مقتطف من رواية عزت القمحاوي: بخلاف ما سبق

10 March, 2025
موس لمرابط (مواليد المغرب عام 1983)، «فارس في درع لامع ودو راج»، و«سكر-ماء-أرجواني»، مطبوعات فنية، حبر نفاث على ورق هانيموله فوتو راج ناعم 305 جرام، 75 × 50 سم، 2019. (بإذن من الفنانة و لوفت آرت جاليري كازابلانكا).
في رواية «بخلاف ما سبق»، يعود عزت القمحاوي إلى شخصية خيالية قريبة إلى قلبه، سامي يعقوب، يعود إلى «صحبة ذلك الشاب الذي يقف على الحدود بين الذكاء وافتقاد التجربة، بين القدرة على رؤية المستقبل التي جعلته ينظر إلى الحياة كعرض متكرر والماضي الثقيل للعائلة الذي يجرّه خلفه».

 

عزت القمحاوي

 

أنا وأنت خادمان عند هذه البهائم

استيقظ سامي وقت الضحى، وذهب إلى المعلف. تطلعت نحوه الجِمال الواقفة كأنها تستنجد به. لفت انتباهه تكاثف الذباب على الجمل المصاب في شكل دائرة سوداء يمتد منها خط هابط على الساق. بدا المريض أكثر ضيقًا من أخوته. اقترب منه سامي وتلمَّس الدمل متتبعًا مسار الصديد الدبق تحت الذباب.

رواية «بخلاف ما سبق» من إصدارات المصرية اللبنانية.

كان حمادة يراقب بضجر. رمقه سامي بنظرة غاضبة، وهمَّ أن يوبخه، لكنه أمسك نفسه وطلب منه إحضار المرهم مع موسى من دولاب الأدوية الصغير المعلق على جدار غرفة العلف. ناوله حمادة ما طلب، قائلًا:

– لا تتعب نفسك يا باشا. هذا الجمل راح، خلاص!

– لماذا اليأس؟!

مسح الموسى بالمرهم، وشرع يتحسس به رأس الخُرَّاج. رفع الجمل ساقه وضرب الأرض، ثم سكن. أخذ سامي يشق الجلد فتدفق الصديد وأخذ الجمل يتوجع ويبكي، دون أن يحاول إيذاءه أو دفعه بعيدًا عنه.

حذَّره حمادة:

– انتبه يا باشا، لا تضغط شديد، الجِمال حقودة.

– لا تقلق، يفهم أنني أعالجه.

وطلب منه تسخين ماء ليغسل الجرح بعد اعتصار الصديد. ذهب حمادة، وعندما عاد بالماء أخذ يحكي عن انتقام الجِمال وحقدها.

ـ شُفت بنفسي. كان عمي الكبير عنده جمل. ضربه مرَّة، وظن أنها مرَّت. ولكن بعد فترة طويلة ظهرت على الجمل العصبية والرغبة في الانتقام. كان عمي يربط البهائم في مراح أمام البيت وينام على دكة بالقرب منها. كان الجمل ينتظر حتى يهدأ الليل فيبدأ في الدوران حول نفسه، ويشد ليقتلع الوتد، لكي يذهب إلى عمي الذي كان يراقب محاولاته. ليلة، ليلتان، عشرة. تأكد أن الجمل لن يهدأ إلا إذا أخذ بثأره.

رغم تركيزه فيما يفعل، حرص سامي على إبداء اهتمامه بحديث حمادة، مغتبطًا بأنه يسترسل للمرة الأولى في الكلام. وتشجع حمادة فأخذ يُشخِّص ما يقول، يلون في صوته مع حركات يديه:

ـ في ليلة ربط عمي الجمل بعقدة سهلة الفك، وبرم لحافًا وغطاه بعباءته، ووضع عمامته فوقهما على الدكة كأنه هو المستلقي. فك الجمل رباطه واندفع إلى الدكة. فتح فكيه والتقط العمامة وطوحَّها بعيدًا، وهبط برأسه مرة أخرى ليهبش رأس عمي فلم يجد رأسًا. اكتشف الحيلة فأصابه الجنون. التقم العباءة وطوح بها ثم اللحاف وأخذ يدهسهما بهيستريا، حتى سقط على الأرض. كان عمي في الداخل يراقبه من خلف شق في الباب. عندما رأى انهياره، جرى إليه بالسكين، تشهَّد عليه وحلَّله في اللحظة الأخيرة. عندما فتحوا أحشاءه، وجدوا قلبه ممزقًا. انفجر من شدة الغضب.

لم تجعل القصة سامي يخشى الجمل الذي يبكي بين يديه مثل طفل، وواصل فتح الدمل واعتصار الصديد، بينما بدأ الجمل يتمسح فيه برأسه. بعد أن اطمأن إلى نظافة الجرح ملأه بمرهم المضاد الحيوي. ووقف يتأمل عيني الجمل المفعمتين بالامتنان. قال لحمادة:

– ألا ترى علامات الشكر في نظرته؟

– تشرب قهوة؟

– أشرب.

أشرق وجه حمادة، وهرول إلى غرفته يحضر أدواته. وأخذ يعمل بشغف. بينما أخذ سامي يُنصت ويدقق في كلمات الأغنية التي تبثها السمَّاعة المعلقة على الحائط:

إس دو يا نوبة

سِكَّرا أو ساه

آي لنج هايلنج

سِنجر تود اير بوري

وعاد يتطلع إلى انهماك حمادة في دق البن. يراه بين وقت وآخر يجس بأصابعه الملوثة بالروث المدى الذي وصلت إليه عملية الطحن. فكَّر كيف سيشرب من هذا البن، فأرسل بنظرته بعيدًا عن حمادة وقال:

– الغناء النوبي جميل.

– لا أعرف إن كان غيرنا يجده جميلًا.

– تفهم الكلمات؟

– ليس كلها، لكن أحسها.

– الغناء وطن سهل الحمل.

نظر حمادة إليه بعمق ولم يرد، فاستأنف سامي:

-لا بد أن في النوبة سرًا يجعلكم تتمسكون بها إلى هذا الحد.

– لا أظن أنها كانت أجمل من هذه البساتين. يبدو أن المميز فيها أننا فقدناها.

– هل تعود إلى هناك يا حمادة؟

– ذهبت مرتين، مع الأسرة قبل وفاة أبي. كنا ننزل بحيرة ناصر في مركب صياد، وكان أبي يلقي بنصف جسده خارج المركب، ويميل إلى الماء ليشير بإصبعه إلى مواقع قرانا الأصلية في القاع. كان يطلب من المراكبي، أن يدور بنا، وكلما مررنا فوق بقعة يشير إلى القرية القابعة تحتنا. هذه قتة، هذه أبريم، ثم هذه هي الجنينة والشباك، قريتنا. يأخذ في توجيهه حتى يدور ويرسم حدودها فوق رقعة الماء، ثم يرشده إلى الإبحار في الخطوط التي كانت شوارع. ويستمهله ليرسم لنا موقع بيتنا بين بيوت الجيران، ويرسم اتجاهات المداخل، والنوافذ وشكل الغرف. يسترسل في تجسيد البيت الغارق مستثارًا حتى أننا كنا نخاف في تلك اللحظات أن يقفز إليه. وعندما نعود إلى قرية التهجير التي تحمل الاسم نفسه وتضم الجيران أنفسهم، كان ينام يومين.

ـ المكان بأهله يا حمادة. لا أنسى ترحيب الناس بنا في رحلة النادي النوبي إلى قرى «نصر النوبة» في كوم امبو؟ طفنا بجميع القرى ثم أخذونا إلى جولة في البحيرة.

ـ نصر النوبة! هل تأملت الاسم؟ بعد خمسين سنة من ترحيلنا إلى كوم امبو لم يزل الصعايدة يعتبروننا غرباء.

– لكنك لم تولد في القرية الغارقة.

ـ أبي نفسه كان طفلًا وقت التهجير. لكن أين كنا نحن عندما خرج آدم من الجنة؟ هل نسيناها؟

أخذ سامي يُفكِّر بكلام حمادة معجبًا، وسأله:

– ماذا درست يا حمادة؟

– ليس مهمًا ما درست، طالما لم يصنع فرقًا.

لفهما الصمت وأخذ سامي يراقب يديه بينما يجمع الجمرات القليلة حول كنكة القهوة ويستبعد الأخشاب نصف المحترقة التي تدخِّن بكثافة. ثم أخذ ينفخ تحت الكنكة المطبَّقة الحافة. وأخيرًا فارت القهوة. رفعها حمادة بسرعة وصبَّ في الكوبين. بدت عيناه غائمتين بدموع، ولا يبدو عليه إن كانت بسبب الدخان أم الذكريات. تذوَّق سامي القهوة المرة ومصمص شفتيه باستمتاع. وقال:

– مدخَّنة، لكن لذيذة!

وبعد لحظات صمت قال:

– لم تتكلم من قبل يا حمادة.

– أنا خادم، لا يحق لي أشغلك بهمومي.

– أنا وأنت خادمان عند هذه البهائم، اعتبرهم أطفالنا.

ثم ضحك وقال:

– لكن لا تتوقع من البهائم أن تخدمك عندما تكبر.

كاتب مصري مولود في ١٩٦١، أصدر حتى الآن ١٨ كتابًا. بين الرواية والمجموعة القصصية والكتب العابرة للأجناس الأدبية. روايته بيت الديب فائزة بجائزة نجيب محفوظ عام ٢٠١٢ ومترجمة إلى الإنجليزية والصينية، وروايته «مدينة اللذة» وكتابه  «العار من الضفتين» مترجمان إلى الإيطالية. فاز بجائزة سمير قصير لحرية الصحافة عام ٢٠٢٢.

بخلاف ما سبقسامي يعقوبعزت القمحاوي

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member