أيام البرتقال - الثورة الليبية

3 ديسمبر، 2023

يمكن وصف تجربة الشباب الذين عاشوا في عالم عربي يمر بمناخ سياسي شديد التقلب بأنها نوع من الضرر. نحن جيل يستيقظ كل يوم للتحرك عبر بلد - مهما كان ذلك البلد - ندرك أنه أصبح أكثر ضيقًا.

 

 

ياسمين عبيدة

 

 

1

كنت طفلة ألعب في فناء المدرسة عندما سمعت عنها لأول مرة. لم يكن أحد منا نحن الأطفال يعرف الكثير عن الاحتجاجات أو الثورات، باستثناء الثورتين المصرية والتونسية التي يتم بثها عبر التلفزيون في غرف المعيشة، وفصل المنهج الفرنسي عن الثورة فيفرنسا. قادتني فكرة المقصلة والشوارع المليئة بالدماء والبنادق إلى شعور أولي بالخوف الذي شلني. لكنني كنت أمر بسلسلة انتصارات، وكان عليَّ الوصول إلى منطقتي الآمنة، قبل أن أتمكن حتى من التفكير مرة أخرى في الشائعات التي شاركها أعز أصدقائي معي. شعرت أن فناء المدرسة واسع بشكل لا يصدق في تلك الأيام، وعندما ركضت عبره كنت واثقة من أنني كنت واحدة من أسرع الراكضين في صفي. شعرت أن الحياة وفيرة ومتسامحة وفي نفس الوقت بعيدة المنال، غير قادرة على اللحاق بي. لكن هذه السرعة، وهذا الشعور الشبابي بالحركة، هو شعور لم أشعر به منذ ذلك اليوم في منتصف فبراير 2011. خرجت من بوابات المدرسة الحديدية بعد ظهر ذلك اليوم، وركبت وأختى الكبرى مع سائقنا. فكرت أكثر في الشائعات في طريق عودتنا إلى المنزل. بينما كنت أتابع مرورنا بجميع الفيلات الملونة في طرابلس، سألت أنا وأمينة سائقنا عما إذا كانت الشائعات صحيحة. بعد كل شيء، كان لا يزال بإمكاني سماع صوت أختي يتردد في جميع أنحاء المنزل، وهي تقول "بن علي هرب"، قبل شهرين فقط، كرد فعل على فرار رئيس بلدنا السابق إلى المملكة العربية السعودية. أجاب بثقة: "لا توجد طريقة لحدوث ذلك هنا. الناس سعداء للغاية". نظرنا إلى مقعده، وعندما فتح هاتفه الضخم من نوع نوكيا، لاحظنا أن شاشة القفل الخاصة به كانت صورة للقذافي. نظرت أنا وأمينة إلى بعضنا البعض ولم نقل أي شيء آخر حتى وصلنا إلى المنزل، بينما انشغل سائقنا بشريط أغاني ليدي جاجا ومادونا.

 

2

جلسنا في صمت إلى طاولة الطعام حتى انضم إلينا والدي وأخبرنا أن علينا حزم حقائبنا، حيث قد يتم إجلاؤنا إلى تونس. في صوته كانت نبرة الإلحاح التي لم أكن قد سمعتها من قبل. بحلول هذا الوقت، كانت الاحتجاجات قد بدأت في بنغازي، وكان من المرجح أن تنتقل إلى الشرق. كانت هناك شائعات بأن المدرسة الفرنسية ستلغي الفصول الدراسية في الأسبوع التالي لأسباب أمنية، وكنا نخطط بالفعل للذهاب إلى تونس لزيارة عائلتنا وقضاء عطلة منتصف الفصل الدراسي. دخلت غرفتي، وفتحت خزانة ملابسي، وبدأت في أخراج بعض ملابسي الشتوية المفضلة لأضعها في حقيبتي. حرصت على وضع سترتي الأرجوانية المفضلة. جاءت سميرة، مربية أشقائي الصغار، وجلست بجانبي. كانت حاملًا في الشهر الثامن، ومنحتني ابتسامة خفيفة وهي تخلل شعري بأصابعها. كانت سميرة من السودان، كانت تحاول الوصول إلى أوروبا مع زوجها ربما منذ أكثر من خمس سنوات، وانتهى بها الأمر عالقة في طرابلس. كانت قد عملت معنا لمدة عامين على الأقل في تلك المرحلة، وأتذكر أنه خلال وقت لعب أشقائي الصغار، كنت أنا وسميرة نجلس إلى جانب بعضنا البعض، وكانت تخبرني أحيانًا عن سوء المعاملة التي تعرضت لها خلال السنوات القليلة الأولى التي عاشتها في طرابلس، قبل مقابلة عائلتي. العائلات الأولى التي وظفتها لم تدفع لها حتى، بل وفرت لها الطعام والسكن فقط. انتهى الأمر بسميرة بالولادة في المنزل الذي عشنا فيه بعد أسابيع قليلة من مغادرتنا. سمت ابنتها خديجة، على اسم أختي، التي أحبتها كما لو كانت ابنتها.

بعد ظهر ذلك اليوم، حزمت أمتعتي لقضاء عطلة لمدة أسبوعين. وقد امتدت منذ ذلك الحين إلى انفصال دام 12 عامًا. في الأشهر التالية، وبمساعدة سائقنا السابق الذي استأجر شاحنة، تمكنا من استعادة معظم أغراضنا من منزلنا في ليبيا، ونقلها إلى تونس. وصل معظم أثاثنا وملابسنا إلى منزلنا في نابل، لكن بعض الأشياء لم نستعدها قط. الأشياء التي اختفت في ظروف غامضة كانت سجلات التطعيم الخاسة بنا، وملابس أمينة المفضلة، ومشاريع الكولاج الغريبة التي صنعتها في أوقات فراغي، وبعض الأشياء التذكارية الأخرى.

 

3

وقفنا عند البوابة في مطار طرابلس، في انتظار الصعود إلى متن طائرتنا المتجهة إلى تونس. لا أستطيع أن أتذكر الكثير من تفاصيل المطار، إلا أنه كان ذو لون أخضر بشع. عادة، عند السفر إلى تونس، نسافر عبر الحدود، نمر على مدن مختلفة لزيارة الأقارب قبل الوصول إلى مسقط رأسنا نابل، لكن هذه المرة، سافرنا بالطائرة إلى هناك. تركت أنا وأمي وإخوتي الثلاثة والدي، الذي رأى مديره في العمل أنه من الملح إجلاء العائلات أولًا، ثم يتصرف الباقي بأي شكل. وهكذا لم يصعد والدي على متن الطائرة معنا. ابتسمت للمضيفة الجوية، ووجدت مقعدي وجلست. جلست عائلتي في الصف الخلفي. انتقلنا أولًا إلى طرابلس نتيجة لعمل لانتقال عمل والدي إلى هناك في العام 2007، وبينما كنا نعلم أننا سننتقل في النهاية إلى خارج البلاد، أننا سننتقل إلى مكان آخر، بدأت في تنمية ارتباطي بالحياة والصداقات التي أسستها في المدينة. على متن الطائرة المتجهة إلى تونس العاصمة، نظرت من النافذة، إلى الأسفل، إلى المكان الذي بدأت أسميه الوطن، حيث عشت أنا وعائلتي على مدى السنوات الأربع الماضية. ابتعدت طرابلس بسرعة عن نظري، وكذلك مضت الرحلة التي استغرقت ساعة واحدة. كل ذلك كان عابرًا. لكنني أتذكر بعض الأشياء بوضوح: صرخات الطفل الجالس في حضن المرأة المجاورة لي. سلسلة المفاتيح الوردية المكشكشة التي كنت ألعب بها. لقد فقدت سلسلة المفاتيح هذه بعد وقت قصير من وصولي إلى تونس.

منذ أن غادرنا حاولت العودة إلى ليبيا، ولو حتى بمحاولة ملء الثغرات الموجودة في ذاكرتي. لا بد أن غصة كانت تتشكل في حلقي، وتتخذ حجمًا أكبر بمرور الأشهر في تونس، ثم اختفت بعد مرور سنين عديدة على يوم رحيلنا. لا أستطيع تحديد اللحظة التي حدث فيها ذلك بالضبط، لكن سرعان ما جرفني شعور لا يمكن إصلاحه بأنه لن يكون هناك شيء على الإطلاق. العالم كما عرفته كان ينتهي، لكنني كنت لا أزال جزءًا متحركًا من عالم لا يتوقف أبدًا. لم نكن نعرف هذا في ذلك الوقت، لكننا كنا على حافة التاريخ. الآن نسمي جزءًا من هذا التاريخ ذكرى بعيدة.

 

4

احتفلنا بعيد ميلادي الحادي عشر في غرفة معيشة جدي في نابل. كنت قد أمضيت الأسابيع القليلة الماضية أتوسل إلى والدي ليسمح لي بإقامة حفلة عيد ميلاد مع جميع أصدقائي من المدرسة ، فقط لينتهي بي الأمر بالاحتفال بها بعيدا عنهم. أمضت والدتي اليوم بأكمله في الصراخ على الهاتف، تتجادل مع مشغلي خدمة عملاء شركات الطيران، لأن والدي كان عالقا في طرابلس، مع خدمات اتصالات متقطعة للغاية. في ذلك اليوم لم يكن هناك كعك ولا قصاصات ورق ملونة ولا احتفال، لأن الشغل الشاغل كان ضمان مغادرة والدي طرابلس وعودته إلى المنزل. إذا كانت ذاكرتي موثوق بها، فقد أهدتني جدتي، ماما رشيدة، زجاجة عطر تعويضًا عن عيد ميلادي المخيب للآمال. كانت على شكل دب صغير، لكن العطر كان نفاذًا لدرجة أنني لم أستخدمه قط. لا أتذكر من كان حولي ويغني لي عيد ميلاد سعيد، لم أرفع عيني عن الكعكة لأنني كنت مستاءة بشكل لا يصدق. كان عيد الميلاد الباهت والمخيب للآمال هو ما شغلني، على عكس عودة والدي إلى المنزل بأمان (والتي، كما علمت لاحقًا، تحولت إلى صراع كبير كلفت والدي الكثير من الجهد). ليس لدي أي فكرة لماذا قررت أن سن 11 عامًا كان علامة فارقة يجب أن أحتفل بها، ولكن بالنظر إلى الأحداث المحيطة بعيد الميلاد هذا، اتضح أنه سن مهم حقًا.

غادرت ماما رشيدة الغرفة لبضع دقائق، وعادت بسلة من البرتقال من فناء منزلها الأمامي وبعض السكاكين. شاهدتها تقشر البرتقالة، وتمسك منديلًا من علبة الكلينكس، وتعطيني البرتقالة مبتسمة قائلة: "تفضلي يا ياسمين". قضيت القليل الذي تبقى من فصل الشتاء في تناول البرتقال كل يوم. أكلت البرتقال حتى أبقاني فيتامين سي مستيقظة في الليل. تعرفت على الأرق. كانت تلك أيام البرتقال، عندما اكتشفت الثمار في الفناء الأمامي الخاص بجديَّ. أو على الأقل هو أول أثر للإفراط في تناول البرتقال في ذاكرتي. الآن، هذا هو الشيء الذي أتوق للعودة إليه، ذلك الشعور الذي ينتمي إلى منزل جديَّ، أكثر مكان أشتاق إليه عندما أكون خارج البلاد.

من الغريب أن مفهومي للوطن يبدأ فقط بعد ذلك. في سن الحادية عشرة. أعتقد أن السبب في ذلك هو أنني لا أتذكر الكثير من أي شيء قبل ديسمبر 2010. حجبت ذاكرتي معظم ما كان موجودًا قبل ذلك الوقت. أعتقد أنني اكتسبت وعيًا بالانتفاضات العربية، وأي شيء يمكنني تذكره قبل ذلك الوقت يمكن مساواته بأساطير العصور القديمة الشخصية، أو أطلال المواقع الأثرية، أشياء مرتبطة بالسحر والتكهنات. ذكرياتي عن العام 2011 قابلة للمقارنة مع السرديات عن تأسيس الدول القومية. تخضع لإعادة الكتابة والتجاوز، مليئة بفجوات غريبة في الذكريات وفي نفس الوقت بتفاصيل حية، مدموغة في الإدراك المتأخر: ذكريات عادة ما تسفر عن أسئلة أكثر من الإجابات. أكثر من أي شيء آخر، إنها القصة التأسيسية الخاصة بي: من كنتُ ذات يوم، ومن نمتْ لأصبح. أصبح الإفراط في تناول البرتقال منذ ذلك الحين طقسًا من طقوس الشتاء اللاحقة التي قضيتها منذ ذلك الحين في نابل.

 

5

كنا نتنقل عبر المدينة من منزل أجدادي إلى المدرسة الفرنسية. كان خالي مراد يأخذنا إلى المدرسة كل يوم تقريبًا. ركبت على ظهر دراجته وأخي الأصغر خلفي، لست متأكدة من كيف كان الجزء الخلفي من دراجته كافيًا لنا. كثيرًا ما وبخت أحمد لأنه تسبب في تأخرنا. شعرت أن نابل كبيرة جدًا عندما ركبنا الدراجة في الصباح الباكر. اليوم، أعلم أن المسافة الفعلية أقصر بكثير مما كنت أعتقد.

في بعض الأحيان، كان خالي مراد يتوقف في طريقه ليشتري لنا الكرواسان. كنت أعرف أننا اقتربنا من المدرسة عندما نمر بتمثال ابن خلدون في الميدان. عندما تحدثت في السنوات اللاحقة عن الوقت الذي قضيته في نابل في العام 2011، كنت أخبر الناس في كثير من الأحيان أنني عشت هناك لمدة ثلاثة أشهر، ولكن في الواقع، كان الوقت الذي تقضيه عائلتي هناك أقرب إلى ستة أشهر. لا أعرف لماذا اختصرت مهمتي في نابل بتلك الطريقة. لا بد أن الوقت قد شوه ذكرياتي، أو ربما شوهت ذكرياتي الوقت وقسمته إلى نصفين.

كنت أنا وأحمد دائمًا أول من يصل إلى المدرسة من الطلاب، لأن خالي مراد كان عليه الذهاب إلى المدرسة التي يدرس فيها، والتي تقع على الجانب الآخر من المدينة. أتذكر ذات يوم أني كنت متحمسة حقًا لأننا كنا نتدرب على لعبة الرجبي من أجل بطولة قادمة. كنت أجيد هذه الرياضة لأنني لم أكن خائفة من التعرض للأذى. كان علينا أن نتمرن في فناء مكسو بالحصى، وبينما كنا نلعب في ذلك اليوم، بدأت فتاة في إلقاء الحجارة عليَّ. أخبر أحدهم مديرة المدرسة عن الحادث، وعندما سألتني عنه لاحقًا، أنكرت أن ذلك حدث. لم أكن أريد أن أكون ضحية، ولم أكن أريد أن أكون واشية أيضًا. بعد بضعة أسابيع، انتهى بي الأمر بمصادقة المتنمرة. لم تناسبني المدرسة تمامًا. كانت مدرسة فرنسية صغيرة، تضم حوالي 60 طالبًا، وكانوا جميعا يعرفون بعضهم البعض منذ أن كانوا في الروضة.

لا بد أن وقت الغداء قد تلى التمرين. في بعض الأحيان اصطحبني والداي من المدرسة، لكن في معظم الأحيان كان خالي مراد هو الذي يصطحبني من المدرسة ويوصلني إلى منزل جدي وجدتي لتناول الغداء. قضيت الكثير من الوقت في منزل جدي وجدتي لأن والدي تركاني وإخوتي الصغار هناك في رعايتهما ورعاية خالي مراد أثناء قيامهما بأعمالهما بين المدن المختلفة. في تلك الأيام، كان والداي محاطين بهمس غير واضح. التقطت فقط كلمات غير مسموعة من جميع أنحاء الغرف وطاولات الطعام والممرات ومن المقعد الخلفي في السيارة. بالكاد لديَّ أي ذكريات عن والدي في الأشهر التي عشناها في نابل. لا بد أن تلك الفجوة في ذاكرتي حدثت بسبب مدى انشغالهما في تلك الأشهر، وكيف حاولا خلق نسخة من الواقع لا تسبب لي ولإخوتي الذعر. بالكاد شعرت بالثورة.

غالبًا ما كنت أسأل عمي عما إذا كان بإمكاني استعارة جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به لقراءة منشورات فيسبوك. سمح لي والداي بإنشاء حساب على فيسبوك في 16 ديسمبر 2010. لقد حددت 1998 كسنة ميلادي لأكون كبيرة بما يكفي للتسجيل. بعد مغادرتنا، كنت بحاجة إلى فيسبوك للبقاء على اتصال مع أصدقائي من طرابلس. في 27 مارس 2011 كتبت على فيسبوك أصف حالتي: "أفتقدك كثيرًا"، كانت تلك رسالة موجهة إلى أصدقائي في طرابلس. اشتركنا في دردشة جماعية، أنا وأصدقائي على فيسبوك، حيث وعدنا بأننا سنلتقي مرة أخرى في ليبيا. لم أستخدم فيسبوك قط لمعرفة ما كان يحدث في تونس أو في أي مكان آخر. كان الأمر كما لو أن العالم لم يكن موجودًا خارج العشرة كيلومترات الممتدة من منزل جدي إلى منزلنا، أو المجموعة الصغيرة من الناس الذين شكلوا كل من أعرفهم. في فترة ما بعد الظهر، عندما كنت أنهي واجبي المنزلي على أريكة غرفة المعيشة، كان جدي بابا لطيف ملتصقًا بالتلفزيون، أصدر مذيعو الأخبار ضوضاء مستمرة في الخلفية. ربما شعرت بأصداء التغييرات التي تحدث في الخارج، لكنني كنت مشوشة ومرتبكة، غير قادرة على فهم ما يحدث. لم أكن أعرف أنني أعيش في ظل ديكتاتورية، وأن بلدي الأصلي يعاني أيضًا من الديكتاتورية، فكيف يمكنني أن أفهم الكفاح من أجل الحرية أو الكرامة؟ فهمت فقط أن هناك تغييرًا: تغيرت المدارس، وتغيرت المدن، وأنني وعائلتي كنا نعيش في المنزل الذي نقيم فيه عادة فقط خلال فترات الإجازة المدرسية. ربما كنت أعرف أن المزيد من التغيير قادم. ومع ذلك، فكرت في فترة بقائنا في نابل على أنها مجرد إقامة مؤقتة حتى نهاية العام الدراسي ثم يمكننا العودة إلى ليبيا.

 

6

شاهدنا اغتيال القذافي على قناة الجزيرة الإخبارية من غرفة المعيشة في دبي في 20 أكتوبر 2011. تحول ذهني من لوحاته الإعلانية المجيدة التي كانت في جميع أنحاء طرابلس، إلى أنفاسه الأخيرة المتلفزة ورأسه المغطى بالدماء. نظرت بعيدًا بعد فوات الأوان، ومنذ ذلك الحين أصبحت الصورة المروعة محفورة في ذاكرتي. لا يزال بإمكاني سماع خطاب القذافي الشهير من 22 فبراير 2011، كرد فعل على الاضطرابات العنيفة ضد بلاده: "بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة، فرد فرد"، كما وعد: "سنسير بالملايين، لتطهير ليبيا شبرًا شبرًا". أصبح خطابه ريمكس شهير، وقد يكون هذا هو السبب الحقيقي الذي يجعلني أتذكر أجزاء منه. شعرت بدرجة كبيرة من الحنين إلى الوقت الذي قضيته في ليبيا، لأنني في تلك المرحلة كنت قد ذهبت إلى ثلاث مدارس مختلفة في غضون عام واحد، في طرابلس ونابل ودبي، واشتقت إلى أصدقائي في طرابلس. لم تتحقق وعودنا بلم الشمل في المدرسة. لم أر هؤلاء الأصدقاء مرة أخرى. فقدت الاتصال بكل من عرفتهم من المدرسة في ليبيا، ومنذ ذلك الحين أصبحت صور ملفاتهم الشخصية مجرد أيقونات على قائمة أصدقائي على فيسبوك. لم يكن من المفترض أن نعيش في ليبيا لأكثر من أربع سنوات، لكن لم تتح لي الفرصة قط لإغلاق الفصل بالطريقة التي أردتها. كان عدم اكتمال حياتي في طرابلس يطاردني. انفصل ذهني تمامًا عن ليبيا في وقت ما في العقد التالي، وأدركت تدريجيًا استحالة عودتي.

ما زلت أنا وعائلتي نستعيد ذكريات ليبيا بين الحين والآخر، وفي كثير من الأحيان مع مسحة من حنين المغتربين، بالطريقة التي يتذكر بها جميع غير الليبيين الذين اعتادوا العيش في البلاد كم كان العيش هناك رائعًا. بالنسبة للأجانب، كانت بلدًا رخيصة وصديقة للعائلة ومكانًا رائعًا للادخار. لكنني كنت أعرف أن هناك انفصالًا بين حنين المغتربين في ذهني وعدم الرضا الاجتماعي الذي لا بد أنه أدى إلى الاحتجاجات. معظم المغتربين، بمجرد انتهاء عقود عملهم، سوف يحزمون أمتعتهم ويرحلون للمكان التالي. كنا من هؤلاء الناس. لم تتح لي الفرصة قط لإقامة علاقة حب وكراهية مع ليبيا، كما أفعل مع أي مكان آخر عشت فيه منذ ذلك الحين. بدلًا من ذلك، أواجه النظارات الوردية التي تصنع من ليبيا مكانًا مثاليًا مكونًا من ذكريات طفولتي المجزأة. في العام 2011، كل ما أردته هو أن ينتهي الشعور بالتقلبات، وأن يعود الشعور بالأمن والاستقرار. ولكن نظرًا لأن التقلبات لم تنته قط، كان الخيار الآخر الوحيد هو نسيان وإغلاق كل شيء. والآن بعد أن ضاع كل شيء تقريبًا، أشعر بالأسف، لأنني اخترت أن أنسى بدلًا من مواجهة التاريخ.

 

7

عندما يسألني الناس عن الانتفاضات العربية، لا أعرف حقًا ماذا أقول، أو بالأحرى، لا أعرف من أين أبدأ. إن شظايا الذكريات التي كنت أعيد النظر فيها باستمرار على أمل أن تُسجل بشكل لا يمحى في ذهني، تتم في الواقع إعادة كتابتها باستمرار مع كل ذكرى من ذكرياتي. تعلمت في فصل تمهيدي في علم النفس أن الذاكرة ليست جهاز تسجيل، بل هي إعادة بناء مستمرة. لا أشعر بالأمان في ذكرياتي. بعد عقد من السرد وإعادة السرد والكتابة وإعادة الكتابة عن رحيلنا عن طرابلس، أنا غير متأكدة من سلامة هيكل ذكرياتي. ما أعرفه هو أنني نشأت على وعود الثورة، وسرعان ما تدهور هذا الوعد بعد عامين من تصويتي في الانتخابات الرئاسية التونسية في العام 2019. يمكن وصف تجربة الشباب الذين عاشوا في عالم عربي يمر بمناخ سياسي شديد التقلب بأنها نوع من الضرر. نحن جيل يستيقظ كل يوم للتحرك عبر بلد - مهما كان ذلك البلد - ندرك أنه أصبح أكثر ضيقًا. لا أستطيع أن أدعي أن الشباب فقط يشعرون بذلك. يتردد صدى ذلك الشعور عبر العمود الفقري لمجتمعات بأكملها.

في صيف العام 2023، أصيبت ماما رشيدة بإدراك ربما آلمها أكثر مما آلمنا. قالت: "كنا نأمل أن يعيش أحفادنا حياة أفضل منا... لكنني لا أعتقد أن هذا سيحدث". عندما كنت صغيرة حلمت أن أصبح مؤرخة عندما أكبر، على أمل أن أفهم الأحداث التاريخية التي أثرت على العالم الذي أتحرك فيه. كنت آمل أن يكون إحساسي بالغربة مبررًا من خلال عدسة التاريخ، لكنني بدأت منذ ذلك الحين في التنظير لمفهوم تجربة تاريخية متناقضة. إنه المكان الذي تتباعد فيه الممارسة والخطاب، حيث يكون أولئك الذين شاركوا وشهدوا الثورة - في أي جزء من العالم العربي - وكلاء ومواضيع للتغيير التاريخي، يجدون أنفسهم بين الخيوط المتشابكة لما يحدث. لقد شجعتني دراسة التاريخ على إيجاد عوامل وتفسيرات مختلفة للأحداث، لمحاولة النظر في منظور شامل للروايات لشرح سلسلة من الأحداث. ومع ذلك، عندما أنظر إلى الداخل، إلى الأحداث التاريخية التي أثرت على حياتي، مثل الثورة، لا أجد كلمات تعبر عني، أجدني غير قادرة على تفسير ما حدث، أو تحديد موقفي الدقيق، لأنني مثل كثيرين آخرين أحاول فك هذه التشابكات، وأجدني عالقة في عقد وخيوط التاريخ.

عندما بدأت الحرب الأهلية الليبية في العام 2011، شعرت بتبخر شبابي، حيث أصبح من الواضح أنني لا أستطيع الاعتماد على أي من الأماكن التي عشت فيها للبقاء مستقرة، كشبكات أمان محتملة يمكنني العودة إليها. في مواجهة التغيير، شاهدت أفراد عائلتي يشعرون بالحنين إلى الأيام الخوالي، وإدراكًا منهم أنهم غير قادرين على العودة إلى الماضي، أعربوا عن رغبات متزايدة في مغادرة تونس بدلًا من ذلك، وبدء حياتهم في مكان آخر. جاء حنيني من مكان مرتبط بسذاجة الشباب، حيث توصلت إلى استنتاج مفاده أن عودتي ليست مضمونة قط لأنه حتى لو عدت جسديًا إلى مكان ما، سأقابل بالعجز والانحلال والغياب. أتوق إلى الشعور المجدد بالإمكانية والبدايات الجديدة، لكن حتى ذلك الحين، أعود إلى الماضي كوعد، على أمل أن أتمكن من إعادة بنائه، من الذكريات المنفصلة والقصص غير المكتملة.

 

ياسمين عبيدة كاتبة غير روائية وباحثة ومصورة تونسية مقيمة بين أبو ظبي وأكسفورد ونابل. مرشحة للحصول على درجة الماجستير في الفلسفة في دراسات الشرق الأوسط الحديثة في جامعة أكسفورد. ممارساتها الفنية مستوحاة من أساليب التاريخ الشفهي، مع التركيز على الحنين كتثبيت للماضي، ودوره في إعادة تغيير علاقة المرء بالأماكن التي يسكنها والتأثير المجزأ على الذات. تركز أبحاثها على التاريخ الشفوي وتجارب الشتات، كاستمرار لأطروحتها الجامعية "إثنوغرافيا الحنين إلى الماضي: تذكر وحفظ يهودية نابل في عقود الشتات". حصلت على درجة البكالوريوس في التاريخ ودراسات مفترق الطرق العربية في جامعة نيويورك أبوظبي. ياسمين تفكر في نابل طوال الوقت. تغرد من خلال @yesmemez

الربيع العربيثورةليبياتونس

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *