قصة قصيرة لنورا ناجي: يقين

11 November, 2024
مشهد من منطقة ميوندونج، سيول، كوريا. (الصورة كيكوجونجبوي).
مشهد من منطقة ميوندونج، سيول، كوريا. (الصورة كيكوجونجبوي).

بعد انتقالها إلى كوريا، تعيد سيدة مصرية اكتشاف نفسها وحياتها، في قصة قصيرة للكاتبة المصرية نورا ناجي.

 

نورا ناجي

 

عندما أتاها اليقين بأنها لا يمكن أن تكمل حياتها معه، لم تكن ثمة مشاجرة عنيفة وقعَت أو خلاف حاد، بل كانت تنتظر غليان الماء في الغلاية السوداء، تتأمل أكياس النيسكافيه بلونها الأصفر الذي ألِفته الآن بعد مرور أكثر من عام على مكوثها في مدينة سيول.

كانت الغلاية- مثلها مثل كل شيء في الاستديو السكني الصغير- مشتراة عبر الإنترنت. في الحقيقة، لم يأخذ زوجها الذي يعمل مدرسًا للغة العربية في جامعة هانيانج، رأيها في أي قطعة قبل الشراء، بضغطات سريعة منه على لوحة المفاتيح، تناثرت القطع غير المتناسقة في الشقة المظلمة التي لم تحبها قط. طاولة مستطيلة خضراء سماها مائدة سفرة، يحيط بها مقعدان خشبيان قبيحان، سرير هو عبارة عن مستطيل خشبي وضِعت عليه مرتبة يابسة ووسادتان، دولاب صغير لها، ووحدة أدراج ضخمة خصصها لأغراضه، أريكة حمراء سرعان ما تهاوى تنجيدها، سجادة بلون التراب.

شعرت أنها لم تفرح مثل بقية العرائس في بلدتها، اللاتي حضرت بنفسها كل لحظاتهن السعيدة من اختيار «العفش» لاختيار المفروشات وترتيب أطقم الصيني والكاسات والفناجين وأطقم التوابل. أخبرتها صديقاتها أن لديها ذوقًا رائعًا في الاختيار والتنسيق، وأنهن ينتظرن رؤية بيتها بفارغ الصبر، الأمر الذي لم يتحقق لأنها تزوجت بدون شقة ولا فرش، ولا حتى فرح وزفة، رغم أنها حلمت بكل هذا كغيرها من الفتيات.

كانت فتاة عادية، هادئة وفي حالها معظم الوقت، لم تغادر مركز أجا سوى مرات معدودة إلى المنصورة أو المحلة، اكتفت بالدبلوم التجاري على أمل الالتحاق بالجامعة، لكنها لم تفعل، لم تجد دافعًا حقيقيًا للاستمرار في الدراسة، كل ما فكرت فيه وقتها كان الاستقرار في بيت جميل مع شخص تحبه وأطفال سعداء، لكنها لا تفهم فعلًا حقيقة ما حدث، ولا كيف حدث، ومتى؟

اليوم، وفيما هي على بُعد آلاف الأميال من بيتها المتواضع، الذي تحبه أكثر بكثير من هذه الشقة الصغيرة في المدينة الجميلة، تفكر لماذا اختارها ولماذا قبلت به؟ لا هي تليق بحياته ولا هو يناسب أحلامها، ما الذي يجعل معيدًا للغة العربية في كلية الآداب يتزوج من فتاة لم تحصل سوى على الدبلوم التجاري، فقط ليأخذها ويسافرا سريعًا لبعثته في كوريا.

تفكر في الأسباب الممكنة؛ كلها أسباب ساذجة تنهار مع أول نظرة منها في وجهه. منذ زواجهما وهو لا ينظر إليها إلا فيما ندر، حديثهما يقتصر على الطعام ومتطلبات المنزل، ثم عن الطفلة. يغادر في الصباح، ويعود في المساء، يتناول الطعام ويلهو قليلًا مع ابنته، ثم يتصفح الإنترنت.. وينام.

من البداية وهي تشعر بأن هناك شيئًا ما خاطئًا، فهي وإن كانت لم تقع في الحب قبل ذلك، ولم تشعر سوى ببعض الإعجاب العابر بأشخاص تراهم صدفة في المواصلات أو في أفراح صديقاتها، ناسجة معهم في خيالها قصصًا ساذجة دون أن تعرف حتى أسماءهم؛ غير أنها تستطيع الإحساس بانعدام العاطفة في هذه الزيجة التي حلمت بها طويلًا. يصير ذلك واضحًا كلما سار أمامها بخطوات واسعة تاركًا إياها خلفه، تهرول للحاق به، وكلما خجلت من تقبيله واحتضانه عند عودته إلى المنزل، أو عن الاستناد لكتفه أو لمس وجهه ويديه دون داعٍ، وكلما بدلت ملابسها بسرعة في وجوده، بينما تحاول تغطية أكبر مساحة ممكنة من جسمها. كانت تعتقد بأنها لم تعتده بعد، لكنها في قرارة نفسها تعرف أنها كاذبة، أن هناك شيئًا مفقودًا واضحًا، لدرجة شعورها بتجسد هذا الشيء ككائن هلامي الشكل، يقبع بينهما.

كل شيء فيه أغرى عائلتها بالقبول؛ جيران منذ زمن، أستاذ في الجامعة، وفوق كل ذلك، لن يكلفهم قرشًا. رتب كل شيء بحيث يسافران فور عقد القران، ثم يتولى هو وحده إعداد شقة الزوجية بعد عودتهما.

أما موافقتها عليه، فكان سببها واضحًا بقدر ما هو ساذج؛ كانت تريد السفر بالطائرة لبلد بعيد وغريب، ربما لم تكن مثقفة جدًا لكنها كانت تقضي معظم الوقت -بعد إنهاء مهام المنزل مع أمها- في مشاهدة الأفلام والمسلسلات الأجنبية، ومنها الأفلام الكورية التي احتلت مكانةً خاصةً في قلبها. ثمّة فترة سبقت تقدمه لطلب يدها من والدها، كانت خلالها مهووسة بهذه الأفلام، لدرجة أنها بدَّلت بصورتها على الفيسبوك صورة ممثلة كورية شهيرة، وصارت تغطي فمها بيدها عندما تبتسم مثلهن، وتنادي أختها باسم «أوني»، الكلمة الوحيدة التي استطاعت حفظها.

بعدما عاشت في دولة أحلامها، لم تعد قادرة على مشاهدة التلفزيون الذي يعرض الأفلام بلا ترجمة. ولم تستطع التأقلم مع الرائحة الكريهة التي تهب عليها عند كل منعطف أثناء تمشيتها حول البناية في الصباح، والتي تذكرها برائحة الحيوانات حديثة التحلل. ولم تتقبل الطعام الحار بشدة، أو معدوم المذاق تمامًا، ولا البرودة القارصة في الشتاء والأمطار الغزيرة في الصيف. ثم كانت معاناتها مع الحمل، التي أنهت بقايا المحبة في قلبها، بدءًا من الغثيان الذي ظل يلازمها حتى الشهر السادس، إلى رفض الأطباء وصف أيّ دواء للصداع الشديد الذي صار يصيبها.

عانت من الصداع لدرجة أنها لم تتمكن من النوم لمدة ثلاثة أيام، ترفض معدتها أيّ طعام مهما بلغت خفته، لم تعد قادرة على البلع، إلا بعض قطع الفواكه المعلبة، وكان لابد من زيارة عاجلة للمستشفى.

جلست بجواره أمام الطبيبة، حاولت أن تشرح ما تشعر به بكلمات إنجليزية متعثرة، لكنه قاطعها متحدثًا بالكورية، كانت لهجته جامدة بلا مشاعر، يبتسم بجانب فمه ولا يظهر عليه أي قلق، تدير الطبيبة عينيها بينهما وتهز رأسها. شعرت بأنها تستطيع قراءة الترجمة كما كانت تفعل حين تشاهد الأفلام الكورية في مصر، يقول للطبيبة: لا عليك، إنها تبالغ قليلًا، المصريات يحببن الدراما، والطبيبة ترد: أتفهم ذلك، لكن لا أحد يظل مستيقظًا لثلاث ليال دون سبب.

وقتها، سرت قشعريرة سريعة في عمودها الفقري كعادتها حين تشعر بالإهانة. لكنها لم تقل شيئًا. في النهاية منحتها الطبيبة علبة بها ثلاثة أقراص مسكنة هدأتها قليلًا، وعندما استعادت قوتها بعد أيام وقفت في منتصف الصالة الضيقة، وأخبرته بأنها ترغب في العودة لبلدها.

نفذ لها ما تمنته برغم عدم اقتناعه، وحين وصلت بيتها القديم شعرت براحة كبيرة، وجدت تنفسها سهلًا، وعضلات فكها مسترخية، استعادت شهيتها، واطمأنت على صحتها وصحة جنينها.

وضعت ابنتها بين أهلها، وبعدما أتمت الطفلة شهرًا، كان الوقت قد حان لتعود، بكت من قلبها طوال الطريق إلى المطار وأمام موظف الجوازات، لدرجة أثارت تعجبه.  سألها إن كانت تعاني من شيء، فهزت رأسها نافية، كيف يمكن أن تشرح له بأن الطائرة التي حلمت بها يومًا باتت أقرب لمقبرة تدخلها بقدميها مع طفلتها.

لم تتوقف الطفلة عن البكاء طوال ثلاث عشرة ساعة هي مدة الرحلة، وعندما حطت الطائرة أخيرًا، وخرجت تجرّ حقائبها وطفلتها، كانت أقرب ما تكون إلى الخرقة البالية، حجابها متهدل على رأسها، المعطف الذي ترتديه ملتف بشكل عكسي، حقيبة الطفلة تتدلى من كتف، وحقيبتها من الكتف الأخرى، ما آلمها أكثر يقينها بأنها لا تملك ترف الراحة، فكما توقعت تمامًا، لم يكن هو معينًا كبيرًا لها، لم يغير نظام حياته لأجلها أو لأجل طفلته، كان يغادر في الصباح ويعود في المساء ليتناول طعامه الذي يجب أن يجده معدًا، ثم ينام في الغرفة المغلقة ويتركهما معًا في الغرفة الأخرى دون أن يعرض أيّة مساعدة.

الغريب أن كل هذه الأمور التي تتذكرها الآن وهي ترشف النيسكافيه أمام النافذة المغلقة لم تكن ما يحزنها بهذا الشكل، بل كانت الجملة التي قالها بالأمس، بعدما خطرت لها فكرة مفاجئة.

كانت قد انتهت من إعداد الطعام وترتيب الفوضى، وتعقيم زجاجات إرضاع الطفلة وتغيير ملابسها. فقررت مكافأة نفسها بالجلوس قليلًا أمام اللاب توب، ومشاهدة حلقة من مسلسلها المفضل إلى جانب طفلتها، لكنها صادفت أغنية تحبها على يوتيوب، جرتها إلى أخرى، ثم أخرى، بعدها قررت عمل قائمة بالأغاني التي تحبها وحفظها للاستماع إليها في أي وقت شاءت، استغرقت في مهمتها لدرجة أن الطفلة نامت، ، لكن بدلًا من أن تستغل الوقت لتستريح بجانبها قليلًا، ظلت فكرة عمل «بلاي ليست» طويلة وضخمة ومستمرة مسيطرة على تفكيرها. أحبت تجميع الأغاني وترتيبها طبقًا للأفضلية، وطبقًا لحالتها المزاجية، وطبقًا لما يمكن أن يعينها على تحمل الأيام القادمة.

أعجبتها الفكرة، ففكرت في مشاركتها مع الأصدقاء على الفيسبوك، تذكرت أن هناك طرقًا لبث الموسيقى عبر راديو إنترنت بسيط يمكن إعداده، لكنها لم تعرف كيف ولا من أين تبدأ.

جربت البحث على جوجل، كان هناك الكثير من الروابط المزيفة، لكنها استمرت في المحاولة لدرجة أنها لم تلحظ عودة زوجها من العمل.

سألها عما تفعله بهذا التركيز، فشرحت له فكرتها وهي تضع له الطعام على الطاولة. لم يبد أيّ اهتمام، وطلب منها أن تتوقف عن الانشغال بأمور تافهة لن تستطيع إتمامها.

وبرغم أن نبرته- على غير العادة- لم تكن حادة أو ساخرة بشدة، إلا أنها في تلك اللحظة بالذات، شعرت بالأميال التي تفصلهما، استطالت الطاولة الخضراء فجأة، حتى إنها لم تعد تراه بوضوح على الناحية المقابلة، وحل صمت شديد الثقل على أذنيها، لدرجة أن صوت بكاء طفلتها آلمها، في هذه اللحظة قررت أنها لن تتوقف أبدًا حتى تتمكن من تنفيذ ما تريده.

بعد أن خلد إلى النوم، ظلت تكافح على الإنترنت؛ تعتصر مخها لتفهم الخطوات الكثيرة الصعبة المكتوبة بالإنجليزية، إلى أن تمكنت بالفعل من بث محطة راديو إنترنت خاصة بها، ومع أول أغنية تبثها عبره، شعرت أنها تملك العالم، وأنها قادرة على فعل أيّ شيء.

في الصباح، وبعد أن غادر المنزل، كان الراديو لا يزال مستمرًا في بث «البلاي ليست» الخاصة بها، وكان هناك ثلاثة أشخاص يستمعون إليه، ثلاثة أشخاص لا تعرفهم ولا يعرفونها، تجمعهم أغنية حزينة لرشيد طه لا تفهمها، لكنها تحبها. حاولت تخيل أشكالهم، أشكال بيوتهم وصور الديسك توب على أجهزة اللاب توب أمامهم، هل هم يائسون مثلها؟ يشعرون بنفس وحدتها؟ هل استيقظوا بنفس الغصة في حلوقهم، والدموع المحتبسة في أعينهم؟

عندما وقفت أمام الغلاية لتعد النيسكافيه، تأكدت أنها لن تكمل حياتها معه، لكنها لن تفعل ذلك الآن، لم ترد لطفلتها حياة مثل حياتها، تختلس فيها لحظات سعادة ضئيلة في النظر من شباك البيت نحو العابرين، أو أحلامًا متواضعة تنهار عند أول لمسة للواقع. أرادت أن تكمل الطريق لا أن تبدأه من جديد، وفي أعماق نفسها توقفت عن السؤال عن سبب زواجه بها، وآمنت بأن لهذا الزواج حكمة لن تستوعبها الآن.

في هذا اليوم، اشتركت في مجموعة خاصة بالجالية المصرية في سيول، وأدهشها كثيرًا أن زوجها عضو ناشط فيها دون أن يخبرها. كان له العديد من الصور مع المجموعة في عدة أماكن، يبدو فيها مستمتعًا بوقته في المطاعم والمقاهي العربية في حي الأجانب. نحت دهشتها جانبًا، وقررت أن تعيش حياتها هي الأخرى بشكل منفصل تمامًا عنه.

استرجعت أيام نشاطها على المنتديات والمدونات خلال السنوات الماضية، وتمكنت من عقد صداقات عديدة مع سيدات وأمهات مصريات يعشن في مناطق قريبة، تعجبن من معرفة أن هناك مصرية في سيول لم يتعرفن عليها بعد، وزادت دهشتهن عندما علمن بأنها زوجة البروفيسور الذي يعرفنه جيدًا، ورأينه عدة مرات في تجمعات الجالية.

في اليوم التالي أخبرته بأنها ستلتقي ببعض المصريات اللاتي تعرفت عليهن في مول قريب، لم يبد اعتراضًا، على العكس ترك لها بطاقته الائتمانية في حال أرادت شراء شيء، كانت متحمسة للقاء أشخاص جدد، تأنقت قدر استطاعتها وانطلقت قبل الموعد المحدد.

حضرت ثلاث سيدات مصريات مع أطفالهن، اثنتان في مثل عمرها وواحدة أكبر قليلًا، شعرت بالتقارب الفوري معها، تحدثتا لمدة طويلة، وعرفت أنها تعيش في سيول منذ عشر سنوات، وأنها تتحدث الكورية بطلاقة.

نصحتها السيدة بتعلم اللغة، ودلتها على المعاهد المتخصصة، حتى أنها أخبرتها بأن هناك دروسًا خارجية في الجامعة التي يعمل بها زوجها.

هذه المرة أبدى بعض الاعتراض، وسألها عن مصير الطفلة أثناء حضورها لهذه الدروس، لكنها كانت قد أعدت كل شيء، وعلمت أن هناك دار حضانة قريبة من المنزل جاهزة لاستقبال من هم في مثل عمرها، كما أن الدراسة لمدة ثلاثة أيام فقط في الأسبوع، كل يوم ثلاث ساعات.

أمام تصميمها وحماسها، اضطر للموافقة. وفي اليوم الأول اصطحبها معه إلى الجامعة، واستخرج لها بطاقة المترو القابلة للشحن، وعرفها سريعًا على المكان، وأخبرها بأنه لن يكون قادرًا على اصطحابها كل مرة لاختلاف المواعيد.

عندما تركها وحدها لتبدأ رحلتها، اكتشفت أن هذه هي المرة الأولى منذ فترة التي تسير فيها حرة بدونه أو بدون الطفلة، لسعة من الشعور بالذنب اعترتها لكنها تجاهلتها على الفور، واستمتعت بهذا الشعور الغريب بالخفة، نفس الشعور الذي شعرت به بعد انتهائها من تدشين الراديو الذي لم يستمر سوى يومين، لأنها انشغلت عنه ولم تتمكن من إضافة المزيد من الأغاني. لكنها هذه المرة قررت المواصلة في الطريق الذي حددته سلفًا.

انفتحت الحياة أمامها بشكل لم يكن من الممكن أن تتوقعه، اللغة منحتها مفاتيح الانغماس الكامل في المدينة، لم تعد مضطرة إلى التماس الأعذار للنزول وحدها إلى محل البقالة الصغير أسفل البناية لتنفرد بنفسها قليلًا، بل باتت قادرة على السير في الشوارع التي لم تكن تعرفها بمساعدة خرائط جوجل، روكوب المترو إلى محطات بعيدة، ومقابلة أصدقائها في العطلات الأسبوعية، والذهاب إلى الحديقة مع طفلتها، والتسوق في المول. ولأول مرة اشترت ملابسها طبقًا لذوقها الخاص.

اكتشافها للمدينة جعلها تدرك بأنها لم تكن قادرة على رؤية الجمال فيها، الشوارع الطويلة المستقيمة التي تظللها أشجار الكرز على الجانبين، الإعلانات الملونة المضيئة التي تشعرها بالبهجة في المساء، الأسواق الصغيرة بين البنايات الصاخبة دومًا، تحيات المسنين الغرباء لها وهي في طريقها لشرب قهوتها صباحًا مع الطفلة. جربت أنواعًا جديدة من الطعام الشهي التي لم تلحظها من قبل، أحبت مناداة البائعين على بضائعهم بعبارات مرحة منغمة تجعلها تبتسم، وعندما تبتسم يصرون على أن تتذوق ما لديهم من قطع أناناس مثلجة، وشرائح البطيخ المقطعة، وحلوى الأرز.

حتى الرائحة التي كرهتها سابقًا لم تعد تضايقها كثيرًا، أو ربما اعتادت عليها لدرجة أنها لم تعد تلاحظها.

كان من الصعب عليها التخلي عن طعم الحرية الذي عرفته، خاصة وزوجها بات وكأنه يعيش في عالم آخر، يتأخر في العودة إلى المنزل، يتناول طعامه في الخارج، ولا يحاول أن يلمسها.

عندما سألته إن كان معجبًا بامرأة أخرى، كانت العلاقة بينهما قد باتت أقرب لصداقة أو أخوة، جعلته يرد بالإيجاب هو ينظر بثبات لأول مرة في وجهها.

لم تبد أيّ اعتراض، بل شعرت براحة خفية داخلها لأنها لم تعد مضطرة إلى حمل همّه، كل ما فكرت فيه هو البحث سريعًا عن عمل مستقر.

تمكنت بمساعدة أصدقائها المصريين والكوريين من العثور على عمل في مدرسة أجنبية، لم يمنحها ذلك الإقامة الرسمية في البلاد، لكنه ضمن لها دخلًا جيدًا يمكنها من وضع قدميها على طريق جديد. ومع ذلك لم تستسلم لحريتها الجزئية، وظلت في سعيها المستمر نحو الاكتمال.

اليوم، بعد مرور كل هذه السنوات، وبينما تودع طفلتها على باب المدرسة في أول أيام الدراسة، وتنطلق إلى عملها الجديد ضمن فريق العلاقات العامة في فندق كبير في سيول، استعادت نفس الشعور بالخفة الذي شعرت به عندما سارت وحدها في أول يوم دراسي لها. كانت أوراق الشجر تتساقط حولها في كل مكان، وأمطار خفيفة تتناثر على وجهها فتشعرها بمزيد من الانتعاش.

وفر لها عملها الجديد إقامة كاملة في كوريا، جعلتها قادرة على التحرر من إقامة زوجها بعد أن ظلا منفصلين صوريًا لمدة عامين، استقرت فيهما في شقة جديدة في بناية أخرى أحدث، صغيرة أيضًا، ربما أصغر من السابقة، لكنها مضيئة ومنظمة، والأهم أنها اختارتها واختارت أثاثها بنفسها. ربما ساعدها على الانتقال بعد أن تقبل فكرة الانفصال الصوري على مضض، لكنه لم يتدخل في اختياراتها على الإطلاق، بل أبدى إعجابه بكل شيء بعد الانتهاء.

في العطلات الأسبوعية يجتمعون، هي والطفلة، وهو وخطيبته الكورية التي تعمل معه في الجامعة، لتناول الغداء في حيّ الأجانب «إيتوان» أو الذهاب إلى الحديقة، كما أنها باتت قادرة على الذهاب إلى مصر مع ابنتها في عطلة سنوية قصيرة.

كل يوم، قبل حلول الظلام، تجلس في الحديقة الملحقة بالبناية، تراقب ابنتها تلعب مع بقية الأطفال. تفكر في أحلامها الصغيرة السابقة، وكيف أصبحت على ما هي عليه. الحياة غريبة جدًا، يبدو أنها تدفع كل شخص إلى مسار محدد لا يحيد عنه رغم اعتقاده عكس ذلك. كيف تحولت الفتاة الصغيرة التي تنظر من شباك غرفتها نحو شارع ضيق لا يطل على شيء، إلى امرأة مسئولة عن طفلة، تجلس في قارة أخرى، ومدينة أخرى بعيدة. تطلعت حولها وراقبت حركات ابنتها وشعرت بفرح هش مثل ضوء ضعيف، لكنه كاف لمنحها الطمأنينة. قررت التوقف عن التفكير في كل ما حدث ومتى حدث ولماذا حدث، يكفي أنه وقع وأنها تمكنت أخيرًا من أن تعيد خلق حياتها، وشعرت بالامتنان لكل ما حولها، خاصة لذلك الشعور الغامض الذي تضرب جذوره في أعماق روحها، ولا تتمكن أبدا من تحديده مهما حاولت.

نورا ناجي، صحفية وروائية مصرية، من مواليد طنطا سنة 1987. تخرجت في كلية الفنون الجميلة. صدرت لها خمس روايات منها «أطياف كاميليا» الفائزة بجائزة يحيى حقي، وكتاب غير أدبي بعنوان «الكاتبات والوحدة»، ومجموعة مثل الأفلام الساذجة الحاصلة على جائزة الدولة التشجيعية، وتعد رواية «سنوات الجري في المكان» عن دار الشروق أحدث رواياتها.

قصة قصيرةنورا ناجييقين

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member