة، وتوصلت للتكلفة الإجمالية الأولية، قسمت التكلفة على مئة سهم، وبدأت أبيعها على dubbizle.
كل ما كان حد يكلمني يقولي إنه مهتم، أتفق معاه على معاد وأقابله وأعزمه على كوباية قهوة وأشرحله الموضوع بالتفصيل، بملفات إكسيل وعروض باوربوينت، ولما العدد اكتمل، المكان اتفتح وبقى له أكونت على LinkedIn بيأرخ حكايته، سميت المكان ON واللوجو بتاعه شعلة لهب بتنور الضلمة، لحد ما المكان بقى منارة إسماعيلية كلها.


حققت حلم ماما بالالتحاق بكلية الطب، لكن التنسيق ألقى بي في جامعة قناة السويس بالإسماعيلية حيث انتقلتُ بعيدًا عن بيت طفولتي، مع زيارات أخذتْ تقلُّ كل سنة في الإجازات الشتوية والصيفية. ربنا كرمني بمعدل تراكمي مرتفع طوال سنين دراستي، لكن في السنة الرابعة بدأتُ أسمع أصوات، ثم تجسدتُ الأصوات وتحولتْ لأوجه، ثم أصبح للأوجه أجسام، ثم استطالت الأجسام وغدا لها ظلال.
شاب نصف شعري الأيمن ولم أكمل دراستي، لم يعرف أحد من عائلتي في بلد طفولتي البعيد وظنوا مع انقضاء ثاني سنة امتياز أني تخرجتُ. كنتُ مهددًا بالتجنيد الإجباري بشهادتي الثانوية كعسكري أمن مركزي سنتين، بعد طردي من الكلية لاستنفاذ عدد مرات الرسوب، لكني أخذتُ الإعفاء لأسباب نفسية واضحة.
توقف أهلي عن إرسال الفلوس لي، باعتبار أني خلاص، أصبحتُ طبيبًا ورجلًا مسؤولًا عن نفسه، فاشتغلتُ شياشًا في كافيه، أنا مدرك أن سردي للحكاية بتلك الطريقة يضفي عليها حزنًا، لكن الدخل كان يكفيني وزيادة في ورديتي أم ١٢ ساعة بلا إجازات، البقشيش كان معقولًا، فاستخدمته للرهان على ماتشات في الدوري الإنجليزي على تطبيق إلكتروني. راهنتُ بعقل فاستدام المكسب، إلى أن كونتُ خبرة جيدة. بدأت أرفع فيديوهات على تيك توك ويوتيوب أعطي فيها إرشادات لرهانات مضمونة، توسع معي الأمر لدوريات مغمورة، كنت أدرس نتائج فرق بعينها جيدًا وربحها وفير. والحمد لله الناس آمنوا بي وأحبوني لأنهم اختبروني أكثر من مرة وسمعوا كلامي فعرفوا أني صادق وأمين معهم. عدد متابعيني ازداد بسرعة فشخ، فأصبح عندي أرباح مستقرة من فيديوهاتي على المنصات، لم يعد هناك داعٍ لرص الأحجرة لعيال مزوغة من دروسها، فتركت الشغلانة.
لم تتوقف الأصوات والأوجه والأجسام والأظلة عن الظهور، وبرغم أني آلفت بعضها، كان البعض الآخر متغيرًا، يلبس أوعية وأجسادًا جديدة في كل نوبة، كالماء. في مرة رأيت أحمد لمبة يقف صامتًا ساكنًا في صالتي، يقبض على لمبتي نيون، والريالة تسيل على صدره من فمه المفتوح ولم يتبق من أسنانه سوى قاطع وحيد. حِرتُ؛ تهيؤات ولا الظهور التاني حان وقته ورجع الأرض؟ فتحت لايف:
– معلش يا نسور الجو – هكذا كنت أدعو جمهوري الحبيب – أنا مش فاتح النهارده علشان أقولكم توقعات، بس عايز منكم خدمة، إنتو شايفين حاجة ورايا؟
تأتي الردود أمينة:
– لأ يا دكترة.
فأزفر زفرة راحة، وأغلق الفيديو بعد أن أشكرهم مع وعد بفيديو جديد في موعدنا الثابت.
أخي الأكبر والوحيد سافر للعمل في رومانيا، تزوج واستقر هناك، إن جاء أفراد عائلتي لي في زيارة وسألوني: «ليه مابتروحش المستشفى، ليه ماعملتش عيادة؟»، أخبرهم أني أخذت إجازة لأتفرغ لهم وأغلقت العيادة طوال فترة بقائهم معي: «مش هتشرف بلقاكم كل يوم». إن اشتكى لي أحدهم من وجع، فـ ChatGPT كان موجودًا للعون، أهلي الطيابة عمرهم ما سألوني حتى أنا تخصصي إيه. ماما ماتت فذهبت لدفنها وعدتُ، أخي كان يعود للبلد مرة كل سنة ليزور ماما وينثر الورود أمام شاهد قبرها الخرساني، أحيانا أتى لزيارتي مع زوجته وطفليه، أحيانا أتى بمفرده، وأخرى تكاسل عن المجئ لي من أساسه.
المتبقي من جيل ماما في العائلة كانوا يلومونني على القطيعة الطويلة، فأتعلل ببعد المسافة، وضغط الشغل، والدراسة لأن كل يوم هناك جديد في عالم الطب، والحالات لا تنتهي، ولأني نويت الهجرة والمعادلات معقدة: «أنا لا باكل ولا بنام ولا برتاح، عندي حلم وهعافر علشانه». وفي يوم من الأيام أرسل لي خالي فيديو  توقعات للرهان على ماتشات في الدوري الأوزبكستاني من قناتي على يوتيوب مستنكرًا، فتعللت بالظروف الاقتصادية الصعبة في البلد وأن تلك محاولة مني لفتح أبواب رزق لآخرين الدنيا جاية عليهم، فكان رده: «روح يا بني ربنا يطبطب عليك ويساعدك ويخلي وجودك صدقة جارية عن رحم أختي الميتة».
مرت السنون، ونسوني تمامًا. الحبل السُري الواصل بيني وبين بيت ماما البعيد اتقطع، وتوقف أخي عن قضاء إجازاته بمصر.
فيديوهاتي انتشرت جامد، وصلت لأحد العاملين بالمقر الرئيسي للتطبيق في قبرص. تواصل معي وعرض عليَّ أن أعمل معهم كوكيل مراهنات. قرروا تعيين وكلاء في مصر كأطراف ثالثة بين المراهنين والشركة بعد القيود الصارمة التي فرضها البنك المركزي للحفاظ على العملة الأجنبية داخل البلاد في المعاملات النقدية مع كل تطبيقات الشراء غير المحلية. كنت ضمن وكلاء كثر. يرسل لي المراهنون نسخًا ممسوحة ضوئيًا لبطاقات هويتهم، يحولون لي على محفظتي الإلكترونية القدر الذي يريدون الرهان به، وأتولى مهمة تحويل الأموال لنقاط على حساباتهم في التطبيق. القدر الأكبر من الربح أتى من ألعاب الكازينو المبرمجة أصلًا كي يخسروا، لكنها بانت للغلابة السذج أن من السهل جدًا توقعها والتغلب عليها؛ الطيارة، الكريستالة، الروليت، وغيرها. استغلت الشركة اسمي المعروف كصانع محتوى، لتسجيل مقاطع لحسابات وهمية على التطبيق تكسب مبالغ ضخمة مصحوبة بتعليقي الصوتي، وكأن إرشاداتي وخطواتي المحسوبة سبب الفوز، في حين أنها أغرقت المساكين أكثر وأكثر في الوحل، وكما يقول المثل التراثي:  «كم من تارك للرهان ضيع آخر خطوة قبل الظفر الكبير». يراسلني واحد منهم عبر شات تيليجرام ليخبرني أن التطبيق قضى عليه ومراته سابته وعفشه كله اتباع وبقى بينام على البلاط، ولأن أرباحي كانت تأتي من الشحن وليس من المكسب، أرد: «لو شحنت بأربعين ألف جنيه ولعبت الكريستالة مليون المية هتكسب وتسدد ديونك وتلعب بالفلوس لعب». يستدين من طوب الأرض ويحول لي المبلغ، يلعب فيخسر، يعود ليصب دعواته عليَّ بالفقر مصحوبة بسب الدين، فأتجاهله.
ثم أصبحت المراهنات الإلكترونية قضية رأي عام، والحكومة شدت عودها وبدأت حملات القبض والتفتيش، فصفيت حساباتي، ووضعت صورة الرئيس السيسي كخلفية لموبايلي، تميمة تحميني في أي كمين شرطي أقابله، وفتحت سنتر ضخم مخصص للمذاكرة الجماعية، إلى جانب خدمات أخرى مثل الدروس الخصوصية والاجتماعات وأعياد الميلاد، مستغلًا أزمة الكهرباء اللي ضلمت البلد.


كنت جالسًا على مكتبي في غرفتي الواقعة آخر الطرقة، أراجع مكاسب الفروع الأربعة من مشروعي آخر الشهر لتحديد عائد كل سهم وتحويله، عندما زكمني دخان السجائر الذي وصلني من الصالة. مهتاجًا خرجت، لأجده خالعًا قناعه البلاستيكي الأصفر، جالسًا ورماد السجائر يحيطه من كل ناحية، إذ أخطأ مكان المطفأة، فتناثرت الأعقاب وبعضها ترك بقع حرق على قماش الكنبة.  قلت بزعيق وقد اعتدت خلاص على وجهه الفاقد لأي ملمح:
– يعني لو مش هامك إن السجاير دي هتخلي الأدوية مش شغالة معاك وتتعب أكتر وأكتر، فعلى الأقل خليك محترِم كونك ضيف وإنك كدا جاي عليا بتعب، ارحم دين أمي، مش عارف أتنفس وسقف البيت كله بقى أصفر من الدخان.
فرد بصوت خشن وقد أخطأ مصدر الصوت لافًا رقبته للناحية الأخرى:
– خرمان.. خرمان.
فتحت كل الشبابيك ورششت معطرًا برائحة العنبر والعود في كل مكان، على أمل أن يفك الجو، كنست الأرضية ونفضت الأريكة وجمعتُ الأعقاب وألقيت بها في السلة. أبلعتُه أدويته. جهزت الحقنة وحقنتُ بها عجيزته، كانت بسن رفيع كي لا يتمرد بحجة أنها تؤلمه، وأنا الحمد لله إيدي ملبن ومابتوجعش. جلس بعدها حوالي عشر دقائق صامتًا ويزمزأ كطفل لأني سحبت منه علبة السجائر والولاعة، ثم قال: «تعبان.. نوم.. يلا نوم». أحطتُ وسطه الضيق بذراعي، قدتُه لغرفته وأضجعتُه، ونام فورًا بعينين مفتوحتين، أدركتُ ذلك من انتظام إيقاع أنفاسه. معي حوالي ست ساعات قبل استيقاظه، فأخذت لابتوبي وخرجت لأكمل الحسابات بالفرع الرئيسي.
نجح المشروع، ابن أفكاري، نجاحًا ساحقًا، وولَّد الفرع الأول فرعًا ثانيًا فثالثًا فرابعًا، عدد الأسهم تزايد ومعه عدد المساهمين، ولأن الأمر أصبح مرهقًا عينتُ مديرًا باختصاصات واضحة لكل فرع. حاول آخرون تقليد مشروعي، لكن البهائم لم يفهموا أن الفكرة أصلًا بُنيَتْ على أزمة نقص الطاقة، والطاقة ناقصة بسبب العجز في الغاز والمشتقات البترولية، أذكاهم اشترى مولدات تعمل بالسولار إلى أن شحَّ، بينما أنا مولداتي الكهربية تعمل بالماء، وبالتالي كانت مصائر منافسيني الظلام والفشل. منارتي لفتتْ نظر صحفيين اللايفات بكاميرات الموبايلات، فأتوا ليسألوني عن السر، فأخبرتهم عن الفكرة العلمية خلف مولداتي الكهربية دون التطرق لتفاصيل تفضح ديناميكية عمله، وردِّي أني لن أتيحها للعرض التجاري، وأن مخابرات دول عظمى حاولت التواصل معي لكي يعرفوا السر وراء اختراعي ونطرتُهم: «أنا تحت أمر الدولة، واختراعي دا مِلك بلدي مش ملك أطراف خارجية جاية تلعب جوا مهما عرضوا عليا من مليارات، أنا راجل عيني مليانة، وكل ما استقامتي تزيد كل ما ربنا بيكرمني وبيعطف عليا أكتر وأكتر». ثم أتى سؤال كتحدٍّ: «طيب ممكن تعرفنا إزاي جاتلك الفكرة ونفذتها برغم إن خلفيتك طبية ومالهاش علاقة بالكهربا؟»، فنظرت إلى عين كاميرا الأيفون المصوبة تجاهي: «توفيق ربنا دا نمرة واحدة، نمرة اتنين أنا إنسان متعدد المواهب والاهتمامات».
لم يتواصل معي أحد من القيادات رغم انتشار الفيديو والدعاية لمكاني الذي لم ينقصه دعاية أساسًا. فقلتُ لنفسي: ماحدش عارف الخير فين، يمكن العالم لسة مش جاهز لاختراعي، وبعدين دا مش اختراعي أصلًا، دا اختراع طالب معهد من أسيوط خدته منه وسجلته باسمي في مكتب براءات الاختراع بعد ما اديته نصيبه اللي يرضيه ونصحته إنه مايتكلمش عن الموضوع مع حد علشان سلامته، وقلتله أنا هتكفل بإني آخد الطلقات في صدري مكانه.
لكن بقى الخواء رغم أني حققتُ حلمي وأصبحتُ صاحب حكاية تُحكى. كل مرة أمسك بالإيراد، أتفرس في الرزم المالية المربوطة بأستك وأكلمها: «يلا، حسسيني بحاجة». ولا أحس. أتممتُ الثلاثين وأشعر أني مزنوق في حارة سد، أراقب على الشاشة كاميرات مراقبة الفروع من كل الزوايا، أشاهد طلاب وطالبات جامعة سُمر البشرة يخطفون البوسات ويتبادلون التحسيس في غرفة مذاكرة ظنوها خاصة غير مدركين أني أرصد كل حركاتهم من بيتي، محاطًا بظلال ساكنة وأصوات لا تكف عن الزن في دماغي، وهلاوس لا تُروَّض مهما حاولت. وتساءلتُ إن كان ربنا كاتبًا لي في اللوح المحفوظ قدَرًا أكبر من كل دا. أرى جسدًا بلا رأس يقف في الصالة لا يتحرك، فأعطيه ظهري وألتقط صورة سيلفي يظهر فيها، أرسلها لصديق قديم وأسأله:
– معلش يا غالي، إنت شايف حاجة ورايا؟
فتأتي الإجابة أمينة:
– لأ يا دكترة.
فأزفر زفرة راحة وأتجه لسريري كي أنام.


لما سألت ماما وأنا صغير عن سبب أنه لا يوجد بابا بالمنزل، حكَتْ لي: «السيد عجوة، أبوك، كان مهندس معماري من أكبر مهندسين جيله، بوادر العبقرية دي بانت من وهو طالب في الكلية. اتعرفت عليه في رحلة، حبينا بعض واتجوزنا. عجوة كان بيسافر كتير ومسيرته المهنية معظمها كانت في دول الخليج كمخطط مدن، كان شاطر جدًا بس الشغل معاه صعب ومشاكله كتيرة، بس هو كان عنده فلسفة تبرر دا، وعيه بذاته عالي جدًا ومخه فوق الواقع، هو اتولد مميز، فماعندوش استعداد يتأقلم ولا يتعود على أي ظروف هو مش عايزها، لأن الناس كدا كدا محتاجاه. برغم إنه طول الوقت بيحكي عن خبرات وحواديت عن نماذج شاذة عايشها برا مصر وجواها، فهي كلها بتنتهي بالحكم على ظروف ناس تانية بتعزز نظرته لنفسه، أو ممكن تتحول لإسقاط سياسي له علاقة بالزحف السلفي الوهابي للحرفيين والعمال اللي رجعوا من الخليج بأفكار متشددة وبعيدة عن البيئة المصرية اللي كبر عليها وشافها في طفولته. برغم إن فلوسه كانت كتيرة عمره ما فكر يحوش منها، وأغلبها راح لمزاجه الشخصي، والفتات يرجعلنا، احنا بيته. بعد جوازنا بخمس سنين أخوك اتولد، وبعدها بعشر سنين كمان إنت اتولدت. بيئة الشغل اتغيرت وماعدش حد محتاجه لا في الخليج ولا في مصر، وماحدش لسة بيشتغل بالورقة والقلم، وبقت المشروعات الكبيرة اللي بميزانيات ضخمة بتتعمل بالمكن من أولها لآخرها، والمستوى الأدنى قيمة المهندسين المعماريين فيه قلِّت لأن العمارات والبيوت بقت كلها بلوكات جاهزة وسط بنا عشوائي، فليه حد هيدفعله فلوس ويحرق أعصابه بالتعامل معاه لما ممكن مقاول يخلص الدنيا؟ تعيينه الحكومي استقال منه قبل أول سفرية له برا، فمافيش مصادر دخل تانية. قاعد مابيعملش حاجة غير شرب السجاير والبحلقة في الفضا، وأنا اللي كنت بصرف على البيت، لغاية ما عجوة اقتنع إنه معموله سحر، فقرر إنه محتاج يخوض رحلة يعيد فيها اكتشاف ذاته اللي ضاعت في الطريق ويدور فين اتدفنت الأعمال السفلية اللي حضرها أعداؤه في بقاع الأرض، وسابني وأنا لسة حامل فيك، ومن وقتها أخباره اتقطعت عننا، فجينا هنا نتحاوط بعيلتي علشان ماتكبروش لوحدكم. أنا عارفة إن كل دا كتير عليك يا حبة عيني، بس أنا مش غاوية وجع قلب والحكاية دي حكيتهالك دلوقت علشان مش عايزاك تسألني عنه تاني، وإنت لما تكبر هتفهم».
روحي يا أيام، تعالي يا أيام. الزمن شالني وحطني. رحت إسماعيلية، سيبت الكلية، ماما ماتت، نجحت وبقى عندي حكاية أحكيها غير حكاية أبويا اللي فضلت ملازماني، ساعات بحس إن هلاوسي ممكن تكون حرَّفِت حاجات وزوَّدتْ عليها بلاغة ومعاني، بس ماعنديش حلول تانية غير إني أثق في ذاكرتي حتى لو شاكك إنها خانتني، الأكيد إن في خلال كل السنين دي ماحصلش أي جديد ولا الماية اتحركت، فرميت الطوبة وسلمت بالمكتوب، لحد ما في يوم مش محسوب كلمني أخويا الكبير يسألني عن أخباري هناك من رومانيا، فتح الكاميرا وسلمت على عياله، وسمعت صوت مراته من بعيد بتطمن عليا، وبعدين دخل في الموضوع وحكى لي: «أبوك اتجوز واحدة اسمها غزل، بعد ما ساب البيت وأمك لسة على زمته، عجوة طلع كان معاه فلوس مخبيها عن أمك، عربيات وأراضي، وطبعا مراته الجديدة بيعته الباقي، وبعد ما كان بياخد مخدرات علشان مزاجه الإبداعي باعتباره فنان معماري مش مجرد مهندس، بقى بياخدها علشان يعيش، لحد ما وصل للآيس، وإنت أكيد عارف إنك ماينفعش تهزر مع الآيس، دماغه اتدهورت وبقى راجل خرفجي. أخوها لعبلها في دماغها، فاستغلت اللي باقي من العلامات القليلة اللي تدل من وشه على إنه ابن ناس، وخلوه يشحت في موقف السلام الجديد، أخوها كان بيقف يراقبه من بعيد لو حد حاول يفتح كلام معاه علشان يعرف حكايته وبيعمل إيه هنا، والحال استمر كدا لسنين. بعدين دخل في نوبات عياط وصريخ طويلة: وشي مش ملكي، احرقوه. لغاية ما زهقوا من الصداع ودلقوا على وشه ماية نار، ملامحه ساحت، مناخيره ماتبقاش منها غير فتحتين يتنفس منهم، وجفونه كمان وقعت وبقت عينيه مابتتقفلش لحد ما اتعموا من الإجهاد، وشه مافضلش منه بروز غير شفايف وودان متفحمة. شكله بقى يخوف العيال الصغيرة وكمان ملفت للمخبرين فماعدش نافع للشحاتة. طلعوا بيه لايفات على تيك توك وكان بيجيب هدايا كتير، كل هدية بتيجي لغزل كانت بعقاب لعجوة.. تربطه بسلسلة وتركبه، أو تدهن جسمه بالدقيق والبن، أو تقشر جلد وشه المشوي. حد ابن حلال سجل لايف من لايفاتهم وبعته لصفحة الداخلية، فراحوا وقبضوا على المتهمين وخدوا عجوة كحرز ودليل إدانة، بعد ما غزل اعترفت هي وأخوها، فضلوا يدوروا على أهله وحطوه في العناية. غير الحروق لقوا إنه عنده جلطات في المخ أثرت على مراكز الذاكرة، لحد ما عرفوا إنه اسمه السيد عجوة وعملوا بيان رسمي بدا، وكنت بقلب على فيسبوك امبارح وشفت البيان واتواصلت معاهم وقلتلهم اني ابنه بس انا برا مصر، وعرفتهم إنك موجود ممكن تاخده تؤويه، أنا عارف إن ظروف شغلك كدكتور هتخلي إنه يبقى تحت رعايتك طول الوقت صعب، وإنك بتسأل نفسك ليه إنت مطالب إنك تكون له ابن دلوقت وهو عمره ما كان أب لينا، بس علشان نبقى خلصنا ضميرنا لأجل خاطر يوم الحساب، وأنا ظني إن كلها كام شهر ومش هيبقى معانا وربنا هيسترجع وديعته، وكمان هساعدك علشان ماتبقاش شايل الحمل لوحدك، هبعتلك مصاريفه من أكل وشرب وعلاج أول كل شهر وممكن تجيبله ممرضة أو داية تاخد بالها منه، هاه قلت إيه؟».
شحنوه في ميكروباص، واستلمتُه في الموقف، وعلى وجهه قناع سبونج بوب من البلاستيك الخفيف. سحبتُ ورقة بقائمة الأدوية من جيب قميصه. تمشينا قليلًا وهو يستند عليَّ. ثم أخبرني بأنه متعب، فأخذنا تاكسي، جلستُ بجوار السائق وجلس هو بالخلف، التفت السائق مشيرًا للقناع: «مش كبرت على الكلام دا يا جدو؟».
في يومه الأول بالبيت، دارت خناقة بيني وبين عجوة الأعمى بسبب رغبته في التدخين رغم نهي الأطباء عن ذلك. الزن على الودان أمر من السحر، خرجتُ ولففت كثيرًا وسط شوارع كالحة بحثًا عن علبة سجائر، عرفتُ من الباعة أن ثمة أزمة سجائر في البلد كلها بسبب وقف استيراد التبغ، فتنقلتُ بين الشوارع أفكر: طيب أنا ممكن أجيبلك نور، إنما منين أجيبلك سجاير؟ إلى أن كافأني الطريق على وعثائه بواحد يبيع سجائر مهربة على الرصيف ناحية نادي القوات المسلحة، طلبتُ منه قاروصة، فقال لي إن الحد الأقصى ثلاث علب، قلت: «زي ما يكون». عدتُ للمنزل لأجده جالسًا مكانه، أخبرته أني سأعطيه سيجارة كمكافأة إن أخذ الدواء، رضخ. بعدها أكلنا على السفرة، والأكل المسلوق والشوربة تتساقط من بين شفتيه. رفعت الصينية، غسلت المواعين، ونظفت الفتافيت من على السفرة، ثم أخذته للنوم.
ليلتها، للتخلص من آثار اليوم، ضربت عشرة، ورائحة جلده المشوي عالقة في خياشيمي.


شهرًا وراء شهر، لم يمُتْ بابا، على خلاف توقع أخي، لكنه لم يكف عن إرسال مصاريفه. رغم أن حكايته على الإنترنت أثرتْ في الكثير من الناس إذ غطاها مؤثرون وصناع محتوى كثُر، وتقريبًا مصر كلها عرفت حدوتته، لم يسأل عنه أحد من عائلته، كأنه مقطوع من شجرة. وفي الشهر السادس بعد وصوله، أعلنت الحكومة أن أزمة الكهرباء حُلَّت للأبد. عادتْ البلد منورة، وأنا بيتي اتخرب. مشروعي تحول لسلعة لا يقابلها طلب. أغلقتُ فرعًا فالثاني فالثالث، ولم يتبقَ سوى الفرع الرئيسي يغطيه الغبار وتصفر فيه الريح، المدرسون الخصوصيون وجدوا سناتر أرخص، الحروب هدأتْ في دول الضيوف والأوضاع استقرت فعادوا لبيوتهم، المساهمون باعوا أسهمهم وطلبوا مني فلوسهم بعد إعادة تقييم الأسعار. ماطلتُ، فبدأتْ المحاضر تُحرر ضدي، ولُقِّبتُ على مواقع الأخبار بمستريح الإسماعيلية. كلية الطب البشري ونقابة الأطباء نشروا بيانات تفيد بأني منتحل صفة ولستُ دكتورًا. احتجازي مسألة وقت. كل اللي كسِّبتُهم فلوس باعوني، وكل اللي آويتهم في المكان هجروني. سرحت العمالة، ولم يتبقَ غيري، وبيتي يشغله عفريت أعمى محروق صامت فاقد للأهلية، طوله حوالي ١٨٠ سم ووزنه لا يزيد عن ٤٠ كيلو، كيس جوافة لا يتوقف عن نفث دخان السجائر المهربة التي أجدها بطلوع الروح، وزاد على ذلك شبح العمبوكة والحبس.
ثم ظهرتْ نقطة النور في حياتي على هيئة خبر: «ضبط نسناس عبلنجي سوداني هارب وتم تسليمه إلى إدارة حديقة الحيوان بالإسماعيلية للتأكد من سلامته وإعادته إلى قفصه المخصص». بحثت عن فصيلة العبلنج على الإنترنت، فبُهِرتُ بشكله؛ ذيله أطول من جسمه، فراؤه أخضر زيتوني وبطنه فاتحة، والشعر الأبيض يحيط بوجهه الأسود كهالة الرسل.
أخذت بعضي وذهبت لزيارته، قطعتُ تذكرة بعشرين جنيهًا على البوابة وسألت الرجل:
– هو القرد العبلنجي السوداني فين؟
فرد:
– آه حضرتك تقصد شادي.
ثم وصف لي مكانه. سرتُ في شوارع الحديقة، وعلى جانبيَّ جنائن تجلس بها العائلات في أشباه دوائر، ورائحة العفونة فائحة، أمر بشجر مترب، أسمع أحصنة تصهل ونعام يزمزم وفلامنجو في بركة آسنة يخفق بجناحيه في ضعف، وأطفال يتعاركون بمسدسات ماء. وصلت لآخر الحديقة حيث قفص شادي العبلنجي، وأمام النسناس جلست على الدكة.
القفص بدورين يصل بينهما ساق خشبية، أرضيته تكومت عليها طبقات من التراب وقشر الموز والفول السوداني والخراء. أخرجتُ من حقيبتي موزة ولوحت بها مقشرة من بين القضبان، فاقترب وأخذها، ثم أمسك بيدي:
– أنا كنت هربان، بدور عليك.
فُزِعتْ، أفلتُ يديَّ فخدشتني أظافره، رجعت خطوتين، تلفتُ حولي لأسأل أي واحد: «لو سمحت يا غالي، هو القرد دا بيتكلم؟»، فيرد عليَّ بأمانة: «لأ يا دكترة». فأزفر زفرة راحة. إلا أني لم أجد أحدًا يعينني على التحقق من الواقع، فعاد القرد يقول قافزًا:
– تعالى بس ماتخافش، اسمع، أنا جايلك برسالة.
فسألتُ بنبرة مرتعشة:
– رسالة إيه؟
فقال:
– أبوك مش دي النهاية بالنسبة له، دي البداية، مخه مش مجرد عضلة ذهنية، لكنه نظام معقد جدًا بيجمع بين الأرضي والسماوي، عجوة عنده ٣ عقول، واحد للإبداع، والتاني للتحليل المنطقي، والعقل التالت نوراني – عبارة عن بوابة تواصل مباشرة بينه وبين ربنا – كل اللي أبوك بيمر بيه دا هو بوابة انتقال لمرحلة جديدة في حياته، حياة بوادرها واضحة وبتجيله في منامات طويلة ومرهقة هيعيشها بقلب جديد، لكنه بينساها بمجرد ما بيصحى.
محاولًا معالجة بشارة النسناس في مخي المجهد، تساءلت:
– وأنا مالي بدا؟
فقبض على قضبان القفص الصدئة وقال بغضب كاشفًا عن أسنان حادة:
– واضح إنك عيل غبي ابن متناكة، اسمع، إنت عمال تربطه بالأرض أكتر وأكتر بالأدوية اللي عمال تبلعهاله وتحقنهاله، روحه خلاص اتغسلت وبقى جاهز إنه يبقى فداء، والقلب القديم هو الأضحية، والفداء والأضحية مسئوليتك، وماتحاولش تستنصح وتعمل فيها ماسمعتش حاجة، علشان لو دا حصل، إنت اللي هتروح فيها، وإنت مش زي عجوة، نهايتك مش هتبقى بداية.
تسلق الساق الخشبية للطابق العلوي من القفص ناظرًا للسماء، وبفتحتي أنفه الواسعتين سحب الهواء:
– شامم ريحة عيال بيقربوا علشان يلعبوا معايا.
بصق عائدًا بنظره لي:
– وقتك خلص، يلا اتكل على الله.
عضضتُ لساني كاتمًا غيظي ورحلتُ.
سرتُ أركل الحصى وهبط الليل عليَّ، هدير البحر في أذنيَّ وفي أنفي ملحه دون أن أراه من خلف الحوائط الخرسانية العالية التي غطت على الشاطئ، وقلبتُ جملة شادي العبلنجي في دماغي: «كل اللي أبوك بيمر بيه دا هو بوابة انتقال لمرحلة جديدة في حياته.. الفداء هو القلب القديم.. نهايتك مش هتبقى بداية»، وفكرتُ: «لو اللي قاله حقيقي فعلًا، يبقى دي مش حياة مهدرة، لو في الحياة الجاية هتكون كل الخبرات اللي اكتسبها اتزرعت في مخه وهتكون تراكم مفيد لبداية جديدة بقلب أخضر، فأكيد حياة زي دي كانت تستاهل تتعاش». حاولت الاتصال بأخي أكثر من مرة لأخبره بأمر الخطوة التالية ولم يرد. تجاوزت سوق السمك، وعربيات القهوة، وبحيرة التمساح، والجنائن متعثرًا في ورق الشجر المتساقط. الرطوبة أجهدتني والعرق يسربلني، توقفتُ ألتقط أنفاسي عند ميدان عبد المنعم رياض أسفل تمثاله، عندما سمعتُه يهمس: «بقولك يا غالي». نظرت فوقي، لأجد التمثال المشيد من سبيكة النحاس والبرونز يغمز لي ويكمل: «بص لصباعي مشاور على إيه». لأجده يشير إلى السماء حيث تشكيلات ضوئية ترسم: «عجوة». ثم تعيد ترتيب نفسها لتخُط: «القلب القديم». ثم استنتجتُ آخر كلمة قبل أن تنهيها الأضواء: «الفداء».
فصرخت: «خلاص الرسالة وصلتْ». ورددت أركان الشارع الخاوي الصدى.


حدث لعجوة انفجار كهربي دماغي أخير، حالة بلا تفسير تأتي لأصحاب الأمراض الدماغية المزمنة مباشرة قبل موتهم، تفرغ فيها أمخاخهم المعطوبة القليل المتبقي بها من طاقة، صفاء نهائي يتبعه فناء، اختبرت ذلك بنفسي، لأن آخر كلمات عجوة كانت: «حرام عليك، دا أنا حتى قعدت سنين طويلة ببعت مصاريف تعليمك لأمك من الشحاتة واللايفات، دا جزائي بعد كل اللي عملته علشانك؟».
لكن عزائي كان البشارة ببداية جديدة.
أنا جاثٍ على ركبتيَّ وجثة عجوة ممدة أمامي على سجادة لم ترَ الشمس لسنين بالصالة، يغطي وجهه قناع سبونج بوب البلاستيكي. قلبة النئ بين أسناني، بعدما انتزعته من تحت ضلوعه المكسورة، ودمه يغطيني. باب الشقة لم يتوقف عن الخبط، إلى أن كُسِرَ أخيرًا، ودخل جالبًا معه عاصفة ترابية. ابتعد عن العتمة عند الباب، واقترب ليقف في النور، فظهر بجلاء وجهه المثلث عامر بالحفر والندوب. عنده ست أصابع بكل يد، لا يرتدي سوى كلوت سبعة اصفرَّ من فرط الاستعمال، وفانلة داخلية مطينة تحتها شعر صدره الملبّد، وبكل قبضة لمبة نيون كفارس يتشبث بسيفه المهند: أحمد لمبة.

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member