
تنظر سارة شاهين إلى مريضاتها نظرتين مترابطتين؛ واحدة كطبيبة تنظر إلى مريض، والأخرى كإنسانة تنظر إلى إنسان يخوض تجربة تحويلية. متحيرة بين النظرتين، تعلم أنهما ضروريتان لتحافظ على إنسانيتها ومهارتها كطبيبة في الوقت نفسه.
سارة شاهين
منذ وقت البكالوريوس وأنا مولعة بمصطلح في طب التوليد؛ grand multipara أو «متعددة الولادات العظمى»، يُطلق المصطلح على من ولدت خمس مرات فأكثر. ورغم أن تخصيصها بالاصطلاح ووصف «العظمى» لغرض تعداد قائمة طويلة من المضاعفات المحتملة لولاداتها عليها وعلى جنينها، وليس من باب المبالغة في الاحترام كما في التعبيرين «الجماهيرية الليبية» و«الإمبراطورية البريطانية»، إلا أنني أتعامل مع حاملة اللقب على أنها كذلك بالفعل، وأحيطها ذهنيًا بهالة كأنها نجمة روك في عالم التوليد.
بالأمس ولَّدت واحدة من أولائك النجمات؛ متعددة ولادات طبيعية عظمى، في العادة تكون تلك المسرفة في الولادة الطبيعية بالذات، امرأة صعيدية قوية المراس، لا تكترث لأمر الولادة ولا لعدد مرات الإجهاض، أو هكذا تبدو. دخلتْ غرفة الاستقبال بهدوء رواقي، لا يبدو عليها الألم، قالت إنها تلد، يفزعني ذلك لأن متعددات الولادة تقذف أرحامهن الخبيرة بالأجنة بقوة، في الأرض أو في وجه الطبيب/ة أو في أي اتجاه رأسي أو أفقي. ورغم هدوئها البادي وغير اللائق بامرأة تلد إلا أنني صدقتها فورًا لأني لا أجرؤ على مناقشة متعددة ولادات عظمى في أمر الولادة، ولو حِزت كافة الشهادات الراقية في طب التوليد. وحقًا، كانت تلد بالفعل.
ما يثير فضولي فيهن كثير. أحب سماع تقاليدهن الشفهية في وصف أحداث الولادة. مثلًا، كانت تلك المتعددة مع سلفتها، وهي متعددة عظمى مثلها. سألتها بذات الهدوء عن وجود «لعص» ولادة من عدمه، فأجابتها المريضة بأنها لم تصل لتلك المرحلة ولكن توجد «سلابيل». جننت من الفضول وأردت أن أعرف أكثر عن تلك الأشياء، وإحالتها للمصطلحات اللاتينية التي أعرفها. يشعرنني بالنفاذ لعمق ثقافي لا حدود له، وبالدخول لعالم محكم ومغلق من النساء غير المتعلمات علمًا نظاميًا، إلا أنهن علَّمن أنفسهن ما يكفي لإبقاء البشرية حية ومستمرة، وللحفاظ على أرواحهن ما استطعن، عبر السنين. علمت لاحقًا أن «اللعص» هو ألم أسفل البطن، وهو يتفق مع طلق الولادة، أما «السلابيل» فهي السائل المخاطي المخلوط بالدم، يسبق نزوله عملية الولادة وويشير إلى بداية توسع عنق الرحم.
كذلك أحب ملاحظاتهن غير المفهومة والتي لا أستطيع إحالتها لعلمٍ تجريبي محترم أعرفه، مثلًا: يؤمنَّ بضراوة أن البنات يولدن بعد طلق قوي وسريع وتكون ولاداتهن سهلة، أما البنين فطلقهم «بارد» وولاداتهم متعسرة. كم امرأة أخبرتني بذلك؟ لو قُدِّر لي سأحاول البحث عن تفسير علمي لتلك الملاحظة. لأنهن يثقن فيما يقلن عن أجسادهن، ورغم أن تراثهن يحفل بالتأكيد ببعض أفعال خاطئة ومعتقدات عجيبة، إلا أن رفض ذلك التراث جملةً هو ما أعده غرورًا وعجرفة معرفية غبية، أنا أعشق العلم التجريبي، وأرفض الخرافة، لكن من قال أن كل معارفهن خرافة؟ من قال إن ليس في معارفهن علمًا تجريبيًا؟ كيف ذلك وقد جربن عبر السنين مئات المرات، وكانت أجسادهن نفسها هي حقول التجربة؟ بالأمس أغمضت مريضتي المتعددة عينيها وقالت لي بلهجة العارف الصوفي في روايات نجيب محفوظ: «اجعدي ولما أقرب أولد هجول لك». تلك الديڤا بنت الديڤا.
إلا أن أكثر ما يثير فضولي فيهن هو رؤوسهن اللاتي أرغب في الاطلاع على ما فيها. ذلك أني، ومنذ وقت المراهقة، منذ قراءتي لوصف سيلڤيا بلاث في «الناقوس الزجاجي» لعملية الولادة، وما تتركه من «نفق أسود مظلم في الروح»، ولمذكرات الراقصة الأسطورية إيزادورا دنكن وذلك المقطع فيها الذي تتذكر فيه بألم ولادتها البكرية لابنتها ديردري وتصفها بأنها كانت «مجزرة لجسدها الحي»، ولأنني رأيت تلك الأنفاق المظلمة في أرواح المريضات المدينيات المتعلمات، اللاتي ولدن مرتين أو ثلاثة، وأوقن من وجودها بالفعل، فأنا أتعجب من التعامل الرزين لهاته النسوة مع الولادة. يتعاملن معها كأنها حدث طبيعي يومي مثل الذهاب للعمل، وعلى أنها وظيفة بيولوچية لا يحفلن لها مثل التنفس. يلدن ثم يباشرن الحياة فورًا، لا تفزعهن ولادة ولا يزعزعهن سقطٌ. أين تذهب أنفاقهن المظلمة؟
هل يعتدن الأمر؟ وهل أمر بهذه الفداحة يفلح معه الاعتياد؟ هل هن قويات بشكل خاص؟ أم هل مستسلمات لمصائرهن البيولوچية والاجتماعية لأنهن لا يعرفن ولا يملكن خيارًا آخر؟ هل كانت أمام مريضتي حياة أخرى لا تلد فيها ثمان مرات قبل بلوغها سن الخامسة والثلاثين؟ هل المعرفة تشحذ الألم؟ أكلما وعيتْ للعالم ولبؤس وضعك فيه ولسوء حظك تعززَ شعورك بالألم الذي يلحق بك؟ أم أن الأمر ثقافي، واللاتي يلدن كثيرًا غالبًا ما يكن من خلفيات ثقافية توطن أفرادها على الجَلَد والتحمل؟ ربما كان الأمر طبقيًا، لأن التي تلد أطفالًا كثرًا ليساعدنها على شظف العيش لن يكون لديها – في الغالب – رفاهية الانتباه لمشاكلها سواء ألمت بالجسد أو بالنفس، ولذلك فهي تقبل الأشياء كلها؛ تحدثك عن أشنع المصائب برفق عجيب، وتتذكر أمرَّ التجارب بشبه ابتسامة، وتنشغل وقت ولادتها النشطة، في اللحظات التي يندفع فيها جسد إنسان مثل البغل من جسمها دقيق التكوين ولكن قوي، بتذكير زوجها بقفل الغاز، وبتحضير ملابس المولود، وبدفع مصروفات درس الأولاد. كائنات معجزة. والله يخلبن لبِّي، ولما يقلن لي أن المرأة وقت ولادتها تكون ممسكة بيد الله وفي ظله المباشر، أصدقهن بلا نقاش، لأن تلك القوة وهذا الهدوء لا بد أن يكونا ظل الله بالضبط.
الطب، كأي ممارسة دائمة ومتطلبة، هو ما تطلق عليه الفيلسوف ل. أ. بول: التجربة التحويلية/ transformative experience، وهي تجربة يخوضها الواحد/ة ولا يستطيع توقع نتيجتها قبل خوضها لأنها ستحوله تمامًا، مثل تجارب الأمومة، واختيار مهنة العمر، والزواج وما يشبهها، أما التجارب غير التحويلية مثل الأكل والشرب، فممكنٌ للمرء توقع نتيجتها – لو أكلت سأشبع أو بطني ستؤلمني – لأن الإنسان بعدها يظل كما كان قبلها. الطب تجربة تحويلية، تأخذ إنسانًا وتصنع منه آخر، تعيد تشكيل مفاهيمه وقدرته على الاحتمال ونوعية الأشياء التي يحتملها، والأهم أنها تغير نظرته.
منذ أن وقعت على ذلك التعبير في كتاب «حلقات زحل» لزيبالد وأنا مهووسة به، لدرجة أني قررت أن أكتب كتابًا فقط كي أضع ذلك التعبير عنوانًا له. يتحدث زيبالد عن الطبيب توماس براون الذي عاش في القرن الثامن عشر، ويسهب في إيضاح ولع توماس براون بالموت والفناء والتحلل، وهو الطبيب المختص بشؤون الأحياء. يقول عن براون: «فالطبيب الذي يرى نمو وتفشي الأمراض داخل الأجساد، يدرك الفناء أفضل من إدراكه لازدهار الحياة. ويبدو له أن المعجزة تكمن في استمرار بقائنا ولو لمجرد يوم واحد. وكما يكتب، فلم تنمُ بعد عشبة مضادة لأفيون الزمن المنصرم». فالطبيب كما يراه براون، بسبب ممارسته الطب، ومعرفته بالباثولوجي والداء، وملاحظته أن الأجساد تبقى حية رغم كل الشرور المتربصة بها: «يرى الخراب الكامن في كل شىء».
هذا هو ما أراه جوهر النظرة الطبية، ومدار تجربته التحويلية لنفس وعقل الطبيب/ة. النظرة الطبية حادة الملاحظة، تفرط في الملاحظة إلى حد أنها تحول الجسد الإنساني الحي لمجسم تشريحي ومودل فيزيولوچي في ذهن الطبيب؛ أكلم المريضة بينما ألاحظ وقفتها ومشيتها ومقدار الألم البادي على وجهها وتغيرات جلدها وتورم قدميها. النظرة الطبية مولعة باحتمالات الخراب، ترى احتمالية المرض في كل جسد صحيح، واحتمالية التوجه للداهية في كل مسار ولادة ماشي كويس، واحتمالية الانهيار في كل جسد «ماسك نفسه» على منضدة العمليات.
النظرة الطبية تعلق الذات الإنسانية للطبيب؛ تجبره على إيقاف التعاطف والنظر إلى إنسانية المريض، وتدفعه إلى تسطيح كيان المريض واختزاله في المرض، نظرة كجزر عاتي القوة، كلما حاولت سحب نفسك منها سحبتك وكادت تغرقك. لكن تلك النظرة ضرورية، لو لم تعلِّق ذاتك المتعاطفة، ولو لم تقف على مسافة من المريض، لما مارست الطب بشكل دقيق ومنجز.
عليك أن تستلم لتلك النظرة كي تفيد المريض وتنفعه، ثم تسحب نفسك منها في الوقت المناسب كي ترى إنسانيته وتتعاطف معه وتعترف بسياق وجوده وبالقوى التي تفرض نفسها على مساحة جسده الهش. عليك أن تتراوح بين هذه وتلك، تدخل وتخرج في الوقت المناسب، ستصاب بالتعب وربما بالجنون، لكن الأمر ضروري.
على كرسي الـlithotomy الخاص بالولادة الطبيعية، رأسي لا يحيد عن قناة الولادة وما حولها، عن مكان دخول وطلوع الغرزة وانضباطها وتماس حواف الأنسجة بالشكل الصحيح، واحتمالية وجود جروح داخلية، في هذه اللحظة كل كياني معلق بالتشريح وروعته وعنايتي به. ثم أنتهي وأفك «الماكنتوش» (مريلة بلاستيكية يرتديها الأطباء فوق الملابس لحمايتها، وهي ضرورية أثناء التعقيم الجراحي)، فأرى وجه مريضتي، ممتنة ومرهقة ولطيفة، وفي كل مرة، كل مرة والله، أندهش من اللحظة، التي تبدو مفاجئة، والتي يلتئم فيها الجسد المجرد الذي اندمجت في أموره، مع الوجه الإنساني المعبر. يتجاذبني جزر النظرة الطبية ويسترجعني مد الالتزام نحو الإنسانية الثمينة للمريضة.
والنظرة الطبية تحيلك إلى ملاحظٍ وواصف ومحلل. وهذا أمر مقبول في العالم، من المقبول أن تصف الحيوان والطبيعة والجغرافيا، أما لو وقع ذلك للحياة البشرية فستنبثق مئات الأسئلة الحساسة، وأنا أتفهم ذلك تمامًا، وأرى طبيعته التي ستبدو وقحة و«بلا دم» في نظر الآخرين، رغم أنني لا أستطيع إلا أن أقع أسيرة لتوجيهات نظرتي الطبية.
أذكر المرة الأولى التي رأيت فيها حالة جلطة ثنائية الجنبين في الفص الجبهي bilateral frontal lobe infarction، الذي يحتوي مراكز الشخصية والتصرف والتفكير العليا. أحالت الجلطة ذلك المريض لطفل صغير، حتى أنها أظهرت كافة الانعكاسات الأولية التي توجد عند الرضع؛ وضعت أصبعي في يده فأحكم الغلق عليها كما يفعل الأطفال. تسارعت أنفاسي من الحماس وأنا أقرأ المقطعية وأترجمها في جسده؛ علامات تدل على موقع الجلطة من مخه. أرسلت ملخص الحالة للأصدقاء بدهشة وخفة، ثم أتتني ابنته تسأل عن الحالة، فغاص قلبي وتعلمت منذ تلك اللحظة تهذيب التلميذ فيَّ. أُحرجت من نفسي إحراجًا جمًا، لحظة سعادتي الإكلينيكية هي لحظة انهيار أسرة.
لكني تعلمت أيضًا أن النظرة الطبية التي تتيه بالتعلم وبالباثولوجي وتسرف في الملاحظة والتحليل والتسجيل هي التي تصنعك طبيبًا. في كتابها «كيف يفكر الأطباء؟» تتحدث الفيلسوفة كاثرن مونجمري عن عقل الطبيب الذي يسترشد بالنص الطبي وتوجيهات سابقيه، إلا أن ماهية كونه طبيبًا تكمن في الحدس المنبثق منه أثناء الممارسة، والناتج عن الملاحظة لأشياء لا يراها إلا هو، بعدسة نظرته الطبية، إلى حد أنه قد ينظر للمريض مرة واحدة فيدرك عنه معلومات أدق مما ستسفر عنها التحاليل ذات المعايير الدقيقة.
وهكذا أنا، ألاحظ وألاحظ، لا يشغلني ذلك عن الاستسلام لتدقيق الممارسة الطبية. تتحقق الملاحظة من تعاقب الحالات، ولا تملك إلا أن تنتبه لها. وكما تتعلم التماسك بين تياري النظرة الطبية والرحمة بالإنسان، تتعلم كذلك أن تفحص المريض كوحدة مجتمعية وجندرية وطبقية وأنت تعامله كمريض باحتراف، كما برحمة، آملاً أن تفضي كل تلك المباحث الجانبية إلى تحسين ممارستك الطبية.
تصنع منك النظرة طبيبًا، أما الملاحظة لكل ما على تخوم الطب فتصنع منك طبيبًا جيدًا. تعلمت في النظرية وفي النص أن أول ما تقوله لأم فقدت حملها أن الأمر ليس ذنبك. في الواقع، رأيت من احتاجت أن أقول لها ذلك بالضبط، ورأيت من لا تظن ذلك أصلًا، بل تتعامل مع فقدان الحمل كحدث طبيعي، لو تصرفت معها كالأولى لكنت بوقًا أرعن. ولو لم ألاحظ أن الأولى ومثيلاتها كثيرًا ما يكن مدينيات والثانية ومثيلاتها كثيرًا ما يكن ريفيات وغير متعلمات، لكنت عمياء. ألاحظ وأسجل وأتأمل، وأحاول معرفة السبب. هذا مسعى منفصل عن دقائق الممارسة الطبية، عن تكنيك التوليد وتشخيص الأمراض وإجراء التحاليل. هذه عين ثالثة لا تنفك ترى، وتنبهر، وإذ تنبهر فهي لا تعطي قيمة جمالية لما تلاحظه، لا تراه جميلًا أو ساميًا، هي تنبهر بالمرض وبصورته رغم طاقته الإهلاكية، بالحالات النادرة والصعبة، تتحمس لها، تكتب عن البؤس بقلم محايد وفج، تعلق التعاطف والدموع والتأثر، تنشغل بدقة التقاط الحالة.
وكلما لاحظتَ تعلمتَ، وتعقدت شبكتك المعرفية. دخلت الطب وقد قرأت كتابًا فلسفيًا صارمًا يصف أطباء التوليد بأنهم مجرمون لأنهم يأتون بالنفس البشرية لعالم بشع، قرأت كتبًا تفكك قداسة الأمومة، وتحلل عبء الجسد الأنثوي. دخلت لعالم الطب وأنا محملة بالنصوص وفقيرة إلى الخبرة الملوِّثة لليدين. رأيت من تلد وهي تتضرع لله أن يأخذ حياتها، تتعلق بثيابي وتؤلمني، أقول لنفسي لا يستحق الطفل كل ذلك، لكنها تريده! فأعدل فلسفتي النهائية، وأتواضع أمام الحقيقة وأمام العالم، وأسأل نفسي عن دوري في هذا السياق، كيف أجعل حياتها أجمل؟ أقلل ألم الولادة، أقول لها أنها قوية ومبهرة، أرمم ما دمره المخاض من جسدها. أتعلم. أتحسن.
حتى متعددة الولادات العظمى تشعرني بالغضب، وتبهر الطبيبة بداخلي، وتوترني وقد قرأت ما كتبته مارثا نسباوم عن الظلم المعرفي؛ إنسان لا يعرف أنه مظلوم، والظلم التفسيري؛ إنسان يعرف أنه مظلوم لكنه لا يمتلك أدوات وصف الظلم. وأقول هي بالتأكيد واقعة تحت أحدهما، وأتقلب بين عين الطب وحكمة المصلح وغضب محارب العدالة الاجتماعية. لكن عندما أكلمها فأنا أذهب إليها، لا أجبرها أن تأتي لعندي، لأني لو عريت الواقع دفعة واحدة أمامها، وهي في لحظة المرض، لما قبلت مني حرفًا. أولًا هي مريضتي، ننتهي من متطلبات ذلك، ثم نتحدث، بلغتها، حسب قيمها، لكني أشدها ناحيتي شبرًا. إذ ليس الغرض أن أنتصر، أو أن أنصر العدالة والحق والخير والجمال في جسدها، لكن الغرض هو صحة وكرامة هذه الإنسانة بالذات، فلانة، مريضتي. أما الجسر بين معارفي النظرية وعقيدتي عن العدالة وكرامة النساء، وبين حياتها في مكان قصي، ذي كيان متحقق وجذور ضاربة، فيكون توجيهًا متواضعًا من طبيبة أظهرت لها الاهتمام، وليس طلبًا منها أن تثور وتنسف حياتها، هكذا، فيما أرى، يتحقق التغيير.
هكذا يكون عقل الطبيب الذي يشتغل بأمور الحياة، بينما هو يرى الخراب الكامن في كل شىء. هكذا يكون الجنون المنضبط، لأنك لن تتعلم كل شىء عن جسد إنسان حتى تتعلم العالم من حوله، ولن تستخدم علمك كما ينبغي حتى تضبط محاولة كل واحد منها أن يغلب الآخر.
