قصة قصيرة لإيمان عبد الرحيم: فصام

شفيق عبود، “الحب والألعاب”، زيت على قماش، 149×88.5 سم، 1979 (بإذن من متحف سرسق).
عن لحظة الانتقال من العقل إلى الجنون، وحيرة الأخت وهي تشاهد أختها تنزلق إلى مكان بعيد بلا إرادة منها، تكتب إيمان عبد الرحيم قصة قصيرة مأخوذة من مجموعتها القصصية الأخيرة «مقطوعات على الحب والخوف».

 

إيمان عبد الرحيم

 

«قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي»
سورة المائدة، آية25

المجموعة القصصية «مقطوعات على الحب والخوف» من إصدارات الكتب خان.

لي فترة ليست بالقصيرة، فقدت فيها التمييز تمامًا بين النوم والاستيقاظ، أنظر لمدى واقعية الأشياء من حولي لاستنتج إن كنت نائمة وأحلم، أم مستيقظة وأعيش على أرض الواقع. أحيانًا يستحيل عليَّ الأمر، بحيث تكون كل الأشياء منطقية للغاية، بينما شيء تافه صغير يفتقر إلى الواقعية، أغفل غالبًا عن رؤيته إلا في وقت متأخر.
يومًا ما كنت أتعارك مع زوجة صاحب الشركة التي أعمل بها، كانت تغار مني وتظن أني على علاقة بزوجها، واجهتني بذلك، ووجدت في هذا إهانة شديدة وضيم بيِّن، فكيف يخطر هذا ببالها من الأساس، وكيف تبلغ بها الوقاحة حد أن تقوله في وجهي وبكل هذا اليقين؟! أنا أعمل في الشركة منذ سنوات عدة، متفانية مخلصة جدًا للعمل، ومعروفة للجميع بمبادئي وأخلاقي المثالية، في حين أن زوجها يخونها بالفعل، ولكن مع السكرتيرة اللئيمة المنافقة، التي التحقت بالعمل منذ شهرين فقط، والتي تتودد للزوجة، وتلحس خراها طيلة الوقت، حتى ظنت الغبية -أي الزوجة- أنها صديقة مقربة لها! ترفعت عن أن أخبرها الحقيقة، فلن أتسبب في أذى للأخرين حتى أدفع الشبهة عن نفسي! فقط بلعت لساني وكتمت الدموع وتركتها بصمت وخرجت من مكتبي.
توجهت إلى كافيتريا الشركة، التي كانت خالية وهادئة بعد بريك الغداء، كان قلبي يتلوى من الألم، أخذت أبكي وأنشج وحدي، وأفكر في مصيري بعد أن أترك هذا العمل، وأفكر في الذنب الذي اقترفه حتى يكون هذا جزائي! حتى دخل عليَّ عم صفوان عامل البوفيه العجوز الصعيدي، فزع حين رآني هكذا وسألني بصعيديته الجهورية وحنانه المعتاد: إن كان قد أصاب أهلي مكروه، فنفيت وأخبرته سريعًا بما حدث، فهاج وماج وحوقل وضرب كفًا بكف، وقال إنه سيذهب للست هانم ويخبرها بالحقيقة، ترجيته ألا يفعل، سيقطع عيشه، ويقطع عيش السكرتيرة، وربما يقضي على زواج صاحب الشركة، قال إني بمثابة ابنة له، وأنه لا يرضى أبدًا بمثل هذا الافتراء والجور، وأنه لا يصح إلا الصحيح، والأرزاق بيد الله.
خرج من الكافيتريا مسرعًا، متجهًا إلى مكتب صاحب الشركة، الذي لم يحضر حتى الآن! حاولت السكرتيرة منعه من الدخول، فعلا صوته ونادى على السيدة صاحبة الشركة، صارخًا بإنه سيخبرها بكل شيء، ارتعدت السكرتيرة ومسكت في خناقي، واتهمتني بأني سبب كل المصائب، وخرجت السيدة من مكتب زوجها مع كل هذا الزعيق، فحل صمت مفاجئ، نظرت إلينا جميعا، وسألَت عن الذي يحدث، فنظرْت إلى عم صفوان الذي هم بالكلام، لكني استوقفته، لفت نظري -الآن فقط- أن له رجلي ماعز، يغطيهما البنطلون وتظهر الحوافر فقط من الأسفل! سألته فاغرة فمي: ما هذا؟! فتجاهل سؤالي وأخبرني بحدة أنه لن يسمح لي بتغيير الموضوع، نظرت لمن حولي ولاحظت أن لا أحد يهتم، فعرفت على الفور أني أحلم! ياااه! كل هذه الدراما يا عقلي يا ابن الكلب! منك لله.
أنا الآن في غرفتي، لي أربع ساعات ممددة على السرير. أتقلب يمينًا وشمالًا، وأسمع أختي تطرق من الخارج باب غرفتي الذي أغلقته عليَّ بالمفتاح! تسأل بإلحاح إن كنت نمت، فأصمت تمامًا وأكتم أنفاسي حتى تعتقد ذلك.
كنت أفكر في بكرة، وعندي خطة شاملة لليوم من أوله لأخره. من جديد لم أعرف إن كنت نائمة وأحلم، أم أني مستيقظة بالفعل! نظرت للساعة في المنبه جواري، ورأيت أرقاما عجيبة من ذوات الأربع خانات، الساعة 5040 ونصف! فاستنتجت على الفور أني كنت نائمة.
في الصباح الباكر فتحت الباب، وخرجت من غرفتي كي أغسل وجهي. شعرت بتعب، وخمول في جسدي، فخمنت أنه ربما من كثرة ساعات نومي.
وجدتُ أختي سارة نائمة على الكنبة في الصالة فأيقظتها. أخبرتها أني حلمت بخطة شاملة لقضاء اليوم، وأنها واقعية جدًا، لذا فقد عزمت أن أنفذها بحذافيرها. طلبت منها أن ترتدي ملابسها بسرعة، فالوقت ضيق والمهام كثيرة.
كنت واقفة أمام مرآة الحمام، أضع «الميكاب»، أجفلت قليلًا حين كنت ألون جفني بالـ«آيشادو». أفقت لأجد انعكاس سارة المفاجئ على صفحة المرآة أمامي بدلًا من صورتي. وجدتها واقفة متسمرة، تحدق في وجهي/ها على صفحة المرآة بنظرة ثابتة، فزعت فأغمضت عيني لثوان، وناديت عليها، جاءني صوتها بعيدًا من غرفتها. فتحت عيني، فوجدت صورتي ولم أجد انعكاسها، فواصلت إكمال وضع الميكاب.
على باب الشقة كانت سارة واقفة مستعدة. كانت تبدو كمن بكت من قليل، بأنف محمر وعينين ملتهبتين. سألتها: «مالك؟» فردت بأن لا شيء. سألتني عن وجهتنا، فأخبرتها أننا سنذهب إلى محل «التوحيد والنور» فرع الراعي الصالح، كي نشتري كلوتات «تي سترينج»، حيث إنها رخيصة جدًا هناك وخامتها قطنية ذات جودة معقولة. ردت مستنكرة بأنه يستحيل العثور على مثل هذا الموديل في التوحيد والنور الذي لا يحوي إلا «البانتيهات البريف» عالية الوسط، والشورتات الحريمية! ثم أنها لم تسمع يومًا عن «بانتيهات تي سترينج» مصنوعة من القطن أساسًا. صمتت لثوان، ثم سألت بتردد عن مصدر معلوماتي وإن كنت حلمت بها. أجبتها بامتعاض أن ما حلمت به هو الذهاب لمحل التوحيد والنور، أما ما يخص «البانتيهات» وتوافرها في المحل فهو واقع عرفته من جارتنا.
في محل «التوحيد والنور» بحثت كثيرًا عن الكلوتات، في جميع الأقسام فلم أجدها. لا أعرف أين اختفت سارة، لكني خمنت أنها تتسوق في قسم ما. توجهت إلى باب الخروج، عازمة أن أنتظرها أمامه، أو ربما بالقرب من الكاشير أفضل؟ في أثناء سيري بجوار الحائط، تعثرت قدمي بكرتونة ملقاة بإهمال على الأرض. نظرت إلى محتواها فوجدت العديد من قطع «التي سترينج» تبدو جديدة، لكنها متربة وغير مغلفة. جلست على ركبتي، وأخذت أبحث عن قطع تناسب مقاسي، ولا تكون مغبرة. انتقيت أربع قطع، واستندت على الحائط جواري محاولة العودة للوقوف، فوجدته رخوًا يندفع للوراء خلف كفي، لأفقد توازن جسمي وأقع. استغرقت دقيقة تقريبًا، كي أستوعب أن ما تخيلته حائطًا، هو عبارة عن ستارة بلاستكية بيضاء ضخمة، مفرودة من طرف الجدار البعيد، وحتى طرفه الآخر، لها لون السقف وباقي الجدران، مفرودة تمامًا بلا كسرات، توحي للناظر بأنها الحائط.
دفعني الفضول لاستكشاف ما خلفها، فنزلت من أسفلها زاحفة إلى الجهة الأخرى. وجدت المكان شبه مظلم، يحوي أرفف عديدة ممتدة تغطي كل الجدران؛ تبدأ من الأرضية، وتتوالى فوق بعضها حتى السقف، تغطيها أكوام من التراب وشباك العناكب.
على الأرفف توجد كتب لا حصر لها، قديمة ومصفرة أوراقها. تفحصت الكتب، لم تكن كتبًا دينية فقط كما توقعت، بل متنوعة تغطي كافة المجالات تقريبًا، ومقسمة في ترتيب تبعًا لموضوعها. انتقيت كتابين من قسم الأدب، وكتاب من قسم التاريخ، ورابع من قسم الفلسفة، ألبست كل كتاب كلوتًا، بحيث يغطي الجزء الأكبر غلاف الكتاب من الخارج، وتتخلل فتلة أو شريط حرف T الرفيع ورق الكتاب مثل البوك مارك.
خرجت من أسفل الستارة وتوجهت إلى الكاشير. أجفلت وسقطت الكتب من يدي حين رأيت أن الواقفة على الخزينة هي الأميرة «ليا» بشحمها ولحمها. كيف فعلتها وسياسة المحل لا تسمح بتعيين النساء للعمل في كل فروعها! سلمت عليها بمزيج من الخجل والفرح، وحين هممت بأن أقبلها، رفضت. استأذنتها كي ألتقط معها صورة لـ«إنستجرام»، فوافقت بلطف.
سارعت بالنداء على «سارة» بعلو صوتي، كي تلتقط لنا الصورة، ورأيتها تأتي نحوي، راكضة من بعيد بوجه مضطرب. حصلت على الصورة، ثم كان عليَّ دفع حساب مشترياتي فورًا، فالناس من بعدي في الطابور فرغ صبرهم وبدأوا التذمر.
حين كانت الأميرة تعبئ مشترياتي وتحسب ثمنها لاحظت أنها تخبئ كتابًا على رف سري، في الخلف أسفل مقعدها. حاولت من مكاني قراءة اسم الكتاب، عرفت بصعوبة أنه يحمل اسم «ثروة الإمبراطوريات»، وكاتبته «إيفا سيث»! لاحظَت الأميرة أني أنظر للرف خلفها، فسألتها بتردد إن كان «السيث» رأسماليين و«الجيداي» شيوعيين حقًا كما عندنا في الأنظمة الأرضية؟ فردت بالإيجاب، وأحضرت الكتاب المعني من الرف خلفها، وأخبرتني أنها تتبع سياسية «اعرف عدوك في المقاومة»، وأن هذا الكتاب من أهم الكتب الذي تأسس عليه الاقتصاد المعاصر في الإمبراطورية، ثم سألتني إن كان عندنا كتب مثله، وأعطتني الكتاب كي أتصفحه، فتحته من ثلثه تقريبًا.
شرعت أقرأ عناوين متفرقة، ثم وجدت حبر الطباعة يستحيل من اللون الأسود إلى لون دم متخثر بني غامق، والحروف ساحت وسالت وامتزجت ببقعة من السائل الأحمر البني وسقطت من صفحة الكتاب وأغرقت يدي، أغلقت الكتاب سريعًا، ومسحت كفي في ثيابي، ابتلعت فزعي، وأخبرتها مسرعة أنه قد يكون نفس الكتاب تقريبًا، لكن بعنوان «ثروة الأمم» للكاتب «آدم سميث»، فابتسمت نصف ابتسامة، شجعتني الابتسامة على أن أتجرأ وأطرح سؤالًا من آلاف الأسئلة التي تعصف برأسي، وبصوت منخفض مهزوز سألتها: «أين لوك إذن؟» قطبت حاجبيها وقالت بالحرف: «بينيك أبونا»، فغرت فمي من الصدمة إزاء ردها، فأشارت لي كي أبتعد، وقالت بصوت جهوري فارغ الصبر: «اللي بعده».
خرجت من باب المحل أبحث عن سارة وأنا ألهث من الحماس لأخبرها بحديثنا العجيب. لا أذكر التفاصيل بالضبط لكني أذكر جيدًا أني فجأة شللت عن الحركة تمامًا، وتعالى لغط عالي جدًا حولي، وأنا أصرخ طالبة من الحيوان الذي يعصر رئتي اليسرى بقبضته بأن يرفع يده عن رئتي لأني لا أستطيع التنفس، ورأيت وجه سارة وهي تمسح دموعها بصمت من عيونها الملتهبة، وناس كثر متحلقون حولنا بوجوه مشدوهة، طعنة مباغتة في ذراعي، ألم، ثم قطع: ظلام وصمت كما النوم.

***

استيقظتْ في اليوم التالي، ترى الأشياء حولها مشبرة، والأصوات تأتيها متداخلة، لا تستطيع تمييزها، لا تستطيع أن تعرف أيضًا أين هي. رأسها ثقيل للغاية، كلما حاوت نصبه فوق كتفيها خانها وسقط مائلًا على رقبتها، الأشياء حولها تتحرك بسرعة، لا شيء ثابت، تتبين ببطء أنها هي التي تتحرك، وأنها جالسة على كرسي بعجل، وشخص ما يدفعها، خلال طرقة طويلة، ليدخل بها إلى غرفة مليئة بطاولات طويلة يحاوطها عدد من الكراسي الفارغة، ستعرف فيما ما بعد أنها كافتيريا/غرفة الطعام، تنحني إليها سيدة بشوشة تحادثها مبتسمة ببضع كلمات، فلا تفهم منها حرفًا، تستلم السيدة الكرسي من الرجل وتدفعها إلى طاولة فوقها صينية يصطف فوقها عدد من أطباق الأكل، تطعمها في فمها بصبر، والطعام ولعابها يتساقطان من فمها كما طفل صغير.
تأتي سيدة أخرى لتدفع كرسيها خارج الكافتيريا متوجهة بها إلى الحمام عبر طرقة أخرى طويلة. في الحمام، يتعاون ثلاث سيدات بزي موحد، على نزع ثيابها برفق، وغسل جسدها بالماء الدافئ والصابون. المقاومة ليست خيارًا بالأساس، جسدها رخو ومتهدل وخارج تمامًا عن سيطرتها، تشعر وكأنها روح غادرت للتو هذا الجسد، تطالعه من الخارج فقط ولا تستطيع التحكم البتة به.
هي الآن في حجرة تحوي ثلاث أسرة، ممددة على أحدها فتاة واهنة، يتعاون رجلان بنفس الزي على حملها من فوق الكرسي المتحرك، ويضعاها فوق أحد الأسرة الفارغة، ثم تمشط لها إحداهن شعرها برفق، وتأتي ممرضة أخرى بمجموعة من الحبوب الملونة المختلفة فوق منديل ورقي نظيف يغطي سطح طبق صغير، تفتح الممرضة فمها بأصبعين لتضع فيه بنفسها الحبة تلو الأخرى، بينما تمسك هي بكوب الماء الذي ناولته إياها الأولى لترشف بوهن رشفة بعد كل حبة، وقبل أن تنهي آخر رشفة يحدث فجأة قطع جديد، لا شيء غير الظلام والصمت.

***

بعد ثلاث أسابيع سمحوا لنا -الأهل- بزيارتها أخيرًا. كانت هذه الأسابيع الثلاث أصعب أيام عايشتها حتى الآن في عمري، أصعب حتى من أيام موت بابا وماما، على الأقل وقت الموت كنت أعرف بوضوح ما أواجه؛ الفقد والألم والحنين والخوف أيضًا، لكن الحقائق ثابتة كأرض يابسة تحت قدمي، الموت شيء يقيني صادق كحد السيف، الموتى لا يعودون، وهذه طبيعة حياتنا التي علينا أن نتعايش معها ونتقبلها أو أن نخبط رأسنا في الحائط إلى أن نموت.
أما مع الجنون، فالوضع مختلف تمامًا، خاصة حين تلتقيه في أول مرة وبدون خبرات سابقة فيمن تحب. لا أعرف شعور المجنون نفسه بنفسه، لكني أعتقد بشدة أنه ليس أصعب بكثير من شعور من حوله، من يحبونه حقًا. تخيل أن تستيقظ يومًا في حياتك الروتينية الهادئة لتجد أختك التي عشت عمرك كله معها والتي هي كل عائلتك، وتعرفها كظهر يدك، تحولت فجأة لشخص آخر غامض ومبهم للغاية! هكذا وبدون مقدمات؛ لا ضغوط حياتية جدت، لا تجارب مؤلمة ولا صدمات عاطفية أو مشاكل على المستوى اليومي المعتاد. بالطبع لا تخلى أي حياة من الألم، فأبي توفاه الله منذ كنا أطفالًا، وتبعته أمي منذ سبع سنوات!، لكن -وإن كان لي أن أقول ذلك- موت ماما الذي كان منذ سبع سنوات كان آخر الأحزان الكارثية التي قد تذهب بعقل إنسان!
أقول تخيل أنك فجأة لا تعرف عن أختك شيئًا، تخيل أنها تخافك وتخاف من كل شيء حولها، تخاف حتى -حرفيًا- من ظلها. أختك التي كانت بمثابة ابنة لك، وتحبها أكثر من نفسك، وكانت لك كالكتاب المفتوح تقرأ كل شيء بمجرد النظر إلى تعبيرات وجهها وفي عينيها، قررت اليوم أن تكون سرًا مصمتًا، عيناها زائغتين وتعاملك بعداء لا يخلو من اللؤم.
في البداية ستبدأ بلوم نفسك، وتغرق في حيرة يغلفها الشعور بالذنب، ما الشيء السيء الذي فعلته لتنقلب ضدي هكذا؟! وحين تكون غرقان إلى شوشتك في استرجاع ما حدث، يصل بها الأمر لبدايات الهذيان والهلوسة، ولأنه لا تعامل مسبق لك مع مرضى نفسيين من قبل، فأنت لا تعرف أن ما تخبرك به من حكايا -وهي ترتجف- هي من هلوسات عقلها، بل تصدق ببراءة -وانت ترتجف رعبًا- حكاياتها عن العفاريت والشياطين التي ترى عالمهما بوضوح وتظن أنها ممسوسة، وتصدق شكواها من أذى الآخرين في عملها وفي الشارع وتربصهم بها وتحرشاتهم، وحين تخبرك مثلًا أن البقال سحبها عنوة إلى داخل محله، وأغلق عليهم الباب من الداخل واغتصبها تحت تهديد السكين، تغرق في الهلع والعجز والرغبة في الانتقام لأجلها.
في حين يغلي دمك غضبًا، وترتجف أطرافك رعبًا، وتبحث عن حلول لهذه المصيبة، ستصل هي لمرحلة من الأوهام يختفي منها المنطق تمامًا، حين يبدأ الموتى في الظهور، ثم شخصيات بلحمها وشحمها من الدين والتاريخ، وأحيانًا بعض أبطال أفلام هوليود وأنت أبله وأعمى لا ترى مما تراه أختك شيئًا، فتدركك رحمة الله أخيرًا بعد ليلتين من العذاب ويهديك عقلك إلى أنها تهلوس، فيهدأ روعك إلى حد ما، حين تقنع نفسك أن ما فيها هو ناتج ربما عن تعاطيها لمخدر ما، فتقرر أن تأخذ إجازة قصيرة لكل منكما من العمل، لتحبسها في المنزل، تغلق الباب، وتخفي مفتاحها ومفتاحك لتراقبها كل ثانية، طيلة النهار والليل دون أن يغفل لك رمش، وبمرور الوقت تجد أنها لا تفيق أبدًا مما هي فيه، وحتى مع إصرارك على دخول الحمام معها، كي لا تختلي بنفسها وتغفل عنها لحظة، وتفاجئ في النهاية بأنها لا تتعاطى شيئًا، وأنها لا تنام، فتغرق في الخوف من جديد وتتوه معها غير مدرك لما هو واقع مما تقول ولما هو خيال، وتجاريها ليلتان مستيقظًا تحت تأثير عشرات المنبهات، وسؤال واحد، يقفز بين جدران عقلك ككرة بلاستيكية بلا توقف: «هل اغتصبها البقال حقًا؟».
لن يكون الحال أفضل حتى مع اليقين، حين تعرف أخيرًا أنك تواجه الجنون وجهًا لوجه، وحتى حين تستعين بالمختصين، ويتم احتجازها في مصحة عقلية لعمل اللازم، لن يختفي الخوف أو يقل الرعب أو تفيق من الصدمة، خاصة وأن عقلك بعد كل ما مر به لم يسلم أو يتعافى بعد من عضات ضلالات الارتياب الوحشية.
لطالما كنت مرتابة بطبيعتي، ربما لأني حساسة للغاية، أحلل دائمًا كل حركة وتصرف وكلمة، أبحث في الأسباب، وأضع ملايين الافتراضات، وأحمل الكلمات والمواقف بأكثر مما تحتمل، لكن بعد الأسابيع الأخيرة، تضخم الارتياب معي لأضعاف، ولم تسلم نفسي حتى من شباك الظنون. وكما قلت سابقًا فإني لا أعرف عن الجنون شيئًا، هي الآن في المنتجع/المصحة، ممنوعة من كل وسائل الاتصال ومقطوع عنها الزيارة، ولا أعرف عن وضعها شيئًا.
مر أسبوعان هاتفت فيهم المنتجع يوميا، والرد دائمًا واحد من أصوات ومناصب مختلفة:
– الحمد لله المريضة بخير وتتحسن.
– ما الذي تعاني منه؟
– اسألي الطبيب المسؤول
– يا أيها الدكتور، مما تعاني أختي؟
-لا تشخيص حتى الآن، أعصابها متعبة لكنها تتحسن، التشخيص يحتاج لوقت أطول.
مع كل ما سبق غدوت فريسة سهلة للهلع، وحينها يتوقع المرء ما هو أسوأ من السوء، ويتجاوز خياله كل البشاعات الممكنة، فبين رعب عدم اليقين مما حدث لها حقًا، ورعب تخمين ما الذي يمكن أن يحدث لها الآن في المصحة، كانت نوبات الهلع تقذفني وتتلقفني، وخيالي يصور لي فظائع مستقاة مما شاهدت عن الجنون في الأفلام والسينما، فلا تغيب عن عيني صورة سميحة/إلهام شاهين في فيلم «أيام الغضب»، ولا مأساة كريمة/نبيلة عبيد في فيلم «توت توت»، وحتى في الغرب المتحضر، لا أرى إلا الحبوب الملونة وجلسات الكهرباء من فيلم Girl, Interrupted وما حدث لـ«ماكفري» في فيلم One Flew Over the Cuckoo’s Nest.
صحيح أني أودعتها منتجع خاص للصحة النفسية، أفضل منتجع في الشرق الأوسط وليس مستشفى العباسية، لكن حين يصبح الشخص الذي تعاشره منذ نعومة أظافرك، فجأة وفي ظرف بضعة أيام، حبيس مصحة عقلية، وفاقدًا تمامًا لرشده، دون أن تفهم ما الذي حدث ويحدث، فإنه من المنطقي أن يتمكن منك الارتياب تمامًا وتجد أنه لا شيء مأمون أو مضمون.
اليوم فقط، أجلس أخيرًا أمام الدكتور المسؤول ومالك المصحة في غرفته الفارهة. يخبرني أن الحالة الآن غدت مؤكدة، يستدرك «لكن الخطأ وارد طبعًا»، فالتشخيص يحتاج إلى شهور.
– المريضة تعاني من فصام، وما مرت به أخيرًا هو نوبتها الأولى من الفصام.
أستفسر أكثر عن التفاصيل، فيعطيني كتيبًا، ويخبرني أنه يحتوي على كل التفاصيل.
– لكنها كانت بخير ولم يحدث أي شيء من قبل، ولم تحدث أي مشاكـ…
– لا علاقة للمرض بذلك، فالمرض عقلي.
– لكنها لطالما كانت ذكية، واجتماعية ومثقفة، وعلى اطلاع دائم و…
-لا علاقة للمرض بذلك، فالمرض جيني وراثي، ولا أسباب أو مقدمات في حالتها. القابلية للمرض تورث، والمرض الفعلي قد يظهر تحت ضغط عوامل خارجية، أو كما في حالتها بدون أي سبب، أو لا يظهر على الإطلاق.
– ماذا عني؟
– ورثتي القابلية مثلها، قد يصيبك أيضًا أو قد لا يصيبك، لكن عليك أن لا تشغلي فكرك بذلك.
كتمت غضبي ورغبتي في قول «كسمك»، لكن دموعي نزلت رغمًا عني. كلمني عن البرنامج العلاجي، وعملها والمستقبل، وكيف أنه من المستحيل عودة الأمور لما كانت عليه، وصحبني بعد أن تمكنت أخيرًا من كبح بكائي إلى قاعة الزيارة، محذرًا إياي من العواقب السيئة لأي انفعال قد أبديه أمامها.
الآن سأراها للمرة الأولى من بعد احتجازها، أجلس على كرسي في انتظارها، وأمامي طاولة مستديرة يقابلني من على طرفها الآخر كرسي فارغ. تدخل إلى القاعة ترتدي بيجامتها الزرقاء، بصحبة ممرضة، تمسكها من ذراعها الأيمن بلطف.
أذهلني أن جسدها امتلأ هكذا في وقت قصير! عانقتها عناقًا طويلًا حارًا، وأنا بالكاد أحبس الدموع، جلسَت على الكرسي المقابل. حين ركزت النظر إلى وجهها، أرعبتني نظرة عينيها الزجاجية، الثابتة.
بدأت تتكلم بتلجلج واضطراب، دون أي تعبير على وجهها أو في عينيها. أخبرتني عن أقراص ملونة كثيرة يعطونها إياها، ثم أخبرتني همسًا أنه لا توجد مرايا نهائيًا في هذا المكان، حتى في الحمامات، ولا توجد مفاتيح لأي باب في المكان، عليها أن تدخل الحمام والباب غير متربس، وأنهم لا يسمحون لها باستخدام بنس الشعر أو الكليبسات، والتي يصادرونها فورًا إن وجدوها معها.
أخبرتني أيضًا أنها إذا تأخرت في التواليت لأكثر من خمس دقائق، فإنهم يقتحمون الباب عليها. لاحظت أنها في أثناء حديثها ترفع كتفيها الاثنين معًا في حركة عصبية، قد تكون لا إرادية. تريني ظاهر يدها المليء بالثقوب الحمراء، وتخبرني أنهم يعطونها الكثير من الإبر، إبرًا للتحاليل، أقبل يدها، وأخبرها أن المهم أن تكون بخير.
تخبرني أيضًا عن رفيقتها في الغرفة، والتي تناديها دائمًا بـ«ماما»، ثم تسألني في حيرة، لماذا تعتقد هذه الفتاة أني أمها؟ أربِّت على كتفها قائلة «معلش»، وأني سأشكيها للدكتور، تعترض هامسة وتخبرني بألا أفعل فالفتاة مسكينة، وتستمر في حديثها لتخبرني عن الطعام اللذيذ، وصالة الأنشطة الرياضية، والحديقة، والمرسم، وقاعة السينما التي شاهد فيها جميع النزلاء فيلم «تيتانيك» البارحة.
تقول إن المكان جميل والكل هنا لطفاء، فتنطفئ جذوة الهلع في نفسي قليلًا، أسألها إن كانت تعرف سبب وجودها هنا؟ فتخبرني بفخر أنها تعرف أنها مريضة، وأنها الآن تعرف الكثير عن مرضها من الأطباء هنا، لكنها لا تذكر كيف جاءت إلى هنا، تبتسم بطرف شفتيها اليمين، ويظهر أخيرًا على وجهها تعبير، تقول بحماس أنه من الممكن أن نطلب في القاعة هنا شيئًا لنشربه من الكافتيريا واتجهت نحو رجل الأمن الواقف لدى الباب بعد أن نادته باسمه، عادت مبتسمة وأخبرتني أنها طلبت لكلينا هوت شوكلت، وأخذت تواصل كلامها عن المكان ونزلائه، وأنا أتأمل وجهها الذي استرخى كثيرًا عما كان في بداية اللقاء، وتلذذها بما تشرب، شعرت بأن الله جدير بالشكر والحمد، وسخرت في نفسي من عقلي الذي التهمه الخوف تمامًا.
أخبرتني عن بعض الأشياء والكتب التي ترغب في أن أحضرها لها معي في الزيارة القادمة، وقبل أن ننهي مشروبنا بقليل، جاءت ممرضة مبتسمة لتخبرنا بدماثة إن وقت الزيارة انتهي، وإن عليها أن ترافقها إلى غرفتها. احتضنتها بقوة، وودعتها، واعدة إياها بزيارة كل يوم. ظللت واقفة أراقبهما من خلفهما برضا وشيء من الطمأنينة، يمشيان معًا، الممرضة تمسك ذراعها الأيمن برفق، والألفة بينهما واضحة، توقفت بعد عدة خطوات والتفت إليَّ لتودعني من بعيد مرة أخرى، ملوِّحة بيدها الحرة، لكن مع الحركة المفاجئة وقع ذيلها من طرف بنطلون بيجامتها، فأسرعت الممرضة في مساعدتها على لمه، ولفه عدة لفات على وسطها أسفل جاكيت البيجاما.

إيمان عبد الرحيم، كاتبة مصرية، تعيش حاليًا في ألمانيا. ترجمت قصصها لعدة لغات: الفرنسية والإيطالية والإنجليزية والدنماركية. صدرت روايتها الأولى «الحجرات وقصص أخرى» عن الكتب خان للنشر في القاهرة، وحصلت على جائزة ساويرس الأدبية عام 2015. «مقطوعات على الحب والخوف» عملها الثاني.

إيمان عبد الرحيمفصامقصة قصيرة

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member