«إعلام الجماهير: ثقافة الكاسيت في مصر الحديثة»، أندرو سايمون.
Stanford University Press 2022
الترقيم الدولي: 9781503629431
مريم النزهي
في خريف العام 2017، قرر صديق أمريكي شراء ثلاثة كيلوجرامات من أشرطة الكاسيت من سوق الجمعة
القريب من القلعة في القاهرة، هناك يمكن شراء أي شيء، بداية من الأثاث والتحف إلى الماشية وأحدث أجهزة الآيفون. دعاني إلى شقته على أمل أن أكون متحمسة مثله بخصوص هذا الاكتشاف. تعجبت من ما اعتقدت أنها حركة معتادة من أجنبي يعيش في مصر، مسحور بحيوية الأشياء التي ماتت منذ فترة طويلة في الغرب. عندما رأى تأخر رد فعلي شغَّل شريط كاسيت. بدأ التسحيل بصوت مرتفع لرجل يُدعى أحمد، يصرخ بسبب شدة الضوضاء. كانت لهجته ريفية، لكني لم أميز إلى أي مكان تنتمي، وبدا أنه يتحدث إلى عائلته. روى تفاصيل حياته اليومية القليلة؛ تحدث باختصار عن يوم عمله: «أذهب إلى العمل في السادسة وأغادر عند المغرب»، ويتحدث عن زملاءه (هناك أحمد آخر من الدقهلية)، ويعبر عن مدى افتقاده للطعام المنزلي، بعد الانتهاء من كل حكاية يحمد الله. سأل عن بعض الأسماء، صمت لوهلة بعد كل اسم كما لو أنه يتوقع ردًا. كان هناك الكثير من الصمت الميت بين جمل الرجل، طريقة لن يتسامح معها أحد في عصر الرسائل الصوتية على واتساب، والتي يمكن مضاعفة سرعة تشغيلها.
بعد محاولة فهم الشريط الأول أردت أن أسمع المزيد، شعرت بالرضا غير المريح لأني استمعت إلى محادثة شخصية لم تكن موجهة إليَّ. قمنا بتشغيل شريط آخر، اكتشفنا أن هناك أفراد عائلة بأكملها يتحدثون إلى بعضهم البعض، من المفترض إن هذه رسالة موجهة إلى ابن آخر يعمل في الخارج. كان الشريط الثالث يحوي خليطًا من أغاني البوب، وهكذا. قدم كل واحد من هذه الشرائط اليتيمة، المقتطعة من سياقها، لقطة عن العلاقات الحميمة التي ماتت منذ فترة طويلة، وتم إحياؤها عن طريق الشريط.
يبدأ كتاب أندرو سايمون «إعلام الجماهير: ثقافة الكاسيت في مصر الحديثة» بشكل مماثل، مع مجموعة من شرائط الكاسيت المعروضة في كشك بالقاهرة في العالم 2015، والتي تُباع لهواة الجمع لأنها لم تعد مطلوبة. يسعى عمل سايمون إلى تأريخ مثل هذه الأشرطة وتلك التي اشتراها صديقي في سوق الجمعة، بداية من تجربة العمال المصريين الذين يعملون في الدول المنتجة للنفط في السبعينيات والثمانينيات، وشراء أشرطة الكاسيت وأجهزة تشغيلها. ويمر بسرعة على الدراسات السابقة التي تناقش الأشرطة التي تحمل رسائل شخصية بين العاملين المصريين في الخليج وأحبائهم، ويركز اهتمامه على تبادل الأشرطة نفسها، التي غالبًا ما يحضرها من مصر عمَّال يعملون في دول الخليج. مثَّل تدفق هذه السلع ثقافة استهلاك جديدة بشَّر بها الرئيس المصري آنذاك أنور السادات.
يكتب سايمون تاريخًا ماديًا لشريط الكاسيت، ويتتبع تداول الأشرطة ونسخها واختفائها من خلال حوليات سياسة الانفتاح في عصر السادات التي بدأت في العام 1974؛ بعد عام واحد من انتصار حرب أكتوبر، فتح السادات أبواب مصر أمام الاستثمار الأجنبي. لم يكن الانتقال من الاقتصاد الاشتراكي إلى الاقتصاد المختلط بين القطاعين العام والخاص سلسًا، بل حدث الكثير من الصراعات السياسية وأعمال الشغب العنيفة وحبس العديد من الناس والعسكرة الثقيلة المستمرة. لتحفيز الاستثمار في الاقتصاد المصري المنفتح حديثًا، أعاد السادات تنظيم علاقة مصر بالغرب، وأعلن عن مبادرة سلام مع إسرائيل، من بين خطوات أخرى، لتعزيز الشراكة. بالإضافة إلى التحولات الجيوسياسية والاقتصادية الهائلة التي تسببت فيها، خلقت سياسة الانفتاح تحولًا ثقافيًا لا رجعة فيه في المجتمع المصري.
يتتبع سايمون شريط الكاسيت كمحاولة لتخيل المشهد الصوتي لفترة التحرير في مصر. لفهم دور أشرطة الكاسيت في تلك الحقبة الانتقالية، وبشكل أكثر تحديدًا في الثقافة الاستهلاكية المكتشفة حديثًا في مصر، يعتمد سايمون أولًا على المواد المطبوعة؛ مجلات مثل «روز اليوسف»، وصحف مثل «الأهرام»، بالإضافة إلى الصور المطبوعة والمتداولة على صفحات فيسبوك التي تذكر أو تصور دور أشرطة الكاسيت في الحياة اليومية. ثم يتتبع التداول والاستماع من خلال أشرطة الكاسيت وأجهزة تشغيلها في المتاجر في شبرا بالقاهرة، والأماكن الحكومية مثل مكتبة الموسيقى، والأماكن الدينية مثل الأزهر. تشكل هذه المواد المطبوعة واللقاءات الصوتية «أرشيف الظل»: مواد مرئية وصوتية ونصوص خارج الأرشيف الوطني الرسمي المصري. تظهر جاذبية شريط الكاسيت في المجتمع المصري، وأهمية تكنولوجيا الهاتف المحمول في خلق حياة مثالية وعصيرة للمصريين العاديين، بغض النظر عن الطبقة أو المدينة التي أتوا منها.
في العام 1976، وبعد عامين على بداية سياسة الانفتاح الاقتصادي، كتب أحد مراسلين مجلة «روز اليوسف»: «إذا سألت أي مصري في الخارج عن أول ما سيشتريه فسيجيبك على الفور: مشغل كاسيت»، يتابع سايمون حياة شريط الكاسيت محليًا وعالميًا، بل ويوسع تحليله ليشمل سرقة الأشرطة وتهريبها وقرصتنها. يستخدم حركة ومظهر واختفاء مشغلات الكاسيت لتسليط الضوء على على نقاط الضغط المختلفة في تلك الحقبة الانتقالية. تشير الدراما الجمركية والنزاعات الحدودية وسرقة مشغلات الكاسيت وقوانين التلوث السمعي والقضايا القانونية المختلفة حول قرصنة الكاسيت إلى لحظات توتر أثناء صنع مجتمع استهلاكي متفجر.
وكما يجادل سايمون، فإن ثقافة الاستماع أثناء التنقل التي رافقت التوزيع الواسع لأشرطة الكاسيت أدت إلى أن أصبحت وسائل الإعلام المصرية التي تسيطر عليها الدولة لامركزية، وفتحت جميع أنواع الإمكانيات للمستمعين عبر العديد من شرائح المجتمع المصري، بهذه الطريقة، أصبح دور الدولة كوسيط للثقافة وديكتاتور للاستهلاك وحكم للأخلاق تحت التهديد. يتعمق سايمون في دراسة هذا التهديد من خلال التركيز على ثلاثة أفراد رئيسيين يصفهم بأنهم معارضون للدولة المصرية. جاءت شعبية الشيخ عنتر وأحمد عدوية والشيخ إمام من شرائط الكاسيت؛ الأول مقرئ، والثاني مغني شعبي، والثالث مقرئ ومغني. عدت الدولة وحراس بوابة الثقافة الرفيعة الثلاثة مبتذلين.
أثناء ذروة شهرة الشيخ عنتر كمقرئ يسجل ما يقرأ في الثمانينيات، منعه الأزهر من تلاوة القرآن، بسبب قلة دراسته وسوء نطقه. بينما كان أحمد عدوية المغنى الشعبي، الذي بيع ألبومه الناجح «عدوية في لندن» الصادر في العام 1976 ضعف مبيعات ألبومات الأسطورة الكلاسيكية آنذاك عبد الحليم حافظ، مغنيًا مبتذلًا بسبب أسلوبه وألحانه ومحتوى أغانيه. سُجن الشيخ إمام عدة مرات بسبب أغانيه، وهو كان بمثابة صوت لانتفاضة الطلاب في العام 1972، وغالبًا ما سخرت أغانيه من سياسات السادات ودعت إلى التضامن بين العمال والمزارعين وغيرهم من المهمشين في المجتمع المصري.
يركز سايمون بشكل خاص على الأغنية التي أنتجها الشيخ إمام برفقة الشاعر أحمد فؤاد نجم بعنوان «نيكسون بابا»، الفيديو أعلاه، والتي سخرت من زيارة الرئيس آنذاك ريتشارد نيكسون إلى مصر في العام 1974، وذكرت محاولات السادات البائسة لإرضاء الأمريكيين بالسطر الافتتاحي الصريح: «شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الوترجيت». كل هذه الشخصيات، على الرغم من كونها معارضة للدولة المصرية، تمتعت بشعبية بسبب أشرطة الكاسيت التي تم الاستماع إليها في السيارات والمنازل والمحلات التجارية، بعيدًا عن أعين وسيطرة حراس بوابة الثقافة الرفيعة في مصر. ومع ذلك، شكك بعض الكتاب في شعبية الشيخ إمام، مدعين أن موسيقاه صُنعت ليستمع إليها قطاع صغير من اليساريين والطلاب والنخبة المثقفة الذين شعروا بالانحياز إلى الموضوعات التي تناولها. ويرى آخرون أن الشيخ إمام نُسي إلى حد كبير، وأنه جزء من ماضٍ بعيد متربط بالهزيمة الساحقة في يونيو 1967.
عنوان سايمون الاستفزازي «إعلام الجماهير» يدفعني للتساؤل: من الجماهير في مصر؟ إلى ماذا يستمعون؟ ومن يغني لهم؟ في التكون السياسي والخطابي حيث تعد الشعبوية معارضة بسبب تدابير الرقابة والقيود القانونية، من الصعب تحديد بالضبط ما الذي يحدد نوع الموسيقى الشعبية، وما هي متجذرة فيه، ومن تخدمه. خارج النموذج الرجعي، ربما يمكننا التفكير في الموسيقى الشعبية على أنها موسيقى تستخدم ألحانًا جذابة لمعالجة مواضيع عالمية مثل الحب والزواج والولادة والموت والعمل والزراعة ودورة الحياة. بالطبع، يمكن أن تمتد هذه الموضوعات الدنيوية/العملية إلى الاضطرابات السياسية أو التقشف، ولكن هناك شيء ناقص في اختيار أحمد عدوية وكأنه داود في مواجهة جالوت (الثقافة الرفيعة)، أو اختيار الشيخ إمام كصوت للثورة. إن رسم سايمون التاريخي لشعبية هذه الشخصيات وتداولها من خلال أشرطة الكاسيت يفتح مجالًا لمزيد من الدراسة حول تأثير هؤلاء الفنانين «المشهورين» على مستمعيهم، ومدى انتشار تأثيرهم. كيف أحب المستعمون أو كرهوا أحدث شريط كاسيت؟
في قسم التعليقات على أغنية أحمد عدوية «كله على كله» على يوتيوب: «لما اسمع احمد عدويه اتذكر الصيف والنسيم الرائع»، وكتب آخر مخاطبًا عدوية: «بتفكرني بأيام المدرسة الابتدائية والشرايط».
لقد تجاوزت الفترة الحالية من اللامركزية غير المسبوقة وإمكانية الوصول غيد المحدود إلى الموسيقى عصر أشرطة الكاسيت. الآن فقط، ومن خلال الانترنت، يمكننا التعرف إلى العلاقة بين المستمعين والموسيقيين وإنتاجهم، من خلال قراءة التعليقات يمكننا الكشف عن المزيد حول ما يعنيه استقطاب الفنانين للأفراد المستمعين بطريقة حميمة.
في ظل غياب أرشيف الانترنت الذي من شأنه أن يوفر نظرة ثاقبة لردود أفعال المستمعين من السبعينيات، يساعدنا سايمون على فهم كيف يمكن أن تؤثر ثقافة الكاسيت على تكون موضوع صنع مصر الحديثة. سايمون ليس الوحيد الذي يتطلع إلى أشرطة الكاسيت كأرشيف للتواريخ البديلة. يتطلع أرشيف الكاسيت السوري، وهو مشروع أسسه مارك جرجس ويامن مقداد، إلى ثقافة الكاسيت لفهم المزيد عن التراث الموسيقي السوري والتاريخ الاجتماعي. كجزء من هذه الموجة التحريفية، يملأ «إعلام الجماهير» فجوات الحذف التاريخي للماضي، من خلال تتبع آليات الأشكال الصوتية المختلفة، التي كانت بمثابة خلفية لحقبة التحرير في مصر.