حتى العيون الزجاج تندي - قصة قصيرة لسميرة عزام

مهنة تستغل الموتى...

 

سميرة عزام

ترجمت النسخة الإنجليزية عن العربية رانية عبد الرحمن

 

تأخذ مهمته دورتها في ثلاث مراحل.. تبدأ أولاها معي في السادسة صباحًا أو قبلها بقليل وأكون ما أزال مشغولًا بتعليق صحف الصباح على الحامل الخشبي، يأتيني وهو يقضم كعكة حشيت بالكنافة وحبات سكرها المعقود تسيل على ذقنه ويسأل ما الأخبار.. وأصر وأنا أمارس نكتة تبلدت منذ عشر سنوات أن أشير بأصبعي إلى العناوين الحمراء وأقول اقرأ ألا تعرف أن تقرأ ولكن ادفع الربع قبل أن تمس واحدة. فيضحك وتبدو بقايا الكعكة بين أسنانه الصفراء.. ويقول لو قرأت كلمة واحدة خارج العمود فخذ ما تشاء.

إن الأمر حين يصبح عادة يكف عن أن يثير شيئًا، فلا أنا أغضب مثلما كنت أفعل قبل عشر سنوات ولا أنا أتقزز من منظره وقد اكتظ شدقاه، بل أسحب دون أن أسخط كثيرًا الصحيفتين اليوميتين الكبيرتين وأفتحهما وأشير بأصبعي الى الوفيات وأقول اقرأ دون أن تلمس شيئًا بيدك الملوثة.

فلا يضيع لحظة بل يخرج قلمًا مقرطمًا ويسجل أسماء الموتى لا يسقط منها الا أسماء العجائز.

خارج الزمان يتضمن 31 قصة لسميرة عزام نشرتها عرب ليت.

الواقع أنني لا أحب أن تُؤخذ عبارتي الأخيرة دون تفكير. وقد استغرقني الأمر شهورًا قبل أن يخطر لي أن أسأله كيف تستطيع أن تفرز أسماء العجائز فيضحك ضحكته اللزجة ويقول: "ولو يا أستاذ.. كل متممة واجباتها الدينية عجوز بالضرورة.. والناس لا يدفعون شيئًا في مراثي العجائز فما لي ولهن.."

وإذا كانت سطور النعي متوجة بصورة جحظت عيناه وهو يتأملها ثم تعود ابتسامته اللزجة تتمدد على وجهه ويقول: "شباب شباب... القصيدة الدالية ظلت مطوية شهرًا". "هذه صورة تعود عليَّ بعشرين ليرة على الأقل، عشرین أو خمسين إذا نجحت في أن أبكي.. هل تعتقد أن الاسم يركب يا أستاذ، لا بأس أمر نفكر فيه فيما بعد فافتح هذه الصحيفة الثانية".

وأفتحها وينقل، ثم يضع ورقته في جيبه ويقول: "والآن نمضي لنسأل عن العناوين ونراجع القصائد، أربع قصائد واحدة منها تصلح لاثنين.. وعلينا أن ندبر شيئًا لهذا الكهل ذي الاسم العويص، أما الرابع فلدي قصيدة مفصلة على اسمه تفصيلًا".

وينصرف عني وهنا تبدأ المرحلة الثانية وهي عليه أشق المراحل وقد يضطر أن يطوف أربعة أطراف المدينة متوقفًا أمام كل ورقة مجللة بالسواد ملصقة على جدار أو عمود ليقرأ عنوان اسم الميت مفصلًا، فإذا كانت الورقة قديمة انتزعها فلا يشغل نفسه بتفحصها في اليوم التالي.. وكان يرى أن هذه عملية جديرة بأن يكافأ عليها من البلدة فماذا تكون عليه حال الجدران لو تراكمت الورقة على الأخرى؟

وإذ أقول: "تنزعها عن الحائط لتلقيها على الأرض؟"

قال: "استغفر الله، لأسماء الموتى حرمة عندي، أجمعها كومة لألقي بها الى أقرب صندوق، حرام يا أستاذ، لقد أصابنا خير من أكثرهم.. أليس في وجهنا بقية من ماء.."

وأتطلع الى وجهه استقرئ أين يمكن أن تكون هذه البقية، فتضيع نظرتي بين الخطوط التي لا تكاد تتغير إذا ضحك أو بكى... وقد نبتت في ثناياها شعيرات بيضاء لا يحفها تمامًا.. فاللحية المحفوفة ليست قيافة محزون.. وقبعت تحت طربوش منكسر انتزعت أكثر خيوط شرابته. ولكن له مهمة ليست لكل الطرابيش، فتحته تمامًا، وعلى أديم الصلعة المتفصدة بالعرق، كان يضع المرثاة المقصودة فلا تخطئها أصابعه بين أربع أو خمس غيرها خشية أن يخلط بين اسم واسم.. "مرة غلطنا" (حكي لي وأنا أحاول أن أتلقف الكلمات من ثنايا ضحكته اللاهثة) "فرثينا امرأة بقصيدة رجل.. غلطة لا أغفرها لنفسي.. كلفتني طردًا من منزل المرحومة، وخسارتي لجزاء أتوقعه وعشرة قروش بالترام ذهابًا وإيابًا عدا صعودي سلمًا من تسعين درجة. لم ينلني من ذويها الا سيجارة بافرا سقطت من يدي وأنا أسحب نفسي من قبضة الرقيع الذي دفعني.. إن أكل الخبز يكلف الكثير"

الموتى تقطر فضائلهم في ثلاث أو أربع آيات ، لا معنى لواحدة منها ، إلا إذا سرقت من مكان ما.

فأقول شامتًا: "تستاهل وقد اخترته من أحط سبيل"، فيزم ما بين عينيه وأشعر أن غمامة من أسى تبرق خطفًا في عينيه الباهتين ويقول: "كل ميسر لما خلق له".

إذا كان ما زال يطوف فهو حتمًا أمام مسجد أو كنيسة، فمن حجم الاستعدادات يعرف حجم الميت اجتماعيًا ويدرك بفراسة عجيبة ما يمكن أن ينتظره، ثم أعود، وقد غدت شمس النهار سليطة فأراه يجلس على درج عتيق مظلل فينبش من جيوب بذلته السوداء المخضرة أوراق كثيرة، ويحمل قلمه المقرطم يشطب أسماء ويكتب، اسم يحل مكان اسم آخر، موتى من كل الأشكال والأعمار والملل، اختصرت مناقبهم في أربعة أبيات أو خمسة لا يستقيم واحدها إلا إذا كان مسروقًا.. وما هم أن الحزانى لا يفهمون، هكذا يقول، فرؤوسهم بعد يوم مصطخب بالانفعالات تتعطل تمامًا..

والواقع أنني مستطيع من مكاني أن أعرف كيف يتحرك تمامًا في مجالس العزاء دون أن تكون بي حاجة الى رؤيته أكثر من أربع مرات أو خمس، ولعله الممثل الوحيد الذي ظل يلعب دورًا واحدًا طول حياته، وفي أكثر من عرض لليلة الواحدة بدخل استدعاءها بسرعة تأخذ شفته السفلى ترتجف ويبدو أن كل شيء فيه يسارق حركة الارتجاف هذه، كماه وساقاه، بنطاله المتهدل وزر طربوشه المنزلق الى منتصف جبهته، ويتلبث دقائق دون أن يسكن فيه هذا الاهتزاز، ويكون العرق قد انعقد حبات كبيرة فيما تحت الطربوش، فينزعه ويتناول منه ورقة ويتقدم إلى حيث يجلس أصحاب البيت ويروح يقرأ بصوت ممعوس لا نبرة فيه إلا حين يلفظ الاسم، فالمرثية خاصة، خاصة جدًا، فاذا نبا الاسم عن تفصيلاتها فهذا ليس شأنه أبدًا ولكنه يعرف كيف يزج به وينتهي فيمسح عن جبهته العرق ويتقدم خطوتين آخذًا بيديه الاثنتين يد أكثر الأشخاص علاقة بالفقيد، وهنا تكون بضع ورقات قد دست في يده فيغيبها برشاقة يحمل نفسه بعدها الى كرسيه ويسمح لنفسه بسيجارة يتخطفها من أقرب منضدة ويتشمم التبغ من طرفها غير المفلتر محتفظًا بها دون أن يشعلها ليستبدلها في الغد باثنتين وطنيتين اذا كانت أجنبية.

إن من يعتقد أن النقود تأتيه على أهون سبيل يبخس الرجل حقه في أشياء كثيرة، فثمة من لا يحب أن يُستغفل فيكفن ميته بكلام اهترأ لطول ما استحلب. لكن صفاقة صاحبنا كانت سميكة فلا تبلغ معه ضربة اللحم. فمهما جذبه الجالسون من كمه وقد سمعوا القصيدة في عشرين مأتم فهو لا يكف، ومهما حاولوا دفعه إلى الخارج فهو مستطيع أن يدخل ذلك الدخول المسرحي مرة أخرى بعد دقائق، ولذلك كان الدفع ضريبة يوفرون بها على نفوسهم مواقف تنال من حدادهم وكرامة ميتهم. وكان بعضهم يبادره بالنقود قبل أن يتم البيت الأول إلا أنه ما كان يقبل أن يقطع قراءته.. فليست النقود وحدها هي التي تنفخ القوة في ساقين لا يوفرها الروماتيزم شتاء، وكان إذ يكرهونه على ذلك يبكي ويزداد اهتزازًا وأصابعه تتحسس طريقها إلى جيبه.


"حفار القبور" لكريم قطان


لا أريد أن أتهمه بالتقصد فأقول إن موساه وصلت ذقني على عمد.. كنت في المكتبة عاكفًا بملقطي على بعض مجموعات الطوابع أنسقها في مغلفات صغيرة حين رن التلفون ذلك الرنين الذي تتوجس، بهاجس ما، من إسكاته برفع الساعة. أيموت هذا دون كل الناس؟ وكيف؟ نثارًا في الهواء مع بقايا طائرة محترقة؟ أحسست أن أظافري قد انغرزت في لحم راحتي وأنا أدور كدابة الناعورة.. حتى مر بي أخي وجذبني وأغلق المكتبة ملقيًا بالمفاتيح في جيبي.

كنت أحب ابن عمي هذا.. كان عيني في ليل المدينة وبغيره كان التحرك خارج حدود المكتبة يحيلني طفلًا ضالًا في سوق. ودون صحيفة أو ملصقات كان الخبر، وقد عممته الإذاعات، مضغة في أفواه المئات التي تستكين سويعات الى مزاج يتيح لها ممارسة موقف فلسفي شد دبيب أقدامها الى شيء من الدعة الزاهدة. فما داموا ليسوا الضحايا فلا أقل من أن يكونوا الشهود. وقد اكتظ بيت عمي مساء بالوافدين. رأيت وجوهًا لا أذكر أنني رأيتها في مكان. وتكثف الجو بالأنفاس الصفراء وبالمواجع. وكنت أحيط كتف عمي بيدي ليشتد ويصمد لأحزان الرجولة فلا يتهاوى كخرقة متداعية حين رأيت صاحبنا يشق الزحام ويدخل وقد تلبسه ذلك الارتجاج الذي يسري من زر طربوشه الى شفتيه الى كميه فساقي بنطاله كأنه لعبة تتحرك بزنبلك، وجلس على كرسي تنازل له عنها فتى من الأسرة. وقد أخذت خطوط وجهه البلاستيكي أشكالها المأساوية وابتدأ العرق ينعقد حبيبات على جبينه. ومد يده فانتزع طربوشه وتناول الورقة، وكانت يدي قد بدأت تتراخى عن كتف عمي وتنكمش وتشتد.

وتحفزت أريد الوقوف فقد أشعلني هذا الحزن الذي تحول في لحظة الى غضب. وقفت ومشيت خطوة واحدة قبل ان اصطدم بالمنضدة كان هو قد وقف ولعله لم يلحظني قبل الآن اذ توقف الاختلاج في جسمه وتصلبت خطوط وجهه حين أبصرني وحل في عينيه الدبقتين ذلك الوميض الذي يلوح خطفًا وبتؤدة مد يده الى جيبه فأخرج منديلًا جفف به رأسه وثبت فوقه طربوشه، وبشيء من الثبات تقدم فقبلني، وصافح عمي، وخرج..

 

ملاحظة ختامية

 نشرت "حتى العيون الزجاج تندي" في خارج الزمن: القصص القصيرة المجمعة لسميرة عزام (2022). ترجمتها رانية عبد الرحمن، وكانت أول مجموعة من أعمال عزام تظهر باللغة الإنجليزية، وتظهر هنا بترتيب خاص مع ArabLit.

ولدت سميرة عزام (1927-1967) في عكا، فلسطين. كانت مراهقة عندما بدأت قصصها تظهر في مجلة فلسطين، تحت الاسم المستعار فتاة الساحل. بعد الانتهاء من تعليمها الأساسي ، عملت كمعلمة مدرسة في سن 16 ، وعينت فيما بعد مديرة لمدرسة للبنات. في عام 1948 فرت من فلسطين مع عائلتها إلى لبنان، حيث أصبحت صحفية. كان عزام مترجما عربيا مشهورا لكلاسيكيات اللغة الإنجليزية من قبل بيرل باك وسنكلير لويس وسومرست موم وبرنارد شو وجون شتاينبك وإديث وارتون وغيرهم. وكما كتب م. لينكس كويلي من عربليت، "برزت أعمال عزام في عام 1950، في وقت كانت فيه الرواية الفلسطينية لا تزال تركز على القصة القصيرة".

رانية عبد الرحمن مترجمة للأدب العربي إلى الإنجليزية. بعد أن عملت لأكثر من 16 عامًا في صناعة تكنولوجيا المعلومات، غيرت مهنتها لمتابعة شغفها بالكتب، وتشجيع القراءة والترجمة. نشرت ترجمات في مجلة ArabLit Quarterly و The Common، وهي مترجمة "خارج الزمن" وهي مجموعة قصصية للكاتبة الفلسطينية الراحلة سميرة عزام. تترجم حاليا رواية "دمشق: قصة مدينة" لعلاء مرتضى، التي فازت بجائزة اتصالات لأدب الأطفال لعام 2019 في فئة أفضل نص، وتشارك في ترجمة رواية الكاتبة الكويتية الساخرة "حارس سقف العالم" للكاتبة الكويتية بثينة العيسى مع سواد حسين.

الجنازاتنعيفلسطينالكتاب الفلسطينيونقصائدالموتى

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *