
في عالم فنتازي، حيث يعيش ملك وأميرة وشعب مسالم، تحكي إيمان اليوسف عن امرأة ذات قلب من زجاج.
إيمان اليوسف
كان يا ما كان، في قرية نائية مع بداية تكوين الزمان، عاشت مجموعة مسالمة من البشر محبة لبعضها البعض لدرجة أنهم لم يختلفوا يومًا على شيء. اختاروا ملكهم بالإجماع، ثم اختار كل منهم مهنة بحيث لا تتقاطع مع أو تكرر مهنة شخص آخر، فانقسموا إلى خباز وسقاي ولحّام وهكذا.
لم يحتج أهل القرية تلك إلى المال ولا البنوك ولا الأسلحة، وقد ساعدهم موقع القرية البعيد في وادٍ مجهول لبقية البشر، بين جبال عالية يصعب تسلقها، إلى حمايتهم من بقية الناس، من طمعهم أو مصالحهم. مع الوقت لم يكن يكدر صفو حياة سكان القرية سوى رغبة كل منهم بأن يجعل من كل من حوله من أهل وأصحاب وجيران أكثر سعادة وبهجة.
وفي يوم من الأيام، لن ينساه أحد من سكان القرية، سقطت أميرة البلاد من على سرج حصانها في حديقة القصر الفسيحة. الغريب أنه لم يصبها أي سوء. بدت في أتم الصحة والعافية، بلا خدش أو جرح واحد حتى. لكن، وفي تلك الليلة سمع كل من حولها صوتًا غريبًا مثل تهشم الزجاج كلما تحركت الأميرة أو تحدثت. ضايق الصوت الأميرة ومن حولها، ثم بدأ تدريجيًا يسبب لها آلامًا لا تُحتمل في صدرها. ما كانت إلا أيام، حتى سقطت الأميرة طريحة الفراش، لا تقوى على الحديث أو الحركة خوف أن يتكرر صوت التهشم الغريب والألم النابع من صدرها.
أجرى لها طبيب الملك عددًا من الاختبارات الطبية. ثم استعان بأطباء آخرين من أنحاء القرية. كانت الأميرة تصاب كل يوم بالاختناق والذبول. حتى أنهم ابتكروا لتغذيتها نظامًا للري أشبه بالتنقيط، كما يُفعل للزهور. مع الوقت استقرت حالة الأميرة وطمأن الملك أفراد الشعب المُحب والقلق. لكن طبيبه أخبره أن الأميرة تعاني من حالة غريبة جدًا، لم تصادفه في كتب الطب وخلال سنوات عمله الطويلة التي قاربت على الستين عامًا، وهي أن لديها قلبًا زجاجيًا.
لم يكن أحد ليعرف بأمر قلبها الزجاجي إن لم تسقط عن حصانها وتُصاب. الأعجب من حالتها كان العلاج. إذ توصل الأطباء إلى أنها بحاجة إلى زوج فريد من نوعه مثلها تمامًا. لا يملك قلبًا زجاجيًا بالضرورة، لكن أن يكون مثلها، ذو قلبٍ مختلف عن بقية البشر. وعندها، ستُشفى بإذن الواحد الأحد وتعود قطع الزجاج المهشم المتناثرة في قلبها للالتئام، فيختفي صوت قطع الزجاج والألم أيضًا.
بدأ الملك والحاشية والشعب بأسره بالبحث عن شخصٍ بقلبٍ مختلف، لا كبقية قلوبهم المصنوعة من لحم ودم ليتزوج بأميرتهم المحبوبة. وبعد أسابيع، توصلوا إلى رجلٍ يعيش منفردًا معزولًا منذ سنواتٍ طويلة. يُقال أن هذا الرجل بلا قلب. وأمام فكرة غياب القلب، تصور الجميع أن هذا يعني أن له قلبًا من هواء وأنه بالتالي يشبه أميرتهم المحبوبة.
أقتنع الرجل بالزواج من الأميرة ودامت مراسم العرس الميمون سبعة أيام بلياليها، انتهت بانتقال الأميرة في موكب جليل إلى منزل ذلك الرجل، على سفح أحد الجبال المحيطة بالقرية. يلزم الوصول إلى منزل الرجل ذو القلب الهواء والأميرة ذات القلب الزجاجي سفر طويل شاق. لذا، لم يتمكن أحد من زيارة الأميرة التي بدأت بالذبول تدريجيًا من جديد.
إذ مع قسوة الرجل ذو القلب الهواء، تهشم كل يوم جزء من قلب الأميرة. مع الوقت، ازداد الألم، وارتفع صوت قطع الزجاج المتهشمة. لازمت الأميرة الفراش، تبكي ليلها وتشرد بأفكارها نهارها حتى بدت كإحدى قطع الأثاث المهترئة في ذلك المنزل الموحش. لم ينتبه الرجل ذو القلب الهواء إلى ذبولها ولم يفهم قط حالها. حتى جاء ذلك اليوم الغريب.
سيذكر الجميع ذلك اليوم الذي لم تشرق فيه الشمس لأول مرة في حياتهم جميعًا. جاء النهار ولكن السماء بقيت مظلمة مع بعض النور الهزيل. كانت الأميرة طريحة الفراش، متورمة الجسد، لا تقوى على الكلام أو الحركة حين أحست بألم فضيع. بدأت تصرخ، ومع كل صرخة يرتفع صوت تهشم الزجاج في صدرها. خاف سكان القرية. اقتربوا من سفح الجبل. بدأ الملك وحاشيته في السفر إلى حيث تسكن الأميرة. استمر الحال ساعاتٍ طويلة. حتى غاب صوت الأميرة، وارتفع صوت غض طري، انشقت على إثره السماء، فعادت الشمس وانتشر النور في الأرجاء جميعًا.
وصل الملك، ليجد الأميرة بكامل صحتها. كانت تبتسم بخدين ورديين لأول مرة منذ سنوات. وفي حضنها، يرقد رضيعٌ وسيم. يبكي الطفل فيُسمع في بكائه صوت أشبه بتهشم الزجاج. صرح الملك في أنحاء القرية أن وريثه قد جاء، مع غياب الشمس، ثم سطوع النور، ثم منع ركوب الخيل، ثم نهوض الأميرة بكامل صحتها. جاء الأمير الصغير، ليُنقذ القلوب الزجاجية المهشمة، وقلوب الهواء الفارغة. ويعلم القلوب العادية من اللحم والدم، كيف ينقذنا الحب حين يولد من داخلنا.
