الجدران غير المرئية، تأمل في العمل والوجود

1 مايو، 2023

تتأمل مترجمة وكاتبة عربية تجاربها العملية في الداخل والخارج، ومعنى كل شيء، في وقت يسود فيه الكثير من الالتباس.

 

نشوى نصر الدين

 

الجزء الأول: الجدران

مطر مستمر يتساقط على سطح سيارتي. موسيقى الراب تحصر تركيزي بينما تنزلق صفائح من المطر على الزجاج الأمامي. أتذكر أن القدر لا مفر منه وأنه ليس دائمًا لطيفًا. شعور بالارتياح يغمرني. أنا دافئة في هذه الشرنقة. أدرت المفتاح وسمعت المحرك ينبض بالحياة.

ها أنا ذا، عقلي يعود إلى حالته الطبيعية ويستعد للعمل، سيارتي، مثل فرس، تعرف كيف أقودها وأوجهها لتتحرك. وأنا بدوري أعرف متى أرفع قدمي وأضعها، أعود لأستقر على السرج عندما نصل إلى امتداد الطريق السريع الطويل.

من أنا ومن أين أتيت؟ أسئلة مثل هذه تثقل عليَّ كل يوم. لكنني أعرف اليوم أنني امرأة في سيارة، أقود على الطريق السريع نحو وجهتي التالية.

 


 

منذ سنوات عديدة كنت امرأة شابة تعمل في أول وظيفة مناسبة لها. كنت من سكان لندن. في ذلك الشتاء الأول اعتدت أن أصل إلى مقر عملي في الظلام وأغادر إلى المنزل في الظلام. كلما تحركت كان كرسي مكتبي يجز نسيج السجادة الخشن. في المكتب المفتوح يأتي صوت ديدو مرنِّمًا من الراديو المضبوط على إذاعة بي بي سي 1:

أصبح الشاي باردًا، وأتساءل لماذا
نهضت من السرير من الأصل
مطر الصباح يغبِّش نافذتي
ولا أستطيع أن أرى أي شيء

في أحد تلك الأيام التي لا تُوصف تلقيت رسالة نصية من صديق: اصطدمت طائرة بالبرجين التوأمين. شاهدنا جثثًا تتساقط من النوافذ على شاشة العرض الكبيرة في غرفة الاجتماعات A. أصبحت الحياة فجأة مشحونة بطريقة لم أعرفها من قبل؛ كل تعليق، أي اتصال بالعين، دفعة كتف من قبل أحد المارة في شارع شافتسبري. تذكرت أنني كنت مهاجرة. كنت "عربية" في لندن. منذ ذلك الحين عشت في حالة تأهب دائم. غيرت مهنتي وأصبحت صحفية.

 


 

بعد ما يقرب من عشرين عامًا، بينما أسير في أحد شوارع لندن مرة أخرى: اسمه "الجدار". جدار لندن. سُمِّيَ العديد من الشوارع في هذا البلد على اسم حدود المدينة التي كانت موجودة ذات يوم، ولكن ليس الجدران الخفية.

جدار لندن، هذا اسم يوحي بالعظمة، كل تلك الحروف [الإنجليزية] الطويلة، تمامًا مثل المباني الموجودة هنا. مررت تحت أقواس أحد الشوارع الجانبية، ألقي نظرة خاطفة على متاهة الممرات. لا يوجد أفق هنا، ولكن مجموعة من المباني المكسوة بألواح زجاجية، كل منها ينتصب بزوايا غريبة بالنسبة لبعضها البعض، لذلك يبدو أنه بغض النظر عن الطريقة التي تستدير بها، قد تصطدم بالزجاج عن طريق الخطأ. يبدو الأمر كما لو أن هذا ما يفعله الناس هنا من أجل لقمة العيش: المشي ذهابًا وإيابًا. إنهم يفعلون ذلك بجدية، بشكل رسمي، بصمت.

سرعان ما وصلت إلى المبنى الذي يضم ما كبرت لأسميه "مكتبي"، على الرغم من أنه ليس لديَّ اتصال حقيقي به. ينضح الدفء من نوافذ الطابق السفلي. غالبًا ما أرى "زملائي" متجمعين في أقصى اليسار على أرائك عصرية ملونة، فيما أتخيل أنه اجتماع فريقهم الصباحي. تجلس امرأة على الأرض ومرفقها مستريح على ركبتها المرفوعة. لكن لا يمكنني التوقف لفترة طويلة. أنا متجهة إلى مكان عمل مختلف، حيث أعمل عملًا جانبيًا. أتقاضى راتبي يومًا بيوم ولا يمكن أن أتأخر.

 

الجزء الثاني: "مكتبي"

في أحد الأيام، فاتني اجتماعهم الصباحي لأنني تأخرت. لكن هذا يعني أنه يمكنني إيلاء اهتمام خاص للمفروشات في "مكتبي". كان هناك أريكتان رماديتان في الزاوية، ما يجعلهما مثاليتين كي أتراخى على إحداهما، هناك أيضًا عدد قليل من الوسائد.

لمحت لافتة كتب عليها "#slay"، لكنني لم أستطع فهم المقصود منها. هل كان اسم الشركة؟ اختصار ما؟ رمز سري؟ ولماذا علامة الهاشتاج؟ درست ملامح "زملائي" الجالسين في صف المكاتب المواجه للنافذة عندما أبطأت خطواتي. أردت أن ينظر إليَّ شخص ما ويلاحظني بينما أتجول، لكن أحدًا لم ينظر.

وجدتني أفكر فيك، "مكتبي"، بينما كنت أتنقل أثناء مناوبة مملة. تساءلت كيف كان حالك الآن؟

أغمضت عيني وكنت هناك، متراخية أمام طاولات المكتب، مررت أصابعي على أسطحها اللامعة، أفكر في صنع "كوب شاي لطيف" وربما أغرق في إحدى الأريكتين في وقت الراحة.

في أحد الأيام كانت ثلاث من النساء العاملات فيك يتناولن وجبات خفيفة في وقت واحد ولكن في مكاتب منفصلة. لم يكن لديهن أي فكرة عن المصادفة، حيث تم فصل كل منهن في مكتب مصغر. لكنني استطعت أن أرى الثلاثة من مكاني؛ والأصابع تغذي الشفاه بينما تحدق كل واحدة منهن في شاشة الكمبيوتر الخاص بها.

 


 

"ميمو"... هل يمكنني الآن أن أدعوك "ميمو"؟ يبدو "مكتبي" رسميًا جدًا. لقد كنت بحاجة إليك حقًا في وقت سابق. كنت مشغولة جدًا اليوم لدرجة أنه لم يكن لديَّ وقت لإراحة عيني. لم تكن أسوأ الأيام، لكنها كانت أيامًا حديَّة. أيام من النوع الذي يمكن أن أفقد فيها عقلي، لكني لن أفعل ذلك لأن مظهري سيبدو بشعًا إن فعلت. كان الجميع مضطربين بعض الشيء وعلى حافة الهاوية. لكن، كما تعلمون، انتهى الأمر الآن، وأنا في القطار متجهة إلى المنزل.

أتذكر كم كنت سعيدة عندما اكتشفت لأول مرة أنه يمكنني المشي إلى مكان عملي من محطة القطار بدلًا من ركوب مترو الأنفاق، ما يجعلني أشعر دائمًا بالكدر. وبالطبع، هذا يعني أنني وجدتك.

عندما مررت بجانبك هذا الصباح شعرت بالحزن. لسبب ما لم أستطِع الرؤية من خلال نافذتك بوضوح كالمعتاد. لا بد أنني كنت متراخية لأن لوح الزجاج المصنفر الذي يمر عبر منطقة الحاجز الأوسط لنافذتك مثل الحزام بدا أقل مستوى مما تذكرته، على الرغم من أنه لا يمكن أن مستواه لن يتغير من تلقاء نفسه. شعرت بالإقصاء. بحلول نهاية اليوم، عادت وجهة نظري إلى طبيعتها واستطعت أن أراك مرة أخرى. رأيت امرأة بالداخل ترتدي سترة قصيرة من التويد، نظرت إليها للحظة، متسائلة عما إذا كنت قد رأيتها من قبل. ماذا لو انتهى بها الأمر جالسة بجانبي في القطار!

في بعض الأحيان أتخيل كيف سيكون المشي عبر أبوابك. لم أرَ حتى مدخلك. سأشعر بخيبة أمل إذا كان الجو باردًا قليلا في الداخل. أنا بحاجة إلى طقس استوائي هناك... أهو كذلك؟

هناك مكان آخر يذكرني بك يا "ميمو"، أو على الأقل بما تجعلني أشعر به. مكان أعود إليه بانتظام أيضًا أثناء نومي. في الجزء العلوي من درج متعرج، محاط بالزجاج؛ مكتبة مقسمة على طابقين، والكتب مكدسة من الأرض إلى السقف.

لا يوجد محفز واضح للأحلام التي تأتيني، لكن عندما أستيقظ، أشعر بهدوء واضح.

 


 

في صباح أحد الأيام، أثناء ذهابي إلى المحطة، توقفت لملء سيارتي بالبنزين. بينما أراقب الشاشة ذات الأرقام، وأسند الفوهة بيد واحدة، تشق نقطة من الحرارة جانب رقبتي. يثيرني وهج السماء الصافية التي تغمر الفناء الأمامي بأكمله. تعيدني الرطوبة مسكية العبير والنسيم البارد إلى قبرص، حيث عملت لمدة عام، طقسها الحار الغامر. تلك البداية السريعة للدفء، والتكيف السريع للجسد والعقل مع مناخ جديد، تجربة جديدة للوجود. قابلت زميلتي الأولى في الشارع في ذلك المساء الأول، كانت ترتدي تنورة قصيرة وسترة، كلانا ترتدي صندلًا. العرق يتلألأ على ترقوتها.

في ذلك المساء ضربت خطواتنا الشوارع الممهدة بالحصى في البلدة القديمة. قُدمت إلينا أطباق سلطة كبيرة، بينما اتكأنا على كراسينا الخشبية ورفعنا وجهينا في الهواء الرطب. الكثير ليُستوعب دفعة واحدة؛ بلد جديد، مناخ جديد، سياسة عمل جديدة.

كيف يتباطأ كل شيء، فكر، طموح، رغبة، نفس عميق ثم زفير. الطريقة التي يمكن بها مراجعة كل شيء فجأة.

 

الجزء الثالث: بداية النهاية

درجة الحرارة 27 بعد ظهر يوم صيفي زائف في هذا "اليوم الأكثر سخونة في أبريل منذ 70 عامًا". يطفو سكان لندن خارج مباني المكاتب ويتقاربون مستلقين على العشب، ينتشرون فوق المقاعد. الحديث عن الطقس إلزامي هذا الأسبوع الذي شهد ارتفاعًا في درجات الحرارة نادرًا ما يصل إليه البلد في أشهر الصيف، ناهيك عن فصل الربيع الذي كان يظهر ويختفي.

نظرت إلى الأعلى ووجدت رجلًا راقدًا على ظهره على بعد بوصات فقط من قدمي. ذراعيه مطويتان على صدره. يرتعش حذاؤه الجلدي البني بشكل متقطع. على الرغم من أنه يرقد في الظل، إلا أن وجهه منخرط بالكامل، ما يعطي انطباعًا رائعًا عن شخص ما يأخذ حمام شمس.

بعد عشر دقائق، نظرت إلى الأعلى فوجدته قد اختفى. تستقر في مكانه امرأة شابة، تشرع في فتح علبة طعامها ثم تتناول زوجًا من عيدان تناول الطعام. تلعق أسنانها بينما تغمسهما في الطعام، وتتصفح هاتفها الذكي طوال الوقت. النساء اللواتي رتبن أنفسهن في دائرة كن يجلسن خلفي طوال هذا الوقت. أتابع محادثتهن للحظات وأدرك أنهن يتناقشن بخصوص الأحذية. كعوب عالية، لامعة.

 


 

يندفع الركاب متحلقين حول أكواب بلاستيكية شفافة، بدلًا من أكواب القهوة المعتادة. الكؤوس مثقوبة بالقش ويبدو أنها مليئة بـ"مسحوق" ملون من نوع ما. ترفرف الأرجل العارية في جميع أنحاء المدينة تحت الفساتين المجعدة وملابس الموسم الماضي. يتم ترتيب وتمديد مناطق تناول الطعام في الهواء الطلق التي تكتظ بالفعل بالرواد الذين يجلسون على الدرجات ويتجولون حول الأطراف متعجلين. يقوم الموسيقيون بضبط آلاتهم على مسرح انبثق فجأة لمدينة عادت إلى الحياة كما لو كانت تلبي نداءً جهاز "بيجر". أصبح الخميس هو يوم الجمعة، وأصبحت الثالثة بعد الظهر هي السادسة مساءً، حين يشرب الموظفون الأكفاء كما لو أنهم لن يعودوا إلى العمل بعد ظهر هذا اليوم المجيد. يبتسم الناس ويدردشون ويضيفون أصواتهم إلى صخب بروفة الفرقة. يلوح السائقون للمشاة على الطريق، ولكن عند الإشارات المرورية تهدر حركة المرور بشكل خطير لدرجة أنني أفقد الثقة في الضوء الأخضر للرسمة الظلية للرجل الذي يمسك عصا. أعلم أنني يجب أن أبتعد، وأن قطاري سيكون مكتظًا وأنني يجب أن أركبه مبكرًا لأضمن مقعدًا. لكن الموسيقى بدأت وعازف التشيلو يرتدي قبعة رعاة البقر.

 


 

حلمت الليلة الماضية أنني كنت أقود مركبًا شراعيًا، على الرغم من أنني لا أعرف كيف أقوده، ولم أشعر قط بالرغبة في تعلم قيادته. لكني كنت هناك على رأس مركب شراعي خشبي قديم، انطلق من الكورنيش في الدوحة، حيث كنت أعيش وأعمل ذات مرة. المدينة هي مكان حلمي المتكرر، لكنني لم أجد نفسي في بحرها في أي من أحلامي.

أشعر بالشوق للغطس في المحيط الذي يشبه الحبر. سطحه ثابت وهش لدرجة أنه يكشط بشرتي بينما أنزلق فيه. تحت السطح، تمسك المياه الكثيفة بقوة بجذعي وأطرافي المغمورة. أميل رأسي إلى الوراء وأغمض عيني عن السماء الخالية من النجوم. القمر بدرٌ في منتصف دورته.

 


 

آه يا "ميمو"، لقد خدعتك. الآن أنا في القطار، عندما عبرنا الجسر مررنا بمبنى شاهق فيه مكاتب في طوابق متعددة، صفوف عديدة من المكاتب، متحاذية بشكل مثالي وجميل. انزلقنا ببطء بما يكفي بالنسبة إليَّ لرؤية بعض الوجوه التي تنظر بالفعل إلى الشاشات، على الرغم من أنها لم تكن بعد الساعة الثامنة صباحًا.

أعلم أنني في المرة القادمة سأنظر مرة أخرى.

 


 

أحدق من النافذة. ضباب المساء معلق مثل كيس. رجل يمشي على امتداد حافة حقل كبير أثناء مرور قطاري. يرفع يده عاليًا ويلوح بلا هوادة. عندما أصل إلى المحطة أركب سيارتي وأبدأ القيادة. فجأة غمرت الأمطار الغزيرة الزجاج الأمامي. تتوقف فجأة بحيث يبدو كما لو أن المطر لم يلمس الأرض قط.

 


 

اختفى "مكتبي"، وُضع في صندوق بين عشية وضحاها، بالإضافة إلى إزالة نصف المكاتب الأخرى.

لبضعة أسابيع كان كل ما استطعت رؤيته هو الكابلات والهواتف، وبعض الخربشات على السبورة البيضاء. ثم ظهرت طاولة بلياردو في وسط الغرفة، حيث كانت منطقة الاستراحة. اختفى كل ما كنت أعرفه من حولها.

من وقت لآخر، كنت أرى عددًا قليلًا من الأشخاص يعبثون بسطح طاولة البلياردو الملبد، يخدشونه في مواضع عديد بأطراف عصيان البلياردو اللامعة.

إن قلت إنني أفتقده سأكون غير دقيقة. لقد تمزق جزء مني وشعرت ببساطة بالفراغ. في بعض الأحيان يدفعني المشي عبر الفراغ غير المألوف إلى الصراخ. في أحيان أخرى أشعر بالغضب يتصاعد خلال قبضتي.

بمرور الوقت استطعت التعامل مع الخسارة.

مثل اليوم... كانت الشمس قد سطعت بالفعل بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى محطة شارع ليفربول. نحن نبتعد عن الشتاء. المشي ممتع، وأجساد الركاب تمضي إلى الخارج، ودرجة الحرارة ترتفع مع أشعة الشمس الودية. أنظر إلى حركة المرور المقيدة بالإشارة الحمراء وأعبر الطريق بحذر، أطل من خلف الشاحنات بحثًا عن الدراجات النارية المفاجئة. أخطو تحت السقالات وأدور حول المشاة الذين يتنقلون في الاتجاهات الأربعة التي يجبرنا التقاطع على المضي فيها.

أمشي في ممر حائط لندن الطويل، وأرى لافتة بيتزا إكسبريس على الجسر، عندما تنجذب عيناي إلى الأعلى بواسطة ناطحات السحاب المتجمعة حوله، كلها تشير إلى مركز سماء زرقاء شاحبة.

 

نشوى نصر الدين كاتبة ومحررة ومترجمة للأدب العربي، من بين ما ترجمت رواية اشترك في كتابتها تسعة كتاب لاجئين، قصص شاتيلا، وترجمة مشتركة لمذكرات سمر يزبك " العبور: رحلتي إلى قلب سوريا المحطم". نشوى منتجة وثائقية وصحفية سابقة تختص بالشؤون الجارية، وقد كتبت قصصًا من جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. حصلت على ماجستير في الكتابة من كلية فيرمونت للفنون الجميلة، ونُشرت قصائدها في عدد من المجلات الأدبية في المملكة المتحدة وخارجها. بالإضافة إلى ترجمة الشعر وكتابته، تكتب نشوى مقالات ومراجعات للمنشورات الأدبية والثقافية.

9/11قبرص العربيةالدوحةلندنعمال المكاتبتوين تاورزاعمال

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *