أثناء العمل في محل فرارجي في منطقة كوم الدكة بالاسكندرية، تكسب طالبة أجنبية تجيد اللغة العربية صداقات، وتكسر الحواجز بين الجنسين والحواجز الدينية، وتتعلم الذبح الحلال.
بيل باركر
تزاحم الدجاج والأرانب قي أقفاص خضراء، وتناثر الدم على طاولات العمل الشاحبة. كانت آلة إزالة الريش ترعد فى الزاوية، والضوء يتراقص على السكاكين الملساء واللحم المتلألئ، هناك رائحة نتنة حادة. كانت هذه هي المرة الأولى التي أمر فيها بمحل حاتم الفرارجي، أذهلتني دراما الذبح الحي.
كنت أدرس اللغة العربية لسنة واحدة في الإسكندرية، متعطشة لتجربة اللغة والثقافة المحلية، ولموطئ قدم في مدينة جديدة. عندما سرت لأول مرة في شوارع كوم الدكة الضيقة، بدا الأمر كما لو كنت قد صعدت على خشبة مسرح: أصبحتُ لافتة لأنظار وفضول الناس في عالم صغير يعرف فيه الجميع بعضهم البعض.
كُتب عنه الكثير، كما أن هناك أغان عديدة عنه، يقع حي كوم الدكة في قلب التاريخ. الحي مبني على أطلال قديمة ولا تزال آثار هندستها المعمارية الجميلة موجودة بين المباني السكنية الحديثة المبنية بأقل التكاليف. يرى معظم سكان الإسكندرية أن الحي شعبي، والكلمة التي تعني أنه خاص بالشعب، ويوحي بالتقاليد، سكانه من الطبقة العاملة والحرفية المحلية.
تجولت في الحي أحمل الكاميرا حتى وصلت إلى ساحة صغيرة في وسطه. في أحد جوانبها كان هناك مقهى مزدحم يحمل اسم الموسيقار الشهير سيد درويش الذي كان يتناول قهوته اليومية هناك منذ أكثر من 100 عام. مقابل المقهى كان هناك محل فرارجي. رأيت دجاجة تصيح من داخل قفصها، فرفعت كاميرتي. سمعت اسم الله قبل أن تقطع السكين حلق الدجاجة وتفتح أوعيتها الدموية. ألقيت الدجاجة في دلو أسود كبير بينما بدأ الدم ينزف من عنقها، وبينما كانت الدجاجة ترتجف وتشنج، تم اختيار دجاجة أخرى، لمسة، ألقيت الدجاجة الثانية فوق الأولى، لمسة. في كوم الدكة، كانت الدجاجة التي تصل حية من المزرعة في الصباح الباكر تُذبح وتُقطع وتُقدم للغداء في وقت لاحق من اليوم نفسه.
لقد أبهرتني سرعة عملية الذبح وطابعها الواقعي. لم أستطع تخيل أي شيء مماثل في مدينة بريطانية. لقد بدا الأمر بعيدًا جدًا عن أفخاذ الدجاج المعبأة مسبقًا في السوبر ماركت، تعارض ذلك مع حساسيتنا ونفورنا العام من الموت، لدرجة أنني اضطررت إلى الدخول إلى المحل لمقابلة الفرارجي نفسه.
إذا كنت قد أدهشته بلغتي العربية المتكلفة، فقد فوجئت بنفس القدر من لغته الإنجليزية السلسة ولهجته الأيرلندية القوية. وُلد حاتم في الأردن ونشأ في كوم الدكة وعمل في مجال البناء في أيرلندا لمدة 15 عامًا. في ذلك اليوم الأول، جلست على أحد الكراسي عند المدخل، أشرب كوبًا تلو الآخر من الشاي الحلو، وأشاهده وهو يسلخ الأرانب بمهارة ويتحدث بحيوية مع الأصدقاء والعائلة والزبائن الذين كانوا يدخلون ويخرجون. كان محل حاتم «فرارجي» كما عرفت لاحقًا، جزار متخصص في الدواجن والأرانب.
كانت هناك حميمية سهلة في التفاعل مع حاتم، وأردت بشكل غريزي أن أشاركه. ربما كان هذا مكانًا يمكنني أن أكون جزءًا منه، وليس فقط من الخارج. سألت حاتم إن كان بإمكاني العمل معه. ومرت فترة قصيرة من التودد بيننا. أسندت إليَّ مهمة تنظيف أحشاء الدجاج وعملت بجد لأثبت نفسي. وفي هذه الأثناء، كان هو يمدني بالطعام والشاي والقهوة، وفي لحظات الهدوء كنا نجلس معًا ونثرثر عن الزبائن الذين يمرون على المحل. وبحلول نهاية الأسبوع الثاني، اشترى لي زوجًا من أحذية ويلينجتون حتى أتمكن من التحرك على أرضية المتجر المبتلة والدامية بأمان. كانت هذا العقد الموقع بيننا.
تدريب مهني غير عادي
بدأت أشعر بإيقاع يوم العمل. في ضوء الصباح الباكر الخفيف، كان رضا، النادل الشاب النحيل في مقهى سيد درويش، يعبر الساحة الخالية حاملًا الشاي لي ولحاتم. اعتاد حاتم أن يشرب الشاي مع الحليب، وهو أمر اعتاد عليه عندما كان في بريطانيا، ما جعل العاملين في المقهى يضحكون. في كثير من الأحيان، كان شقيق حاتم ينضم إلينا («وهو لا يدفع أبدًا!» يقول حاتم ضاحكًا). وفي بعض الأحيان، انضم إلينا أمير، الرجل الذي يأتي بالأرانب. كنا نجلس جميعًا معًا، نراقب الحي وهو يستيقظ من حولنا.
يترك أحدهم لنا خبزًا يابسًا فننهض من ثرثرتنا الناعسة لنطعمه للدجاج، ونسمع قصصًا عن طفل مريض أو زوجة غيورة. كان حاتم يستمع الى زائريه باهتمام، ويتدخل بين الفينة والأخرى بتعزية أو مباركة. غادروا، ووصل والد حاتم، وبدأنا جميعًا العمل بجدية. ذبحنا خمسين دجاجة في تتابع سريع. مع يوسف، وهو شاب يبلغ من العمر 17 عامًا كان يعمل بدوام جزئي في محل الفرارجي، تعلمت كيفية نقع الدجاج المذبوح في الماء الساخن لإضعاف بصيلاته حتى تتمكن الآلة المزعجة في الزاوية من نفض ريشه. كان حاتم ومساعده كيمو يعملان على الطاولات لتقطيع أرجل وصدور وأكباد ورقاب الدجاجات العارية من الريش. يصل الزبائن، يشترون قطعًا مقطعة مسبقًا أو يختارون طائرًا حيًا يريدونه كاملًا. يجلسون على كراسي بجانب المدخل ويتحدثون معنا بينما كنا نغسل ونغلق الطلبات. كان حاتم محور كل ما يحدث، يتحرك بحيوية ونشاط، يستأصل الدهون أو يقطع الأعناق، ولا يفوته أي حديث، لا يستريح ولا يأكل، فقط الشاي بالحليب والقهوة الحلوة كل بضع ساعات.
لم يمر وجودي في محل الفرارجي من دون أن يلاحظه أحد. فقد توقف العديد من السكان للسؤال عما كنت أفعله، أو لالتقاط صور لي أثناء عملي. افترضت إحداهن أنني لاجئة سورية. وعندما شرحت لها أنني انجليزية، قالت ضاحكة: لا بد أن الوضع في انجلترا سيء للغاية لكي تبحثي عن عمل في محل فرارجي مصري! لقبت بـ«شعر أصفر» وأصبحت مصدرًا للتندر. لكن الضحك كان حنونًا، وكنت سعيدة بكوني مصدرًا له. كانت النساء المسنات يمدحنني بسبب ما أبذله من مجهود، ويشتكين من أن حفيداتهن كن شديدات الحساسية. كنت أتلقى عروضًا للزواج منهن حيث كن يعرضن عليَّ أبنائهن وأحفادهن.
كان لا يزال أمامي الكثير لأتعلمه، وكان حاتم صبورًا جدًا. أثناء تشذيب الدهون، كنت كثيرًا ما أجرح اللحم، وكثيرًا ما أجرح أصابعي. وذات صباح، قمت بفصل أنبوب الغاز عن آلة إزالة الريش وكدت أن أشعل النار في المحل! وبغض النظر عن عدم الكفاءة العملية، كنت أواجه باستمرار الاختلافات الثقافية. عندما استخدمت الفعل «قتل» للاشارة إلى الذبح، صحح لي حاتم بحزم. أخبرني أن الفعل الصحيح هو «ذبح»، كنت في حيرة من أمري، لكن أدهشني وأثار اهتمامي هذا التمييز، وحزم حاتم غير المعهود. أردت أن أفهم الأمر بشكل أفضل. حملت معي دفترًا ومسجل صوت كلما ذهبت الى كوم الدكة، وخصصت وقتًا للجلوس مع الأصدقاء والزبائن وأصحاب المحلات التجارية وطرحت الأسئلة عليهم. بدأت بالاهتمام بعادات الناس في تناول الطعام. فبعد أن شعرت بنبضات قلوب الدجاج وأنا أزنها، كنت أعيد تقييم موقفي الخاص من تناول اللحوم (غاب الدجاج بالتأكيد عن مطبخي). تساءلت عن شعور سكان كوم الدكة تجاه الحيوانات التي تناولوها على الغداء!
آكل اللحوم، أم لا؟
عندما سألت عن النباتية، لم يعرف زبائن حاتم المفهوم أو رفضوه تمامًا. «هذا ليس جيدًا!» صاحت سمر، وهي امرأة صاخبة وحنونة غالبًا ما كانت تجلس أمام محل البقالة الذي يملكه زوجها مع شقيقاتها الثلاث. «أعتقد أن هناك أناس لا يحبون أكل اللحم، ولكننا نحن المصريين نحب اللحم!» أضافت مروة، وهي امرأة حادة اللسان وسريعة البديهة من النوبة. كانت تعمل معلمة لغة انجليزية ثم تزوجت من الأجنبي الوحيد الذي يعيش في المنطقة، وهو مدرس أمريكي اتخذ اسم تيمور. واعترف البعض أن الفقر أو المشاكل الصحية قد تجبر بعض المصريين على اتباع نظام غنائي خال من اللحوم، لكنهم لا يعرفون أحدًا نباتيًا باختياره.
وفي محاولة أخرى مني، سألت ما اذا كان لنا الحق في أكل الحيوانات. كان نكر كلمة «الحقوق» فيما يتعلق باستهلاك اللحوم يميل الى التسبب في بعض الارتباك، «الحقوق» تُستخدم بشكل أساسي في سياق سياسي، وتحول الحديث بدلًا من ذلك الى موضوع الحلال. «لأن ربنا جعلها حلالًا. فما جعله حلالًا نأكله، وما جعله حرامًا لا نأكله، هذا ما يقوله الله»، قال السيد سعيد، وهو جزار آخر. قبل أكثر من 100 عام، كان جده قد افتتح أقدم محل جزارة في كوم الدكة، الجزارة التي كانت تبيع اللحوم الحمراء لحيوانات مذبوحة في المسالخ الحلال القريبة. كان السيد سعيد يشير الى آيات القرآن الكريم التي تميز الحيوانات المسموح للبشر باستهلاكها. فالأبقار والماعز والدجاج حلال عند الله، بينما الخنازير والجيف حرام. وذكر آخرون إحدى سور القرآن حيث ورد أن الله قد أرسل لإبراهيم عليه السلام خروفًا ليذبحه بدلا من ابنه اسماعيل. في كوم الدكة، الحي الإسلامي التقليدي، حمل الحديث عن أكل اللحوم معايير مختلفة عما اعتدت عليه.
عدت إلى إصرار حاتم على كلمة «ذباحة» بدلًا من «قاتلة»، الجزار لا «يقتل» كما فهمت، بل هو يذبح الحيوان بإذن الله، كما فعل ابراهيم عليه السلام.
الممارسة الحلال
لفهم المزيد عن تقاليد الحلال وارتباطها بالذبح، بحثت عن شيخ في الحي. وصف لي الشيخ جمال العملية: «عليك أن تذبحي عندما تكونين طاهرة». في الإسلام، حالة الطهارة مطلوبة في المواقف ذات الأهمية الدينية.
وتابع قائلًا: «يجب أن تكون الشفرة حادة حتى لا يتألم الحيوان. وأيضًا، لا تري الحيوان السكين. قبل أن تذبحيه، يجب أن تطعميه وتسقيه، هذا هو الشرع. ويجب أن تعامليه برحمة ورفق. الاهتمام بالحيوان أمر مهم للغاية. ويجب أن تقولي بسم الله والله أكبر… إذا لم تفعلي كل ذلك فالذبح حرام».
ومضى جابر، الملقب محليًا بـ«أفضل صانع حلويات في الإسكندرية» ليخبرني أيجب ذبحها [أي الحيوانات] ذبحًا شرعيًا باسم الله «بسم الله الرحمن الرحيم» هذه رحمة. ترددت صيغ مختلفة من هذه الإجابة في العديد من المقابلات: الشروط الرئيسية للذبح الحلال هي ذكر اسم الله والرفق بالحيوان.
ولكن في الممارسة العملية، غالبًا ما تتعارض المعاملة الطيبة للحيوانات مع الكفاءة. وفقًا للشيخ جمال، يجب ألا ترى الحيوانات السكين قبل الذبح لتجنب التسبب في توتر الحيوان بلا مبرر. ولكن مساحة المحل محدودة، وهذا أمر لا مفر منه. ورغم أن الشيخ أدرك أن هذا الأمر يمثل مشكلة، إلا أنه تجاهله بلا أسف كبير. كان لدى سمر تفسير لذلك: «هذه [القاعدة] للبقر والغنم، وليس للدجاج» وعندما تحدثنا عن معاناة الحيوان، أجاب حاتم بكل صراحة: «المسألة لا تتعلق بشعور [الحيوانات]، بل بالتخلص من الدم». يعتبر القرآن الكريم أن تناول الدم حرام.
ذبح
مرت الشهور، وعلى الرغم من أن مهاراتي في استخدام السكين كانت تتحسن باطراد، الا أنني شعرت أن هناك شيئًا ما ينقصني. أردت أن أتعرف على عملية الذبح كاملة. أردت أن أعرف كيف أذبح. طلبت من حاتم أن يعلمني.
كان من الواضح أن حاتم كان يعتقد أن طلبي غريبًا إن لم يكن خارجًا عن المألوف، لكنه وافق بسهولة. طلب مني أن آتي إلى المحل في وقت مبكر جدًا في صباح اليوم التالي، قبل أن يستيقظ معظم الناس. لقد أدهشتني هذه السرية، وسألته بعصبية عما إذا كان ذلك لأنني لست مسلمة. «نعم»، اعترف حاتم أن هذا كان أحد أسباب حذره، ولكن كان ذلك أيضًا لأنني امرأة، وكان هناك احتمال أن أكون حائضًا. كان الحيض يعني أنني لم أكن في الحالة المطلوبة من الطهارة.
صدمني رد حاتم. في الواقع، كاد ذلك أن يوقف تدريبي المهني بشكل مفاجئ. هل هذا غش؟ بيع اللحم الحلال من دون إخبار الزبائن بأنني ذبحته؟ وإذا أخبرتهم، هل سيرفضون اللحم ويستاؤون مني؟ من الواضح أن حاتم لم يكن يعترض على ديانتي أو على جنسي هو نفسه، وإلا لما وافق على أن يعلمني. لكن تعليقاته جعلتني أشعر بالخوف. ماذا لو أزعجت المجتمع الذي رحب بي وفقدت الثقة التي كنت أعمل جاهدة على بنائها؟ كنت بحاجة إلى معرفة المزيد. كيف كان شعور السكان تجاه قيام شخص غير مسلم يذبح حيواناتهم؟
بدا كبار السن مرتاحين لفكرة أن يكون الجزار من غير المسلمين. قال جابر: «ابن آدم مثل ابن آدم»، وقال آخرون: «إن الجزار يمكن أن يكون من أهل الكتاب (أي المسلمين واليهود والمسيحيين). بينما مال الناس تحت الثلاثين إلى التشدد. أوضحت سمر، وهي في العشرينيات من عمرها، أن اللحم الذي يذبحه أي شخص غير مسلم حرام. واتفق معها سعد، بائع الفول والفلافل في نفس العمر. أعلن المراهقون الذين قابلتهم بشكل مستقل أن المسيحيين يمكنهم الذبح الحلال، ولكن ليس اليهود. ووفقًا ليوسف، كان اليهود أعداء الإسلام، وحاربوا المسلمين منذ البداية. وأوضحت لي ساندي – ابنة أخت حاتم البالغة من العمر 4ا عامًا وصديقته المقربة – أن موقفها جاء من الصراعات السياسية الأخيرة. وقالت: أنا لست عنصرية، ولكننا لا تتعامل مع اليهود. عليك أن تفهمي، لم يعد هناك يهود في مصر. اليوم اليهودي يعني الإسرائيلي وإسرائيل «عدونا». اعترف الشيخ جمال أيضًا بانتشار الشعور المعادي للسامية. «نحن نحب المسيحيين ومعظم أعدائنا هم اليهود… اليهود كثيرًا ما قتلوا أنبياءنا».
عائلتي يهودية. على الرغم من أنني لم أمارس هذه الديانة أو أتعاطف بقوة مع هذه الثقافة، إلا أنني وجدت هذه الآراء مزعجة، خاصة من ساندي التي كانت تربطني بها علاقة وثيقة. كنا نقضي أيام السبت في شرب عصير المانجو على طول الكورنيش. كنا ننادي بعضنا البعض «أختي». تحيرت بخصوص ما إذا كنت سأقول أي شيء – أي اعتراف أو دفاع – لكن نيتي في أن أبقى مهذبة خلال السنة التي قضيتها في الخارج، وقناعتي بالاستماع بدلًا من الاعتراض، انتصرت. قناعة أم جبن؟ بالنظر إلى الأمر الآن، ما زلت غير متأكدة.
يبدو أن ديانتي – أو عدم وجودها على حد سواء – يمكن أن يهدد اللحم الحلال الذي أعددته. ماذا إذن عن جنسي؟
على الرغم من إصرار السكان المحليين على معرفتهم بوجود نساء يعملن في محلات الفرارجي في أحياء أخرى، إلا أنه في محلات الجزارة الخمسة في كوم الدكة لم يكن هناك سوى امرأة واحدة فقط غيري. لم تصف هند نفسها بأنها جزارة؛ فقد كانت وظيفتها هي إعداد وبيع اللحوم التي تصل مذبوحة مسبقًا من المزرعة كل صباح. في الواقع، كانت هند تعتقد أن مهنة الجزارة حكر على الرجال، وسرعان ما اكتشفتُ مدى انتشار هذا الاعتقاد. خلال شهر رمضان، حضرت وجبة إفطار سنوية أقامها أحد أثرياء موردي الدجاج إلى الإسكندرية. أقيم الإفطار في أحد الأحياء خارج المدينة. كنا نفطر ونحن جالسين إلى موائد طويلة ممتدة على طول الشارع، نتناول الدجاج المشوي بالكامل (بالطبع) والبطاطس ونشرب عصير الكركديه. حضر أكثر من مائة شخص من جميع أنحاء الإسكندرية، جزارين، ومساعدي جزارين، ومزارعين، وسائقي شاحنات التوصيل. وباستثنائي، كان جميع الحاضرين من الذكور.
ما سبب قلة عدد النساء في هذه الصناعة؟ تم الاعتراف بالقوة البدنية على نطاق واسع كعامل مؤثر، خاصة عندما يتعلق الأمر بالجزارين، بكل المقاييس كانت الحيوانات ضخمة للغاية. كما ظهر أيضًا الضعف العاطفي والخوف من الدماء. أكد سعد على أن النساء ليس لديهن الجرأة أو الشجاعة أو القلب القوي على الذبح… أما السبب بالنسبة لسمر فهو: «عيب».
عيب
كلمة «عيب» تشير إلى الشعور بالعار أو الخزي، وكلما أمضيت وقتًا أطول في مصر لاحظت كم مرة ترددت هذه الكلمة. شرحتها لي مروة قائلة: «هنا في كوم الدكة يُعد الكثير من الأشياء «عيب»، حسنًا، الناس يلقون بالأحكام كثيرًا. وهناك تقاليد وعادات… يمكن استخدام كلمة «عيب» لوصف فعل ما على أنه مجرد فعل غير مهذب، أو لإدانته على أنه غير أخلاقي. ضربت مروة – وهي نفسها مدخنة – مثالًا على تدخين النساء في الأماكن العامة بأنه «عيب»، عدم تقديم الطعام أو الشراب للضيف يمكن أن يكون أيضًا «عيب»، وكذلك مناداة امرأة كبيرة السن باسمها الأول وليس باسم ابنها. بالطريقة التي فهمت بها الأمر، يتم تأسيس مدونة سلوك، وإذا تصرف شخص ما خارج هذه المدونة يُعد التصرف عيبًا. ينطوي ذلك على حكم المجتمع والعار على المخالف. القيم والتقاليد المشتركة مهمة للغاية بالنسبة لمجتمع كوم الدكة المترابط، وهو ما يفسر ربما سبب انتقاد السلوكيات البديلة بشدة.
أدانت سمر النساء العاملات في الجزارة بسبب العيب، لكنها في الوقت نفسه أثنت على اجتهاد النساء اللاتي يربين ويذبحن وينظفن الدجاج في المنزل. أخبرتني مروة أن جارتها العزباء كانت تربي الدجاج على سطح العمارة التي يقطنون فيها، وقد أثار ذلك جنون كلبهم. أعلن جابر بفخر أن زوجته تذبح جميع أنواع الحيوانات في المنزل أثناء العيد، الدجاج، والأرانب، وحتى الماعز! كان هناك تناقض في علاقة المرأة بالذبح لم أستطع فهمه.
«في انجلترا، يعمل كل من المرأة والرجل»، أوضح لي أشرف الأمور على طاولة الفرارجي في محل صغير قريب من محل حاتم. كان أشرف رجلًا ثرثارًا ومتحمسًا يشجعني على اعتناق الإسلام في كل مرة نجلس فيها لتناول الشاي… أو على الأقل أن أعمل لديه بدلًا من ذلك! «هنا، الرجال هم الذين يعملون بشكل رئيسي، والنساء هن من يطبخن في المنزل. لذا، يعود الرجل من العمل ويأكل». هذا النظام مألوف في أجزاء كثيرة من العالم. فالرجال ينشطون في مكان العمل – الفضاء العام – بينما تنشط النساء في المجال المنزلي – الفضاء الخاص. يمكن للمرأة أن تذبح في المنزل من دون التعرض لخطر العيب. وبهذه الطريقة يعمل العيب على الحفاظ على تقسيم العمل وفقًا للادوار التقليدية للجنسين.
المعضلة
بعد كل محادثاتي، لم تُحل معضلتي الشخصية. هل يمكنني أن أتولى هذا المنصب غير المعتاد والمثير للمشاكل كامرأة غير مسلمة وذابحة حلال؟
كأجنبية، غالبًا ما كنت أشعر (وبشكل غير مريح في كثير من الأحيان) بأنني خارج التوقعات المحلية. أثناء عملي في محل حاتم، لم أختبر أيًا من العيب المشار إليه في المقابلات. وكما وصفت، كان رد الفعل العام على عملي إيجابيًا. ويبدو أن وضعي «الأجنبي» كان يعني أن غرابة أعمالي يمكن الاستمتاع بها من دون الخوف من أن تتحدى الوضع الراهن. يمكن للمرء أن يجادل بأن موقعي منحني رخصة للتصرف (والذبح) كما أريد، من دون أن تعيقني القيم المحلية. كان مذاق هذه الحجة لاذعًا إلى حد ما في فمي، ألم أكن أسعى لأكون جزءًا من من شيء ما في كوم الدكة؟ ولكن بعد ذلك، السماح بأن تُملى عليَّ أفعالي تحت تأثير العيب الذي لم أشعر به بدا لي بطريقة ما غير أصيل. لقد اتخذت قراري: التقطت السكين.
وقت الإغلاق
في كل مساء، وبينما كنا نغسل كل شيء، وصلت إلينا الأصوات الصادرة من المقهى عبر الضوء. حشود من الرجال يدخنون الشيشة، ويشربون القهوة، ويلعبون الطاولة بصخب. أحيانًا كنا نتوقف لمشاهدة المباراة، وأحيانًا كنا نتوجه إلى منزل والدي حاتم لتناول الطعام، وأحيانا كنا نجلس في المحل مع من كان موجودًا. وفي إحدى الأمسيات، تسللت إلى المحل حاملة علبتين من الجينيس المحظورة التي كانت قد سافرت مع والدي من المملكة المتحدة. أغلق حاتم مصاريع المحل مبكرًا حتى يتسنى له الاستمتاع بتلك العلب الأيرلندية التي تثير الحنين إلى الماضي. ولكن في أيام العطل، لم يكن هناك وقت لمثل هذا العبث. خلال شهر رمضان، كان حاتم يعمل حتى وقت متأخر من الليل حتى يتمكن أهل الحي من تناول اللحم على الإفطار. وقبل الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، كان يعمل إلى ما بعد منتصف الليل في إعداد 100 دجاجة لتوزيعها على الفقراء.
لقد منحني الوقت الذي قضيته كمساعدة فرارجي مكانًا في مدينة غير مألوفة وقربًا من قلبها النابض. لقد شعرت بلطف ودفء لم أكن أتمناه. مرت عليَّ أيام كنت أصل فيها إلى المدرسة بعنين مرهقتين بسبب الاستيقاظ المبكر، ملطخة بالدماء وفضلات الدجاج، وأصابعي مجروحة ورائحتها كريهة، كنت أفكر: لماذا لم أعمل في مخبز؟ أو محل حلويات؟ كان من الممكن أن تفوح مني رائحة الطحين والتمر! كان محل حاتم – أكثر من مجرد مخبز وأكثر من محل حلويات – مقياسنًا للمجتمع في أي وقت من العام، ولصحة السكان وثرواتهم: كان الأمر كما لو كان بإمكانك التعرف إلى أحوال كوم الدكة من خلال النشاط في محل حاتم. كان مصدر السرور الأكبر والمكافأة الحقيقية التي لم أكن أتوقعها هي مودة حاتم وعائلته. ربما لم يفهم حاتم قط ما الذي كنت أفعله في محل الفرارجي لكنه استقبلني واعتنى بي على أي حال. في البداية، أعتقد أنني قدمت لحاتم في البداية صلة بحياته السابقة في بريطانيا، عذرًا مرحبًا به للتحدث باللغة الإنجليزية! بالنسبة لي، كان حاتم بمثابة وسيط لطيف بين ثقافتي الخاصة وثقافة كوم الدكة. ومن هذا التعايش، نشأت صداقة غير عادية وجميلة.
الأكثر من ذلك، إذا أعطيتني دجاجة حية وبضع دقائق، يمكنني أن أعطيك دجاجة منزوعة الريش ومقطعة إلى أفخاذ أو صدور بلا دهون وشهية تمامًا أو حتى معدة ومنظفة بعناية! من قال إن الشهادة لا تمنحك مهارات عملية؟