مقتطف من رواية محمد الفولي: الليلة الكبيرة

24 February, 2025
إدريس وضاحي (مواليد الدار البيضاء 1959)، «العودة إلى الأصل»، زيت على قماش، 70×80 سم، 2020 (بإذن من الفنان وصالة هوسفيلت).

بلغة سلسة يكتب محمد الفولي عن طبق طائر يهبط فجأة في منطقة شعبية في مصر، لنرى كيف يتعامل سكان المنطقة مع هذا القادم الجديد. رواية «الليلة الكبيرة» هي روايته الأولى، بعد مجموعة قصصية وعدة كتب مترجمة من الإسبانية.

 

محمد الفولي

 

1

حين هبط الطبق الطائر في «أرض الموقف»، صدرت الشخرة الأولى من «علاء بوكس».

لم يفعلها من فرط اندهاشه ولا تفاجئه من الظهور المباغت للطبق الذي أضاء «أرض الحجز» الخضراء، وإنما لأن «محمود كتلة» أهدر الكرة، التي مررها إليه، ووضعها فوق العارضة. كان علاء قد راوغ كل لاعبي الخصم، بطريقته المارادونية المعهودة، دون أن يلقي من يده سيجارته «كليوباترا بوكس»، التي تقول الأسطورة إنها تمده بنصف مهاراته الكروية وثلث نفسه الطويل، بخلاف كونها السبب في لقبه، ثم أرسلها عرضية برازيلية إلى «كتلة» الذي وصل إليها بجسده الرجراج وهو يلهث ككلب صيد عجوز، قبل أن يتعثر وهو يسددها لتعلو العارضة ببطء مسرحي عجيب.

انتبه «بوكس»، قبل أن يأتي بفهرس شتائمه المبتكرة في حق السيدة المصون «أم كتلة»، أن كل من في «أرض الحجز» قد التفتوا في اتجاه المرمى الآخر، وبالمثل، أن كل كشافات الملعب قد انطفأت، مع أن أرضيته المفروشة بالنجيل الصناعي ظلت تلمع بضوء أبيض من بياض جلباب العيد. وكانت حقًّا ستصبح ليلة عيد لو تمكن «كتلة» من تسجيل الكرة، أو أن هذا ما فكر فيه علاء حين «خنزَر» صوته بعد الفرصة المهدرة لأن مبلغًا محترمًا كان على المحك: ألف من فريقه وألف من الخصم، يحصل عليهما الفريق الفائز بعد انتهاء الحجز الخماسي، الذي ساده التعادل وتبقت منه دقيقتان فحسب. هذا هو ما دار في ذهن «علاء بوكس»، الذي لعب كعادته بقدميه العاريتين المفلطحتين كقدمي عظَّاءة عملاقة، قبل أن يرى التفات كل من في الساحة في اتجاه المرمى الآخر الذي حلَّق خلفه الطبق الطائر على ارتفاع نصف متر، وانبثقت منه إضاءة قوية أنارت «أرض الحجز» بعد انطفاء الكشافات.

رواية “الليلة الكبيرة” من إصدارات ديوان.

وقبل أن يتمكن «بوكس» وكل من معه من إبداء رد فعل حقيقي، شاهدوا جميعًا الطبق وهو يرتفع فجأة مسافة تقترب من 16 دورًا -أي ما يعلو ارتفاع كل بنايات المنطقة المخالفة بطابقين- ليلف ويدور حول محوره، كأنه درويش في مولد فضائي يطالب وليًّا مجهولًا أن يمن عليه ببركاته. لكن هذه البركات لم تأتِ قط -أو ربما أتت وفقًا لتفسير كل شخص سيعرف أحداث هذه الليلة الغبراء- إذ انبثق فجأة شيء يشبه المزراب من قاعه، وانطلق منه شعاع أخذ يُشكِّل قبة دائرية زرقاء شفافة أحاطت بــ«أرض الموقف»، وساحة الحجز، والجامع، وشارعي «قصر فخري» و«عبد الرحيم باشا»، وكل ما في هذه المنطقة من بنايات مأهولة ومهجورة، وورش، وتكاتك، ومشروعات صرف صحي، وقطع أثرية تحت الأرض وفوقها، وكلاب ضالة، وبشر طالحين وصالحين، وأولئك الذين بين هذا وذاك.

جاءت الشخرة الثانية في هذه الليلة الغبراء التي ستفيض بالخنزرة، وشغل العيال، وهمة الرجال وكسلهم، وشهامة النساء وكيدهن، والحب الممزوج بالكراهية، والكراهية المغموسة في الحقد، والمنطق، واللامنطق من أنف «إسلام حجز»، الذي تعددت الأقاويل حول سبب تلقيبه بهذا الاسم. يقول البعض إن مرد الأمر ببساطة إلى أنه مسؤول عن إدارة حجوزات ساحة الكرة الخماسية الكائنة إلى جوار «أرض الموقف» في شارع «نهر الجبل» ومواعيدها. يذهب آخرون أبعد من هذا ويؤكدون أن السبب هو أنه سرق بوابة حجز قسم شرطة الحي، ودهنها بالأبيض، في أثناء أحداث «الهوجة التاسعة»، وركَّبها كبوابة فرعية لحاوية الشحن الصغيرة التي وضعها في أحد أركان الساحة وقسمها إلى نصفين: أولهما مكتبه الشخصي، وثانيهما غرفة لتغيير ملابس اللاعبين. لم يستخدم «إسلام حجز» صوته الأنفي من فراغ؛ فقد فعلها حين انفجرت كل مصابيح الكشافات التي دفع فيها دم قلبه منذ أيام عدة كي تصبح «أرض الحجز» صالحة للعب طيلة الساعات الأربع والعشرين، باستثناء الأوقات التي قد تنقطع فيها الكهرباء ليلًا لتخفيف الأحمال. حدث الأمر كالتالي: لما انتهى الطبق الطائر من تحويط المنطقة بالقبة الزرقاء الشفافة، بدأت الكشافات تضيء تدريجيًّا بعد انطفائها الأول المفاجئ، لكن إضاءتها ظلت تتصاعد كأن أحدًا لا يقدر على إيقافها، أو كأن إدارة الكهرباء قد قررت فجأة إلقاء مبدأ تخفيف الأحمال في أقرب بالوعة صرف وانتهجت سياسة جديدة تقتضي فشخها. أعمت هذه الإضاءة كل من في «أرض الحجز»؛ من واقفين مثل «بوكس»، وواقعين مثل «كتلة»، وجالسين مثل «سعيد أرنوب»، قبل أن تنفجر وتطق شررًا من دون أي مقدمات، وهو شيء إن فكر فيه المرء الآن فسيجده طبيعيًّا؛ لأن ليلة مثل هذه لم تكن بحاجة أصلًا إلى أي ديباجة ولا تمهيد. لا بد أن شيئًا مشابهًا حدث في أغلب بيوت المنطقة؛ إذ إن أصواتًا أنفية وحلقية عدة قد انطلقت من كل العمارات والبيوت والمتاجر والشوارع وتمازجت مع صرخات الغضب أو الخوف، والسباب، واللعنات، وبكاء الأطفال، ونباح الكلاب، ومواء القطط، ونهيق الحمير، وصهيل الأحصنة، وكل الأوركسترا الحضرية الشعبية المناسبة لحدث بمثل هذه الجسامة.

ولأن هذا الحدث كان جسيمًا فعلًا فقد فُزِع «سعيد أرنوب» فزعًا يليق باسمه، مع أنه لم يستمده -والعياذ بالله- من الجبن، وإنما من بياض بشرته وشفتيه الأرنبيتين وسنتيه الأماميتين البارزتين؛ إذ انطلق راكضًا وعلى كتفه الحقيبة التي تضم هواتف اللاعبين المحمولة ورهاناتهم، ثم اجتاز بوابة «أرض الحجز» التي حوطها من أطرافها الأربعة سياج حديدي طويل يُفترَض أن إسلام ركَّبه لمنع الكرات الطائشة من الخروج، لكن الحق يُقال: كانت فائدتها والعدم سواء، ولم تفعل شيئًا سوى إكساب ساحة اللعب هيئة فناء سجن مفتوح في وسط شارع «نهر الجبل»، وهي الهيئة التي تماشت تمامًا مع أسطورة بوابة حجز القسم المدهونة. المهم أن «بوكس» و«كتلة» و«حجز» وكل من معهم رأوا باندهاش كيف وثب «أرنوب» من فوق حُفَر مشروع تغيير أنابيب الصرف الذي بدأ منذ خمس سنوات ولم ينتهِ وربما لن ينتهي أبدًا، ومع ذلك فإن أيًّا منهم لم يقلق على هاتفه المحمول ولا المال؛ فـ«أرنوب»، المعروف أيضًا بـ«سعيد ابن الناس الكويسين»، أصغرهم سنًّا، ومجرد طالب في الصف الأول الثانوي، لم يمن الله عليه بقوة بدنية ولا بطلاقة لسانية، لكنه منحه قبولًا لا يمكن لأحد مضاهاته، فلا يشعر المرء حين ينظر إلى منظره الأرنبي الضعيف إلا بالعطف والأسف، إلى درجة أنه لم يتعرض إلى مضايقة ولا تنمر على الرغم من معيشته في حي متوحش مثل هذا يُؤكَل فيه الضعفاء ويُضرَبون فيه على قفاهم كتحلية، هذا إن استثنينا بالطبع مسألة اسمه، وهو شأن إن تمعَّن فيه المرء جيدًا لما عدَّه تنمرًا؛ لأن ما يُقال على لسان محب لا يتساوى مع ما يُقال على لسان كاره، وكل من عرف «سعيد ابن الناس الكويسين» أحبَّه، بل إنه إن تجرأ أحد في المنطقة أو خارجها على تخطي حدوده معه نال دائمًا ما يستحقه من «بوكس» و«كتلة» و«حجز». أما في «مدرسة خالد بن الوليد الثانوية بنين» فلم يقدر أحد أصلًا على التفكير في الأمر؛ لأن أخاه أستاذ اللغة الإنجليزية، «مستر ناصر التهامي»، الذي يعمل أيضًا كاتبًا ومترجمًا، كان معروفًا بقسوته، وضربة كفه القادرة على إسقاط أعتى الأشقياء، وبالطبع بحبه الشديد لـ«أرنوب»، واستعداده لفعل أي شيء للدفاع عنه. عرف كل من في «أرض الحجز» في تلك اللحظة أن «أرنوب» سيتوجه ليُبلِغ أخاه بما حدث، وقد اطمأنوا إلى قراره هذا؛ لأن «مستر ناصر» -في النهاية- رجل عِلم، وسيكون له رأي في ما يجب فعله في هذه الليلة الغبراء. عرفوا أيضًا أنها ستكون ليلة طويلة؛ لأن الطبق الطائر عاد من تحليقه وهبط مرة أخرى، هذه المرة على نحو كامل، ثم صدرت منه فجأة، وسط ذهول الجميع، الشخرة الثالثة المنفردة في هذه الليلة، قبل أن يسود بعدها صمت تام؛ لأن الثالثة -غالبًا- ثابتة.

 

2

تعلم سماح جيدًا أنها -وفقًا للمقاييس الشعبية- نسخة فائقة الجودة من روبي، ولهذا السبب تحبها. يُشعِرها هذا الشبه أن لها رونقها الخاص داخل هذا المكان القذر الواقع في مؤخرة العالم، مع أنها أصلًا لا تعرف معنى كلمة «رونق» ولم ينطقها لسانها قط. تحب أيضًا كل أغنياتها. تستمع الآن، وهي تضع زينتها، إلى «ليه بيداري كدا». تدندنها بصوتها الناعم، وتفكر أنها ربما أخطأت في اختيار الأغنية؛ لأن الأنسب لحالتها الآن هي «3 ساعات متواصلة»؛ فهذا هو الوقت الذي تود أن تقضيه الليلة في الفراش مع «علاء بوكس». تعلم أن هذا مستحيل؛ لا لأن علاء قد يعجز عن اجتياز هذه المدة عبر أداءات قصيرة ومتوسطة وطويلة تفصل بينها استراحات وجيزة، مع الاستعانة بالأقراص السحرية من صيدلية «الشفا»، وإنما لأن كل شيء يجب أن يحدث من الآن فصاعدًا بهدوء؛ فقد تحقق حلمها، وأخيرًا وبعد طول انتظار ستصبح أمًّا! ستودع تلسين الجارات حول عجزها عن إنجاب ابن أو ابنة، وسينتهي الكابوس. ستصبح أم أحمد، أو سيف، أو محمد، أو جنة، أو شمس، أو تقى، وستُسكِت أي أم أربعة وأربعين أخرى فتحت -أو ستتجرأ على فتح- فمها بكلام يُسمِّم بدنها، وهو البدن الذي لا يزال فائرًا وبعافيته وقادرًا على الحل من على حبل المشنقة.

تفكر سماح في كل هذا وهي تُصفِّف شعرها الأسود القصير الذي رفضت أكثر من مرة نصيحة «أم منى» الكوافيرة بتغيير لونه وصبغه بالأحمر أو الأصفر؛ فهي تعرف أن شعرها -بصفتها نسخة شعبية فائقة الجودة من روبي- لا يليق به سوى الأسود الغامق. تعرف أيضًا أن اللون الأسود يجب أن يمتد إلى عينيها الواسعتين بتكحيل غامق وكثيف، وأن شفتيها يجب أن تتزيَّنا بتلك الحمرة اللامعة التي يحبها علاء في ليالي الأنس. إحقاقًا للحق: يتماشى كل هذا مع بشرتها التي ليست فاتحة طبعًا ولا غامقة على نحو زائد، ولا شك أنها ناعمة كخد رضيع. ومرد هذا أنها لم تُفسِدها بأي كِريمات ولا كيماويات، بل تعاملت معها عبر خلطات طبيعية تعلمتها من المرحومة أمها «أبلة فاتن». «بشرة فرعونة»، هكذا وصفها علاء ذات مرة في إحدى ساعات الصفا وهي تذوب بين يديه؛ ليس لأنه أفضل رجل في العالم، وإنما لأنها حقًّا أحبَّته، ولأنه حقًّا أحبَّها. لهذا حين كررت «أم منى» عرض الصبغة عليها قبل يومين، وجدت نفسها تقول لها:

– عمرك تخيلتي كيلوباترا بشعر أصفر ولا أحمر يا أم منى؟

فما كان من «أم منى»، التي لم يرُقها غرورها، إلا أن ردت:

– لأ، لكن مش وارد مع الأصفر ولا الأحمر ترفعي نفسك من بوكس لمارلبورو؟

والحق يُقال: لولا أن سماح كانت في منتصف جلسة فرد الشعر بالمكواة لقامت ورقَّعت صدغي «أم منى» بالشبشب؛ لأن هذه ليست المرة الأولى التي ترمي فيها كلامًا -سواء أكان مباشرًا أم لا- عن ضرورة أن تبحث لنفسها عن رجل آخر، والأسوأ أنها فوق كل هذا أضافت:

– لا بد إن فيه عيب منه، ما دام رافض يكشف ويعمل التحاليل.

هذا ما كرره لسان «أم منى» الذي استأهل قطعه، وردت عليه سماح بزفرة غاضبة قبل أن تقول ما لم ترغب قط في قوله في كل المرات التي فتحت فيها الكوافيرة معها هذه السيرة:

– العيب يبقى من الراجل لما يمشي من بيته وبعدها يبقى فص ملح وداب يا أم منى!

داست عبارتها على جرح «أم منى» بقوة، أو هكذا ظنت سماح؛ فكل من في المنطقة يعرف ما حدث لها حين تزوجت شابًّا يصغرها بعشرة أعوام بعد وفاة زوجها «المسيو فهيم» المالك الأصلي لمحل الكوافير، وكيف أن عريس الغفلة فر بعد فترة وجيزة على الزواج بعد أن أخذ ما وراءها وقدَّامها من مجوهرات وأموال احتفظت بها في البيت، ولم يظهر بعدئذ قط، كأنه -كما قالت سماح- حرفيًّا «فص ملح وداب». قالت بعض سيئات النية من الأهالي إن هذا جزاءها لأنها امرأة عائبة شائبة لم تحترم ذكرى «المسيو فهيم»، أفضل كوافير حريمي عرفته المنطقة، بل الحي، وربما العاصمة كلها. ذهب بعضهن إلى ما هو أبعد من هذا، وقلن إن وفاة زوجها لم تكن طبيعية، وإن لها يدًا قذرة فيها، وإنها أسهمت في موته المفاجئ كي تُسهِّل زواجها بحبيب القلب الذي ظهر لاحقًا أنه ابن كلب، وعلى الأرجح فعل فعلته وطار مع واحدة «بنت بنوت». لحسن الحظ، ظل ما بقي من ميراث «المسيو فهيم» من دون أن يمسسه ضرر في البنك، ومعه أيضًا محل الكوافير الذي تكفلت «أم منى» بإدارته. ومع أنها لم ولن تقترب من مهارة زوجها الراحل في فنون التجميل؛ لأنها في الأصل كانت ممرضة جراحية، فإن أحوالها ظلت جيدة؛ ففي منطقة مثل هذه عاشت فيها النساء وشعرهن مُعبَّق برائحة الجاز، وتقصفت فيها أظافرهن من سوء التغذية، واسودت فيها وجوههن من مزيج العرق والشمس والملح وتراب مشروعات حفر الصرف التي لا تنتهي، واخشوشنت فيها بشرتهن من عملهن كالرجال (كلهن طبعًا باستثناء سماح، النسخة الشعبية الفائقة الجودة من روبي، التي منَّ عليها الرب بنقيض كل هذا)، يمكن لأي كوافير درجة رابعة أن يجد له مكانًا، و«أم منى»، كانت قد صارت كوافيرة درجة ثانية، ولهذا كُتِبت لها النجاة.

تذكرت «أم منى» كل هذا وهي تقبض بمكواة الشعر على مجموعة من خصل سماح، التي لم تكن قد عرفت حينذاك بعد أنها حُبلى، وتخيلت أن الكوافيرة قد ترفع المكواة وتُطبِقها على رقبتها وتحرقها انتقامًا منها، لكنها عارضت كل خيالاتها واستمرت في كي شعرها بالعفوية نفسها التي تتظاهر أنها تكوي بها جرحها المفترض كلما أتت إحداهن على ذكر المتعوس «حسام السلاب».

قالت وهي تبتسم من تحت ضرسها، فيما تُمسِّد شعر زبونتها الجميلة، وتنظر إلى عينيها السوداوين الواسعتين في المرآة بغِل:

– معاكي حق يا فرعونة!

تفكر سماح الآن، بعد أن توقفت عن تصفيف شعرها أمام المرآة وهي تعتني بوضع أحمر الشفاه اللامع الذي يروق «بوكس»، أنها ربما قست قليلًا على «أم منى»، لكنها تنفض هذه الفكرة عن رأسها سريعًا، وتخلُص أنها من جلبت هذا على نفسها بحشر أنفها في ما لا يعنيها. بعدئذ، تنهض ببطء من فوق كرسيها -لا عرشها الفرعوني- في تلك الغرفة التي تعيش فيها منذ سنوات عدة مع علاء فوق سطوح عمارة «الحاج طاهر»، الذي يعرف الجميع أنه أنجس خلق الله، ومع ذلك لا يجرؤ أحد على قول هذا في وجهه. تتراجع خطوتين إلى الوراء لتتأمل نفسها. ترتدي قميص نوم أحمر قصيرًا بحمالتين رفيعتين يُبرِز مفرق نهديها المستديرين النافرين، ويترك حرية حركة معقولة لهما وليدَي رجلها الذي يحب مداعبتهما. يضيق قميص النوم من تحت منطقة الصدر ويرسم ردفيها المشدودين، فيبدو قوامها مثل الكمان، تلك الآلة الموسيقية التي لم يعرفها الفراعنة ولن تروق موسيقاها حتمًا لـ«بوكس». لم تفكر في جسدها قط بصفته كمانًا. لا وجود لمثل هذه الشاعرية في عالمها. جسدها مهرجان. مهرجان شعبي. موسيقى متمردة. يجب أن يكون هكذا: فائرًا وصاخبًا، مثل عالمها، وعالم رجلها. قد يبدو هذا قبيحًا في أعين البعض، لكن هذه هي شاعريتهما، وشاعرية عالمهما، مع أنها أصلًا لا تعرف معنى كلمة «شاعرية»، ولم تنطقها قط.

تضع يدها فوق بطنها وتبتسم. سينتفخ هذا البطن قريبًا، لكن لا مشكلة؛ فالحمل يزيد من حلاوة النساء. هذا ما يقوله البعض بعلو الصوت لتشجيعهن. لكنه يزيد أيضًا من أوزانهن. هذا ما لا يقوله أي شخص، لا بعلو الصوت ولا بصوت خفيض؛ فهذه حقيقة تراها كل الأعين ولا مكان لمفهوم النسبية فيها. لا تُقال الحقائق، التي تراها كل الأعين، غالبًا بعلو الصوت، وإنما الكذب وحده؛ كي يصدقه الجميع. إذن، هل مسألة الحلاوة الزائدة في الحمل مجرد كذبة؟ تهز رأسها كأنها لا ترغب في التفكير في كل هذه الأشياء. ثمة حقيقة واحدة مؤكدة بالنسبة إليها: كله يهون في سبيل المولود السعيد أو المولودة السعيدة، وسيمكنها -بعد تشريف جنابه أو جنابها- أن تسترد بسهولة عودها المثالي. تمسك هاتفها المحمول وتنظر إلى الساعة. إنها الآن العاشرة إلا الربع، ويُفترَض أن ينهي «بوكس» مباراته في العاشرة بالضبط. لم تؤنبه ولم توبخه قط على مبارياته شبه اليومية، ولا على مراهناته فيها، سواء كسب أم خسر؛ فهي تعرف أنه يحتاج إلى المال القادم منها وإلى هذا المتنفس اليومي، مع أنها -ولا بد أننا صرنا نعرف- لا تعلم ما معنى كلمة «متنفس» أصلًا ولم تنطقها قط. كل ما يهمها أنهما التزما منذ اللحظة الأولى لزواجهما بالوعد الذي قطعاه قبله بالابتعاد قدر الإمكان عن السكك البطَّالة.

– لا كيميا، ولا نسوان، ولا مشي شمال، والماضي كله مردوم.

وهذا لأن «بوكس» و«سماح» لم يتعرف أحدهما إلى الآخر في ظروف عادية كبقية الخلق، وإنما في بيت أمها، «أبلة فاتن»، الذي كان مؤسسة مزاج شعبية تقدم خدماتها الترفيهية لطلاب المدارس الثانوية حصرًا، في منطقة ليست ببعيدة عن «أرض الموقف» وتقع مثلها في مؤخرة العالم. تنوعت هذه الخدمات بين الرقص، والتعري، والجنس الفموي، وهو أغلى شيء في قائمة الأسعار. مع ذلك، لم تتضمن القائمة في أي لحظة العلاقات الكاملة؛ لأن «أبلة فاتن» لم تُرِد أي مشكلات لها، ولا لابنتيها، ولا لطلاب المدارس، ولا لأهاليهم، بل إنها استهدفت أصلًا أن يكون زبائنها من هذه الفئة فحسب لسهولة إرضاء هياجهم عبر هذه الخدمات التي ستسمح لابنتيها سماح وسلوى بالاحتفاظ بعذريتهما. أيضًا، رفضت «أبلة فاتن» فكرة إدراج الإتيان من الخلف من بابها في قائمة خدماتها؛ لأنها فعلة محرمة، ولا يمارسها أصلًا إلا رجل ناقص، ولم تُرِد زرع مثل هذه الأشياء في عقول الشباب الصغير.

تأججت المشاعر المتضاربة داخل نفس سماح في تلك اللحظة؛ إذ لم تعرف هل عليها الامتنان لأمها لأنها فرضت هذه الشروط وأبقت على عذريتها، أم أن عليها لعنها هي وسلسفيل جدودها لأنها باعت شرف ابنتيها بالرخيص لفترة ليست بالقليلة قبل أن تقابل وجه الكريم. أشد ما يؤلمها كلما تذكرت هذه الأيام -الله لا يرجعها- هي أنها وجدت السكينة مع «بوكس»، على عكس أختها سلوى التي لم تلقَ هذا المصير؛ إذ حلت نهايتها بصورة لا يرتضيها المرء لأحد؛ فحين قابلت «أبلة فاتن» وجه الكريم، باعت سماح وسلوى البيت القديم ذا الطابق الواحد الذي سكنَّه جميعًا في تلك الأيام السوداء. كان يقع في زقاق مسدود ومنسي، ولم يكسبا منه سوى فتات قليل اقتسمتاه قبل أن تفترقا. آنذاك، كانت سماح قد وطدت علاقتها بـ«بوكس»، واتفقت معه على التوبة، وأنها لن تصبح لأحد غيره، وصدَّقها علاء؛ لأنه وجد معها من حنان وصدق واهتمام حقيقيين ما لم يجده مع أي شخص آخر، حتى في بيت أبيه، ولأنها، بمرور الوقت، ومع تعدد لقاءاتهما خارج بيت «أبلة فاتن»، لم تعد في عينيه وعقله مجرد جسم فائر، بل صارت شيئًا أكبر من هذا، وفي الحقيقة أيضًا لأن أحدًا لم يكن ليرضى بصاحب سوابق ورد سجون ومنبوذ من عائلته وأهله وناسه زوجًا إلا فتاة مثل سماح: مقطوعة من شجرة، ولها هي الأخرى ماضيها الذي لا يُشرِّف ولا يسر عدوًّا ولا حبيبًا. علم كلاهما هذا. ومع أن كل سيئي النية افترضوا أن زيجة مثل هذه مآلها الفشل، جاء نجاحهما في البقاء معًا كأفضل صفعة على مؤخرة كل هؤلاء الذين يراقبون العالم من منظورهم الضيق. أو أن هذا ليس صحيحًا بالكامل؛ فقد صدقت -مع الأسف- نبوءتهم بخصوص سلوى التي تدمع عينا سماح الآن حين تتذكر ما حدث لها. انقطعت أخبار سلوى بعد افتراق الأختين بشهر. كان آخر شيء جمع بينهما مكالمة هاتفية سريعة أخبرت فيها سلوى أختها الصغرى أنها عثرت على شغل جديد. ولما سألتها سماح عن طبيعته، ضحكت سلوى باستهزاء ممزوج بالحسرة وقالت:

– يعني هي القحبة لما تتوب تعمل إيه يا بت؟!

لم تحتج سماح إلى سماع المزيد؛ فقد علمت حينذاك أن أختها ستمضي في هذه السكة الشمال إلى آخرها، وستبدؤها غالبًا بـ«الريكلام». لم تلُمها، وكان كل ما فعلته هو لعن أمها «أبلة فاتن» التي لم تحكِ لهما قط شيئًا عن أبيهما، وأين هي أراضيه، ولماذا فعلت بهما كل هذا، أو لِمَ اختارت هذه السكة لها ولهما وحكمت عليهما بكل هذا المرار الطافح. مع ذلك، عادت في النهاية لتترحم عليها؛ لأنها على الأقل تركت لهما البيت الذي بِيع بفتات ساعدها حين وضعت نصيبها منه على مدخرات «بوكس» من عمله على التوكتوك وأرباح المراهنات في «شراء» غرفتهما الواقعة فوق سطوح عمارة «الحاج طاهر». وضعت تحت «شراء» وليس «تأجير» ألف خط، وهي تسترجع كل هذا الآن، وسط دموعها التي بدأت تنهمر بالفعل وأفسدت تكحيل عينيها المثالي؛ لأنها تذكرت جثة سلوى حين رأتها في المشرحة.

كانت أربعة أشهر قد مرت على انقطاع أخبار سلوى عن سماح. ومع أنها تقدمت ببلاغ في قسم الشرطة بعد انقضاء أول أسبوع على توقف مكالماتها واختفائها بلا حس ولا خبر، فإنها لم تتلقَّ ردًّا خلال الفترة اللاحقة، إلا حين دق أمين الشرطة باب غرفتها مع «بوكس» وطلب منهما أن يأتيا معه إلى القسم، لكن فُوجِئت سماح وعريسها الجديد أن الأمين يصطحبهما إلى المشرحة لا إلى القسم. حينئذ، سابت أوصالها؛ لأنها علمت داخل قرارة نفسها أن هذا المشوار يرتبط بالغصن المقطوع الباقي من شجيرة عائلتها الفاسدة. شقَّت سماح عباءتها ولطمت وبكت حين تعرفت على الجثة؛ وهذا لأسباب عدة: أولها أن أختها قد انعدمت كل ملامحها؛ إذ انفقأت عينها اليسرى، وتورم أنفها المكسور بلون باذنجاني، وشُرِّح وجهها بجروح طويلة وقصيرة متقاطعة كأن أحدًا ما قرر أن يرسم خريطة عذاب أبدي عليه؛ وثانيها لأنها حين نظرت إلى جسدها وجدت جروحًا وطعنات أخرى متنوعة في بطنها وصدرها؛ وثالثًا لأنها، وسط كل هذا، رأت الوحمة المميزة الموجودة قرب سُرَّتها، فعلمت حينئذ أنها سلوى، التعيسة الحظ، التي لم تكتمل نبوءتها؛ فالقحبة لم تتُب، ولم تُعرِّص، بل عُذِّبت وأُهِينت واغتُصِبت طيلة ثلاثة أشهر تقريبًا، قبل أن تُقتَل وتظهر جثتها ملقاة على الطريق الصحراوي، كما عُرِف لاحقًا. لم تكتفِ السلطات طبعًا بتعرف سماح على أختها، وعبر فحوصات الـ«دي إن إيه»، تُؤكِّد فعلًا أنها سلوى. كان أسبوعًا مريرًا على العريس والعروس الجديدين، لكنه انتهى أخيرًا بدفن جثمان الأخت الكبرى بمدافن الصدقة، وإقامة عزاء بائس صغير، ساعد أولاد الحلال والحرام أيضًا في المنطقة في دفع مصاريفه.

علمت سماح على مدار الأشهر التالية أن أختها لم تكن الضحية الوحيدة، وأن ما حدث لها لم يكن جريمة قتل منفردة، وإنما واحدة من ضمن جرائم عدة لقاتل متسلسل. وحين سمعت كلمة «متسلسل» تعجبت؛ فكيف يكون شخص ما:

– متسلسل ومربوط ويعمل كل دا؟! هو شيطان؟!

هكذا سألت «بوكس» وهي تلطم، حين سمعت ما يُقال في برنامج «مساء الخير» على قناة “ZMTV”، فأخبرها علاء، الذي كان قد نال قدرًا لا بأس به من التعليم ووصل فيه إلى الصف الثالث الثانوي، أن معنى الكلمة ليس أنه «مربوط»، وإنما أنه يرتكب جرائم متتالية، بعضها وراء بعض، مثل حبات سلسلة.

– زي اللي في رقبتك دي.

قال لها هذه العبارة قبل أن يحتضنها، وهو الحضن الذي تتمنى الآن أن ترتمي فيه، حتى بعد أن ساح كحلها ولطَّخ خديها الناعمين فأفسد زينة وجهها بالكامل. بكت سماح لدقيقة أخرى، ثم تنهدت وجلست مرة أخرى على المقعد، ونظرت إلى نفسها في المرآة، وأمسكت منديلًا، وبدأت تمسح لطخات الكحل من وجهها وعينيها، قبل أن تتساءل لماذا انقلبت حالها هكذا في ظرف بضع دقائق، من الفرح بالحاضر، إلى الاشتياق إلى المستقبل الوشيك، فالغرق في أحزان الماضي. هل هي هرمونات الحمل، أم أن هذا هو التعريف المثالي للحياة: دوامة زمنية تلعب بمشاعر الخلق. وهذا -بالطبع- ليس تساؤلها الشخصي؛ فهي ليست فيلسوفة زمانها، ولا تعرف شيئًا عن كل هذا، وإنما تساؤلي أنا كراوٍ عليم يحاول أن يبدو علَّامة زمانه، وهو لا يعلم شيئًا؛ فالعلم -كما نعرف جميعًا- عند الله.

ولأن الله غفور رحيم، لا تتوقف سماح يوميًّا عن الدعاء لأختها بالرحمة ولـ«بوكس» ولنفسها بالهداية الكاملة. كانت توبتهما -إحقًاقًا للحق- «نُص نُص»؛ فلا مانع من مراهنات مباريات «أرض الحجز» لأنهما لم يعُدَّاها قمارًا، ورأيا أن المال القادم منها جائزة في مسابقة يفوز فيها الأمهر والأقوى بعد أن يبذل مجهودًا وعرقًا. وجدا تفسيرًا آخر يريحهما لتدخين الحشيش وشرب البيرة و«الآي دي»؛ فالأول نبات رباني، والثاني والثالث لا بد أن يُفرِط المرء فيهما ليذهب عقله ويدخل بوابة الحرمانية، ولأن الدين يُسر فقد اكتفيا بما يسطلهما من هذين المشروبين فحسب في ليالي الفرفشة. علمت سماح في قرارة نفسها أن تحليلهما لهذه الأشياء باطل، لكنها في الوقت نفسه لم تحزن؛ فهما قد قطعا شوطًا طويلًا في البعد عن السكك البطَّالة، وتدريجيًّا، يمكن التخلي عن هذه الأشياء الأخرى، خصوصًا حين يأتي ولي العهد، أو ولية العهد، «الفرعون» أو «الفرعونة» الصغيرة، بعد بضعة أشهر لا يعلمها إلا الله.

نظرت سماح إلى خرطوشة سجائر «البوكس» الملقاة على الطاولة الصغيرة إلى جوار دولابها، ومن بعدها عبر نافذة غرفتها الواقعة فوق سطوح عمارة «الحاج طاهر». أفضل شيء في هذه البناية المشؤومة هو أنها الوحيدة في المنطقة التي ترتفع أربعة عشر دورًا، مع أن عرض الشارع كله ستة أمتار، ما يعني أن غرفة سماح وعلاء لم تكن مكشوفة أمام الجيران، ولهذا أبقت «الفرعونة» نافذتها دائمًا مفتوحة في أيام الصيف ولياليه التي تقبض على روح المرء وتعذبه برطوبتها وحرها وعرق بدنه المغلي. قامت سماح مرة ثانية بعد أن فرغت من مسح وجهها من آثار البكاء. وبمجرد أن أمسكت هاتفها المحمول وتبينت أنها العاشرة إلا دقيقتين، انقطعت الكهرباء عن المنطقة بأكملها، وغرقت في ظلام تام. رأت من النافذة المفتوحة كيف أن جدارًا أزرق شفافًا عملاقًا أخذ يرتسم فوقها ويُشكِّل شيئًا يشبه القبة. هُرِعت فورًا إليها وأطلت منها، وشاهدت ساحة الحجز، والموقف، من منظور علوي مهيب، وذلك الشيء الذي يبدو طبقًا طائرًا وهو يقف ثابتًا. سمعته وهو يصدر ذلك الصوت الجهوري الذي يشبه الشخرة. حينئذ فقط، ضربت بيدها على صدرها وقالت:

– يا لهوي! بوكس!

كاتب ومترجم مصري من مواليد 1987. تخرج في كلية الآداب قسم اللغة الإسبانية، جامعة القاهرة. يعمل مترجمًا ومحررًا ومراسلًا في الخدمة العربية في وكالة الأنباء الإسبانية «إفى» منذ 2008.

ترجم أكثر من ثلاثين عنوانًا عن الإسبانية وفاز بجائزة جابر عصفور للترجمة عن رواية «الوحش» لكارمن مولا، والمركز الثاني، فرع الشباب، من المركز القومي للترجمة عن رواية «حاصل الطرح» لآليا ترابوكو ثيران.

صدرت له عدة مؤلفات، منها: «تقرير عن الرفاعية»، متتالية قصصية، الكتب خان. و«الليلة الكبيرة»، رواية، ديوان. و«النص الأصلي.. عن الترجمة ومسارات الحياة»، الكرمة. و«عين الصقر.. أغرب القصص والمفارقات في كرة القدم»، أثر.

الليلة الكبيرةديوانروايةمحمد الفولي

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member