حديد في الهواء

20 January, 2025
سكاي سيف، المعروف أيضًا باسم يوسف أوباهو (مواليد المغرب 1999)، من أرابوفوتورز، معهد العالم العربي 2024 (الصورة مقدمة من سكاي سيف).
يتطلع مصلح إلى كل التغييرات التي تحدث حوله؛ يراقب سيارته وهي ترتفع إلى السماء، والمخرج وهو يأكل، والمشاهدين في قاعة السينما، ما يحدث حوله غريب وجديد ولا يستطيع فهمه. في قصة قصيرة جديدة للكاتب السعودي علي المجنوني.

 

علي المجنوني

 

شُدِهَ لمرأى الكتلة الحديدية الشاحبة ترتفع عاليًا في السماء، تخترق كتلة مضطرمة من الغبار لترتفع في السماء الصافية، قبل أن تتقلب تقلبات عشوائية، تنثر في تقلّبها ترابًا وحطامًا وبارودًا ضعيف الرائحة، ثم تخرّ متهالكة وتغيب في سحابة من الغبار الرمادي أثارها الانفجار المكتوم. بارتفاع السيارة المتفجرة رفع، وهو يقف وحيدًا وراء سياج موقع التصوير المرتجل، الشماغ مغطيًا به وجهه. لم يكن الغبار ليصل إليه، فالجوّ هادئ تمامًا، وحتى لو كانت هناك ريح فلن يصل إليه الغبار إلا بعد وقت طويل، لكنه استجاب لدافع خفي. كان قد سد أذنيه أيضًا، ولكنه ما إن شاهد الانفجار أرخى يديه، وحين باغته الصوت المتأخر لم يكن قويًا. خجل من مبالغته في الاحتياط، وضاعف هذا الخجل من شعوره بالإحباط.
وإذ مشى مدبرًا سمع دويَّ انفجار آخر خلفه، كأن الأول يصله الآن فقط، وشاهد يمامًا يطير إلى حيث هو عائد. على الطريق قابله أطفال جاؤوا من البلدة ركضًا. لم يعرف كيف وصلوا إلى هذا المكان وكيف بلغهم الخبر أصلًا، وتيقن أن دورية الشرطة ستردهم خائبين. مرّ أيضًا بمعسكر فريق الفيلم، ورأى أن أعضاء البعثة يقيمون في كرڤانات في الصحراء. بدا له أن بعضهم ينامون على أسرة هوائية منفوخة وفي أكياس نوم. وأكمل طريقه إلى البلدة متحسسًا جيبه ومتطلعًا بين الفينة والأخرى إلى المآثر الطبيعية الشاخصة والتكوينات الصخرية الهائلة التي تحيط بالصحراء.
كان قد جاء إلى هذا المكان من قبل؛ في مساء ما قبل سنوات قاد سيارته الجديدة وإلى جانبه فتاة لا يعرفها، كان قد أخذها من سوق البلدة، الشمس تغرب وتلقي ضوءًا أحمر على الكائنات الصخرية الهائلة، مضاعفة من ملامحها المهيبة. كانت المنطقة بأكملها مهجورة، منذورة لريح لم تكن موجودة، فاستولى على الصحراء هدوء كثيف وخاشع. انبسط الظلام رويدًا رويدًا وصار على النجوم أن تظهر. كانت له عادة قديمة في إيقاف السيارة؛ يعشِّق ناقل السرعة في الفاضي ثم يطفئ المحرك ويترك السيارة تمضي متهادية على البطحاء البكر حتى تتوقف تمامًا. لم يكونا قد نزلا من السيارة بعد، ولم ينزع الستارة الإسفنجية التي يثبتها مقعد المقصورة، وهي ستارة يثبتها خلف المقعد لتختفي المقصورة في الظل. فصَّلها عند مشغل خياطة نسائي من إسفنجة طرَّاحة وقماش مخملي أسود انقلب لونه مع السنين حتى صار أحمر تقريبًا.
كانت تقول له «يروننا» فيقول «مَن؟» وتسكت. لكنه كان بالفعل يتخيل تلك الجلاميد أناسًا تشهد. ولذا خطر له لاحقًا أنه لن يأخذ زوجته أبدًا إلى هناك. هي لم تطلب، ولم تأتي المناسبة، ولكن طالما ظن أنه لن يفعلها وإلا واجهته الجبال بالسر. ولتجلّت بهيئتها الهائلة شعورًا بالإثم لا يُحتمل. ولمّا كان يعصر صدر فتاته أطلق بصره في السماء، وشاهد في العلوِّ طيورًا من الجوارح تحوم قصيًّا. يجذبها، في مكان ما على الأرض ومثل مغناطيس، ماء أو جيفة. تحوم ببطء مثل أجسام صغيرة تدور في دوامة على سطح مائي. ساوره شعور أذهب عنه الراحة. ظلت السيارة مرتبطة بذلك الشيء الخاص، تلك الذكرى الحميمة، التي لا تجيء من دون شعور بالذنب، لكنه شعور لصيق وحقيقي ولا يمكن التخلص منه.
هكذا أصبح لديه، بعد أربعة عقود من العمر، ما يتحدث عنه في المجالس والاستراحات، وبالطبع ما يفخر به، حتى إن ذهابه إلى السينما لأول مرة في حياته كان استجابة لدعوة بضع من شباب القبيلة أدنى منه سنًّا. لعلهم بعد أن سمعوا الخبر وصدقوه ظنوا، أو رغبوا، أنهم سيرون اسم واحد منهم في مكان ما مكتوبًا بلغة أجنبية. وراقت لهم فكرة رؤية شيء يعرفونه تمام المعرفة في شكل غريب. وهو، وإن ثبَّطه الاكتشاف المخيب حين رأى التفجير، وخلافه مع زوجته بعد أن باع السيارة على نحو غير متوقع، أقنعته حماسة الشباب بقطع ٢٥٠ كيلومترا شمالًا حيث أقرب صالة سينما.
إذن هذه أشياء جديدة على بلدته الصغيرة القابعة في واد تحفّه الجبال الشاهقة. على الرغم من تاريخها المدهش ظلت البلدة نائية ومنيعة. غير أن شوارعها الهادئة امتلأت فجأة بأناس من كل جنس ولون، يدفعهم الفضول والاهتمام والمال. غرباء في هيئاتهم ولباسهم، يجتمعون في المقاهي والمطاعم والأسواق والمزارع، فنانون وموسيقيون ومخرجون ومصممون ومحاسبون.
من أحد المحاسبين استلم شيكه، وهو أيضًا أول شيك يلمسه في حياته، أول شيك يقع عليه بصره، حتى إنه حين استلمه في المطعم ظلّ يغالب سؤالًا ملحًّا عن كيفية صرفه، ولم يمنعه من الاستفسار سوى الحرج. ظل يمسّد الورقة الصغيرة بكفه جيئة وذهابًا حتى دسّها بصمت في جيبه. في المطعم تأخر المحاسب قليلًا، وأخذ المُخرج الصلف، الذي كان جالسًا مقابله، يهش الذباب عن عينيه وهو يغمس بين الحين والآخر قطعًا من الخبز في صحن الحمص الذي بدأ يتغير لونه من طول البقاء مكشوفًا في الشمس. إلى جانب المخرج البنت الجداوية، كان في نظراته القليلة إلى البنت يرى جانبًا من وجهها، خاصة ملمع الشفاه البراق، ويدهشه كيف لها أن تتعامل مع الآخرين بسلاسة. يقابل البنت، أي إلى جانبه هو، رجل أشقر طويل انضم إليهم بلا دعوة. استأنس بالمخرج وأراد أن يفتح حوارًا. لحيته ليست محلوقة جيدًا. وشعره الأشيب الساقط متشبث بكتف قميصه. لم يفهم مصلح طبيعة عمل هذا الدخيل أو لماذا هو هنا. وفي اللحظات التي نظر فيها إلى البنت كانت تبعد سلسالها الذهبي برفق وتمسك حلقها لتساعده على نطق اسم البلدة بالعربية، وكأن السلسال يمنعها من النطق. حاول ذو الشعر المتساقط أكثر من مرة نطق الحرف من مخرجه الصحيح. ولما فشل أومأ إيماءة وكأنه يتقيأ في محاكاة للصوت. أحس مصلح بإهانة من هذه الملاحظة الوقحة الصفيقة.
لم يطلب من المطعم شيئًا، وامتنع عن دعوات الثلاثة بمشاركته إياهم الطعام. كان جائعًا، ورائحة خبز الفرن شهية، ولكنه خشي أن يطالًب بدفع الفاتورة أو شيء منها. وبهذه الطريقة وحدها، بالامتناع عن الأكل، سيضمن أن يسلم. كما بقي صامتًا معظم الوقت، فالحديث دار باللغة الإنجليزية ولم يتعرف فيه إلا على أسماء المعالم حين تذكرها البنت أحيانًا. ولم يزعجه هذا، فكل شيء يخصه ويحتاج إلى معرفته قد عرفه في تشليح السيارات. عرف المبلغ الذي سيحصل عليه، وعرف أن سيارته ستفرَّغ من بعض أجزاء هيكلها كي تكون صالحة للمهمّة. ففي مفارقة عجيبة استعصت السيارة التي جربها المخرج أمس على الطيران، كانت أثقل من قدرة الديناميت على حملها عاليًا في الجو، ما اضطر الفريق لبقرها وتفريغ أحشائها. لما علم بهذا التفصيل، أن سيارة الأمس التي جربوها كانت من الطراز نفسه، اتسعت عيناه فخرًا بالحديد الياباني الصلب الذي أعيا الأجانب. كان فخرًا مستعارًا جعله يبدو وكأنه صانع السيارة وليس مقتنيها فحسب. والآن، غض الطرف عن أن ما يفخر باقتنائه طويلًا هو في الحقيقة على وشك التخلي عنه.
المطعم كان في الأصل مزرعة. تزامن افتتاحه مع انطلاق النشاط الذي شهدته البلدة. وسبّب تجلطًا مروريًا اعتبره أهل البلدة ظاهرة لا مسبوقة. نجح في اجتذاب الغرباء وإراحتهم بل وتثقيفهم في البلدة ونشاط سكانها الزراعي. بإمكان الزبائن أن يجولوا، قبل الأكل أو بعده، بين النخيل وأشجار الليمون والبرتقال وأحواض الخضروات. أما حين يكونون على الموائد فيمكنهم التمتع بالاستماع إلى خرير الماء في السواقي التي تصل البئر بأحواض المزرعة. وهناك أكشاك صغيرة لبيع بعض المنتجات المعلبة كالعسل ومربى المشمش والفراولة. بل إن من ديكور المطعم أكياس كبيرة من الخيش مملوءة بأصناف متنوعة من البهارات يدفن بعض الزائرين أصابعهم فيها إذ يمرون من جوارها.
كان هذا قبل أن يتتبع فريق التصوير في الصحراء ويرى سيارته تطير. ذاك اليوم تبسّم. طالما حرص على تجنيب سيارته العطب الذي ينتظر سيارات المدينة الساحلية مثل قدر محتوم. رطوبة الساحل التي تنخر هياكل السيارات من أسفلها بالصدأ. ظلت شاحنته الصغيرة محافظة على حديدها أطول قدر ممكن، وحين كانت تمرق سيارات البلدة في الليل على ضوء الأنوار كأنها ثعالب مسعورة، ظلت سيارته إلى عهد قريب تستوقف الأنظار مشيرة إلى نفسها ببياضها الناصع. لكن تبسمه سرعان ما تراجع إلى عبوس، فها هو الآن يقدمها للتلف مثل ذبيحة.
وحين شاهد سيارته تقذف عاليًا في الجو تناوبت عليه مشاعر متضاربة. المرأى الذي شدهه في البداية لم يكن سوى لقطة ترابية، مشهد باهت لا قيمة له. وكان لحظة شديد القصر أيضًا. وأدرك أنه لا يعلم ما يحدث حقًا في الأفلام. جلّ ما شاهد من أفلام هي الأفلام المصرية بالأبيض والأسود، وتلك ليس فيها تفجيرات فيما يتذكر. أما على قناة إم بي سي ٢ فشاهد نتفًا من أفلام مترجمة، لكن ذكرياته عنها باهتة لأنها تحوي أشياء كثيرة لا يفهمها. وربما شاهد بالفعل في بعضها مثل هذا الانفجار، ولكن تلك الأفلام الأجنبية دائمًا ما عنت له شيئًا بعيدًا جدًا إلى درجة أنه غير حقيقي. ولذا شعر يومئذ، وكأن أحدًا أسرّ إليه في أذنه، بأنه وسيارته المتقلبة في الجو جزء من مشهد لا يخصّه. ثم تذكر فاطمة، وما إذا كان سيرضيها الشيك أو يُسكت – ولو بعض الوقت – احتجاجَها المتوقع.
يومذاك كان لديه وقت فائض ولم يكن لديه عمل. ظن أنه يحتاج إلى مرآة جانبية. سيارته لا تنقصها مرآة، لكنها مرآة عادية كان قد قصّها في محل زجاج، وكانت لا تؤدي وظيفتها كما ينبغي. قال له عامل التشليح وهو يشير إلى أكوام الحديد الذي يملأ المكان: «شوف السيارات». تقدم بسيارته ببطء بين السيارات، ولقي رجالًا ينبشون دواخل السيارات القابعة بحثًا عما يريدون. ثم رأى رجلًا أصهب الرموش والأجفان يرتدي جاكيت أسود ومساعدًا له وفتاة فهم أنها مسؤولة عن الإدارة المالية، ولكنها كانت مترجمة أيضًا وربما مرشدة سياحية. حدقوا في سيارته تحديق الراغبين فأوقفها. اكتفت البنت بالنظر إلى الأرض ونبشها من حين إلى آخر. أما مساعد المخرج فنقل بصره بين مصلح وبين الرجل الأصهب وقال: «هاه، ما رأيك؟» من دون أن يحدد بالضبط من يسأل.
قال المخرج: «المحاسب ليس موجودًا. عشرة؟ أم أنها كثير؟»
قال المساعد: «لا، عشرة مناسب».
وهم يمشون إلى البوابة قال عامل التشليح الذي انضم إليهم: «واحنا، ما لنا حاجة؟»
قال مصلح: «انت شاهد خير».
لكن الرجل لقي حاجته، فقد طلب منه المخرج ومساعده تفريغ الهيكل بالقدر المناسب. وحين حاول مصلح أن يأخذ من السيارة بعض القطع الثمينة، حال عامل التشليح بينه وبين مبتغاه قائلًا له: «أنت بِعتَ وخلاص». ومنذ تلك اللحظة لم يعد يمتلك سيارة.
زوجته قالت، وهو لم يُخبرها بشيء حتى شاهد السيارة تتفجر، إنه ما كان ينبغي أن يبيع السيارة. وهو قال إن المبلغ أعلى من قيمتها في السوق. وهي قالت إنه، أي المبلغ، لن يشتري له الآن سيارة، وإنه لا يجب أن يفكر هكذا. وهو قال إنها أصلًا متهالكة وكانت ستتعطل في أي لحظة. وهي قالت على الأقل كانت تسير حين بعتها، وكنا نُحضر أغراض البيت بها ونذهب إلى المستشفى.
أخذه الشبابُ إلى صالة السينما في يوم العرض الذي تأخر كثيرًا على الرغم من أنه لم ينتظره. اشترى الشبابُ تذاكر وفشار وكوكاكولا، ثم مرقوا في الممرات الكهفية التي عجّت بمزيج غير محبَّب من روائح الزبدة والكراميل والفواحات العطرية. كانوا بطريقة ما يزفّون الرجل، بطلهم المحلي، في تلك الممرات المظلمة. مشوا عن يمينه وشماله مثل حاشيةٍ إلى أن دفعوا بابًا ثقيلًا انفتح على مغارة سحرية. ينبعث فيها صوت عميق قادم من كل الزوايا المظلمة. بصعوبة بالغة تبينوا طريقهم في الظلام. وإذ مشوا إلى كراسيهم كانت تقع عليهم أضواء البروجكتر، تقع فوق أكتافهم ورؤوسهم وإطارات نظاراتهم أحداث متلاحقة، وكان ينال أجسادهم بعض الغبار والركام المثار في العرض.
لما جلس وبدأ يشاهد الفيلم استولى عليه شعور بالأفضلية، بالأحقية. لم يعجَب بفكرة وجوده معهم، مع عشرات من الناس سيشاهدون التفجير. على الشاشة صور متلاحقة، وموسيقى عالية، سيارة تسير بسرعة متوسطة، تمشي بين مجموعة من المركبات والمشاة والدواب. كل شيء بلون واحد، الصحراء والعشش والطريق والملابس. حتى السيارة نفسها. كانت هناك لقطات مقربة لأقمشة تكاد لا تتحرك، تليها صور مقربة لرؤوس ناس من الخلف. وكانت هناك إثارة مطّردة تحبس بموسيقاها الأنفاس. لا بد أن هناك مؤقتَ قنبلة يحرك هذه الإثارة. سيشاهدون سيارته تحديدًا وهي تطير في الهواء وتتقلب انقلابات عشوائية مضاعفة. وبالتأكيد سيصاحبها أصوات قنابل تتفجر ومكابح تصرّ وزجاج يتهشم. والغبار البرتقالي الفاتن يثور سحبًا ركامية. مشاهد قيامية مُشبِعة على نحو غريب. ورأى المشهد يستمر، الشخص المصاب في الحادث تُبتر فخذه، يمتزج صوت أنينه بأصوات وحركة لاغطة.
سرعان ما استحوذ على مصلح شعور مزعج ومنفر. لم يشعر ذلك اليوم بشيء من هذا الذي يراه. تذكر التراب أكثر من أي شيء فأحس أنه مخدوع. وفجأة صار المبلغ الذي استلمه في مقابل سيارته تافهًا. وتذكّر زوجته طبعًا.
خطر له أن يقوم ويخبر الناس في القاعة بأنها لم تكن كما شاهدوها على الشاشة، بأن التفجير كان لحظة شديدة القصر وترابية ومكتومة، لكنه أحجم. فهو يدرك أنهم لن ينصتوا إليه. لقد جاؤوا ليُسحَروا بالصورة. ليأكلوا الفشار ويمزّون الكوكاكولا. من يهتم بالحقيقة؟ وهناك الشبان الذي جاؤوا ليشعروا بفخر يخصهم. هؤلاء لن يستسلموا لنزوته أبدًا. لن يصدقوه، بل قد يعتبرونه خائنًا من نوع ما. ثم ماذا عساه أن يقول لهم؟ أيقول إنها خدعة، كل تلك الأضواء والأصوات والأجساد المتطايرة والمتقلبة، ذلك السحر الذي هو خليط من كل العناصر؟ أما زوجته فمثلما قرر أنه لن يأخذها إلى الجبال، فلن يأتي بها إلى السينما يومًا لتشاهد الفيلم، لتشاهد سيارته وهي تتقلب في الهواء. أهمّ ما عندها أنه أخذ المال، وهذا لم يكن مقنعًا بما يكفي، والفرجة على الفيلم لن تكون مجانية.
تعجّب مصلح من نفسه، تعجّب من أنه لا يعرف ما يريد. كانت خيبته طاغية حين طارت سيارته في الصحراء، حين انفجرت بصوت مكتوم تقريبًا ودونما إثارة كافية شعر بالإحباط، والآن حيث يتكرر الحدث في طابع احتفالي آسر لم يقتنع. تلفّت حوله في الظلام، ولم ينتبه إليه أحد. أدرك أن إسهامه في هذا الشيء المبهر لن يقتصر على السيارة، على الحديد الصدئ الذي ارتفع في الهواء وما لبث أن سقط، بل في قبوله بما يراه على الشاشة. في السكوت وجعل الناس يتفرجون في هدوء. وتذكّر أنه لم يمس الفشار ولا المشروب الغازي حتى اللحظة.

علي المجنوني كاتب ومترجم وناقد من السعودية. صدرت له مجموعتان قصصيتان هما «طاولة الحزن» و «لقمة وأموت» إضافة إلى رواية للطفل بعنوان «إجازة للشمس». ترجم إلى العربية روايات وقصصًا قصيرة من الإنجليزية، منها «زنج» و«أنشودة المقهى الحزين» و«راگتايم». وهو باحث في الأدب المقارن والدراسات الثقافية، نشر كتاباته عن الأدب والسينما والفنون البصرية في منصات مثل «مدونة ختم السلطان» و«ثمانية» و«معنى».

حديد في الهواءعلي المجنونيقصة قصيرة

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member