هدى فخر الدين وقت قصير تحت شمس مختلفة

3 ديسمبر، 2023،
مقتطف حصري من "زمن قصير تحت شمس ثانية "، لهدى فخر الدين، من إصدارات دار النهضة، بيروت العام 2019.

 

ستمرُّ هذه الحرب كغيرها ونظلُّ في انتظار حرب قادمة. لا بد أن الحرب قد امتلكتنا بعد كل هذه السنوات، ننشغل بها عن كل شيء، نترقبها وكأنا نشتاق أحياناً لأمن تجلبه معها حين تسقط علينا أخيراً. تريحنا من خوف الانتظار.

 

هدى فخر الدين

ترجمت النسخة الإنجليزية عن العربية رنا عصفور

 

ليس أثقلَ من اليوميات. ليس أخفَّ من الأيام.

هباء سرعان ما يضيع كالضوع، كالبوح، كالتماعة في بئر.  

ليس أخفَّ من الأيام، فكيف لها أن تترك كل هذا الثقل الذي يسكن الزاوية نفسها، يتكدس غباراً وأصداء، صوراً وخيالات. الأيام هباء يعود ليتماسك، ليجمع نفسه في البال، فيتشكل ويجلس ثقيلاً متوثباً، صامتاً متكلماً كالحجر.

هنا الآن. خلف زجاج يمسك المدينة عني، يمسكها صامتة ملمومة في إطار. أشعر باقتراب نهاية ما. والنهايات كثيرة. هذه واحدة. وهذه أخرى. فكيف أُعِدُّ لها جميعها؟ كيف أرتب لها بدايات مؤاتية؟

ورَكْبُ النهايات هذا الذي يتصل ويمتد، لماذا أستعيده؟ أشعر باقتراب نهاية ما، ولا أعرف إذا كان هذا شعوراً بالرضى أو بالحزن. لا بأس. فكلاهما وجهٌ من وجوه الخسارة.


وصول

1.

المكان صغيرٌ ولكنه أليفٌ جداً، وكأنني قد كنت هنا من قبل. هذا ما جعلني أشعر بحاجة ماسة للكتابة. عندما كنت في أولى سِنِيِّ الدراسة الثانوية عوَّدت نفسي على كتابة اليوميات. وقد ثابرت على هذا بضع سنين. ولكن عندما راحت تقع أحداث حقيقية في أيامي تستحق التدوين، انشغلت بها عن الكتابة عنها، وصار لدي شعور دائم بالتقصير.

وها أنا الآن على الأرض، في شقتي العارية في الشارع الثاني من مدينة بلومنغتون Bloomington ، أحاول أن أفيَ بشيء مما وعدت نفسي به قبل سنين. وهذه ليست أولى محاولاتي. حاولت أن أبدأ بكتابة هذا النص قبل الآن. حاولت أن أكتب بالإنكليزية. لم أفشل ولكني خجلت. سمعت صوت أبي... فخجلت.

2.

يوم آخر. الطقس غريب عني في هذه البلاد. تتغير الأحوال دون أن يكون لي أي دخل فيها، وقد كانت تشرق شمس بيروت وتغيب حين أومئ لها. المطر سخيف في هذ البلاد، يهطل بلا هدف. هنا، لا أحد ينتبه لألوان الغيم ولا أحد يستمع إلى كلام المطر.

3.

يوم آخر في إنديانا. الشمس لا تشرق في هذه البلاد. أستيقظ في الصباح، أجدها هناك حاضرة ليوم عمل جديد. حاولت أن أستيقظ باكراً لأراقبَ الشروق، لكني لم أنجح بعد. في كل مرة يطلع الصباح فجأةً. الليل والنهار لا يتحادثان هنا. وقد بدأت أشك في أنهما لم يتعارفا بعد. لذلك... الشمس لا تشرق في هذه البلاد.

4.

كان يجب أن أذهب إلى الجامعة لحضور بعض المحاضرات الضرورية، بحسب ما قالته الموظفة التي قابلتها لدى وصولي من لبنان. وقد قضيت جزءاً كبيراً من الليلة الفائتة أستعيد الطرقات التي لم أنجح في مصادقتها أمس. فقد أضعت طريقي أكثر من مرة في حرم الجامعة الذي يمتد على مساحات كبيرة.

حرم الجامعة شاسع جدا ونحن – الطلاب من العالم – أتينا جميعاً سعياً وراء العلم أو ما شابهه. جئنا من كل أصقاع الأرض لكي نوضع في خانة ال international students . عبرنا المحيط لنستمع إلى هذه السيدة الشقراء تحاضر فينا عن كيفية الحفاظ على شرعية وجودنا في الولايات المتحدة الأميركية. تقف على حافة المنصة في مركز القاعة وكأنها تريد أن تحافظ على شيء من القرب منا، نحن الطلاب الذين جئنا من أطراف العالم. لا تريد أن تقف في مكانها وسط القاعة. وكأنها تتنازل قليلاً لتشعر أبناء الهوامش والأطراف بشيء من الود. كان شعرها الأشقر الطويل مجدولاً في ضفيرة تمتد على ظهرها. وقد أسدلت بضع خصلات قصيرة على جبينها، كانت تبعدها عن عينيها بين الحين والآخر بحركة سريعة، وهي تخبرنا عن مدى التقدير الذي تكنّه هي وتكنّه كل أميركي لثقافاتنا المتعددة، وتشرح لنا عميق احترامها للغاتنا وعاداتنا وهوياتنا، حتى أننا صرنا ننظر إلى بعضنا، أنا اللبنانية والكوري الجالس إلى جانبي، بشيء من الخجل من كل هذا الاحترام والتقدير.

أكملت السيدة أن الولايات المتحدة ترحب بنا كلنا، وبقدراتنا وأفكارنا وأحلامنا، على ألا ننسى تجديد أوراقنا في المكتب المناسب، حيث سيكون الجميع سعيداً جداً بمد يد العون، وإلا اضطرت المؤسسة المقدِّرة والأمة المحترِمة والمكتب السعيد إلى منعنا من العودة إلى البلد الرحب هذا.

5.

خرجت من القاعة ومشيت مع مجموعة من الطلاب الغرباء مثلي، خلف رجل يرتدي قميصاً أحمر، يشرح لنا كيفية التنقل في حرم الجامعة، ويدلنا على الأبنية الكثيرة من حولنا. لا أدري لماذا شعرت برابط قوي يشدني إلى تلك المجموعة، وبشيء من الشفقة عليهم وعلى نفسي. لا أعتقد بأن أحداً كان يستمع إلى صاحب القميص الأحمر، رغم كل محاولاته في أن يكون مصدر عون وإرشاد لهذه الفرقة من الأجانب. أشعرتني الخرائط والإشارات بوحشة كبيرة. كيف لي أن أمشي في متاهات هذه البلاد وأنا التي جئت من بلدٍ صادقتُ فيه الجهات. ففي لبنان تأتي الأمكنة إليك وتذهب معك وليست الجهات إلا تحيات.

الشاب إلى جانبي مدَّ يده وقال شيئاً لم أفهمه. صافحته واعتذرت لأني لم أسمعه جيداً، فأعاد ما قاله. ولكني لم أفهم أيضاً. فقال: هذا اسمي أنا من قرغيزستان وأنتِ؟ لم يستطع لفظ اسمي، ولكنه عرف لبنان، وقال إنه سمع أن بيروت مدينة جميلة. وسعد كثيراً عندما علم أني أدْرس في فرع لغات وآداب الشرق الأوسط، لأنه هو كذلك يدرس ثقافات آسيا الوسطى . نعم أنا العربية جئت إلى أميركا لأدرس الأدب واللغة العربيين، وزميلي القرغيزستاني يبحث عن قرغيزستان في أروقة الأبنية الضخمة التي ما زال يضيع فيها. قال إنه فقد إحساسه بالجهات، أضاع الجنوب والشرق والشمال والغرب، وقرر أن يتبع الإشارات لأنه ما عاد يثق بإحساسه. سألني إذا كان لدي خريطة، فالخريطة ضرورية جداً ليعرف أحدنا مكانه. الأمر في الواقع سهل جداً، ما على المرء إلا أن يتبع الإشارات.

6.

أصبح لدي ملح وسكر. نعم. وعاءان صغيران من الورق المقوى يحتويان على ملح وسكر. ليسا أيَّ ملح وأيَّ سكر بل ملحي وسكري أنا. ذهبت اليوم إلى أحد المتاجر الضخمة في الجانب الآخر من المدينة، لأشتري بعض الأشياء الضرورية للبيت، خاصة أني وصلت من لبنان منذ يومين، وعلي أن أجهز بيتاً وأجعله بيتي. ولهذا ح تّرض قائمة بالأشياء اللازمة. ولكن عندما وصلت إلى المتجر ورحت أدور حول نفسي في متاهاته التي لا تنتهي، شعرت بما يشبه الحزن العميق. كنت كمن أضاع الطريق في غابة من الصحون والمعلبات والأدوات الكهربائية واللحوم والوجوه الغريبة والكلمات الملونة والملح والسكر... الكثير الكثير من الملح والسكر. وجدت نفسي أخيراً في رواق طويل بين رفوف كثيرة عليها ملح وسكر. لماذا كل هذا الملح والسكر؟ انتقيت علبتين ووضعتهما في سلتي وقلت في نفسي: هاتان سترافقانني إلى بيتي. هذا هو ملح أيامي القادمة وسكرها. سأشتري هاتين العلبتين لأغرف منهما قليلاً من الملح أو السكر، يوماً بعد يوم، بعد يوم. شعرت بالزمن ثقيلاً وكثيراً، وبخطواتي صغيرة صغيرة. لقد عبرت نحو عمر جديد في الرواق بين رفوف الملح والسكر. عبرت إلى حيث سأصبح وحدي، أنا وبيتي ووقتي، وسيصبح علي أن أنتبه متى ينفد الملح والسكر.


صيف أول - حرب

للصيف أحزانٌ خفيّة، تلوح من خلف زرقة ومدى أصفر. للصيف توقٌ غريبٌ يحط أول الليل، حين تنفتح السماء وتضيع الجهات. للصيف عبقٌ أليفٌ ينتشر في اختلاجات المساء، حين تدلهمُّ الأشجار وتقترب التلال.

1.

غدا سأعود بعد سنة تقريباً. أفارق هذا المكان بشيء من الندم، وكأني أترك ورائي أموراً معلّقةً كثيرة.
تحيرني هذه العودة. لا أعرف كيف أحضر نفسي لها. أأتخير شيئاً مناسباً أرتديه؟ أأقرر ما يجب أن يعتريني من مخاوف ومن آمال، وأتركها حاضرة في حقيبة يدي. أأزود نفسي بشيء من الفرح أم القلق؟ كيف أعود إلى مكان لم يفارقني أبداً؟
فأجدني أخشى عليه من العودة إليه.

2.

عندما حطت الطائرة في بيروت... استعددت لأكتب يوميات العطلة الصيفية. كنت أخال أنها ستكون عن البحر والمقاهي والكتب والسهرات...، ولكن صيف 2006 كان صيفاً قررت فيه الحرب أن تتنزه مرة أخرى في بيروت.

3.

يوم آخر تحت الحصار. افتقدنا هذا الصباحَ دويَّ القذائف، أصبحنا ننتظر أن يخترق الصمت انفجارٌ يؤنسنا ويحدد لنا الجهات، خاصة بعدما سمعنا في نشرات الأخبار أن العدو بدأ باستخدام نوع متطور من القذائف التي لا تحدث دويّاً عالياً.
ضاعت الجهات الآن، حتى الصمت بات عدوّاً قادراً على الغدر في كل اللحظات.

4.

البيت يعجّ بالآراء والتنهدات والنظرات المترقبة. جدّي جالس في الكرسي نفسه منذ ثلاثة أيام. في يده جهاز الراديو وعيناه زائغتان. كم مرت عليه حروب، كم خفق قلبه هلعاً من قبل. بات يأنس لوشوشة الراديو، ذلك الصديق الذي رافقه في كل معاركه. وهو الخبير بالتحركات الإسرائيلية. فقد عاش سنوات يترقبها في قريته الجنوبية. أعاد بناء بيته عشرات المرات. كل مرة كانت تحترق فيها العريشة أمام البيت، كان يزرعها من جديد. بُعثت عريشة جدّي عشرات المرات. باتت تدرك أن تعاقب الحياة والموت شمسٌ تشرق وليلٌ يعود.

5.

احترقت منارة بيروت ليلة أمس.
عندما كنا صغاراً، أنا وأخي علي، كان أبي يأخذنا إلى الكورنيش لنراقب ضوء المنارة وهو يدور ويدور. احترقت المنارة كلها أمس، واشتعل ليل بيروت.

6.

في حديقة جدّي لوزة عتيقة. أذكر كيف كانت تقف هناك في الزاوية وكأنها تتكئ على الحائط الحجري. ساهمة دائماً، كانت اللوزة تحدّق في البعيد، تترقب شيئاً ما آتياً من خلف التلال. في كل هجوم كان يحترق جزء منها حتى أنها أصبحت أقصر وأكثر صلابة مما يمكن للوز أن يكون. وفي كل هجوم حين تنحني شجرات الرمان وتطبق أغصانها الكثيفة، تبقى اللوزة ساهمة ترنو إلى البعيد، تحدّق من خلف الحائط، تراقب الدخان الأسود الذي يتصاعد من وراء التلال.

جدّي الآن جالس في الكرسي نفسه، لعله يفكر في اللوزة، وفي البركة التي بناها في الفناء بنفسه منذ أكثر من ثلاثين عاماً. جالس في شقة من شقق بيروت يسمع القصف يدوّي في أطرافها، يترقب وينتظر. لعلّه يتساءل ما إذا كان اللوز يخاف والسرو يرتجف والزيتون يطرق باكياً.

7.

تجلس جدّتي على الأريكة قبالةَ التلفزيون. تمدّ رجْلها اليسرى على الطاولة الصغيرة أمامها. فركْبتها هذه تؤلمها حين تضطرُّ إلى الجلوس طويلاً، حين يطول بها الوقت في بيروت، فلا تقدر أن تتمشى مع رفيقاتها على درب العين، يتفقدن كروم الزيتون من بعيد، ويخططن لنزهات في الدروب الترابية التي شهدت صباهن.

تؤلمها ركْبتها فتمدّ رجْلها وتحاول أن تتتبع الأخبار العاجلة في أسفل الشاشة. كلما أوشكت على الانتهاء من قراءة الخبر أتى خبرٌ آخر. كلّها عاجلة. «لا حول ولا قوة إلا بالله، كيف انتهى الأمر بنا هكذا؟ « تسأل جدّي وهي تشير إلى صور الدمار التي تبثّ لها مباشرة على الهواء. فيشير لها بيده من الزاوية أن اسمعي، فهناك خبر عاجل جديد وصل للتوّ إلى غرفة التحرير في إذاعة الراديو. فتسكت وتنصت. ينصتان معاً ويخافان أن يفوتهما شيء من الأخبار التي تعيد نفسها ولا تقول شيئاً، يخشيان السهْو عن تفصيل صغير، فتفلت الحرب من بين أيديهما.

8.

في مطار فيينا أنتظر طائرة تطير بي عبر الزمن. عدت هذا الصيف إلى لبنان، وكانت الأمكنة التي كنت أتطلع لرؤيتها قد جاءت معي. كانت معي فلم أجدْها.

للصيف أحزانٌ خفيّة. يأتي وكأنه يخفي شيئاً. فاجأنا الصيف هذه السنة، خبأ أوهامه الخجولة وشغلَنا برعب توقعناه.

ستمرُّ هذه الحرب كغيرها ونظلُّ في انتظار حرب قادمة. لا بد أن الحرب قد امتلكتنا بعد كل هذه السنوات، ننشغل بها عن كل شيء، نترقبها وكأنا نشتاق أحياناً لأمن تجلبه معها حين تسقط علينا أخيراً. تريحنا من خوف الانتظار.

هو الانتظار، زمن صغير، يضيق ويضيق.


صيف ثانٍ - موت

1.

كنت على موعد مع الموت ذلك الصيف.
في الطائرة لم أستطع أن أفكر إلا في أن ملابسي قد لا تكون مناسبة. لم أشعر بالحزن. لم أكن مضطربة. أذكر أني نظرت من الشباك المدوّر طويلاً وفكرت في ما كنت أرتديه كثيراً. لم أعرف كيف أتحضر لفقد عظيم لم يحدث بعد.

سحب شفيفة عبرت يائسة أمامي في ذلك العلو حيث تغيب الجهات. مضت الرحلة وأنا غافلة عن المسافات الشاسعة والمحيط الداكن والساعات التي تراكمت. انشغلت بتأمل زوايا المقعد أمامي، شقوقِ دقيقة في الطاولة الصغيرة التي تسقط منه، قطرةِ ماء ظلت تتردد في زحفها على صفحة النافذة. حطت الطائرة فجأة. تراجعت السماء مترقبة إلى عمق لها خفي. فجدي ما كان قد مات بعد.

2.

حين دخلت الغرفة ما كان جدي قد مات بعد. كان هناك ممددا على السرير، هو الطويل وقد قصر قليلا، هو الكبير وقد صغر قليلا. وعيناه الضاحكتان حائرتان.

حين دخلت الغرفة، انتبه إليّ وما كان قد مات بعد. انتبه إليّ، فارتفعت سماء صغيرة فوقنا. أمسكت بيده وجلست في فيئه الرحب. سألني بعض الأسئلة التي وعدت نفسي ألا أنساها أبدا، أسئلة مرحة غير مترابطة، أسئلة اعتدنا عليها أنا وهو، ونحن الصديقان، لنا لغة وطقوس كلام.

سألني ممازحا مستخفا بموت عرفه متربصا في زاوية الغرفة:
كيف أنت؟ جيد أنك وصلت. أترين كم أضجرني الآخرون؟ والشعر والكتابة والرسالة، هل انتهيت منها كلها؟
وأبو تمام، صاحبك، هل أتعبك؟
هيا بنا من هنا.
ألم يضجرك الآخرون؟

3.

أظلمت النافذة وغادر العائدون.

اعتذر مني ليغفوَ قليلا. تركني وحدي في الغرفة وأغمض عينيه واعدا بأن يعود بعد قليل. جلست في الكرسي بجانبه أراقب يده النائمة تتململ وكأنها تهم بإمساك شيء ثم تيأس.

4.

خلف الزجاج في غرفة العناية المركزة، رأيت يديْ جدي تستسلمان. في غرفة زجاجية مكتظة بالممرضات، أسلم جدي هباء كان قد تشبث به ثمانين عاما. بدا راضيا مصغيا إلى نداء خفي لم يسمعه سواه في هرج غرفة دخلها الموت.

5.

وضعنا جدي في صندوق السيارة وسافرنا به جنوبا. وهو الذي تعود أن يقودنا جميعا، الأبناء والأحفاد. هو الذي يرعانا ويوجهنا، يجمعنا ويعلمنا، يعنّفنا ويضحكنا. هو الذي أطلقنا في هذا الملأ الممسوس وسدد خطانا ببعض من خوفه وبعض من أمانيه النبيلة.
في الليلة التي مات فيها، نام جدي في سريره في بيته في قريته الجنوبية. تجمّعنا كلنا حوله كعادتنا. في صمته، لم يتكلم أحد سواه. ليس صوت أعلى من صوت جدي وليس صمت أشد وقعا من صمته.

في الليلة التي توفي فيها جدي ، نام في سريره ، في المنزل ، في قريته الجنوبية. اجتمعنا جميعا حوله كما نفعل عادة. وعلى الرغم من صمته، بدا أنه الوحيد الذي يتحدث. لم يكن هناك صوت أعلى من صوت جدي ، ولم يكن هناك صمت أكثر تحطيما.

 

هدى فخرالدين كاتبة ومترجمة وأستاذة مشاركة للأدب العربي في جامعة بنسلفانيا. وهي مؤلفة كتاب Metapoesis in the Arabic Tradition (Brill, 2015) وThe Arabic Prose Poem: Poetic Theory and Practice (Edinburgh University Press, 2021)، والمحررة المشاركة لكتاب The Routledge Handbook of Arabic Poetry (Routledge, 2023). شاركت في ترجمة Lighthouse for the Drowning (BOA editions, 2017), The Sky That Denied Me: Selections from Jawdat Fakhreddine (University of Texas Press, 2020), Come, Take a Gentle Stab: Selections from Salim Barakat (Seagull Books, 2021).  وهي أيضًا محررة مشاركة في Middle Eastern Literatures ومحررة في Library of Arabic Literature. صدر كتابها الإبداعي غير الروائي بعنوان "زمن صغير تحت شمس ثانية" عن دار النهضة، بيروت في العام 2019.

 

رنا عصفور هي مديرة تحرير مجلة "المركز"، وكاتبة مستقلة وناقدة كتب ومترجمة. ظهرت أعمالها في منشورات مثل مجلة مدام وصحيفة الجارديان في المملكة المتحدة وذا ناشيونال / الإمارات العربية المتحدة. وهي تترأس مجموعة الكتب باللغة الإنجليزية في مجلة المركز، التي تجتمع عبر الإنترنت في يوم الأحد الأخير من كل شهر. إنها تغرد @bookfabulous.

الكاتبات العربيات بيروتحياة وموت

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *