"قبل الزلزال" – قصة قصيرة لصلاح باديس

5 نوفمبر، 2023،
تفكر امرأة في مصائر من تركوا وراءهم ملابسهم، المنسية منذ فترة طويلة، في المصبغة.

 

صلاح باديس

ترجمت النسخة الإنجليزية صليحة حداد

 

الشتاء صار نحيلًا، أقل من ثلاثة أشهر والسماء لا تمطر سوى في أيامٍ معدودة. اليوم الذي تركتُ فيه قاعات الدروس التطبيقية بجامعة باب الزوار كان ممطرًا. ثلاثاء أو أربعاء لا أتذكّر. كنتُ عائدةً في القطار. قطارات الضواحي تحمل حياة الناس كل يوم بين الجزائر والضاحية الشرقية، كل يوم. طلبةٌ وموظفين وبطالين، تراهم يكبرون ويُحبّون وينكسرون وتعود بهم سكرانين وحزانى وفرحانين. تمنحهم مقاعد شاغرة، أو بضع سنتمترات للوقوف. تجمعهم من على أرصفة المحطات وترمي أغلبهم على رصيف الرغاية يجب أن تروا كيف يفرغ القطار مرّة واحدة في الرغاية.


ماما تركت وصْلَ المصبغة على الثلاجة، ثبّتته بحبّة برتقال بلاستيكية صغيرة يوجد في قلبها مغناطيس. قامت بذلك قبل أن تذهب لبيت أختي يوم الاثنين، وبهذا كانت متأكّدة من أني لن أنسى المعطف. لم نتهاوَن يومًا في استرجاع أشيائنا، لا الملابس من المصبغة ولا صينيات البقلاوة من عند الخبّاز. قالت أيضًا إنها ستبقى حتى نهاية الأسبوع في تيبازة، عند أختي، مما يعني أني سأكون لوحدي في الشقة.

في الليلة الأولى أكلت من العدس الذي تركته وقشّرتُ حبتي بُرتقال، الكثيرون يتفادون القهوة والبرتقال في المساء، لم أفكّر يومًا في الأمر، النوم عندي مثل قطار يشقُّ طريقه في الليل... لا شيء يوقفه.


نزلتُ من القطار، وسط موجة البشر تلك، انحدرتُ من المحطة ومشيتُ حتى مركز البريد، واستدرت على اليسار حيث توجد المصبغة. لم تكن هنالك شمسٌ أصلًا حتى يكون غروب، سماءٌ ثقيلةٌ ومظلمة، وعندما فتحتُ باب المصبغة الزجاجي شعرتُ أني أدخل فقاعةً من العتمة والدفء.

أحبّ الرغاية، لكنّه حبٌ قديم، أحبّ ما كانت عليه الرغاية يومًا، قبل الزلزال مثلاً عندما كان عدد السكان قليلاً والمكان هادئًا. لكنها اليوم تزداد سوءًا كل يوم، والأرصفة تتكسّر وتنهار بلاطاتها تحت الأقدام، خاصة في الشتاء. كل ذكرياتي هنا متعلّقة بالطفولة. أشعر أن هنالك شرنقةً ما قد تمزّقت وأنا أنتظر الوقت المناسب لأطير وأبتعد، لا أدري إلى أي أفق لكن البحر جميل دائمًا.

أخرجت وصلَ الملابس وقدّمته للعامل الذي أخذه واختفى خلف آلة الغسيل الضخمة. بقيتُ أنتظره وأقلِّبُ في رأسي كل هذه الأفكار عن الرغاية. على يساري، كان هنالك بوستر ضخم، يُغطي الجدار كلّه. لم أكن قد انتبهت له من قبل. بوستر ضخم لبناية الكانز التي انهارت في الزلزال الأخير، ورغم أنّ البناية كانت فْلو قليلاً، لأنّ البوستر كان تكبيرًاً لصورة صغيرة، إلا أنها كانت هي، أذكرها.


ماما تقول أنّي أشبه والدي عندما أفرش أوراقي ومخططاتي في الصالون وأغلق الباب، وأصيرُ حسّاسة لأدنى حركة وصوت، ربما كان هذا صحيحًا، لكن الأمهات دائمًا ما يُرجِعنَ الصفات السيئة لأبنائهن إلى الآباء. لكن هذا ليس صحيحًا، ما أريده هو أن أبقى لوحدي فقط. لذلك أفكر كثيرًا في الابتعاد.

أحب البقاء وحدي في دارنا. لأطول وقتٍ ممكن، رغم أني أعيش مع ماما فقط بعد زواج أختي. خاصة في فصل الشتاء، أشعرُ بأنّي أعيش في مكان بعيد، كأنّ لا أحد يعرفني هنا، كأنّها أيامٌ مسروقة من حياة مستقبلية.


بقيتُ أنتظر العامل وأنظرُ إلى صفوف الملابس المُعلّقة، فوق آلات الغسيل الضخمة القديمة. بدَت كأنّها غيمة سوداء محبوسة بالسقف، أو ثُقب أسود تصدر عنه تلك العتمة الثقيلة التي تُغرق المحل. كان عددها كبيرًا جدًا، لا أعرف بالتحديد، لكنها تتجاوز المئة سروالٍ ومعطف.

كان ظاهراً أنّ تِلك الملابس تعود لزمنٍ مضى. موضتها قديمة، قُماشها خشن وكُلّه مربّعات صغيرة سوداء وقهوية اللون. وكان ظاهراً أيضاً أنّها ملابس تراكَمت هناك بالنسيان. تذكّرتُ الجاكيت الذي كان يلبسه جدي في الصورة القديمة. كُنا نُعلّقها في الصالة، قبل أن تختفي مع نهاية التسعينات. أذكر أننا دهننا البيت، وعندما انتهينا وأعَدنا الأثاث، اختفت الصورة. كان ذلك قبل الزلزال.


تلك الصورة شغلت بالي لسنوات، سألت ماما أكثر من مرّة لكنها لم تكن تعرف. ورغم أننا من العائلات التي لا تُفرّط في أثاثها ومقتنياتها –ليس مثل هؤلاء الذين تركوا ملابسهم هنا- إلاّ أننا لم نجدها. قبل مدّة قرأتُ مقالًا عن عائلات الطبقة الوسطى التي لا ترمي شيئاً من أثاثها ولا تُجدّده، وتُكمل حياتها وسط بيوتٍ تُشبه مخازن المتاحف. طبعاً، الرغاية ليست بلدة طبقة وسطى، ولا تطمحُ لتكون كذلك، لكن توجد بها بعض العائلات التي لامَست حدود تلك الطبقة، قبل أن يأتي الزلزال ويُنهي كل شيء.


العُمال في المصبغة شكلهم غريب. وجوههم مثل مثلثات الجُبنة، ذقونهم مُدبّبة، خدودهم مُعظّمة وحمراء. كأنهم من منغوليا أو من ذلك المكان الذي يسمّونه آسيا الصغرى.

لون شعرهم عبارة عن تدرج بين اللون الأشقر والبُني. كأنّ به بُقع جافيل. فكّرت وقتها أن ذلك راجع لتعرّضهم الدائم لمواد كيميائية يستعملونها لغسل الثياب، وأنّهم سيموتون، كما يحدث في البلدات الأمريكية التي تُقام بجنبها مصانع تنفثُ سمومها في المياه الباطنية. تماما مثل قصة فيلم إيرين بروكوفيتش. يفقد السكان شعرهم وجلدهم، يُصابون بأمراض وأورام خبيثة تقتلهم.


لا أحدَ يذكر بناية الكانز اليوم، رغم أنّها أعلى بناية في البلدة. كل سكان الضاحية الشرقية يعرفونها، لأنهم كانوا يمرّون من أمامها في طريقهم إلى شواطئ الرغاية وعين طاية. لكنّها سقطت، وقضَت على حُلم البلدة التي كانت تتردّد في أن تنتقل من بلدة عُمال ونازحين إلى ضاحيةٍ أكثر استقراراً. الرغاية كانت تملكُ بناية واحدة كبيرة، ولكنّ التجار في الطابق الأرضي حشّوا أعمدتها طيلة التسعينات لتوسِعة محلاّتهم، وعندما جاء الزلزال تهاوَت على ثلاث مراحل، نجح أغلب السكان في الهروب، أذكرُ هذا.


هل يُعقل أن يكون أصحاب هذه الملابس المنسيّة قد ماتوا في الزلزال أو فقدوا بيوتهم؟ لا بُد أن شيئاً ما قد وقع لهم، قتلوا في حادث في أو خطفوا أو ربما هربوا من البلدة، وعندما وجدت الشرطة جثثهم لم ينتبهوا للورقة الصغيرة المطوية داخل جيوبهم، الورقة التي تصِلهم بهذه المصبغة.


عندما عاد عامل المصبغة بمعطفي تشجّعتُ وسألته عن الملابس المُعلّقة.

- "هذو... عندهم عامين هنا،" قال لي. - "وهذو،" قال وهو يُشير إلى صف على يمين الباب "راهم مخبيين ما يبانوش... عندهم بزاف..."

قلت: "واو".

بقي يبتسمُ لبضعة ثوانٍ أمام دهشتي، ثم ردّد آخر كلمة: "بزاف."

هذه هي المرّة الأولى التي انتبهتُ فيها لوجود كل هذه الثياب في المصبغة. كنت أدخل وأخرج دون أن أنظر حولي أو أفتح حديثًا مع العمال.


لماذا ينسى الناس ملابسهم في المصبغة؟


المشكلة مع الرغاية ليست فقط في أنّها فقدت بناية عالية في الزلزال، حتى المساحات الخضراء والمفتوحة التي هرب إليها النّاس من بيوتهم يوم الزلزال، انقرضت اليوم وصارت كلها بنايات جديدة، إلى أين سيهرب الناس لو ضرب زلزال جديد؟ وأعني هنا زلزالاً حقيقيا وليس تلك الهزّات الأرضية التي تضربُ أربع أو خمس مرّات في العام.


عاد العامل المنغولي إلى الداخل، اختفى مرّة أخرى خلف آلات الغسيل الضخمة، حيث تنبعثُ تلك الرائحة القوية. ترك معطفي داخل كيس بلاستيكي شفّاف. تضاعف فضولي حول تلك الملابس المنسية لكني لم أتوصل لإجابة. أشياء رهيبة لا يتوقع المرء أنها تُصيب الناس دائماً، لكن يكفي أن يدخل إلى مصبغة صغيرة وقديمة ويلاحظ أعداد الملابس المتراكمة عبر السنين، حتى يعرف أن الأشياء الحزينة تحصل، وتحصل بشدة، حتى في الضواحي البعيدة والهادئة.

لقطة من فيلم جيلو بونتيكورفو الكلاسيكي La Bataille d'Alger Italie-Algeria 1965
لقطة من فيلم جيلو بونتيكورفو الكلاسيكي "La Bataille d'Alger" ، إيطاليا والجزائر 1965.

في نفس الأسبوع، كنتُ عائدة من الجامعة، أحمل البازوكا –التي أضع داخلها المخطوطات- التي أتلّقى بسببها أغبى التعليقات من المارّة. وقبل أن أصل إلى الدار، قرأت على حائط مدرسة، بالقرب من موقف الحافلات التي تعمل على خط الرغاية-الجزائر: "10 دينار ماشي 20 دينار... راهم يسرقو فيكم هذوك الطماعين." وبعدها بيومين، قرأتُ على جدار آخر: "LA BATAILLE D’ALGER EST TOUJOURS LA ". لاحقًا، في المساء عندما كنت أقلي أصابع السمك والبطاطا، فكّرتُ أن هنالك ثورةً ستقوم في الرغاية قريبًا.

في نفس الليلة اتصلت بي ماما من بيت أختي في تيبازة، فقط لتطمئن. كانت مكالمة قصيرة. وقبل أن أنهي المكالمة أردتُ أن أقول لها ابقي هناك، لا ترجعي، هنالك ثورة ستقوم هنا، لكني لم أفعل. أكلت برتقالة ثانية قبل أن أفرِشَ أسناني وأنام.


كان يصلني صوت الغسّالات المكتوم، حركة العمال أيضاً كُنت أتبيّنها بالصوت. حملت معطفي ونظرت إلى الخارج، كان المطر قد اشتد والظلام قد حل. صار المحل كله مُظلماً. بقيت أنظر عبر الزجاج. شعرتُ أنني في أحد تلك الشقق التي قرأت عنها. شقق البرجوازية الصغيرة المكتظة بالأثاث، والتي تعيش فيها العائلات حياةً كاملة وهي على حافة الاختناق، وعندما يأتي الزلزال ينهار كل شيء. نظرتُ إلى بوستر بناية الكانز، ثم إلى الملابس القديمة المنسية، تخيّلتُ للحظة أنّي سأجدُ صورة جدّي الضائعة هنا في المحل، وكل الأشياء الضائعة والمنسية التي فقدها أصحابها في الزلزال.

ثم عبرت رأسي هذه الفكرة: ماذا لو كان هؤلاء العمال يجمعون الثياب والأشياء للأشخاص الذين سيقومون بثورة في الرغاية، حتى يزودونهم بكل ما يحتاجونه في ثورتهم؟ وعندما هممتُ بالخروج، سمعت صوت العامل المنغولي الذي ظهر فجأةً وأشار إلى الملابس المنسية:

- "على بالك النّاس هذو يجوا كي يبدا الصيف ولاّ كي يخلاص الشتا... يجيبوا الحوايج وينساوهم... ما علابالناش علاش... بابا كان يقول يا يكونوا راحوا للبحر ف الصيف وغرقوا، ولاّ دخلوا ف الشتا وما خرجوش".

 

في 21 مايو 2003، وقع زلزال زموري، الذي غطى طول ساحل الجزائر، على بعد 50 كم شرق الجزائر العاصمة، بنفس قوة زلزال المغرب في سبتمبر 2023 والذي بلغت قوته 6.8 درجة.

صلاح باديس كاتب من الجزائر. ولد في عام 1994 ، ونشر مجموعة شعرية تعب السفينة ، في عام 2016 ، تليها مجموعة القصص القصيرة ، أشياء تحدث ، في عام 2019 ، وترجمتها الفرنسية Des Choses qui Arrivent ، في عام 2023. يترجم باديس أيضا من الفرنسية إلى العربية. من بين المؤلفين الذين ترجمهم جوزيف أندراس وإريك فويلارد وجان سيناك.

صالحة حداد هي مساعدة محرر جزائرية في دار نشر بوتسوتسو التي تتخذ من جنوب إفريقيا مقرًا لها، ومحررة أدبية في المجلة الأدبية Hotazel Review. عملت كمحاورة أدبية في Africa in Dialogue ونُشرت مراجعاتها للكتب في The Other Side of Hope, The New Arab, and The Transnational Literary Journal. نُشرت أعمالها الإبداعية أو ستصدر قريبًا في Agbowo و Isele Magazine و Newlines Magazine. في العام 2021 تم إدراجها في القائمة القصيرة لجوائز الكتاب الأفارقة وحصلت على المركز الأول في مسابقة ANTOA الأدبية الأولى.

زلزال الجزائر

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *