شاب يدرس الفن ويعمل مع خاله الذي لا يقدر أي فن، أملًا في الخروج إلى النور وتعريف الجمهور بأعماله الفنية، في قصة قصيرة مبهرة لمي المغربي.
مي المغربي
تمليح،
تحليب،
رش أكزا وجير،
ثم دق، ويأتي محمود بعد الدق. بعد أن أنقذني خالي من جاليريهات الزمالك. نعم بعد أن أنقذه خاله، خاله فنان أيضًا، فني دباغة، أفنى شبابه في سلخ جلود الحيوانات والتحويش وعقد صفقات مع حديقة حيوانات الجيزة، حتى امتلك مدبغة صغيرة ومحلًا لبيع الجلود أمام سور مجرى العيون. المهم أنه أنقذني من يومي الذي كان يبدأ برائحة الصنان والمشي فوق أكوام الزبالة ومحاولات تفادي الخرفان التي تأكل من أكوام الزبالة. كنت أصطبح بالأوتريفين حتى تتخدر أعصاب أنفي وعينيَّ إلى أن أخرج من شارع أحمد عرابي. لا، لم ينقذك من هذه الاصطباحات. لكنه أنقذني من السلف والاستلواح الذي مارسته كي أشتري أدوات للمشاريع أو لأصل من بيتي في أم بيومي بشبرا الخيمة لكلية الفنون التطبيقية في الدقي، صبَّرت نفسي بكلام مثل مسألة وقت، هبقى فنان تشكيلي كبير يعرض لوحاته في جاليرى بالزمالك، هعمل talks، أتكلم عن فني. أنت لم تذهب للزمالك من قبل. لا، لم أذهب، أخطط للذهاب كفنان يعرض لوحاته في جاليري همسات، عرفتهم من الانستجرام، يعلقون عند الفنانين، أي فنانين بـ«ممكن نتواصل مع حضرتك؟»
لماذا لا تبادر أنت؟ نعم هذا ما فكرت فيه، لماذا لا أبادر أنا؟ لوحة ٨٠ في ٨٠ زيت على توال لجاموسة يخرج منها ثعابين حاملة على ألسنتها أكياس زبالة زرقاء وسوداء. تعبت فيها، تعبت وأنا أرسم حراشف الثعابين، حتى بدأت أسمع فحيحها، وتعبت وأنا أخطط شعيرات الجاموسة، لن تراها إلا لو اقتربت من اللوحة لكنها موجودة. ورفضوك. نعم، رفضوني كما رفضوني في صالون الشباب، بل كانوا على وشك أن يتفوا على اللوحة. قالوا إنها بلا سياق ومش هتتباع، لم يرفعوا أعينهم عن حذائي وهم يتحدثون. بالمقابل، وجهتُ نظري إلى أحذيتهم، كانت من الجلد، جلد مختلف ليس كجلدنا أنا وخالي ولا من أعرفهم. ولاد الكلب، لم يتركوا فنانًا إلا وزنوا عليه حتى يعرض عندهم، فنانين نُص كُم بيعملوا قُلل، فنانين معاصرين يكتبولك على الحيطة، حتى فنانين الثمانينيات الذين لا نعرف عنهم شيئًا سوى أنهم أعضاء في النقابة. كلهم عرضوا خراهم في همسات وباعوا من خلال همسات. وحينما أظهرت جاموستي وثعابيني تذكروا أن لهم ذوق فني.
هنا يأتي دور خالك مثل المسلسلات. مالك يا ولا؟ أحكي له وأريه اللوحة، يراها وتقف أذناه كذئب، يجلس بجانبي ويحدثني كبديل للأب والأم. أصلاً لو كان هناك أب وأم لما كان لخالك دور. صح، يخبرني أن له عندي شُغله، فن بردو، سيفتح محل في مدينة نصر لبيع الجلود وشغل الأرضيات، أرسم لنا، وعلى السكيتش أربعين جنيه والأدوات مجانًا. بعدما وافقت، طلب مني رسم اللوحة المرفوضة على ورقة وأن أرسلها له على واتساب وسيجعل العمال ينفذوها، أعطاني 200 جنية كمقدم. لم أتخيل كيف سيكون شكلها، حيوانات مرسومة على جلد حيوانات، يوجد مفارقة أو إفيه أو فكرة فلسفية في هذا الفعل لكني لن أشغل بالي، لأني انشغلت بتصوير السجادة المعلقة أمام سور مجرى العيون، أحسست أنها مساحة عرض حرة وأن ربنا عوضني، فسحبت جامد من علبة الأوتريفين، وبدأت في تصور السكيتشات الجديدة، أول 10 سجادات رسمتها كانت عبارة عن جلد بقرة داخل إطار مموه من جلد الجاموسة بلونه الطبيعي مع درجة لون رمادي. نفذوا منها عشرين سجادة وسحبت أجمد من الأوتريفين حينما بيعت كل السجاجيد.
يُرش الملح على جلد الحيوان القادم بدمه، ويُغسل بعد يومين. ثم تُرش أكزا وجير، وتُغسل الحتة بعد يومين، بعدها يأتي الدق وتبقى جاهزة للقص والقطع والترقيع.
هنا يبدأ دوري بعد أن يعطيني خالي المقاسات المطلوبة للسجادة ونوع الجلد المتاح.
لا أعرف أين تذهب أرواح الحيوانات بعدما تموت، الدباغة تحافظ على جزء من هذه الحيوانات لأطول فترة ممكنة، ولماذا على الحصان أن يظل حصاناً وحينما يموت تتبخر روحه؟ لماذا لا يكون بقحصان أو حمابقرة؟ مرة أخرى يوجد إفيه أو فكرة فلسفية، لن أشغل نفسي لأن أفكار خالي هي ما تشغلني. جلس معي على القهوة وأخبرني أن أي عيل عنده يقدر يعمل شغلي دون أن يرسمه على ورقة، وسألني: فين الفن اللي بتدرسه في الكلية؟ تاني طلعة؛ رسمت تنويعات من بقرة بداخلها مربعات متداخلة يحدها جلد حصان. طار خالي بهذه الاسكتشات، قالي: أيوة كدة إديني في السمبوكسات.
فهمت ذوقه، وتوالت اسكتشات بجلد حصان مرسوم عليه جلد بقرة على شكل وردة اللوتس. وفي مرة رسمت جلد بقرة على شكل كعبة، كانت البيست سيلر في المحل وظلت معلقة أمام سور مجرى العيون لمدة ستة أشهر لزغللة عيون الزبائن، حتى أنني رأيتها على صفحة «ميمزاوي» مكتوب عليها «حج مبرموووو»، فرحت رغم سخافة الإفيه، فني معروض ومرئي، طلبت من خالي أن يضع إمضتي على السجاد حفاظاً على حقوقي الفكرية، وافق. كنت ألف في ساقية، يرفض خالي سكيتشات كالتي تشبه الجاموسة والثعابين، ويقبل بالكيتش. بدأت أبتعد عن الورود والمساجد ووجدت نفسي أرسم جلد بقرة مع جلد تعلب.
أنا البقرة وخالي التعلب.
رسمت جلد بقرة وفي آخره جلد حصان كأن الحصان ينكحها.
أنا البقرة وخالي الحصان.
لا، أنا جاموسة. أنت لم تصل لتكون جاموسة، أنت جلود حيوانات مرمية فوق بعضها.
لكن خالي أنقذني. أنقذك؟ لكنك مازلت تدوس على الزبالة وأنت ذاهب للكلية. لكن في جيبي ما يكفي لأن أكون في الزمالك حتى وإن لم أعرض فني هناك.
أثناء العمل مع خالي حاولت التواصل مع فنانين آخرين، فنانين كبار أرسل لهم صور لوحاتي على الماسنجر أو أضع الصورة في كومنت على بوست عندهم في الفيسبوك. انتظر أن يردوا عليَّ، ليس ليخبروني أن فني حلو ولا وحش إنما ليخبروني أنه عادي دماغي تاكلني وترد عليا وأرد عليها وإن الفنانين كدة. الأوتريفين كان يسكت دماغي بشكل ما، كان يغرقها في مادة لزجة فيخرسها، لكن رائحة أم بيومي وزبالتها ظلت معلمة عليَّ، كلما حاولت أن أصاحب أحدًا من فنون جميلة الزمالك ينفر مني، في آخر مرة قابلت حمزة، في تالتة نحت عرفته من الفيسبوك، تقابلنا في قهوة الفلاح في وسط البلد، تحدثنا عن الفن وعن ما أفعله مع خالي، نظر إليَّ بقرف ونظر بهلع تجاه حذائي. فكرت أنه سيقدر أن ما أفعله حرفياً «نحتاية» لكنه أطال نظرة القرف والهلع. في طريق عودتي لأم بيومي أرسل خالي فويس نوت: حمار وحشي مات في حديقة الحيوان وبقى من نصيبي، ولا يا محمود، عايزك كدة تظبط لي حتتين حمار وحشي، 100 في 80، إتْرِس واحدة سمبوكسات في دوائر وواحدة تانية 90 في 150 حمار في بقرة على كيفك.
لا أعرف لماذا تقيأت بعد أن سمعت هذه الرسالة. كان خالي يكتب دائما التفاصيل لكن حينما نطقها شعرت بالقرف.
هو مات إزاي؟ كتبتها بغضب على واتساب، فشخر لي مع إيموجي بيضحك.
كنت مهتمًا بمعرفة كيف مات، رأيت نفسي فيه، حمار وحشي، أخذوني وحبسوني وفهموني أن دا إنقاذ، ثم مت فأتى فرج فني الدباغة ليأخذ جلدي ويحوله لسجادة حتى يدوس عليها غرباء بالجزمة.
رسمت وجه حمار وحشي تتساقط منه دموع على شكل جلد جاموسة، بينما تنتزع يد بجلد تعلب جلد وجهه فيظهر تحتها وجهي. لونت كل الأجزاء البيضاء سواء في الخلفية أو خطوط الحمار بمزج لون أبيض أكليرك بمنيي.
كانت لوحة وليس سكيتش، أنهيتها في اسبوع، صورتها ورفعتها على انستجرام وفيسبوك وكتبت عليها «أنا الحمار» ونمت.
اتصل خالي خمسين مرة، كنت أستيقظ لأكتب له أنني أحتاج إلى وقت، ولما أغلقت هاتفي أتى للبيت وضربني بالقلم بعدما واجهته برفضي للعمل معه مرة أخرى.
لا أعرف كم يومًا نمت؟ فتحت الفيسبوك ووجدت تعليقًا واحدًا على اللوحة من زميل لي في الكلية «تسلم إيديك يا بو عمو» و 1.1k لايكات وإيموجيز بين ضحك وقلب وحضن على اللوحة. وعلى انستجرام مئات التعليقات والرسائل من جاليري همسات.
«ممكن نتواصل مع حضرتك؟»
«ممكن نتواصل مع حضرتك؟»
«ممكن نتواصل مع حضرتك؟»
سحبت جامد من علبة الأوتريفين، ونمت مرة أخرى.