"الغريب" – قصة قصيرة لهاني علي سعيد

 

هاني علي سعيد

ترجمة إبراهيم فوزي

 

عند الظهيرة الحارقة ، كانت درجة الحرارة المرتفعة تشبه اللهب الذي هرب من الجحيم وسكن الأرض. من بعيد ، بدا الرجل وكأنه كومة من الحجارة على جانب الطريق. لم تكن ملامحه البشرية واضحة بالنسبة لي حتى تقلصت المسافة بيننا.

وأنا عائد بسيارتي من عملي الذي يبتعد عن بيتي مئة كيلو أو يزيد، يده الممدودة بلا حراك تشبه تلك اليد التي تطل من جسم خيال المآتة، الذي تضعه شركات المقاولات على الطرق لتحذر المارين من إشغالات الطريق وإصلاحاته، لم أنتبه إليها إلا بعدما مررت عنه بمسافة مئتي متر أيضًا، فتوقفت ريثما استوعب عقلي أن الذي رأيته إنسانًا، وليس مجرد خيال مآته كما ظننت.

كان المسكين قد أيس مني فحول وجهه للجهة التي يرصد منها مجيء السيارات، فلم يكترث إلا وسيارتي ترجع إلى الخلف لتقف عند قدميه، أنزلت زجاج الباب الأمامي وأشرت إليه أن: تعال.

في البداية لم يفهم. من ملامحه استطعت أن أقول إنه كان واحدا من العديد من العمال من جنوب آسيا الذين عملوا في الخليج، حيث كنت أنا أيضا موظفا. ندمت أكثر من مرة على عدم قدرتي على التعرف على العديد من أبناء آدم وأرحام الأمم التي أتوا منها. كل من قابلتهم أدركوا أنني مصري، على الرغم من أنني لم أفهم أبدا كيف عرفوا.

ناديته ثانية: "اركب صديق".

تناول باب السيارة بيد كأنها كانت مبتورة عن جسده وعادت للتو لتلملم شتاته الآيس من النجاة في هذه الصحراء التي لا ترحم، حين استقر وبدأ هواء مكيف السيارة يداعب أنفه وشعره الفاحم المنسدل على جبهته ناولته زجاجة ماء ليبل بها صداه، تناولها بابتسامة تشققت شفاهها من ألم الجفاف الذي أصابها من شدة الحر، أفرغها في نفس واحد داخل حلقه، ولم تكن معي أخرى أناولها إياها، لكنه شعر بالارتواء فجأة، وقال لي بلهجة عربية أفهمها بالكاد:

"شكرا، مودير. أزاك الله خير".

وبين صادق ومدير، اختفى آلاف المهاجرين. كل واحد منا كان يعمل في الخليج كان يسمى إما "مدير" أو "صادق" - كما لو كانت أسماؤنا تخص الآلهة ، الذين كانوا يعبدون بدلا من الله. لقد أصبح ممنوعا تقريبا الاعتراف بنا أو مخاطبتنا بأسمائنا الحقيقية.

من حين لآخر أختلس النظر إليه وقد أسند رأسه إلى مسند الكرسي وأغلق عينيه، ما بين بضع كلمات عربية ركبتها في جمل مع أخرى أجنبية، ومعها لغة الإشارة عرفت منه أنه من بنجلاديش، وقد قدم إلى الخليج ليعمل في إحدى الشركات، وأن سيارة نقل العمالة فاتته ويريد أن يلحق بالعمل حتى لا يتعرض لعقاب مدير الشركة... ثم عاود النوم وأسلم رأسه للمسند.

كان اقترابي من الوصول للشقة التي أقطنها إيذانًا بأن أوقظه:

صديق... صديق. استيقظ فزعًا كأنه كان يرى كابوسًا، قلت:

"وين تنزل؟".

طأطأ رأسه: هنا... هنا.

غادرني بابتسامة غريب أعلم أنه لن يعود بإمكاني رؤيته مرة أخرى، فبادلته بأخرى تشبهها، مررت على إحدى البقالات لأتزود منها ما يسد جوعي، وصعدت كما يصعد من أذته الحياة حتى إنه ليشتاق كل شيء إلاها، اقتربت من الشباك لأغلقه كي يتمكن التكييف من تبريد الغرفة المختنقة بالحرارة، فلمحته يجلس على الرصيف الذي تحول في هذا القيظ إلى قطعة جمر، للوهلة الأولى لم أتوقف عند مشهده وهو جالس قد نكس رأيه بين ركبتيه، محاولًا انتشالها من حريقة الشمس.

تشاغلت بإعداد ما معي من مأكل ومشرب، وحينما تهيأت المائدة لأرمم بما عليها جوعي الذي يعوي منذ الصباح، لم أستطع أن آكل شيئًا، وعصتني يدي في أن تمتد لتعمني... وانسدت شهيتي، فقمت مهرولًا جهة الشباك كأنني أبحث عن شهيتي المفقودة، تفقدت الرصيف من كل اتجاه بوجه قد تحول كله إلى عيون لهفى، فلم أجده... وكأن عين الشمس قد ابتلعته، وأو كأنه صار كومة قش أشعلت فيها النار وهبت الريح فأذهبت كل أثر كان لها...

هرولت جهة ملابس خروجي فارتديتها بسرعة، وقفزت درج السلم كالتائه، حتى إذا خرجت للطريق أخذت أتفحص الأرصفة يمينًا ويساراً، فلم أجد له أثرًا، لملمت حزني في قلبي ودخلت منكس الرأس أتصبب عرقًا؛ ثم وقفت في مدخل العمارة الظليل لأمسح عن وجهي وعيني مطر العرق المالح.

وما إن فتحتها حتى وجدته كالشبح شاخصًا أمامي في ركن ظليل من المدخل، بفرحة عارمة ناديته: صديق... صديق.

قام مبتسمًا نحوي، فتأبطت ذراعه وصعدنا إلى الشقة... قلت له: أنا غريب أتلمس معرفة الغرباء مثلي، أنظر في الوجوه فكأن وجوه من أأتلفهم قد قدت من وجهي، أو وجهي قد قد من وجوههم، فلا نتناكر إذا التقينا...

ابتسم ابتسامة خفيفة تعني أنه لم يفهم شيئًا.

همهم بالجملة الوحيدة التي أفهمها عنه: "شكرا مودير... أزاك الله خير".

لكن وجهه تحدث إليَّ بأفصح لغة أعرفها!!

 

الدكتور هاني علي سعيد هو أستاذ مصري للبلاغة العربية والنقد الأدبي في جامعة الفيوم بمصر وجامعة القصيم بالمملكة العربية السعودية. نشرت مجموعته القصصية الأولى "صدى الصمت" في عام 2014. نشرت مجموعته القصصية الأخيرة "فراشات كافكا" في عام 2022. وقد حصل على العديد من الجوائز. الجمهورية ، صحيفة يومية مصرية بارزة ، جائزة أفضل مقال علمي في عام 2009. في عام 2018 ، فاز بجائزة صوت الإبداع عن كتابه المقالات.

إبراهيم سيد فوزي، مترجم أدبي وأكاديمي مصري، مدرس مساعد في قسم اللغة الإنجليزية، كلية الآداب، جامعة الفيوم، مصر. ظهرت ترجماته في مجلة ArabLit الفصلية، و"كلمات بلا حدود"، و"ذا سنتراز ريفيو"، و"الشعر الحديث في الترجمة"، ومجلة "شعر برمنغهام الأدبية"، وغيرها. سيتم نشر دراسته الأولى ، الانتماء إلى السجن ، من قبل علماء كامبريدج في الصيف. في عام 2023 ، أنهى إرشادا لمدة ستة أشهر مع المركز الوطني البريطاني للكتابة كجزء من برنامج المترجمين الأدبيين الناشئين ، حيث تم توجيهه من قبل سواد حسين.

مصراتحاد عمال أجانبصداقةخليجيدول خليجيةالطبقة العاملة

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *