"من خشب وهلاوس" - قصة قصيرة لمنصورة عز الدين

3 ديسمبر، 2023،
بعد الحرب، يتحد عدد قليل من الناجين مع العناصر، ويكتب أحدهم آلاف الكلمات يوميًا بلغة مخترعة.

 

منصورة عز الدين

ترجمت النسخة الإنجليزية عن العربية لينا منذر

 

كنت أقطع الأخشاب في الحرش المجاور لكوخي، حين داهمني ذلك الشعور لأول مرة، أو بالأحرى حين وضعتُ إصبعي عليه ورأيته رأي العين، فهو مُعتَّق بداخلي منذ القدم، لكنه تجسَّد لي فقط في تلك اللحظة وأنا محاط بالجذوع والأغصان المقطوعة والأوراق المتساقطة.

شعرت أنني مخلوق من الخشب. تسكنني رائحته. تغمرني وتستحوذ على روحي. تفتنني طزاجتها. أحاط بها فأشعر أنَّي في بيتي، في موطن أول غابت عني ذكراه، وقبعت روائحه وأصواته في أعماقي.

وجدت في هذا تفسيرًا لأفعالي منذ انتقلت من بيتي القديم إلى هذه البقعة النائية، إذ صار قطع الأخشاب عادة يومية. شعيرة لم يفلح شيء في شغلي عنها. بتُّ أقضي معظم وقتي في صنفرة الخشب المجفف وتصميمه على هيئة قطع أثاث وأدوات لا حاجة لي بها. أفضل أوقاتي تكون ويداي على اتصال بالمادة الخام، تمنحانها شكلًا لم تكن لتحظى به من دوني. يسرق هذا الفعل انتباهي ولا يدع لي وقتًا للتفكير في الواقع المحيط بي، حيث لم يعد هناك سوى خواء وفراغ وصمت يتخلله -من وقت لآخر- عواء أو نباح أو ضجة يصعب التأكد من كنهها.

عندما أنتهي، أتجول في المدينة. أمر على البيوت المهجورة للتأكد من أنها على ما يرام. معظمها هجرها أصحابها على عجل دون حتى إغلاق الأبواب. أتفحص تفاصيل كل بيت مغالبًا حساسية صدري من الغبار المتراكم. أفتح النوافذ للتهوية، ثم أغلقها قبل المغادرة. أتأمل فوضى حدائق منزلية في طريقها للتحول إلى أدغال مصغرة، ولا أحاول التدخل للحد منها. معركتي ضد الطبيعة محكومة بالخسارة، لذا أتركها (الطبيعة لا المعركة) تأخذ مجراها. أرعى تغولها وأتجسس عليه من بعيد. لست في مزاج للنضال حتى من أجل الحفاظ على الحيز الذي يشغله جسدي. في مرحلتي الحالية أشعر أنني أوجد فقط دون أن أعيش. أتنفس وآكل وأنام وأصحو كيفما أتفق. وبخلاف جولاتي من أدنى المدينة إلى أقصاها وانهماكي في النجارة لا أفعل شيئًا يعتد به.

لولا الأشجار المثمرة وعيش الغراب النامي بكثافة في الغابة لهلكت أنا ورفيقاي. وحدي أدرك هذا، أما هما فكل منهما يهيم في عالم يخصه وحده. لا يكادان ينتبهان حين أترك لكل منهما الطعام بجواره. لا أعرف إن كانا يأكلانه فعلًا أم لا. أستنتج أنهما يفعلان لسببين الأول بقاؤهما على قيد الحياة، والثاني أني لا أجد له أثرًا لمَّا أعود في اليوم التالي. لو نقرته الطيور لتبعثر بعض الفتات هنا وهناك.

لا أتوقف طويلًا لتدبّر الأمر، بلا تفكير أواصل توفير الطعام والماء لهما، آملًا أن يفيقا يومًا إلى ما كانا عليه في الماضي، وإن كنت أخشى هذه الإفاقة، إذ لن يكون بمقدوري أن أفسر لهما كيف استحال العالم خرابًا على هذا النحو.

أفكر في أن خياراتي الماضية هي ما أوصلني إلى ما أنا عليه: هائم يذرع الشوارع، يغالب ذكريات حاضرة بقوة كأنها لا تزال أحداثًا معيشة، ويشتاق لأخرى اندثرت مخلفة وراءها شعورًا غامرًا بالخسران.

حرقت جسوري كلها، وصممت على عدم مبارحة مكاني هذا أو إحداث أي تغيير فيه. من الجيد الاكتفاء بدور المتفرج الصامت لبعض الوقت. من المثير التقاعد والتصرف كريشة في مهب الريح تاركًا العالم لفوضى لا معنى له دونها.

لم أكن لأسمح لنفسي بالتخلي عن رفيقَيّ، غير أنني أعرف -في أعمق أعماقي- أن الأمر أبعد من هذا. كنت سأبقى أيضًا حتى ولو لم يتبق سواي. يُضمِر قلبي الركام بداخله وتُخبِّئ روحي الخراب في ثناياها، لذا سأرى الدمار منعكسًا أمامي أينما حللتُ.

أتسكع في شوارع ملتوية، وأتأمل أفقًا لا يبوح بشيء وسماءً غائمة على الدوام. لم يعد الدوار يضايقني. تأقلمت معه. كنت أندهش حين يصادفني من ظلوا هنا بعيون زائغة وروح دائخة وجسد لا يقوى على احتمال التأرجح. توقعت رحيلهم مع الوقت، وهو ما حدث فعلًا. اختفوا واحدًا وراء الآخر. خلا المكان إلّا من ثلاثتنا.

أخطو من بقعة لأخرى دون حاجة للتركيز أو حتى للنظر كي أتمكن من الرؤية، فالمدينة موشومة في قلبي، محفورة في تجاويف ذهني وفوق عظامي بشوارعها المتداخلة وميادينها الواهية كبيوت العنكبوت، وبالغابات المحيطة بها كسوار يقيِّد معصمًا. أحرص دومًا على تجنب المرور ببيتي القديم. لم أعد قادرًا على رؤية آثار الرصاص على جدرانه، ولا على النظر للفجوة التي خلفتها قذيفة في البناية المواجهة له. منذ هجرته، لم أقترب منه. لم أفكر حتى في أخذ متعلقاتي معي إلى كوخ قطعت أخشابه بمزاج وبنيته كمن يغزل ثوبًا بخيوط المحبة.

في كوخي، أستهلك أيامي بهدوء لا يعكر صفوه سوى وعييّ بأن هناك من ينتظرني ويعوِّل عليّ حتى ولو في هلاوسه. سئمت من هذا، وأحن لحياة بلا مسئوليات أو متطلبات. يوترني مجرد التفكير في وجود آخرين خارج حدود جسدي. يكفيني من يسكنونني ويتعاركون بداخلي. أتظاهر أحيانًا بأن هذه المدينة لي وحدي. لا أحد فيها، ولم يسكنها أو يقطع طرقاتها يومًا سواي. أنجح مرة في إقناع نفسي بهذا، وتكذبني عيناي وذكرياتي مرات.

أصل إلى أطرافها الشمالية، حيث حقول صبار تحوي صبارات من كل شكل ولون. أراه ممددًا هناك، بين النبتات بيضاوية الشكل، لا يكاد يقوى على رفع رأسه، فأعرف أنه نجح كالعادة في تخدير عقله وأحاسيسه. لا أحاول الاقتراب منه أتركه لخيالاته ومناماته. لست مستعدًا لدفع ثمن إيقاظه وتنبيهه. لا مزاج لي لتحمل سيول من شكوى ونحيب وأسى موجهة للفراغ. شئتُ أم أبيت، لم أعد بالنسبة له سوى فراغ. تصلني من ناحيته جمل غير مترابطة عن نهر يرقد هو في أعماقه، وعن بحيرة من زئبق وواحة تصعب مغادرتها. أنفض كلماته بعيدًا عني، ومع هذا تظل فكرة النهر والبحيرة والواحة مصطخبة في خيالي.

أغادره متوجهًا صوب الجهة الأخرى من المدينة. على أطرافها القصية أيضًا، حيث العزلة وجبل يحجز امتداد الغابات خلفه. حين أقترب أراها متربعة هناك بين الصخور كأنها جزء منها. أتأمل بشرتها فأجد الشمس قد لوحتها وجففتها بحيث صارت مقاربة للون الأحجار المجاورة بالفعل. تنظر إليّ فلا تعرفني.

تشيح بوجهها بعيدًا. أسمعها تترنم بأناشيد خافتة لا أفهم منها شيئًا، غير أن إيقاعها يصيبني برجفة. نظرتها الأسيانة وصوتها المتألم يخبرانني بأنها تغني للانتظار والفقد. على العكس منه، لا تحتاج هي إلى تنويم حواسها أو تخديرها. هلاوسها تكفيها وتُغنيها عن أي محفزات خارجية.

تتوقف عن الغناء، وتبدأ مونولوجًا تقول فيه إن رفيقنا اتحد بالماء وإنها والنار شيء واحد، ثم تتساءل عني أنا، مع أنها غير قادرة على التعرف عليّ وأنا أراقبها. أفهم سؤالها، ولا أكلف نفسي عناء إخبارها بأنني والخشب سواء، لكنني على العكس منهما لن أرتضي مادتي الأرضية، بل سأكون عقلًا خالصًا.

متقمصًا طريقتها في الكلام المطلسم، أقول بصوت أقرب للصراخ: "العقل مادة أتوم الإلهية والضوء المنبعث من شمسه الخفية عن العيون غير الصافية، لذا سأصير عقلًا خالصًا طمعًا في التقرب من أتوم".

يُخيَّل لي أنها انتبهت للحظات قبل أن يرتفع الحاجز الخفي ليفصل بيننا مجددًا. أتأملها بإشفاق، أرى فيها صورتي وأبصر في رفيقنا صورتها. ثلاثتنا انعكاسات متباينة لأصل واحد. ثلاثتنا حلم متشابك في عقل أتوم، فكرة خطرت له. تمامًا كما خطر له هذا الكون المخاتل -في البدء- كماء بلا نهاية متوارٍ خلف طبقات من السديم، قبل أن يؤسسه ويؤثثه على مهل ويحوِّل فوضاه إلى نظام.

الحرب مؤامرة على الصمت. هدفها الأساسي قتله وملء الفراغات بأكبر قدر ممكن من الضجيج، كأنها مصابة بفوبيا الصمت ولا قدرة لها على تحمله.

أو هذا -على الأقل- ما أنصت إليها وهي تردده، فأفقد صلتي بالحاضر وأجدني في قلب عالم بالغ القدم. تقول إنني الحكم بين الفوضى والنظام. الوسيط بين آلهة الخير وآلهة الشر، بحيث لا يتسيد طرف منهما على الآخر.

أخمن أنها تخلط بيني وبين "تحوت"، إله الكتابة والحكمة والسحر في مصر القديمة، وأتأكد من هذا حين توضح فكرتها بأن النظام في حاجة إلى فوضى تسنده وتدل عليه، والخير لا معنى له في غياب الشر. وأنا، وفق مونولوجاتها المستمرة، المكلف بمهمة عسيرة مفادها حفظ التوازن بين المتناقضات.

بطريقة ما لم تبتعد كثيرًا عن الحقيقة وإن خانها التوفيق في تحديد كُنه دوري. كلفتُ نفسي بالفعل بمهمة سئمتُ منها، ولم أعد متحمسًا لمواصلة القيام بها. هنا في هذا المكان الواقع على حافة العالم، أكافح كي أنسى، غير أن ذاكرتي تبقى حيَّة نابضة. أحسد رفيقَيَّ أحيانا: هو على تغييبه المتعمّد لعقله، وهي على هلاوس فطرية تلغي الواقع، وتفصلني عنها، بحيث لا تتعرف عليّ رغم أنني أكاد أكون محور مونولوجاتها حتى وإن ألبستني فيها ثوبًا ليس لي.

توقعت أن تتمحور هلاوسها حول ما جرى قبل دخولها هذه المرحلة، غير أنها لا تذكر شيئًا عن القصف أو القنابل والانفجارات المتتالية. على الأقل لا تفعل هذا خلال الأوقات التي أكون على مقربة منها فيها. لحسن حظها، ليست مسكونة مثلي بأنقاض وصرخات فزع وجثث ملقاة في الشوارع تقتات عليها الجوارح والحيوانات المفترسة، ولا يلاحقها هاجس أن كل حيوان أو طير على هذه الأرض، أليفًا كان أو بريًا، متخم بلحم البشر. هاجس نفرني من اللحوم بأنواعها المختلفة.

حذفت ذاكرتها -على ما يبدو- كل ما يخص الحرب الأخيرة والزلازل التالية عليها. أفكر في ارتطاماتها وانفجاراتها وقرقعاتها، فأصل إلى أن الحرب مؤامرة على الصمت. هدفها الأساسي قتله وملء الفراغات بأكبر قدر ممكن من الضجيج، كأنها مصابة بفوبيا الصمت ولا قدرة لها على تحمله.

ربما لهذا صرت أنحاز له وأغرق نفسي فيه. أستعيض عن النطق بالتدوين. أردت من الكتابة أن تكون تغييبًا للصوت، فإذا بها تضمر الكلام في ثناياها. أصمت حتى أكاد أنسى وقع صوتي وتنحذف نبراته من ذاكرتي. أخط آلاف الكلمات في اليوم بلغة اخترعتها بنفسي، وحروف شكلتها على هواي. وحدي أتقن سبر غورها. أفكر في حفرها على الحجر، أو وشمها على جسدي، ثم أكتفي بتدوينها على أوراق أصنعها من لحاء الأشجار، أي من أناي البعيدة المتوارية عن عينَيّ، لكن المُشكِّلة لجوهري.

يومض في ذهني خاطر أن قارئًا محتملًا لن يسعه قراءة ما أدونه، وربما حتى لن يتمكن من إدراك أنه ينتمي للغة ما وليس شخبطات عشوائية وليدة عقل مرتبك. على عكس المتوقع يريحني هذا الاحتمال. ينعشني ويثلج صدري. ثم أقرر ألّا أترك الأمر في حيز الاحتمال، وأعمد إلى تدمير مدوناتي بنفسي أولًا بأول. لهذا أفضل هشاشة الورق ولحظيته على صلابة الحجر.

ما أكتبه يخيفني لأنه يُثَبِّت كل ما رأيت من أهوال. يحييه ويكرره بلا نهاية فلا يمَّحِي من ذاكرتي. قد يكون ما يروعني أني حين أكتب ما شهدت عليه أستشعر جمالًا خفيًا كامنًا فيه. تخونني اللغة، تسحبني إلى جمالياتها. أقرأ فأجد الخرائب جذابة، والموت اليومي مصاغًا بدقة بارعة تنقيه وتعزل الوجع بعيدًا، تطرده من المشهد ولو مؤقتًا.

كان من المفترض بي أن أوثِّق كل ما أقابله، أن أسجل حتى أبسط الأحداث، وأصف أدق التغيرات التي قد لا يلحظها سواي. غير أنني تمهلت. عشته أولًا حتى الثمالة. رأيت المكان يستحيل ركامًا، والناجين من آهليه يفرون تباعًا. في البداية لم يبق هنا سوى قلة تجوب الشوارع بلا هدف. اعتاد رفيقاي الانشغال عنهم ولم أكن أنا أتذكرهم إلّا إذا لمحت أحدهم يسير مغالبًا دوارًا ينتقل إليّ بالإيحاء. ثم رحل الجميع ما عدانا. بطريقة أو بأخرى اختفى الآخرون كأنما لم يوجدوا قط. أتذكر الشوارع الخاوية، والبيوت المهدمة وآثار الحريق على المباني العامة. في الأيام الأولى كان المشهد صاعقًا ثم بدأت أعتاد عليه بحيث تكاد الحياة السابقة عليه تخبو من ذاكرتي، وكلما انطفأتْ، ازدهر الخراب بداخلي.

كتبت ولا أزال أكتب بإحساس الشاهد الأخير. مَن لولاه سيندثر كل شيء ويبتلعه العدم. أحكي سيرة مكان استحال أطلالًا، وصمت يعشش في الكون بأسره، وبشر لم يتبق منهم في هذه المدينة سوى ثلاثة: شخص غارق في ذكرياته وآخر يخدِّر عقله وحواسه بلا انقطاع، وثالثة جذبتها هلاوسها ونوبات جنونها نحو عالم من الصعب تلمس ملامحه.

أفكر في هذا، وأطمئن إليه، ثم أعود للشك في كل شيء. من أدراني أن ما أراه وأؤمن به هو الصواب؟ كيف أعرف أن رؤيتي للواقع هي الأقرب لحقيقته وجوهره إن كانت له حقيقة أو جوهر؟ يؤلمني أن لا سبيل للتيقن من شيء. لا أفضلية لنسختي عن العالم على نسخة كل منهما عنه. كأننا ثلاثة عوالم متوازية في مكان واحد، ثلاثة أشخاص كل منهم حبيس عقله وهواجسه وخيالاته.

 

منصورة عز الدين منصورة عز الدين (خيال؛ واقعي، محرر; مصر)، الذي رشحته بيروت39 من بين أفضل 39 كاتبا باللغة العربية تحت سن 40 عاما، حائز على جوائز ومؤلف مترجم على نطاق واسع ل 10 كتب. - خطوات في شنغهاي [المشي في شنغهاي: حول معنى المسافة بين مصر والصين] فاز بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات لعام 2021 ؛ في عام 2014، رشحها معرض الشارقة الدولي للكتاب لجائزة "جبل الزمرد" كأفضل رواية عربية. ظهرت كتاباتها ، من بين أماكن أخرى ، في نيويورك تايمز ، مساحة عامة ، نويه تسورشر تسايتونج وجرانتا. وهي مديرة تحرير الصحيفة الثقافية الأسبوعية أخبار الأدب، ومنذ عام 2003، محررة مراجعة الكتب.

لينا منذر كاتبة ومترجمة لبنانية. كانت مساهمة منتظمة في نيويورك تايمز ونُشرت أعمالها في  Paris Review و Freeman's و Washington Post و The Baffler ، وكذلك في مختارات Tales of Two Planets (Penguin 2020) ، وأفضل المقالات الأمريكية 2022 (Harper Collins 2022). وهي محررة أولى في مجلة المركز.

بعد الحربكارثة المناخنهاية العالمالصمتالكتابة

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *