عائلة من الطبقة المتوسطة، تزور أم مريضة وابنتها الخياطة لتحيك لها جلابيب جديدة، استعدادًا لما قد يكون آخر إجازة تقضيانها معًا.
«فيكتوريا» هي رواية كارولين كامل الأولى والحائزة على جائزة ساويرس، تحكي قصة بلوغ فيكتوريا سن الرشد، وهي شابة قبطية تنتقل من المحافظة التي نشأت فيها إلى القاهرة للدراسة. تتعمق القصة في أشكال القمع المعقدة في المجتمع المصري عشية ثورة 2011.
كارولين كامل
فاجأتني أمي عندما نادتني قائلة:
– تعالي يا فيكتوريا نقعد في الصالون، كفاية عليه كده.
غرفة الصالون محرمة علينا نحن سكان المنزل. أثاث الغرفة مغطى بملاءات بيضاء لا تُرفع عنه إلا في وجود زوار، أو عندما تُنظف أمي الشقة مرة كل أسبوع.
دخلنا الغرفة ووقفنا الواحدة مقابل الأخرى ورفعنا الملاءات البيضاء. تطايرت ذرات التراب واحتضنتها أشعة الشمس التي تنساب من شقوق النافذة، فرأيتها تلمع وتشبه غبار الجنيات السحري في أفلام الكارتون، لكن ترابنا لا يملك قدرات سحرية، وإنما يدغدغ أنفينا فنعطس، أنا وأمي.
كوَّمت أمي الملاءات وأعطتني إياها ﻷلقيها بجانب الغسالة في الحمام. عدت إلى الغرفة وجلست جوارها على الأريكة. تململتُ وتحركت بجسدي ﻷحصل على أكثر وضع مريح في الجلوس، وقلت لأمي:
– يا ماما الكنبة مش مريحة خالص، كنبة الصالة أحسن. ايه فايدة بقى إننا كنا قافلين أوضة الصالون؟
ضحكت أمي وأخبرتني أن أهمية الصالون ليست في راحة أثاثه، وإنما في الحفاظ على شكله، جديد وغير مستخدم، لأنها غرفة تخص الزوار الذين يقيِّمون سكان البيت بناء على شكل الصالون.
وصفت لي أمي صالونًا آخر حلمَت بشرائه عند زواجها، لكنها، لفقر أسرتها، قبلت بصالون جدتي، والدة أبي، الذي أهدتها إياه، وأعاد جدي، والد أمي، تنجيده ودهانه.
أحب أنا مظهره الذهبي اللامع، إلا أن أمي تقول إنها لم تره يومًا جميلًا، ولا تزال تتمنى الحصول على صالون أحلامها. وأخبرتني أنها سوف تشتريه عندما أبلغ سن الزواج ويتوافد العرسان وأسرهم لزيارتنا.
جلسنا قليلًا من دون حديث، ثم نظرت أمي إليَّ وقالت بنبرة حزينة:
– عندي طلب منك يا فيكتوريا، حتى لو مت قبل ما تتجوزي خلي بابا يشترى صالون جديد.
أبكتني كلمات أمي، فجذبتني نحوها واحتضنتني وربتت على ظهري، وطلبتُ منها ألا تكرر كلامها عن موتها، إلا أنها استكملت حديثها عن حلمها بتغيير الصالون طوال سنوات، وعجزهما، هي وأبي، عن تحقيق حلمها. قالت لي:
– القديم مهما تجدديه وتغيري قماشه بيفضل قديم. الجديد يعني قوايم خشب جديدة.
وأصرت على أني أنا أملها في تغيير ما عجزت هي عن تغييره.
سمعنا أبي يفتح باب الشقة. نادى أمي، فأجابته بصوت عالٍ قائلة إننا في غرفة الصالون. دخل أبي الغرفة بهدوء، ونظر إلينا متعجبًا، وسأل أمي:
– هو في حد زارنا النهاردة يا ماري؟
ضحكت أنا وأمي، وتصنعت أمي التعجب وقالت:
– لأ يا مفدي. هو احنا مش من نفسنا نجرب الصالون ولا ايه؟
هز أبي رأسه وبدا عليه أنه لم يستوعب كلامها، جلس ببطء على الكرسي المقابل للأريكة، تلفت برأسه ليتأكد من أنه لم يتسبب في أذية الخشب، مصمص شفاهه وقال:
– الله يرحمك يا امَّا. أنا مش فاكر آخر مرة قعدت فيها على الصالون. هو ماله متعب كده؟
ابتسمت أمي وأخبرته أن التنجيد ربما لم يكن جيدًا، هز أبي رأسه موافقًا، وأضاف أن القطن تحجر لعدم استخدامه مدة طويلة. سكتنا جميعًا ليتأمل كل منا الصالون بطريقته، ثم قال أبي إن بحوزته مفاجأة، وطلب منا أن نخمن ما أعده لنا. اندهشتُ ونظرت إلى أمي، وبدت مندهشة هي أيضًا. طوال خمسة عشر عامًا، لم يفاجئني أبي إلا بقرارات يتخذها بموافقة أمي، وتخص عادة تقليص المصروف أو الحد من شراء الملابس والأحذية، وغيرها من القرارات غير السعيدة. اعتدلت في جلستي في محاولة لتحسين ما سأستقبله من والدي، وبعد لحظات من التفكير أعلنت كل منا عجزها عن معرفة ما يخبئه لنا. اتسعت عينا والدي وقال ببهجة:
– أنا حجزت لنا 4 أيام في راس البر.
نظرت إلى أبي غير مصدقة، ثم التفتُّ إلى أمي فرأيتها مبتسمة ومتحمسة. قفزت من على الكنبة واحتضنت أبي بقوة. ضحك وقال:
– بالراحة يا بنت الكلب الصالون بتاع ستك.
انضمت إلينا أمي، واحتضنتني أنا وأبي وقالت بسعادة:
– ربنا يخليك لينا يا مفدي.
بعد الغداء دخل أبي وأمي غرفتهما للحصول على ساعة النوم التي تعقب تلك الوجبة يوميًّا، وجلست أنا في غرفتي أفكر في قرار أبي المنفرد بالسفر إلى المصيف، وقد اتخذه في وقت نمر فيه بأزمة مالية بسبب مرض أمي، وعلاجها الكيماوي للمرة الثانية الذي أنهته منذ أسابيع قليلة، والأدوية التي لا تزال تتناولها ويقترض أبي ثمنها أحيانًا من عمو جورج صديقه، بينما أنا على مشارف الثانوية العامة ودروسها الخاصة المُكلفة.
أسمع حديثهما بشأن الأزمة كل ليلة، وتُصر أمي على ألا يلجأ إلى الأموال التي جمعَتها منذ ولادتي لجهاز عرسي، ولكني لم أستطع كبت شعوري بالسعادة بقرار والدي، فأنا انتهيت للتو من امتحانات الصف الأول الثانوي، ولم أرَ البحر ولم نسافر منذ سنوات.
بعد نصف ساعة جاءت أمي إلى غرفتي، وأخبرتني أنها لا تستطيع النوم لأنها مشغولة بما نحتاجه في السفر. جلست بجواري على الفراش تفكر بصوت عالٍ وتدوِّن احتياجاتنا في ورقة، كعادتها قبل أي حدث مهم في منزلنا، مثل الاستعداد للصيام أو استقبال الأعياد أو استقبال العام الدراسي؛ وحتى الانتقال من الصيف إلى الشتاء والعكس، كان يسبقه تدوين احتياجاتنا في ورقة، تضعها أمي على منضدة السفرة وتثبتها بمنفضة سجائر زجاجية. نهضت أمي من على الفراش، وفتشت بين ملابسي عما يناسب المصيف، وقالت لي بجدية:
– مفيش حاجة شيك تنزلي بيها شارع النيل بالليل، أنا كمان محتاجة حاجة.
انتظرنا نزول أبي مساءً لقضاء الوقت مع عمو جورج في الورشة، وطلبت مني أمي أن أرتدي ملابسي بسرعة لننزل ونشتري أقمشة لحياكة جلابيب مطرزة عند سميرة الخياطة. راقبت أمي وهي تطلب من الباعة إنزال لفائف الأقمشة من على الأرفف، وتفحص كل لفافة حتى تستقر على النوع الذي يعجبها، تسأل البائع عن السعر – الذي لا يعجبها دومًا – وتمارس الفصال الذي تُجيده. رأيت أمي كما كانت منذ سنوات طويلة قبل أن يُصيبها «المرض الوحش». تسألني عن رأيي في الألوان والخامات، أجيبها بهمهمات أو أهز رأسي بالإيجاب، فأنا مشغولة باستعادة ذكريات طفولتي، عندما كان مشوار سميرة الخياطة محببًا لقلب أمي ولقلبي. كنا ننتهي من زيارتها ونتوجه بعدها إلى منطقة العباسي، نشتري الكُلَف وكل ما هو مطلوب لإنهاء فساتين أمي التي تُحيكها سميرة، أو فساتيني التي تحيكها أمي.
كان محل الكُلَف يسحرني بألوان الأزرار الكبيرة التي يستخدمونها في ملابس الأفراح البرَّاقة، وتيجان العرائس المرصعة بفصوص لامعة. كنت قصيرة القامة ولا أرى كل ما هو على الرفوف، فأندس في زحام النسوة، وأحاول الوصول إلى أقرب أطراف مدلاة من بكرات التُل والجيبير والريش والفراء الصناعي. ألمسها بأصابعي، وأمررها على خدي ﻷعرف ملمسها أكثر، ولطالما أحببت ملمس الجيبير. يسوء حظي أحيانًا وتنفلت بكرة سحبتها بكفي بقوة، تنزلق بعدها باقي البكرات من فوق الرف على الأرض وتثير جلبة. تنتفض النسوة وتسحبني أمي بقوة من بينهن، وتترك أصابعها علامة زرقاء تظل أيامًا في المكان الذي قرصتني فيه لأني أسأت التصرف، وتهددني بألا تصطحبني مرة أخرى. لا أبكى علنًا حتى لا أتلقى نظرات الشفقة.
انتهينا من شراء الأقمشة. اختارتها أمي من القطن، وأوضحت لي أن الأقمشة الصناعية ربما تبدو زاهية وجذابة، ولكنها غير صحية ولا مريحة. وعلى الرغم من متعة السير في شارع العباسي، ومطالعة المحلات التي حفظتها عن ظهر قلب، إلا أن الزحام وتدافع الناس من دون أي اكتراث أو اعتذار، وصراخ الباعة لجذب الزبائن، تثير توتري وتشل حركتي أحيانًا. قبضت على يد أمي، وتعمدت أن أسبقها بخطوة حتى أفسح لها الطريق. أشعر بالخوف من أن يلكزها أحد أو تسقط على الأرض، فقد أصبحت منذ مرضها هشة خفيفة يسهل دفعها. أتذكر كيف كانت هي من تقبض على يدي كلما خرجنا معًا، وفي الزحام تضغط على كفي لدرجة تؤلمني وتترك علامات أحيانًا، وحين نمر أمام رجل له ذقن، خاصة ممن يرتدون الجلباب الأبيض القصير، تُحثني على الإسراع وعدم رفع رأسي أو النظر إليه، وتقول لي:
– لما تشوفي السُّنية في الشارع أمشي بسرعة وبلاش تبصي في عينيهم.
حكت لي أمي أن السنية هم المسلمون الذين يرتدون جلاليب بيضاء قصيرة وأسفلها بنطلون أبيض قصير، ويطلقون لحاههم، وأنهم من يرشُّون المسيحيات بالكلور ويخطفون الصغيرات منهن ويحولونهن إلى مسلمات، ولا تستطيع الفتيات العودة إلى أسرهن مرة أخرى مهما حاولت الكنيسة إرجاعهن. كنت أرتعد كلما رأيت رجلًا سنيًّا في الشارع وأسرع خطواتي حتى لا يلحق بي.
ذهبنا إلى محل الكُلَف لشراء الخرز والجيبير، وأوضحت لي أمي أنها اختارت لنا موديلًا يحتاج إلى بعض الحلي لتزيينه. لم تعد الأزرار الملونة تجذبني، ولم تعد ذكرى قَرص أمي تؤلمني، ولا يشغلني الآن سوى الاستمتاع برفقتها أطول وقت ممكن.
وصلنا منزل سميرة الخياطة؛ لا يزال المنزل على حاله، تملأه رائحة السجائر، إضاءته خافتة فيما عدا اللمبة الحمراء القوية التي تُضيئها سميرة عندما تبدأ في استخدام الماكينة. أثاث الصالة قديم، مليء بزخارف بارزة على هيئة ملائكة صغار مكتنزين يحملون الأكاليل والمشاعل. يذكرونني بمسرحية شيكسبير «حلم ليلة صيف»، التي قرأتها بسبب غلافها المرسومة عليه فتيات جميلات يرتدين أثوابًا أحلم بالحصول عليها. وقبل أن أنهيها تمنيت أن أعيش في عالم شيكسبير السحري.
تبكي سميرة حين ترى أمي، وتقول لها من بين دموعها:
– دي عين يا ماري يا حبيبتي… عين وصابتك يا بنتي.
تكبر سميرة أمي بعشرات السنين، وتكسو وجهها تجاعيد مخيفة. اعتادت أمي أن تأخذ لها في كل زيارة شيئًا مما خبزت إن كان لدينا خبيز، أو أن تشتري لكل منا باكو بسكويت «فيري» لنأكله مع الشاي الذي تعده لنا سميرة. وفي كل مرة نزورها تتحدث سميرة عن أخلاق أمي، وعندما يكون عندها نساء أخريات، تقول لهن: «أهي ماري دي أحسن زبونة عندي. أنا بحب معاملة النصارى معندهمش لوع. مش انتو بتطلعوا ديني». تضحك سميرة بصوت عالٍ، بينما تبتسم أمي ولا ترد، وأشعر أن النساء الأخريات لسن سعيدات بكلام سميرة، فهن لا يبتسمن، بل يسألنها أن تنتهي من ملابسهن بدلًا من الانشغال بالكلام. وعندما يرحلن أرى سميرة أكثر بهجة، وتقول ﻷمي:
– أهو انتو كدة يا ستات النصارى حلوين، اخترتوا الدنيا بس إحنا اختارنا الآخرة. بس البت بنتك ياختي شكلها اختارت الآخرة هي كمان.
تنظر أمي إليَّ بطرف عينيها، وتقول إن هذه التعليقات تضايقني. تنظر إليَّ سميرة وتسألني:
– انتي تزعلي يا فيكو لو قلنا لماما أنها زي القمر؟
كنت أتضايق من تعليقها بأني لا أشبه أمي الحلوة، ولكني أكتفي بهز رأسي نافية. ثم تسمح لي بتفقد بقايا الأقمشة والكُلف الملقاة بجوار الماكينة، بل تعرض عليَّ أحيانًا الاحتفاظ بقطعة من الحرير المتبقي لديها. على الرغم من ضيقي من تعليقها إلا أني كنت أحب الجلوس في منزلها، والتنصت على القصص التي تسردها على مسامع أمي، وهي تجلس متربعة على الأريكة وتدخن سجائر مثل والدي.
كررت أمي على مسامع سميرة ضرورة أن تنتهي من الجلابيب في مدة لا تتجاوز عشرة أيام، لأن السفر في خلال أسبوعين. وعندما سألتها عن التكلفة، بكت سميرة مرة أخرى، واحتضنتها وقالت لها:
– والنبي يا ماري نفسي أعملها من زمان. دي هدية يا بنتي، والنبي قبل الهدية.
ضحكت أمي واحتضنتها مرة أخرى وربتت سميرة بقوة على ظهر أمي، وقبل أن نتجاوز عتبة منزلها سمعنا صوت نشيجها. مصمصت أمي شفتيها وقالت بصوت خفيض:
– والله فيكي الخير يا سميرة.