عندما لا يكون البلد بلدًا - وهم الحدود

17 أبريل، 2023

نُشر هذا المقال بمصاحبة ثلاث نصوص أخرى، لكل من سيتا كابرانيان ميلكونيان وميشا جيراكوليس وميراي ريبيز، بمناسبة الذكرى السنوية للإبادة الجماعية للأرمن في 24 أبريل.

 

تم استعمار "آرتساخ" وإنهاء الاستعمار مرات لا تحصى. ولكن على مدى الألف سنة الماضية، منذ سقوط العاني في العام 1064 في أيدي الأتراك السلاجقة، كانت "آرتساخ" والمرتفعات الأرمنية تحت قبضة المستعمرين المستوطنين الذين اضطرد عنفهم بمرور الوقت. "آرتساخ" في القرن العشرين مأساة شكسبيرية.

 

آرا أوشاغان

 

يمكن أن تضطرب التصورات في المنطقة المنزوعة السلاح (DMZ) في جيمبو - كوريا الجنوبية.  تمتد الأسوار العسكرية المزدوجة المحصنة على طول الطريق حتى الأفق، تطل عليك مهددة، ويبدو أنه لا يمكن اختراقها على الرغم من شفافيتها. توجد مخابئ خرسانية محصنة في مكان قريب، والحراس بأسلحة عسكرية ثقيلة على أهبة الاستعداد، قريبون للغاية منك.

وراء هذا السياج يوجد مصب طبيعي أخضر لنهر هان، يهدأ، ينحسر، يجري. مذهل وذو ألوان عميقة، وقاعه مكون من طبقات من الرواسب المتحركة. يربِّت التيار الرفيع من الماء أرضية المصب، ما يخلق جوقة من أصوات قصيرة متقطعة ترافق جلبة الإوز. إنه صوت أزيز عميق، حلقي غامض. يبدو الأمر كما لو أن النهر يتحدث إليك بلغة أجنبية غامضة.

وراء مصب النهر، على الجانب الآخر، توجد كوريا الشمالية. المناظر الطبيعية التي تتأملها، والجغرافيا عبر هذا الامتداد الخصب، وعبر هاوية الأيديولوجية، لا تختلف عن تلك التي تقف عندها. تتخيل شخصًا على الجانب الآخر، يقف ويراقبك في وضع مماثل لوضعك. تشعر كما لو أن حوارًا محظورًا معينًا يمكن أن يحدث على الحدود هنا، حيث تحاول الكوريتان التواصل.

من الصعب تصور حدود تفصل بين الكوريتين، على الرغم من أنها موجودة فعليًا، أكثر وضوحًا من الجدار الفاصل بينهما. جميع الحدود وهمية؛ موجودة دائمًا في الخرائط وأحيانا تشكل جزءًا من وعينا، ولكن من المستحيل تحديدها، لا يمكن تحاشيها وعابرة في الوقت نفسه. يتم تسجيلها في الإنشاءات الوهمية للتاريخ والإنسان، دائمًا تقريبًا في أعقاب الفوضى التي تعقب الحرب. في يوم من الأيام لا يوجد شيء، وفي اليوم التالي جدار لا يمكن اختراقه وجنود مسلحون يحرسونه. أو العكس تمامًا: التحصينات والخنادق التي كانت موجودة لأجيال تختفي بين عشية وضحاها. لا يوجد مكان تحصل فيه على هذا الشعور أكثر من جيمبو، على الحدود التي قسمت بلدًا وشعبًا يشتركان في لغة وتاريخ وثقافة. لا يوجد مكان آخر لا ترى فيه الحاجة إلى الحدود. ولا يوجد مكان آخر تكون فيه الحدود أكثر تحصينًا وتقسيمًا.

البلد المنقسم ليس بلدًا. إنه بلد في طي النسيان، في انتظار دائم. والحدود ليست حدودًا كما أن البلد ليس بلدًا. ماذا يعني أن يكون لديك حدود داخل بلدك؟ ألا تكون قادرًا حتى على رؤية القسم الآخر أو العبور إليه؟ لا يسمح لك بعلاقة مع بلدك، لا يسمح لك بعلاقة مع نفسك. الحدود التي تفصل بلدًا تفصلك عن نفسك. تخلق أزمة هوية. نصف يبحث عن الآخر. كائن غير مكتمل. البلد المنقسم ليس بلدًا.

رُسِّمت الحدود عند مصب نهر هان في جيمبو وأعيد ترسيمها خلال تاريخ من الحرب والاضطرابات. مساحة من الخلاف ظلت موجودة لعدة قرون، ظهرت "جيمبو" لأول مرة في التاريخ العام 475 بعد الميلاد. تم تسمية المكان وإعادة تسميته وغزوه وإعادة غزوه وتحريره عدة مرات، وهو الموقع الشهير الذي صُد فيه الفرنسيون في العام 1866. بدأ الاحتلال الإمبراطوري الياباني لجيمبو في العام 1910. بنى اليابانيون المطار، الذي أصبح الآن مطار جيمبو الدولي، استخدم اليابانيون الكوريين لنقل الصخور من المحاجر على بعد 10 أميال. بعد هزيمة اليابان ونهاية الاستعمار في العام 1945 ، تم تقسيم شبه الجزيرة الكورية بتسرع تقريبًا على طول خط العرض 38 من قبل الجيشين المحتلين . أصبح الجنوب تحت قيادة الولايات المتحدة والشمال تحت قيادة الاتحاد السوفيتي. انزلقت كوريا إلى الرمال المتحركة وخطوط القتال في الحرب الباردة.

في الطرف الشمالي من كوريا الجنوبية، كانت جيمبو نقطة الصدام الأولى في الحرب الكورية في العام 1950 عندما غزت كوريا الشمالية الجنوب. تعرض مطار جيمبو للهجوم في غضون ساعات من بدء الحرب، حيث دُمِّرت العديد من طائرات النقل الجوي العسكرية. بعد ثلاثة أيام، تمت السيطرة على جيمبو. في الأسابيع اللاحقة، استهدفت الغارات الجوية الأمريكية والكورية الجنوبية مواقع العدو في جيمبو ومطارها. في خريف العام 1950، بعد هبوط الولايات المتحدة في إنشون، عادت جيمبو تحت سيطرة الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية. بعد بضعة أشهر، في يناير من العام 1951، اجتاحت القوات الصينية التي تدعم الشمال جيمبو. وبعد شهر، عادت تحت السيطرة الكورية الجنوبية. لمدة ثلاث سنوات، دمرت الجيوش المنسحبة كل ما في وسعها، وقصفت الجيوش المتقدمة كل ما في وسعها. بحلول نهاية هذه الحرب المروعة في العام 1953، مات أكثر من مليون مدني كوري جنوبي.

عبر الحدود الحالية انحسرت وجرت الحرب الكورية في جيمبو مثل ما يحدث للنهر نفسه. كانت كل شيء يتغير باستمرار؛ الأرض والنهر والناس والنظام البيئي بأكمله، كل منها يُدمر ويُبنى، ثم يدمر مرة أخرى. إن رواسب وتربة نهر هان، والمناظر الطبيعية، والمجتمعات على الحدود كلها شهود على تلك الحرب، تحمل معها ذلك التاريخ المتضمن. القرى القريبة من الحدود هي الآن جزء من منطقة السيطرة المدنية (CCZ)، يتناقض هدوؤها مع تاريخها المضطرب. تتم مراقبتها أقل قليلًا فحسب من الحدود نفسها. وحتى وقت قريب جدًا، غطى البث الدعائي الكوري الشمالي عبر المنطقة المجردة من السلاح هذه القرى. قامت بعض المنشآت في منطقة كلاريون - كليبرتون ببناء جدران خرسانية أمام مداخلها المواجهة للشمال للحماية من هجوم مدفعي مفاجئ.

إن رُسِّمت حدودٌ فستبقى حدودًا.

في الهدنة النهائية للعام 1953 التي أنهت الحرب الكورية، أصبح مصب نهر هان جزءًا من الحدود نفسها، كجزء من المنطقة المنزوعة السلاح (DMZ). في الاتفاق، تم تعيين هذه المنطقة، مصب شمال جيمبو، على أنها منطقة محايدة، منطقة حرة للسفر البحري المدني والشحن التجاري. ولأسباب عسكرية وسياسية، لم يمتثل الشمال أو الجنوب لهذا الاتفاق، ومضى الجانبان قدمًا لتسليح حدودهما بالأسلاك الشائكة والأسلحة الثقيلة. هذا ما نراه اليوم: غشاء رقيق ولكنه محصن بشدة على جانبي الفضاء الذي لم يمسه الإنسان منذ ما يقرب من سبعين عامًا. إنها محمية نقية بشكل غير غير مقصود، غنية بالحياة البرية، حبلى بالحرب.

كانت جيمبو منطقة محاطة بالمياه من ثلاث جهات، أصبحت الآن محاطة بمحيط من الأسلاك الشائكة. لا يمكن الاقتراب من مصب نهر هان. منافذها الثلاثة غير مستخدمة ولا يمكن الوصول إليها. صيادوها لا يصطادون. سكانها لا يخوضون في الماء. فقدت جيمبو نهرها، مصدر الحياة وقوة الشفاء للمياه. اتصالها الوحيد بالعالم الآن هو من خلال الجنوب، من خلال بلدية سيول. لقد فقدت جيمبو استقلالها وتشبه كائنًا له رئة واحدة فحسب، غير قادر على أخذ نفس كامل وعميق وفتح ذراعيه والاتصال بالعالم. تواجه جيمبو أزمة هوية تتفاقم بسبب الحدود والبلد المنقسم.

الحدود تتخلل كل شيء. لكن ليست كل الحدود متساوية.

إلى الشرق مباشرة من الجمهورية الأرمنية الحالية تقع الحافة الشرقية للمرتفعات الأرمنية. وراء تلك الجبال الوعرة، تبدأ الأراضي المسطحة في أذربيجان، التي تؤدي إلى بحر قزوين ثم إلى تركمانستان ثم أفغانستان. تطفو على تلك الحافة الشرقية منطقة ناغورنو كاراباخ الأرمنية الأصلية، أو "آرتساخ" بالنسبة إلى الأرمن. منحدراتها عمودية، وغاباتها خصبة، ومناظرها الجبلية مذهلة. على حافة منحدرات جدردوز في مدينة شوشا، منقطع الأنفاس وشاعرًا كما لو كنت على حافة الكوكب: هنا تنتهي الأرض ويبدأ الفضاء الخارجي.

داخل هذا المشهد ذي الخطوط المستقيمة، عاش الأرمن الأصليون لآلاف السنين. وفقًا للمؤرخ اليوناني سترابو، سكن الأرمن هذه الأراضي الطميية على الأقل منذ القرن الثاني قبل الميلاد. وقد جاء الغزاة الأجانب وذهبوا لفترة طويلة. تم استعمار "آرتساخ" وإنهاء الاستعمار مرات لا تحصى. ولكن على مدى الألف سنة الماضية، منذ سقوط العاني في العام 1064 في أيدي الأتراك السلاجقة، كانت "آرتساخ" والمرتفعات الأرمنية تحت قبضة المستعمرين المستوطنين الذين اضطرد عنفهم بمرور الوقت. "آرتساخ" في القرن العشرين مأساة شكسبيرية.

بعد الحرب العالمية الأولى، ومع تشكيل الاتحاد السوفياتي في أوائل عشرينيات القرن العشرين، قام البلاشفة بتمكين أذربيجان بشكل فعال من استعمار المنطقة التي كان 94٪ من سكانها الأصليين من الأرمن. في العقود التي تلت ذلك، تم قمع اللغة والثقافة والفن والتاريخ الأرمني بشدة، وفي بعض المناطق تم محوه بالكامل تقريبًا، على عكس ما حدث في كوريا على أيدي اليابانيين. لم يتوقف الأرمن في المنطقة قط عن المطالبة بالحكم الذاتي أو الاندماج مع أرمينيا من السلطات السوفيتية، ولكن بلا جدوى. على الورق، تمتعوا بوضع مستقل وحدود واضحة. ومن الناحية العملية، تم تطهيرهم عرقيًا في عدد من المدن، كما حدث في شوشا في آذار/مارس 1920؛ أدى الرد الأذربيجاني العنيف إلى تغيير التكوين الديموغرافي لتلك المدينة من أغلبية أرمنية إلى أغلبية أذربيجانية. في العام 1923، حول الاتحاد السوفيتي آرتساخ، أو ناغورنو كاراباخ، إلى أوبلاست تتمتع بالحكم الذاتي داخل جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفيتية، والتي كانت مجاورة لجمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفيتية.

في العام 1988، مع الانهيار الوشيك للاتحاد السوفيتي، صوتت الأغلبية الأرمنية في آرتساخ للانفصال عن الاتحاد وأعلنت الاستقلال. كان الرد الأذربيجاني بسيطًا: تكرار العنف الذي حدث في شوشا. بدأت الجماعات المتطرفة في مهاجمة المدنيين الأرمن الذين يعيشون في أذربيجان. الأول كان الحي الأرمني في سومغايت، ثالث أكبر مدينة في أذربيجان. لمدة ثلاثة أيام، تعرض الأرمن للضرب والاغتصاب والقتل في الشوارع وفي منازلهم، حيث غضت الشرطة المحلية الطرف عن ما يحدث. وأعقب ذلك مذبحة مماثلة في غانجا، ثاني أكبر مدينة، ثم وقعت مذبحة واسعة النطاق في العاصمة الأذربيجانية باكو. كانت عنيفة بشكل خاص، ذكرت تقارير أحداثًا مثل تقطيع أوصال الأرمن وحرق الأحياء منهم، استمرت هذه المذبحة وأعمال الشغب سبعة أيام. توقفت فقط عندما دخلت القوات السوفيتية المدينة وفرضت النظام بالقوة. وفي آرتساخ وأرمينيا ذاتها، ردت الميليشيات الأرمينية بطرد أعداد كبيرة من المدنيين الأذريين ولجأت في بعض الحالات إلى عمليات القتل الانتقامية.

على هذه الخلفية من العنف الشديد، اندلعت حرب واسعة النطاق بين أذربيجان وأرمن آرتساخ. بدعم من أرمينيا المستقلة حديثًا، انتصر الأرمن وهزموا الجيش الأذربيجاني الكبير، والأفضل تجهيزًا منهم، وبذلك أنهوا استعمار أراضيهم. دفع كل من الأرمن والأذربيجانيين ثمنًا باهظًا - يقدر بنحو 30000 قتيل - خلال الحرب والتطهير العرقي والمذابح الصريحة التي اشترك فيها كلا الجانبين. تم طرد المدنيين من منازلهم: من  300,000 إلى 500,000 أرمني، وحوالي 800,000 أذربيجاني، ما خلق مشكلة لاجئين ضخمة لا تزال حتى الآن بلا حل إلى حد كبير. تركت ناغورنو كرباخ من دون أي سكان أذربيجان، وعدد كبير من المدن والقرى الخاوية. لكن الأرمن انتصروا في ساحة المعركة، وأعادوا بلادهم إلى حالة الكمال، وأعادوا تأكيد هويتهم. لقد تخلصوا من سبعين عامًا من المحو، ووضعوا حدودًا، وحفروا خنادق للدفاع عن أنفسهم.

على مدى السنوات الثلاثين التالية، أجرى الأرمن الأصليون في آرتساخ انتخابات حرة، وانتخبوا رؤساء وبرلمانيين، وأنشأوا بنية تحتية حكومية كاملة: شعار الدولة، والسلك الدبلوماسي، والجيش. بلد ديمقراطي بكل المقاييس. وأعادوا بناء أرضهم التي مزقتها الحرب، لبنة لبنة. الظروف الاقتصادية الصعبة تعوق التقدم. كانت الجغرافيا السياسية للمنطقة تشير إلى أنه لن تعترف بها أي دولة أخرى كأمة. أصر المجتمع الدولي، بدفع من تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة، على الاعتراف بحدود ما قبل العام 1992، التي وضعت آرتساخ داخل أذربيجان. لم تظهر آرتساخ على أي خريطة كدولة، كانت مجرد منطقة داخل أذربيجان. بلد بحكم الأمر الواقع، ولكن ليس بحكم القانون.

على عكس جيمبو، كان لآرتساخ أيضًا حدود عسكرية محصنة: خندق بعمق ثمانية أقدام يمتد على طول الطريق في جميع أنحاء البلاد. منطقة محاطة من ثلاث جهات بهذه الحدود: ترى للعالم فقط من خلال أرمينيا، عن طريق شريط ضيق من الأرض يسمى ممر لاتشين. لمدة 30 عامًا، وقفت هذه الحدود كترسيم مادي على المناظر الطبيعية، ندبة، خندق، تحصينات لإبعاد الجيش الأذربيجاني، ضمانة ضد إعادة الاستعمار. حدود لا يمكن اختراقها بمعظم المقاييس. لكن في الوقت نفسه لم تكن حدودًا على الإطلاق، حيث لم يُعترف بها من قبل أي دولة أخرى، حتى من قبل أرمينيا. على خرائط العالم وطاولات التفاوض الدولية، لم يكن لآرتساخ حدود. على الرغم من جهود السلام العديدة التي بذلتها منظمة أمن التعاون في مجموعة أوروبا مينسك، لم يسمح لآرتساخ قط بالحصول على مقعد على طاولة المفاوضات. كان لآرتساخ حدود مادية، لكنها ليست سياسية. كانت آرتساخ دولة لم تكن دولة.

في سبتمبر 2020 هاجمت أذربيجان آرتساخ. اجتاحت حدودها في ستة أسابيع وأعادت استعمار أجزاء كبيرة من آرتساخ نفسها. ما كان هناك، محصن، تم بناؤه خلال أكثر من ثلاثين عامًا، ذهب بين عشية وضحاها. مثل الوهم. الخيال. هل يمكن حتى تسمية خط الترسيم الذي يحيط بآرتساخ "الحدود"؟ ماذا تسمي شيئًا محفوفًا بالمخاطر وهشًا إلى درجة أنه يمكن جرفه جانبا بأقل جهد ممكن؟ ألم يدرك الأرمن أن الحدود التي أنشأوها لم تكن حدودًا على الإطلاق؟ على مدى ثلاثين عامًا من الاستقلال، بدأ فقدان الذاكرة الوطني فيما يتعلق بما يمثله هذا الخط الفاصل حول آرتساخ. أصبحت هشاشة الحدود نفسها مشوشة وضائعة. لمدة ثلاثين عامًا، تخيل الأرمن مستقبلًا لأنفسهم. لقد تخيلوا تحولًا كاملًا لما يقرب من ألف عام من تاريخ الخسارة والمحو والاستعمار. كان الأرمن يتخيلون حدودًا واحتمالًا.

تتشارك الحدود الكورية والأرمنية والحقائق السياسية في بعض أوجه التشابه، كما أن لها أوجه تشابه راسخة. لقد عاش كل من المجتمعين إهانات الاستعمار القمعي. لقد شهد كل من الشعبين العنف الشديد للحرب لأجيال متعددة، الدمار وإعادة البناء والدمار مرة أخرى. ولا تزال ذكريات هذه الصدمات قائمة حتى اليوم. كل من البلدين منقسم الآن: كوريا بين الشمال والجنوب، وأرمينيا / آرتساخ بين الوطن والشتات. أحدهما نشأ من الحرب الكورية، والآخر نشأ من الإبادة الجماعية للأرمن والحروب اللاحقة لما يقرب من مئة عام. ولا تزال الدولتان تواجهان محاولات منسقة لمحو جرائم الماضي البشعة التي ارتكبها مستعمروهما. لا تزال الدولة التركية تنكر حدوث الإبادة الجماعية للأرمن. وتنفي الحكومة اليابانية مسؤوليتها عن نظام "نساء المتعة" للعبودية الجنسية خلال الحرب العالمية الثانية. لا يزال هذا الإنكار يحدث الآن، بعد سبعين عام، ومئة عام.

والحدود - العسكرية، والوهمية، وغير المرئية، والمتخيلة، وغير القابلة للعبور - هي جزء من نسيج هاتين الدولتين ذاته. الأرمن والكوريون يحملون حدودهم معهم.

في العام 2007 كنت على الحدود في آرتساخ، في مخبأ على الخطوط الأمامية. من خلال شق في جدار القبو شديد التحصين يمكنك رؤية الأراضي المنبسطة المؤدية إلى مواقع الخصم. من حيث الجغرافيا، لم تكن الأرض التي امتدت إلى الحدود الأخرى مختلفة عن الحدود في جيمبو. يغطي امتداد النهر المستوي مساحة مماثلة إلى حد ما، وهو تسطيح يمتد من موضع وقوفك إلى الخارج. قابلت شابًا، جنديًا من آرتساخ، في ذلك المخبأ. كان على أهبة الاستعداد، والبندقية في يده، بابتسامة خجولة غير مؤكدة مقنعة بالثقة الفطرية بالنفس. نعم، قالت عيناه، أنا هنا، لديَّ سلاح، لكن ليس لديَّ أي فكرة عما إذا كانت هذه حدودًا فعلية، أو ما إذا كان العدو سيهاجم في غضون خمس دقائق أو خمس سنوات أو خمسة عقود. لكنني هنا.

أتساءل الآن أين هذا الشاب (الذي لم يعد شابًا) اليوم. هل كان لا يزال في الجيش خلال غزو 2020 ، بعد ثلاثة عشر عامًا؟ هل تخيل مستقبلًا في هذا البلد الذي ليس بلدًا؟ هل تخيل وقتًا يمكن أن تصبح فيه تلك الأرض المنبسطة مساحة للتعاون والتفاهم تتقاسمها الدولتان؟ هل كان يحلم بزمن يمكن فيه للأرمن والأذربيجان العيش بسلام؟

في حلم مماثل، ربما يمكن للمرء أن يرى مصب نهر هان أيضًا كمساحة للمشاركة: يعبرها الكوريون الشماليون الذين يسافرون جنوبًا والجنوبيون الذين يسافرون شمالًا. هل يمكن أن تكون الحدود مساحات للتعاون والمشاركة، بدلًا من الانقسام والصراع؟ هل يمكن أن تكون البيئة الطبيعية الخضراء والمتناغمة في المنطقة المجردة من السلاح نموذجًا للانسجام البشري؟ يمكن للمرء أن يتخيل الجغرافيا الملونة وطبقات مصب نهر هان بلا أسوار الأسلاك الشائكة أو التحصين العسكري الثقيل على كلا الجانبين. يمكن للمرء أن يتخيل جيمبو تتنفس مرة أخرى وسفنها تتنقل بين موانئها. ربما يمكن للمرء أن يتخيل كوريا عادت إلى نفسها وأنهت آرتساخ الاستعمار مرة أخرى.

 

آرا أوشاغان فنان بصري متعددة التخصصات وقيِّم فني. تقع أعماله عند تقاطع مشحون بموروثات العنف وهوية الشتات والسرد والذاكرة والمجتمع والنزوح.  نشر كتابين يحويان صورًا فوتوغرافية، وأسس وأشرف على العديد من المشاريع والمعارض الفنية العامة التي نالت استحسان النقاد. عرضت أعماله دوليًا وهي الآن ضمن مجموعات عامة وخاصة متعددة. وُلد أوشاغان في بيروت، واقتلعته الحرب الأهلية اللبنانية مع عائلته خارج لبنان، ونشأ في الولايات المتحدة. صميم عمله هو استكشاف تاريخه الشخصي والجماعي، وتجربته الحية الخاصة بالنزوح والشتات. وهو حاليًا أمين معرض ReflectSpace في مدينة جليندال - كاليفورنيا. يعيش في لوس أنجلوس مع عائلته.

أرمينياأذربيجانالحدودعبور الحدودالكورية المنطقة المجردةمنالسلاح حرب القومية

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *