مقتطف من رواية سومر شحادة: الآن بدأت حياتي

13 January, 2025
أكرم زعتري (مواليد صيدا، لبنان، 1966)، “الأبيض والأسود هما اللون” و”تحويل حبكتين إلى واحدة”، كلاهما طباعة بالحبر الصبغى على قماش مضاء من الخلف، 100×180 سم، 2022 (بإذن من صفير-سملر، بيروت).
يكتب سومر شحادة عن حياة رجل انفصل عن زوجته حديثًا، وكيف يتعامل مع من حوله، وكيف تمر الأيام عليه في وضعه الجديد.
وصلت رواية سومر الرابعة «الآن بدأت حياتي» إلى القائمة الطويلة لجائزة الرواية العربية للعام 2025.

 

سومر شحادة

 

إياس

أعيش بمفردي منذ عامين وعدة أشهر، زوجتي تركتني، هي مَن طلبت الانفصال، وأخذت ابني معها. أعيش بمفردي وفي رأسي قيود الماضي؛ زوجتي تركتني، هي مَن طلبت الانفصال، وأخذت ابني معها.


كنت أبحث عن البُن بعد أن رميتُه في مكان لا أذكره، إثر عودتي من منزل يوسف. وقد اعتدت ترك المنزل فوضويًّا، واعتاد من يأتي إلى زيارتي على تجاهل الفوضى التي أعيش وسطها. بعد انفصال صفاء عني عدت فوضويًّا من غير أن أشعر بضغط العيش معها. كما لم أعُد أشعر بالحرج بسبب فوضاي، أيًّا كان زائري، أو هذا ما اعتقدته… بعد سنوات من العيش، يتعلم المرء أن يتباهى بنواقصه، أو على الأقل لا تعود تسبِّب له الإحراج، ويتوقف عن شرح نفسه للآخرين.

رواية الآن بدأت حياتي من إصدارات الكرمة.

كنت أحضر البُن بعد أن وجدته على الكرسي في الردهة قرب الباب؛ عندما سمعت ضربات خفيفة إلى درجة أنني لو لم أكن في الردهة لما سمعتها. مع ذلك، تجاهلت الضربات في البداية. أخذت البُن، وهممت بالعودة إلى المطبخ. لكن الضربات عادت باللطف والإلحاح الخجول ذاته، بالمثابرة واليأس عينهما، وكأنما من يقف في بابي إنسان هارب. تَشكَّل لديَّ هذا الانطباع قبل أن أفتح الباب، وترددتُ أن أفتح، كنت حريصًا على الهدوء الذي وصلتْ إليه حياتي. لكن في النهاية، وأنا أحمل البُن بيد، وأمسِّدُ لحيتي المتواضعة باليد الأخرى؛ توجهت صَوب الباب بحذر يقارب ضربات الإنسان الخائف في الخارج.

شعرت وأنا أشقُّ الباب بحذر أننا كائنان مذعوران، أحدنا في الداخل والآخر في الخارج. أخيرًا فتحت الباب، ورأيت لين تقف في باب منزلي. لم تحتَج إلى أن أدعوها إلى الدخول؛ ما إن فتحتُ الباب حتى انسلَّت من الحيز الضيق بيني وبين الجدار، ودخلت الردهة. دخلتْ، وتبعتها. وانتبهت إلى العجالة التي قطعت بها الردهة، وانتبهت إلى توجهها مباشرة إلى الأريكة ما إن دخلت المنزل. لم تبدُ عليها الحيرة في الداخل، كانت تعرف خطواتها، وكأنما تركت ذعرها وترددها في الخارج.

وجدتها أمامي تجلس على الأريكة الثلاثية في الصالون، وتنظر نحوي بعينين مخذولتين. لم تكن طريقة جلوسها تخلو من الخِفة، وقد شعرت منذ ليلة الأمس أن لديها طبعًا عفويًّا. كانت تجلس مرتاحةً، تباعد ساقيها. وقد وجدتِ الوقت لتسحب إحدى الوسائد وتضعها في حجرها. أسندت رأسها إلى يديها، وأخذت تنظر نحوي. سلبت فؤادي بتلقائيتها. بدا جلوسها على بساطته، مرتبًا له من قبل. لم يمضِ على دخولها منزلي دقائق قليلة، وكانت تبدو لمن يراها، وكأنما تعيش في منزلها. طلبتُ منها أن تنتظرني ريثما أعدُّ القهوة لكلينا، ثم تابعتُ التجول في البيت، من غير إرادة مني شعرت بأن عليَّ أن أرتب بعضًا من الفوضى التي كنت أدَّعي أنها لا تحرجني. شعرت بأن وحدتي انكشفت. رميتُ الثياب المتسخة في السلة، ودفعتها بقدمي من طريقي إلى المطبخ. شعرت بأن لين لمست ما أصابني من ارتباك، وقد نهضت من مكانها ولحقت بي إلى المطبخ، ثم جلست على الكرسي قرب النافذة التي تطلُّ على الفناء الخلفي للبناء.

تراءى لي من حيث جلست أنها فتاة ضائعة. وكنت ارتبكت عندما دخلتِ المطبخ الضيق، وحاولتُ الإسراع في إعداد القهوة. ثم وجدتها تقترب مني وتجاورني وتجتازني لتختار من بين الفناجين، فنجانين لنا. أخذتْ لنفسها فنجانًا عليه وردات زهرية وبيضاء، وتركت لي فنجانًا عليه دوائر متداخلة بتدرجات الأزرق. ثم عادت ومرت بجواري، فيما كنت أحاول التركيز بالركوة التي بين يدي. وتجاوزتني مجددًا في طريقها إلى الشرفة، حيث جلسنا.

كنت أتجنب الجلوس على الشرفة، كي أتجنب الشعور بغياب صفاء. لكنني لم أعترض على اقتراح لين. وهكذا، جلستُ بصورة لم أكن أتوقعها مع ضيفة لم أكن أتوقعها في أكثر أماكن المنزل خصوصية بالنسبة إليَّ. وبدا غريبًا بالنسبة إلى فتاة بدت هاربة أن تختار الشرفة للجلوس. لكن تأكد لي وأنا أراقب شرودها في حديقة الفناء الخلفي حيث تصل أشجار الحور إلى الشرفة، أنها كانت تحتاج إلى الراحة. ولولا أني لمست في داخلها رفضًا للتكلف، لما دخلتُ لأتابع الأعمال المنزلية قبل الذهاب إلى عملي. كان مشهدها وهي صامتة تشرب القهوة، وتتأمل الأشجار؛ صورة من صور الحياة التي أفتقدها، وقد أردتها لشدة جمال مشهدها أن تبقى جالسة هناك ومن ورائها أشجار الحور.

أخبرتها ألا تشغل بالها باليمام الذي بدا أننا قطعنا عليه إقامته في الشرفة المهجورة بين أصص الورد، وعدا حديثي عن البناء والجيران، بقينا صامتين. خلال الوقت الذي أمضيناه معًا تجنَّب كلٌّ منا السؤال عن شؤون الآخر. ثم بحدود العاشرة صباحًا دخلتُ المنزل، وأخذت أتحضَّر للخروج. بحدود العاشرة والربع كنت جاهزًا. دخلتُ المطبخ مجددًا، تأملتُ جلوسها على الشرفة، بدا أنها لن تتحرك من مكانها. أخالُ أن عينيها كانتا خاليتين. لكنني لم أكن أراهما.

ببساطة، لم أُرِد أن أتركها. وخلال ربع الساعة التالي، أعددت إفطار شخص واحد، كان هي، ثم توجهت إليها بكلمات قليلة عن الطعام الذي أعددته، خجلًا من تواضع مطبخ الرجل الذي عاد عازبًا. ثم وضعت الغسيل في الغسالة، وأخبرتها عن موعد الكهرباء والماء، طلبت منها الانتباه إليهما. لكن ما لبثتُ أن اعتذرتُ عن طلبي. خصوصًا مع بقائها صامتة. وقبل أن أخرج من المطبخ أخبرتها عن مشكلة السخَّان في حال أرادت أن تستحم. كنت أخرج من المطبخ وأعود لأخبرها تفصيلًا بلا أهمية عن المنزل. حتى قاربت الساعة الحادية عشرة، أخبرتها أخيرًا أنها ليست مضطرة إلى فتح الباب لأحد، وتستطيع التصرف براحتها.

وعن الشعور الذي كان يلحُّ عليَّ بضراوة من غير أن أقوى على تحديده؛ فهو رجائي ألا تغادر في أثناء وجودي خارج المنزل. لم أقوَ على أن أطلب هذا منها. رجوتها أن تكون مرتاحة في المنزل، وتركت لها المفتاح على الطاولة من غير أن أخبرها عنه، فقط اكتفيتُ برؤيتها لي أترك المفتاح. وقبل أن أغادر، وجدتها تنهض عن الكرسي، وتتبعني إلى الصالون، فالردهة. ثم قالت لي: «شكرًا». أسندتْ جسدها إلى الجدار، وقالت لي: «مع السلامة».


لا أذكر أنها قالت شيئًا عن انتظارها عودتي. وسرعان ما فكرتُ في احتمال أن تغادر في أثناء غيابي. كان الهاتف الأرضي مفصولًا بسبب كسلي في متابعة شؤون المنزل. كما انتبهت إلى أني لم آخذ رقم هاتفها فيما كنت أمسك الموبايل بيدي، وأتجاهل اتصالًا مجهولًا من رقم أيقظني في الصباح الباكر، كما لو أنه بشارة عن موت أحدهم. لكن لم أكن في مزاج يتيح لي استقبال اتصال من رقم مجهول. وهكذا، تجاهلت الاتصال للمرة الثانية، وبقيت أفكر بلين وأستعيد ارتباكها وهي تسير ورائي إلى باب المنزل، وأخال أنني ما إن أغلقتُ الباب ورائي حتى تهادت على الكرسي قرب الباب.

بعد أن تركتُ لين، وجدت نفسي في الشارع، أخذتُ التاكسي إلى مكان عملي في حي الأميركان. لكنني نزلت قبل أن أصل إلى المكتب، وقد شعرت بحاجتي إلى السير والاختلاء بنفسي مع أنني لا أفعل شيئًا آخر منذ سنوات.

بدأت أسير باتجاه كنيسة مار مخايل. وسرعان ما بدأت أغالب رغبتي بالعودة إلى المنزل، والاستمرار في مراقبة لين. لكن عِوض ذلك، فكرت وأنا ما أزال في طريقي إلى العمل بأن أتأخَّر في العودة، كي أتيح لها وقتًا إضافيًّا تمضيه بمفردها. وقتًا كانت تحتاجه كي ترتب لحياتها، عَهْد الفتيات في مثل عمرها. وبقي السؤال يضرب داخل رأسي ضربًا عنيفًا؛ ما الذي دفعها إلى اللجوء إلى رجل لا تعرفه؟

كنت أحب السير في شوارع اللاذقية التي تعرف كيف تدفعك إلى غرامها. وفيما كنت أسير وأفكر بالفتاة التي تركتها في منزلي، وعلى مقربة من كنيسة مار مخايل؛ سمعتُ قداس جنازة يخرج من جدران الكنيسة. وعندما أصبحت بمحاذاة الكنيسة خرج مُشيِّعون. لم أنظر في وجوههم. وقد حاولت ما بوسعي تجاوزهم من غير أن ألتفت، لا لرهبة الموت. وإنما لم أشَأ أن أقطع تفكيري بالفتاة التي دخلت منزلي. وتفكيري بالسنوات التي انتبهت إلى عبورها من غير أن يتغير شيء في حياتي.

تجاوزت المُشيِّعين من غير أن أنظر باتجاههم البتَّة، حتى ربما بدوت أتحاشى النظر إليهم. وحاولت أن أُوسع خطواتي كي أتجاوز الجنازة بسرعة، لم آبه بأن أنظر إلى النعوة. كنت متخمًا بالموت حالي حالَ الجميع هنا. لكن بدا أن حواسي كانت متحفِّزة، وكأن ذلك الموت كان يعنيني. شعرتُ بهذا من غير أن أنظر إلى الجنازة. وخِلتُ الشعور الذي وصلني وأنا أتجاوز الجنازة؛ محاذاة الموت. لكن كنت ما أزال مأخوذًا بدخول لين إلى منزلي، ومتحفِّزًا من جرَّاء مراقبتها. ولا أستطيع التأكيد إن كان ما أثار حواسي، هو انسلال لين من محاذاتي إلى الردهة، أو محاذاتي للموت قرب الكنيسة؛ كان الحب يصحو في داخلي مثل موهبة قديمة، وبدا لي الجُنَّاز الذي تجاوزني نشيدًا لانبعاث الحب.

مع خُفوت أصوات المُشيِّعين عدت أتذكر ليلة الأمس، حيث اجتمعنا في منزل يوسف لوداعه وزوجته، وكانا يرتبان للانتقال إلى أميركا بعد سبعة أعوام من تقديم طلب الهجرة. مضى قسط طويل من الحرب، وهما ينتظران أن يسافرا. كنت أشعر أن لدى ريما شعورًا عميقًا بالاغتراب. فيما أجبر العملُ يوسف على أن يكون واقعيًّا. تذكرتْ ريما صفاء عندما رأتني أقف بمفردي بين المجتمِعين، وشعرتُ بصدق شعورها تجاهنا. ثم جاءت لين ووقفت إلى جواري، كانت بمفردها. وبينما كنت أساعد ريما في ترتيب المشروبات، وجدت نفسي قرب فتاة جميلة. بدا أني بدأتُ أتأتئ بالكلام. وأخذت أنادي يوسف كي يساعدنا. كنت محرجًا. كنت أتحاشى قرب لين. لكن لا أستطيع التأكيد، فبعد أن جاء يوسف وأخذ المهمة عني بمساعدة ريما، بقيتُ منجذبًا إلى لين.

كان منزل يوسف من المنازل التي يحب المرء سكناها؛ لاتساع أركانه، وللمدى المفتوح على البحر. بدا اجتماعنا لوداعهما مناسبة حزينة. على الأقل بالنسبة إليَّ. الجميع كانوا سعداء لاقتراب سفرهما. وصار السفرُ الحديثَ المشترك في جميع منازل المدينة. وكان السفر يشغلني، أنا نفسي، من أجل ضمان حياة أفضل لابني، قبل أن تأخذ صفاء القرار نيابةً عني.

في منزل يوسف، كان الجميع مبتهجًا. جئت بمفردي مثل لين. وقد تحدث يوسف بطريقة بدا معها كأنه يُلقي أحدنا إلى الآخر، على طريقته في تقريب الآخرين بصورة متحايلة. سمِعه كلانا يقول للين فيما يشير إليَّ:

– أعزب في الأربعين. عريس لقطة.

رافق كلماته الساخرة شيء من الغيرة. استطعتُ التقاطها. ولكنني لم أشغل نفسي به آنذاك، بل تأملتُ وجه الفتاة التي أربكها تلميحه المباشر. وشعرت بنفسي آخذها من مرفقها بعيدًا عنه. وتوجهت بكلماتي إلى ريما مازحًا:

– زوجكِ لا يترك أحدًا في حاله.

استطعت أن أسرق لحظة وأنظر إلى لين، التي بدا أن كلمات يوسف تركت في نفسها شعورًا سلبيًّا. وتراءت لي فكرة أن عليَّ الإسراع بالابتعاد بها. شعرتُ بأن هذه الفتاة مسؤوليتي. وقد جرح يوسف أنوثتها بمزاحه. سرعان ما تفهمت هذا. رافقت لين إلى الشرفة، تركتها هناك. أحضرتُ كأسَي ويسكي، وشربناهما شاردين في أضواء الميناء.

كانت لين شاردة، ولمست لديها شيئًا من الحزن الذي أعتبر نفسي خبيرًا في شؤونه. لكن لا أعرف ما الذي كان يشغلها. كان حضورها خفيفًا. وقد أمسكتْ في لحظة غير واعية ساعدي الأيمن، ومالت إلى كتفي. لا أعرف إن كان سلوكها لفرط حزنها ووحدتها، أم بسبب أثر المشروب. كانت أنثى أكثر رقة من الكلمات. ربما لهذا بقيتُ صامتًا، وكان على يوسف أن يختار كلماته بعناية معها. شعرت بأني أبغض مباشرته في الحديث. أو ربما قصد أن يجرحها. كانت تخفي أمرًا تضيق به؛ بل وأنا أرى اضطراب تنفسها، شعرت بأن هناك ثقلًا يجثم فوق صدرها، وربما رقتها منعت عليها التعبير عن الضيق الذي ألمَّ بها.

البارحة، أمسكت لين بالدرابزين على الشرفة، ودفعت جسدها إلى الأمام والأعلى. وسرعان ما جعلتُ جسدينا يتقاربان بعد أن خشيت لشدة اضطرابها أن ترمي بنفسها إلى الشارع. بدا أنها تبالغ في محاولة كتم تأثرها. شعرتُ بها وهي تمسك بالدرابزين، وترفع جسدها إلى الأعلى تطلب المزيد من الهواء. لم يكن ما يتعب لين شعورها بلحظات الوداع. ولم أجد مناصًا من التفكير بالفتاة التي إلى جواري على أنها تشهد أزمة من نوع عصي عليَّ تفكيكه، بما أعرفه عنها. لكن مع جهلي، لم أستطع الابتعاد عنها. ولا أعرف إن كان لائقًا التفكير أني انتبهت إلى أناقتها، وهي مقبلة على عذاب غامض. ظهر عذابها جزءًا من أناقتها. لم تكن هيئتها متكلفة. وقد خِلت ذلك بسبب سنها. ولو أن فستانها المكشوف عند الكتفين على نحو محافظ، منحها إطلالة سيدة في الثلاثين. مكياجها كان بسيطًا، وقد وضعته بنفسها. فيما القلادة بلون الزمرد كانت تعطيها بريقًا. خِلت معه أنها نجمة. حاولت أن أقول لها أمرًا عن جمالها. لكنني أحجمت عن القول.

فيما كنت شاردًا بحالها، وأتأمل جمالها؛ تذكرتُ أني اجتمعت معها قبل هذا اليوم، فهي صديقة صفاء. لكننا لم نتحدث بصورة مباشرة في المرات التي اجتمعنا بها. حتى في حفل وداع يوسف، وأنا أقف إلى جوارها على الشرفة، لم نكن نتحدث. كنت أشعر بها قريبة مني. لكنني وأنا أتردد على عادتي في الاقتراب من النساء، أخذتُ أنظر إليها… بابتعادها عن الدرابزين، ابتعدتُ عنها، وأتاح لي الابتعاد رؤيتها ضمن مشهد الليل. حاولت بدء حديث معها. ولم أجد كي أشغلها عن ألمها الغامض أمامي ما أقوله سوى حديث يشبه البوح:

– كلما غادر أحد أصدقائي اللاذقية، ازددت تعلقًا بهذه المدينة. الوداع يتحول في داخلي ليصير عطفًا على اللاذقية يمنع عني مغادرتها.

لم تحرك كلماتي أي فضول لديها، حاولتُ الانتقال بالحديث إلى أمور أكثر خصوصية:

– أخال أن الرجل الذي يحب مدينة واحدة، يحب امرأة واحدة. أحيانًا أخاف هذا الخاطر، وأحيانًا أتصالح معه. أحيانًا أفكر في المغادرة كي أرى الدنيا. ولكنني بهذا أغامر بحب المرأة التي التصقت بالمدينة في مخيلتي. أشعر أني أضعف من أن أغادر.

نظرت نحوي، وكأنما حديثي زاد من شعورها بالضيق. قررت أن أصمت من فوري. لكنها قالت بشيء من الصدق:

– أنت تعذب نفسك بهذه الخواطر الواهمة. الحياة أبسط مما تقوله. لماذا لا تعيش فعلًا عِوض التفكير في العيش وترقُّب احتمالاته؟ لماذا لا تعيش، ببساطة، خارج أفكارك؟

بدا ما إن أشاحت بنظراتها عني، أنها لا تنتظر إجابة. وشعرت أنها تعرفني. وربما أغامر بالقول، إنها تشفق عليَّ. حاولتُ تذكر عدد المرات التي التقيتها فيها. ربما كانت أكثر من زميلة بالنسبة إلى زوجتي السابقة. فكرت وأنا أستدعي هذا الاحتمال أن أفضل طريقة لأعرف مدى معرفة لين بي، أن أتركها تتحدث. إلا أنها كانت محجِمة عن الحديث. فسألتها بقصد أن أستفزها:

– ربما تكون خواطر واهمة. لكن جميعنا نحتاج وهمًا ما، كي نستمر. وأنا اخترت وَهْم أن اللاذقية أجمل مدينة في الدنيا.

لكنني أحجمت عن الحديث عن امرأة غيرها، كي لا تفهم حديثي إساءةً لجمالها. وما قلته لها بعد وَهْم الاستمرار لم يَعنِ لها شيئًا. أعقبتْ بكلمات أشارت لي بوضوح أني أمام فتاة لها تجربتها:

– ولو أن الرجل في الأربعين يحتاج إلى من يعيد عليه أفكاره ذاتها. لكن اسمح لي أن أخبرك بأن من حق أحدنا أن يتوقف في لحظة من حياته عن الرغبة بالاستمرار. وأن يتوقف عن إلهاء نفسه بالأوهام. وإذا أردتَ، من حق الحياة عليك أن تترك لها فرصة في أن تفاجئك.

رأيتُ نفسي أمام فتاة تعرف يأسها، وتتحدث إليَّ من أعماق ذلك اليأس. الأمر الذي فتنني. تسربت ابتسامة إلى شفتَي، بفعل كلماتها التي ترجمتها في داخلي على نحو مبهج يحمل نسائم بداية العلاقات العاطفية. بدأت أقول لنفسي على عادتي: «اسمعني. هذه هي البنت التي تنتظرها. اسمعني. لا تضيِّعها. حاول الخروج من منطقة الأمان التي اعتدت عليها. الفرصة جاءت».

بالفعل رأيتها فرصة، لا مجرد امرأة. فرصة كي أخرج من ذاتي. لا أعرف كيف كان وَقْع ابتسامتي المفاجئة على لين. لكن يأسها جعلني أقترب منها، وأمسكها من مرفقها على نحو أوضح مما خرجنا به إلى الشرفة، وأدعوها إلى الانضمام إلى الساهرين في الداخل. لكنها قالت لي بعذوبة لا تقاوَم:

– لو نبقى هنا…

ومن ثم أعقبتْ بعد لحظات صمت:

– لو تشاء تستطيع الانضمام إليهم. لكن سأبقى هنا.

لم أترك مرفقها. وعِوض أن أدفعها إلى الداخل، وجدتُ نفسي أقترب منها، ومن ثم أُحرف جسدها باتجاه الدرابزين مجددًا. حيث عدنا لتأمل الليل صامتين. شعرت أن الأزمة التي تعصف بها مرتبطة بما يحدث في الداخل. ربما مع يوسف نفسه. لكن لا أستطيع التأكيد. وبقينا كلٌّ مشغول بعالمه عن الآخر. أيضًا نحَّانا المجتمِعون. كانوا فرحين بفرصة الهجرة. الأمر الذي انتظره يوسف لسنوات. وخلال الانتظار ازدادت ضراوة الحرب، التي ما إن يشهدها المرء حتى ترافقه مدى حياته. إذ يجد البشر أنفسهم مضطرين إلى التعامل مع الحرب على أنها ندبة لن تفارقهم. بالنسبة إليَّ، فقد استطاع الخراب الذي أحاط بنا أن يهدم علاقتي مع صفاء، التي لا أتذكر أني أخبرتها ولو جملة واحدة عن مرار غيابها. بات غيابها أمرًا يعنيني بمفردي. وربما حبي لها منذ البدء لم يكن أكثر من أمر يعنيني أنا. يمثلني وحدي من الداخل، من أعماقي.

كانت لين شاردة في ملكوت الحزن. وبسبب صغر سنها، ترك الحزن عليها علامات إنسان على وشك أن يبكي. تهيأ لي أن شفتيها ترتجفان، وعينيها تحبسان الدموع، وارتعاشًا باردًا يسري في مسامها. وكانت تجربتي مع صفاء تعود إليَّ من غير قدرة على مقاومتها. بدأتُ أتذكر كلماتها عن ترددي الدائم، وعن ارتباكي بحضور النساء. فكرت أن أبدأ حديثًا مع لين، تُسَيرني رغبة بأن أُثبت لنفسي القدرة على تخطي أزمة الانفصال مع ما سبَّبه من خراب يعيش في داخلي وقلة ثقة. أخبرتُ لين شيئًا عني:

– تعرفين، منذ اعتيادي العيش وحيدًا، وأنا أشعر بأن البشر متعِبون. لولا أن أميركا بلد بعيد، لما جئتُ لوداع يوسف وريما.

لم تنجح كلماتي في انتزاعها من شرودها. لكن ما إن بدأت الحديث، لم أجد مناصًا من متابعته:

– عندما يرحل الأصدقاء من هنا، يتركون لديَّ انطباعًا أنهم أصبحوا في بُعد آخر. في زمن آخر. أو أنهم ماتوا. وأعرف ما إن يسافر يوسف فسينقطع شيء بيننا. لا أزال أرى رحيل الأصدقاء، يشبه موتهم، إنه حدثٌ عدواني في حياة من يبقى. وأنا أفترض موتهم، كي أستطيع التصالح مع غيابهم.

لم تستطع لين أن تخفي السحر الذي تركتْه مفردةُ «الموت» بين كلماتي الأليفة كالصداقة والزمن والنسيان. كما لا أستطيع أن أنكر، على الأقل أمام نفسي، أن عينيها أشرقتا ما إن تحدثتُ عن الموت. لكن بقي هذا الانطباع لديَّ، احتفظتُ به لنفسي، ولم أبُح به لأحد حتى بعد وقوع الجريمة.

 

سومر شحادة روائي سوري من مواليد اللاذقية عام 1989، حصلت روايته الأولى «حقول الذرة» على جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي عام 2016، وحصلت روايته الثانية «الهجران» على جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية عام 2021. صدرت له عن دار الكرمة رواية «منازل الأمس» (2023).

وصلت روايته الأخيرة «الآن بدأت حياتي» إلى القائمة الطويلة لجائزة الرواية العربية (بوكر) في العام 2025.

الآن بدأت حياتيسومر شحادة

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member