الضوء في نهاية النفق

شهادة مؤثرة على الحياة والموت والحالة الإنسانية بقلم صحفي كان مباركًا وملعونًا. جزء من مذكراته بعنوان أنا قادم أيها الضوء.

 

محمد أبو الغيط

ترجمته عن العربية ردينة هلسا

 

لم أرَ الضوء في ذلك اليوم..

أغمضت عينيَّ ثم فتحتهما لأعرف أن أربع عشرة ساعة قد مضت، أجرى خلالها الأطباء جراحة كبرى لاستئصال ورم سرطاني متوحش. كنت أعرف أنهم سيستأصلون المعدة بالكامل، لكن أخبروني بعدها أنهم استأصلوا أيضًا الطحال، وجزءًا من البنكرياس، فضلا عن عدد ضخم من العقد اللمفاوية التي امتدت حتى صدري.

كنت قد قرأت مرارا عن «تجربة الدنو من الموت »، أو ما يسمونه بالإنجليزية ب Near Death Experience NDE . طالعت تجارب لمرضى تعرضوا لتوقف قلوبهم لدقائق، ووصفوا ما شهدوه في تلك اللحظات التي غابت فيها الحياة عنهم. الكثير منهم رأى نفسه يعبر نفقًا مظلمًا نحو ضوء ساطع، الأغلبية كانوا يشعرون بالسعادة والراحة وهم ماضون إليه، وقد يرون وجوه أموات يعرفونهم أو ذكريات مرت بهم، فيما البعض الآخر وصف مشاهد مختلفة لفزع رهيب عايشوه.

تختلف الأبحاث العلمية في تفسير الظاهرة؛ البعض يرجعها إلى إفراز «الإندورفينات » في المخ؛ كرد فعل على خطر حرمانه من الأكسجين، وفي فبراير ٠٢ أظهرت دراسة كندية حديثة أن موجات المخ لشخص يحتضر أظهرت في الثلاثين ثانية قبل وبعد الموت موجات دماغية تشبه أنماط الحلم أو استرجاع الذكريات.

ولكن بعيدا عن التفسير العلمي، فإن الصورة نفسها تتواتر عبر الثقافات، وتنعكس في الفنون. في القرن السادس عشر، رسم الهولندي هيرونموس بوش، لوحته «صعود المباركين » التي تظهر الملائكة حاملين أرواح بشر، يمضون عراة صعودًا في نفق يتجلى الضوء عند نهايته. وفي 2020 قدمت ديزني فيلم للأطفال Soul الذي يظهر النفق ذاته. (ترجمة اسم الفيلم بالعربية هي "روح" لكن تمت ترجمتها إلى مغامرة ذاتية لمخاوف دينية أو تسويقية على الأرجح!).

كنت في تمام التأهب النفسي، والوعي باحتمال ألا أصحو مجددًا، وقلت: لعلي سأعبر النفق صوب الضوء إلى ما لا أعرف، ولن أعود لأحكي.. لكن لم يحدث لحسن الحظ.

لكنني أبصرت لاحقًا ذلك الضوء الكوني، يقظة لا منامًا.

حدث هذا بعد أشهر، بعد أن أخبرتنا الطبيبة الأمريكية المرموقة في "مركز أندرسن للسرطان"، بولاية تكساس، أن لا أمل على الإطلاق في شفائي، بعدما عاد الورم أكثر شراسة بعد العملية. قالت إن أقصى ما بوسع الطب عمله الآن هو محاولة ربح بعض الوقت؛ الوقت الذين لن يتجاوز أقل من عام، أو ربما، وبكثير من التحفظ، قد يصل إلى عامين، ذلك "لو حظيت بأفضل استجابة لأفضل دواء متاح".

حدث ذلك في فبراير 2022، وكنت قد شُخصت بالسرطان في منتصف العام السابق 2021. أضحت التواريخ مهمة جدًّا؛ لأني أصبحت أراها ساعة رملية، يتناقص محتواها باستمرار. محتواها هذا ليس رملًا، بل هو أيام حياتي الباقية.

في تلك الليلة قبل النوم قالت لي إسراء فجأة وبكل هدوء: إذن فلتفكر ماذا تريد أن تفعل في الوقت المتبقي؟ هل هناك مدينة تود زيارتها. أكلة تريد تذوقها؟ كيف أساعدك لنمنح ابننا ذكريات سعيدة؟ في ذلك اليوم، لمحت الضوء في عينيها؛ ضوء جمال الجوهر الإنساني…

تعلمت عبر حياتي، وبالتدريج، البحث عن هذا الجوهر الإنساني، وأن أشعر بذلك الضوء الذي يشع من الأرواح الطيبة. أحب أن أكون على مقربة من هؤلاء، بينما أهرب من ذوي الأرواح المظلمة والقلوب الغليظة.

في الماضي، كنت أعتقد أني في مصر أعيش بأعظم بلد في الكون، وكوني مسلمًا متدينًا يعني فوريّا أني وأمثالي أفضل من كل البشر بمن فيهم باقي المسلمين. ثم عرفت أن جوهر الإنسان هو الأصل، وأن ما سوى ذلك كله ليس إلا أغطية يستخدمها لينشر ما بداخله من ضوء أو ظلام. ما من علاقة بين الجوهر المضيء وبين لون الإنسان، أو عرقه أو دينه أو لغته. يقول حديث نبوي إن خيار الناس في الجاهلية هم أنفسهم خيارهم في الإسلام، أي أن ذوي "مكارم الأخلاق" سيظلون هم أنفسهم كذلك، من قبل ومن بعد.

يخبرنا التاريخ أن كفار الجاهلية ظهر بينهم قبل الإسلام صعصعة بن ناجية، الذي حمل لقب "محيي الموءودات"؛ لأنه أنقذ ثلاثمائة بنت من الدفن أحياء. كذلك خرج من بينهم حاتم الطائي الذي صارت قصص كرمه كالأساطير. وهناك عبد الله بن جدعان الذي اجتمع في داره مؤسسو "حلف الفضول"، وقد تعاهدوا على نصرة المظلوم، أي مظلوم.

ينبع قسط وافر من إضاءة روح الإنسان أو ظلمتها من ظروف نشأته، سواء ما تربى عليه في أسرته، أو عبر تلك الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أحاطت به. لكن قناعتي هي أن العامل الأهم يكمن في اختيار الإنسان الواعي أن يربي نفسه ويلزمها بأن يظل ضميره ما يحركه لا مصلحته الشخصية. الضمير، أو الوازع الأخلاقي، أو "الأنا العليا" بتعبير فرويد، أو "ريشة ماعت" بتعبير المصريين القدماء، كلها وجوه لنفس المفهوم الذي يعلو به الإنسان أو ينحط، والذي تضيء به روحه أو تظلم.

لكن الحياة معقدة، بمثل ما هي مؤلمة. يدور جدل علمي جاد حول دور الجينات في وجود أشد الأرواح إظلاما، أعني الشخصية السيكوباتية التي لا يمكن لصاحبها التعاطف مع الآخرين؛ "لا يستطيع" وليس "لا يريد"، وهو ما يستتبع جدلًا أعقد عن مدى المسئولية القانونية لهؤلاء عن أفعالهم.

قيل لي إن مرضي جاء من الجينات بشكل رئيسي. ومرارًا تساءل الأطباء، المندهشون من صغر سني، لو كان أحد من أسرتي لديه سابقة الإصابة بذلك الورم، فكررت دائمًا جوابي بالنفي.

قد تهبط الكارثة فجأة علينا. وقد نحملها داخلنا منذ الميلاد دون أن نعرف. لا حيلة لنا في ذلك. كما لا حيلة لنا أمام كثير من المآسي؛ الفراق، والضعف، والموت. لا حيلة لنا بمشاعرنا. لكن لنا حيلة بأفعالنا، أو على الأقل في السعي لذلك، دون ضمان النجاح. فلا إنسان كامل أبدا، وكلنا، كلنا بلا استثناء، قد نمر بأوقات من النقص والخوف والأنانية والطمع وغيرها من الأخطاء والخطايا، لكن الفارق هو بين من يترك نفسه لتلك الأهواء، وبين من يعيها ويواصل الصراع معها بنسب نجاح وفشل متفاوتة، يغالبها، و"يسدد ويقارب"، قدر الإمكان.

مؤخرًا أجريت حوارًا صحفيّا مع الصحفي البريطاني إيدن وايت. وخلاله اندهشت بينما أنظر لحياتي عن بُعد من مدى ثرائها؛ حياة قصيرة، ثلاثة وثلاثين عامًا، لكنها اشتملت حيوات عدة. عشت في صعيد مصر، وانتقلت إلى القاهرة، ثم إلى لندن. عملت طبيبًا، ثم انتقلت إلى الصحافة المحلية، ثم إلى الدولية. وقد صادف ذلك مرحلة تاريخية نادرة للغاية، بوقوعي في قلب أحداث الربيع العربي.

ذات يوم، لم يكن بجيبي جنيه مصري واحد، وذات يوم آخر، كان حسابي البنكي عامرًا بعشرات الآلاف من الدولارات. في أوقات، حاولت شرح أفكاري لفلاحين في قريتي بصعيد مصر، وفي أخرى كنت أشرح الأفكار ذاتها لأنطونيو جوتيرش؛ أمين عام الأمم المتحدة، خلال مراسم تسليمه جائزة لي.

 


 

عجيبة هي الأقدار وألاعيبها؛ كأنما طُويت حياتي وكُثفت، فمنحتني بسرعة كثيرًا من السعادة والتوفيق، كما انهارت على رأسي بنفس السرعة. كنت مرارًا أصغر صحفي في صحف وقنوات عملت بها، كما أنني الآن أصغر مقيم في جناح الرعاية الخاصة بمرضى السرطان في ذلك المستشفى البريطاني.

عبر ذلك المسار كله، تغيرت داخليّا وخارجيّا، حتى إني أُدهشُ اليوم من شكلي في المرآة. تبدلت الكثير من قناعاتي، كما تغيرت من حولي الوجوه والعوالم، لكن ما لم يتغير قط هو بحثي عن ذلك الضوء الذي يشع من الأرواح الطيبة؛ ضوء التعاطف مع الإنسان من حيث كونه إنسانًا قبل أي شيء آخر.

منذ تشخيصي، وبعد تجاوز الصدمة، وجدت يدي تكتب عن المرض، وعن كل ما حولي.

وجدتني لا أكتب يوميات مريض، بل ما أكتبه هو مزيج من مشاركة الأحداث والمشاعر، ما جربته وما تعلمته، وكذلك سيرة ذاتية لي ولجيلي أيضًا. ودونما أشعر، عبرت كتابتي من الخاص إلى العام، وهكذا صرت أنتقل من شرح علمي لأدوية السرطان، إلى أخبار التطورات السياسية في مصر والشرق الأوسط، ومن تفنيد بعض الخرافات المتعلقة بما يسمى "الطب البديل"، إلى متابعة وفاة الملكة إليزابيث. أتأمل في الموت والحياة، ثم أفكر في حلول أزمة التغير المناخي.

ذات يوم، زرت قلعة "برج لندن"، وهناك شاهدت "بوابة الخونة" التي تم إدخال السير توماس مور عبرها، بعدما رفض رغبة الملك هنري الثامن في تغيير قوانين الكنيسة؛ لأجل رغبته في تطليق زوجته والزواج من آن بولين. صمد مور ضد التنكيل، وضد تهديده بتجريد أسرته من ممتلكاتها كافة، وفي النهاية صعد إلى منصة الإعدام مرفوع الرأس.

كتب مور في رسالته الأخيرة شاكرًا لابنته مارجريت أن اقتحمت صف الحراس وعانقته وقبلته للمرة الأخيرة، فهو يحب ما يحدث "حين تتجاوز عاطفة البنوة، وعاطفة فعل الخير، قواعد الحذر الدنيوي".

وفي القلعة نفسها، شاهدت متحفًا لأدوات التعذيب، وقد أصابني الهلع لمجرد تخيل ما كان يمر به الضحايا المساكين. لكم هو مبهر المدى الذي قد يذهب إليه الإنسان في الشر أو الخير، في ضوء روحه أو ظلامها.

في لحظة ما، وجدتني أمضي في ممر مظلم بالقلعة، فيما الضوء الوحيد مصدره شعاع شمس يتسرب من بين ثقب طولي صغير بين الأحجار الصخرية. ووجدتني أتجه إليه لا إراديًّا.

لو تحققت نجاتي بمعجزة ما، فسأسعى لما بقي من عمري نحو ذلك الضوء الذي زادت خبرتي به وتقديري له في أيام مرضي. وسأمنح ما أستطيع عرفانًا لكوني محظوظًا بزوجة مضيئة، وبأبٍ وأمٍ مضيئين، وبالكثير من الأصدقاء الذين يطمئنني ضوءهم لحقيقة الخير في الدنيا.

ولو وافاني القدر، ورحلت في الوقت الذي قدره الأطباء، فإني أرجو أن يكون ما بعد نفقي نورًا وهدوءًا وأمنًا، وأن يكون في هذا الكتاب ما قد ينقب ولو ثغرة واحدة، ليمر منها بعض الضوء إلى من يقرأ.

 

كان محمد أبو الغيط (1988-2022) صحفيا استقصائيا وكاتب عمود مصريا، غطى تجارة الأسلحة الدولية وانتهاكات حقوق الإنسان والتطرف والكليبتوقراطية في العديد من البلدان. لديه خبرة طويلة في مجال مكافحة المعلومات المضللة على منصات التواصل الاجتماعي، فضلا عن عمله كمدقق حقائق في إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج). عمل أبو الغيط أيضا كمنتج تلفزيوني للتلفزيون العربي وقناة أون تي في وقناة الحرة وسي إن إن الدولية. حصل على العديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة جمعية مراسلي الأمم المتحدة، وجائزة فيتيسوف للصحافة، وجائزة سمير قصير (من الاتحاد الأوروبي)، وجائزة هيكل للصحافة العربية. كما تم ترشيحه لجائزتي إيمي.

عملت ردينة هلسا مترجمة على مدى العقود الثلاثة الماضية، بالإضافة إلى وظيفتها كمنسقة للبرامج الدولية للمدارس الخاصة، في عمان، الأردن. عملت أيضًا كمترجمة مستقلة للعديد من المنظمات، بما في ذلك منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، ومنظمة البحوث MRO، و Johud (مجلس السكان الأردني).

السرطان الموت الكتاب المصريونالحياةالقريبة من الموت تجاربالروح

1 تعليق

  1. قطعة رائعة. غدا هو يوم وفاة ابني. لقد كافح مع المايلوما المتعددة ، وهو سرطان في الدم لا ينبغي أن يصاب به مثل هذا الشاب. لم أستطع إلا أن أقرأ هذا معه في قلبي. توفي في عام 2021 ، بعد ثلاث سنوات من تشخيصه. قطعة جديرة محمد وحياة شجاعة هائلة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *