في رواية الطوباوية، يكتب مصطفى منير عن عالم ما بعد موت متخيل، حيث تحتل النساء اللاتي تعرض للإساءة والاضطهاد والقمع موضع الصدارة، عالم يقوم على محاولة تعويض شخصياته عن كل الأذى الذي لحقن بهن في الدنيا.
مصطفى منير
نحنُ النِّسوة اللَّاتي وُئدْنَ أحياء.
النِّسوة الَّلاتي دفنهن الإنسان بمختلف الحضارات والمُعتقدات، منذ الجاهلية، نعيش تحت الأرض وفقًا لتوجيهات أمِّنا حوّاء وسيدتنا هاجر في عالمٍ من صنع الرَّحمن.
قيل إننا المؤنِسات الغاليات لذلك نمشي مُختالات واثقاتٍ بين المساحات المُتاحة ابتغاءَ التَّعرُّف على جثامين المقبورات، فنُلاعبهن ونُصلي من أجلهن متوسِّلين الرَّحمن كي يرحمهنَّ من أيِّ عذابٍ ثم نُخفف توترهنَّ بشرحٍ وافٍ لفوائد الوحدة والظُّلمة، نُتبعه بشربة واحدة تُذهِب الظَّمأ حتّى قيامتهن.
فوق أعيُننا حجاب يضع سدًّا بيننا وبين الذُّكور السبب الرئيس وراء دفننا، حاربَهم الجبَّارُ جميعًا ما عدا مُحيي الموءودات، صعصعة بن ناجية الدارميّ، المُباح لنا زيارة جثمانه لنُسمعه حكاياتنا وكيف يعيش بفضله آلاف الموءودات.
الجماعية هي مبدأ الموءودات العام، صوت الضَّمير الجمعيّ هو خطابنا، لا تقول واحدتُنا «أنا»، وإذا اقترحتْ موءودةٌ أمرًا وافقنا جميعًا انتصارًا لحرية الاختيار التي منَّ الرَّبُّ بها علينا بعدما حاول الرجالُ سابقًا سلبها، لكن معجزاتِ القدر تفوقُ تخطيطات البشر.
عقيدةُ الموءودات هي الإيمان العام، نؤمنُ بربٍّ رحيمٍ أجاز لنا حياةً استثنائيةً مختلفةً كليةً، يحاوطها الفرح والاكتشاف والفضول، وتَجهل الأمراض والحُزن والفقد.
عرفنا أنه منذ اليوم الأول بعد الوأد، سواء كانت الموءوداتُ رضيعاتٍ أو عاقلاتٍ مُدرِكات، تستقبلُنا هاجر، تُراعي الرِّقة والحنوَّ وهي تسحبُنا من القبر ريثما يُطمئنُها رحيلُ الفاعل لعنَه الجبَّارُ، تُهدهدُ الصَّغيرات وتُقنع البالغاتِ بصدق المُعجزة، ثم تصطحب الموءودة إلى غرفةٍ كبيرة في آخرها تجلس أمُّنا حوَّاء، تُسامر السَابقات وتضحك معهن، ولمَّا تلمحُ ضيفةً جديدةً قادمةً تُنبِّهُنا ضاحكةً فنقوم جميعًا مُزغرداتٍ احتفالًا بوصول ناجيةٍ أخرى. نعلم أنه ربَّما لا يبكي أحد على فراقنا.
2
بمجرد أن يواري الترابُ جثاميننا، تسودُ لحظةُ صمت، نظنُّها لن تزول، تكسرُها وصلةُ نحيب داخل بيئة مُهيَّأة تمامًا للأمر، مكان مُظلم مكتوم التّهوية، يتغذى على بُكاء المجهولات أو جهل الباكيات بما يدور حولهن.
تبكي صغار الموءودات لبُعدهن عن أثدية أمهاتهنَّ وإحساسهنَّ بالخوف الفطريِّ، وعدم إدراك ماهية المأساة، إذ كُنَّ منذ دقائق في ظلام رحمٍ ثم خرجن إلى ظلام قبرٍ، وما بين الظُّلمتين لم يُدركن سبب الانتقال المفاجيء.
تبكي كبارُ الموءودات الظُّلم البيِّن عليهنَّ مع الاستسلام التّام لهجوم ذكريات السَّنوات الفائتة الممزوجة بالتَّضحيات والصَّبر وتعدُّد أسباب وصولهنَّ إلى تلك المصيبة، الوأد، وفي خضم الدَّفن تهيُّل الموءودةُ التراب فوق جسدها وتسأل سؤالَها الأخير: «لماذا كُتبتْ علينا التّضحية؟».
تكتسب الموءوداتُ خبراتهن ومعلوماتهن عن تلك الحياة من تعاليم أمِّنا حوَّاء وسيدتنا هاجر وحكايات المقبورات. قد تطول زيارتنا لأي امرأةٍ مدفونة حسب تفاصيل عالمها، ربَّما نبقى قليلًا أو نظل بصُحبتها حتَّى تهجر البُكاء بعد أن تجد الونس وتسمع نكاتِنا البسيطة، التي -رغم فظاعتها وفق أغلبية النِّسوة- لم تخذلنا أبدًا في محاولات إضحاكهنَّ.
اعترفتْ امرأة مقبورة من قبل أنها لم تضحك هكذا طوال حياتها، وقالتْ لنا هاجر: «في أقسى لحظات الانكباب على الحُزن.. قد تنتشلنا ريشةٌ!»، ثم طلبتْ من الرَّب معجزةً أن يُرينا ما هي الرِّيشة.
وعلى ذكر المعجزات، أوكل الرَّبُّ إلينا ملاكًا حارسًا اسمه «دُحية»، نسبِّح معه، وبعد شكر الوهَّاب على فرصته الثَّانية، يبدأ دُحية في تحويل دعواتنا ودروس أمِّنا حوَّاء وسيدتنا هاجر إلى واقع بأمرٍ من خالق المعجزات، فنعرف أشكال الطُّيور وأدوات الزينة، الكتب وألعاب الفتيات، ضفائر البنات والفساتين، فكرة العائلة وتضحيات الأمهات، ثم يوزِّع الهدايا بيننا.
3
أنعم الرَّبُّ علينا بحياةٍ خاليةٍ من الحُزن والجوع والمرض، جاعلًا قبور الأرض وطنَنا، نرتحل في عالمنا متى شاءت الإرادة الجماعية بعد التَّشاور مع أمِّنا حوَّاء وسيدتنا هاجر، لنلف العالم أجمع فنُسمعُ المقبوراتِ ضحكاتنا ونُريهم ترابط أواصرنا.
نحن الموءودات، نجهل التَّمييز العرقي والجنسي، اختلاف الدِّيانات، التَّغييرات الفسيولوچية، الانحياز والتَّفضيل، عُسر الطمث وخلل الهرمونات، القلق والاكتئاب.
شرح الملاكُ دُحية ماهيتنا، قال إن إحياءنا عبارة عن إعادة خلق، بدايتُها مع سيدتنا هاجر حين تسحبنا من القبر، وقتها نمرُّ عبرَ غلاف غير مرئي، ينزع صفاتنا البشرية، يلي ذلك لمسة أمِّنا حوَّاء التي تؤنس وحشتنا وتمحو البُكاء، ثم تُطعمنا تمرةً وتروينا بشربة، يذهب الجوع والظَّمأ إلى ما شاء الرَّب، حتى نصل للمرحلة الأخيرة، نفخ الملاك دُحية، الّذي وضَّح ببساطة: «يأمرني المولى فأنفخ فيكن، إذ أقول للروح بسم واهب الحيوات، ومُحيي العظام من الممات، وآمر الكون بكلمتين، كن فيكون!»، حينئذٍ تتغير طبيعة أجسادنا.
فهمنا من أمِّنا حوَّاء أن عمليةَ النَّفخِ تحوِّل كينونتنا إلى أخرى شِبه ملائكية، نسبّح الرّب، ونُروِّح عن المدفونات.
استثنائية الموءوداتِ تتجاوز فكرةَ المعجزة، تدخل في حيِّز التَّكريم الإلهي وهو أسمى ما يحتضن مخلوقاتٍ ضعيفةً يُحادد وجودُهن الذّكرَ وتفكيرَه البغيض. والسبب وراء ذلك التكريم الإعجازي أمّنا حوَّاء، إذ تضرَّعتْ إلى المُقتدِر كي يوافق على فكرة ثبات أعمار الموءودات عند الثالثة عشرة، تكريمًا للعذراء مريم حين ولدتْ كلمةَ الرَّب بالعُمر ذاته، وسعيًا وراء خلود فرحتنا وفناء المُذكّر البغيض.
أمَّا النِّساء اللاتي تجاوزن الثالثة عشرة حينَ وُئِدنَ، فبقينَ على نفس أعمارهن مع محو أحزان العمر باستثناء اليوم المشؤوم، وقد علَّل دُحية حكمة الرَّب قائلًا: «كي يشكرن الوهَّاب على نعمة الفرص، ويتذكرن إلى ما لا نهاية أن الله لم يرتضِ لهنَّ الظُّلم البيِّن فوق الأرض، فأحياهنَّ مُعزَّزاتٍ مُكرَّماتٍ أسفلها!».
4
تبدأ مسيرةُ الموءودات بعبارة، وتنتهي بإشارة، وتتوسطهما أنشودةُ النَّاجيات.
وأنشودة النَّاجيات هي تسبيحة واجبة، نُردِّدها طوال رحلتنا من مقبورةٍ إلى أخرى، حالما تُبادر أمُّنا حواء بالعبارة قائلةً: «سُبحانك يا مُحيي الموءودات، سُبحانك يا طمأنينة المقبورات، سبُحانك يا نصير المُستضعَفات!»، فنتبعها بالأنشودة في نفسٍ واحد، وبأصواتٍ حماسية تهز طبقات الأرض.
تقول أنشودة النَّاجيات، ندعوك يا قدُّوس يا فاطر السَّماوات، ندعوك نحن الموءودات العابدات، المؤمنات الحامدات الشَّاكرات، أذهِبْ قلقَ المقبورات الخائفات، وانزع خوفَ الأوَّاهات المُستجيرات، يا سميع الدَّعوات ويا قاضي الحاجات، أنعم عليهن بيقين الثَّابتات، عاملهن بسعة رحمتِك وليس بغضبِكَ على المؤتفكات، ندعوك بكلماتِك التَّامَّات، ندعوكَ بكلماتِك التَّامَّات.
كل مقبورةٍ تسمع أنشودتنا، تصرخ وتسأل الظَّلام حولها عن كنه التَّرتيل، حتى نقترب منها بمشكاةٍ، نورُها رقيقٌ طيبُ الأثر، تستقبله عيناها في تعجُّبٍ وحذر، وحين يتوسد الإيمان شكوكِها، تطلب إنقاذها أو الخروج من مزنقها، فنقول لها هنا موطنها ونحن وائدات حزنها وواضعات أكِنَّة الطُّمأنينة على قلبها، مع تعريفها بسيرة الموءودات ودورهن.
تبكي المقبورات من حلاوة عونِ الرَّب المَرفود لهن، يهتفنَ بأولى كلماتهن: «كنتُ مرعوبة! الحمد لله!». نُبشِّرهن بمرورنا يوميًا، حتّى وإن لم نقف عندهن سيسمعن إلقاء أنشودتنا واضحًا، وسيبزغ لهن نورُ المشكاة كاملًا ثم يتلاشى كنوع من أنوع الونس الذي يستمر ليقيهن مثالب الوحدة.
كل المقبورات ابتهجن لرؤيتنا إلا مقبورة واحدة، أم مكلومة ترفض البوح، تُردِّد جملةً واحدة: «نزاع قلبي مع الخِضر!»، وعرفنا من دُحية أن عبدًا صالحًا قتل غلامَها بتكليفٍ إلهي، لذلك حزنت الأم وظلَّتْ طوال حياتها وبعد مماتها، تُكرر جُملتها وتسأل الرَّبَّ باكيةً: «لِمَ قتله؟ لماذا لم يدعُ العبدُ الصَّالح له!».
5
سخَّرَ الرَّبُّ جِنيَّةً لهاجر اسمُها أم النُّور، مُهمتُها النقل بين حُفَر الموءودات وغرفة أمِّنا في غمضة عين، إذ يصرخ دُحية بصوتٍ جهور: «موءودةٌ على بُعد فراسخ يا أم النّور!»، وما إن يُنهي جُملته إلا والوافداتُ الجُدد بين أحضان أمِّنا حوَّاء لمباركتهن وإعلان انضمامهن إلى شِيَعِ الموءودات.
كل الموءودات يذكُرن الفترة التي تتابعتْ نداءات دُحية، حتى فاقتْ أكثر من ستة عشر ألف نداء، مما يعني تحوُّل هذا العدد إلى موءودات، ووضَّحت أمُّنا حوَّاء بعدها: «كل الوافداتِ الجدد مُجْهَضَاتٌ تتراوح أعمارُهن ما بين بدايات التَّكوُّن وأطوار نضج الأجنَّة، وقد جاءتْ إلينا الأغلبية جرَّاء عدم رغبة الزوج في إنجاب إناث. أما البقية فهن عددٌ لا يُستَهانُ به نتاج السِّفاح، وطبعًا الأمهات يرفضهن!». وحين سألنا دُحية عن تزايُد الموءودات ذات فترة، وضَّح فعلًا رجيمًا قام به الإنسان يُقال عنه الإجهاض الانتقائي بسبب الجنس، أي ممارسة إنهاء الحمل على أساس جنس الجنين المتوقَّع، وطبعًا تم تطبيقُه في البلدان التي تقدِّر قيمةَ الذَّكور وترى الإناث عارًا ومسبَّةً لا تُغتَفر.
منذ وقت حدوث التكريم الإلهي ونحن لم نسأل بأيٍّ ذنبٍ قُتلنا! بل نستفسرُ من نساء القبور عن طبيعة حيواتهن والتَّضحيات وتعاسات سنوات العيش.
لاحظنا دومًا قدرةَ النِّسوةِ على الحكي، أقسمتْ أمُّنا حوَّاء بمدى براعة النِّساء في نسج الحكايات سواء من واقعهن أو عن طريق خيالهن، وهو الأمر الذي جعلنا نشعر كموءوداتٍ أن وجودنا بينهن تحكمه مصلحةٌ مُشتركة يحازبها ونس الموءودات وقصص المقبورات. أكدتْ سيدتُنا كلامَ أمِّنا، وأضافتْ وهي تُلاعبُنا: «كل قصص النِّساء تحمل حزنًا أصيلًا، حُزنًا نابعًا من عشقهن للتضحية التي إن لم تقُم بها المرأة غادرتْ حيِّز طبيعتها الفيَّاضة مُنضمَّةً إلى عالم الذكور الأناني.
6
إن مسَح عظام المدفونات ثلاث مرَّاتٍ بعد البسملة وتسبيح الرَّب، لأمرٌ واصِبٌ على الموءودات كي نزيح عن الجسد ما جعله رميمًا فتتنفس الرُّوحُ وتُفصِح.
متى رفعنا عن العظام هباءها، تبزغ فورًا الرُّوح، وبأمر منَّا تُحدِّثُنا المقبوراتُ عن حياتهن مُستخدماتٍ لسانًا عربيًّا سليمًا، تُعرِّفُنا الواحدة منهنَّ كيف كانت حياتها ثم نُكمل مسيرتنا. تقول سيدتُنا إنها مزية يُفضِّلنا بها الرّب عليهن، مع الوضع في الاعتبار وجود سيداتٍ لا يُهمهنَّ البوح أو اللغة، يُطمئنهن ظهورنا، بعدها يُكملن سكونهن حتَّى يأذن الرَّب وتحين القيامة.
تقول أمُّنا حوَّاء عنهنَّ: «لم يُخلقن للبوح، وربَّما عاشرن طوال حياتهن رجالًا أجبروهن على السُّكوت، والمرأة التي ينزع الرجل عنها الحكي، تعيش سنواتٍ تتغذى الحكايات عليها وتنهش جسدَها، إلى أن يزورها ملاكُ الموت ويرى خواءَ رُوحِها وتمام استسلامها للرحيل مُتخمةً بصمتِ المأساة!».
كلَّما ذكرتْ أمُّنا حوَّاء كلمة «رجل»، خالطَ نبرةَ صوتِها شيءٌ غير مفهوم، لم نجرؤ يومًا على سؤالها، لكننا أدركنا جوهر شعورها حين حدَّثتنا مدفونةٌ عن فكرة الاشتياق. تشتاقُ أمُّنا حوَّاء إلى أبينا آدم الذي ادعى دُحية أنه يعيش بين البشر متخفيًا، كي يساعد الرُّضَّع المرميين فوق الأرصفة ويتأكد من وضعهم داخل الملاجئ، وفي بعض الأحيان يظهر داخل القرى البسيطة فاعلَ خير وجد رضيعًا مرميًّا مما يضطره للبحث عن عائلة لا تُنجب فيمنحهم معجزةً عند باب بيتهم.
حين يزور أبونا أمَّنا نراها دومًا رائقة مع ابتسامة رقيقة تغمر وجهها فتُغدق علينا بتسبيحاتٍ طيبةٍ تنثرُ بينَنا حالة من الطمأنينة. حين يظهر أمامها لا تحيد عيناها عنه كأنها تشبع منه، قبل الغياب مُجدَّدًا لإنقاذ أطفال العالم. بعد كل زيارةٍ نسمعُها تسبِّح وتتضرَّع ليعود قريبًا ثم تعدُنا بأنه سيُحدِّثُنا ذات مرَّةٍ حديث الآباء إلى بناته.
انطلقتْ شارةُ البدء، تحرَّكنا مُردِّداتٍ أنشودةَ النَّاجيات، فأوقفنا فجأة نَحيبُ امرأة.
نُشر هذا الجزء من الرواية بعد إذن منشورات الربيع.