مقتطف من رواية مالك رابح: بيت الولد

10 March, 2025
وائل شوقي (مواليد مصر عام 1971)، «الكباريهات الصليبية – أسرار كربلاء»، 2015 (بإذن من الفنان ومعرض ليزون لندن).
في رواية مالك رابح الأولى «بيت الولد»، يصور لنا شخصيته الرئيسية الحساسة للغاية؛ كيف يستعيد ذلك الشاب ذكريات صدمات الطفولة، وعلاقته بأفراد عائلته ووالدته على الأخص، فيتبين لنا رويدًا رويدًا كيف أثر كل هذا عليه.

 

مالك رابح

 

1

لا أعرف لم صرت أستيقظ مؤخرًا على تلك الاكتشافات الملونة بعزلة الصباحات البكر وصخب النوم المحتضر. أستيقظ ولا أحب يوسف إدريس كما اعتدت. أستيقظ على لا مكان لقصار القامة في هذا البلد. أستيقظ، وكما لو كنت قد فكرت طويلًا في الأمر، أدرك أن لا سبيل إلى خلاصي من بؤس أبي الذي ورثته كهجين كافكا في حجري.

اليوم ليس عاديًّا. انقلبت على ظهري. تقبلت فشلي كابن وككاتب. أصابتني المفارقة بالحكة، وهكذا تساءلت (همسًا كي لا أوقظ اكتشافات أخرى لست في خلو بال لها): هل كنت لأكتشف شيئًا آخر لو كان هذا مجرد يوم إثنين عادي؟

لا أعرف.

أمتلك دواليب خشبية تضيق بكريستال الذكريات. أحملها داخلي وعلى ظهري أينما سرت، وحين أشعر بالحزن، أجلس على أرض خضراء ألوك كسرات خبز، وبحذر يكفي، أنقر على خشب الدواليب. تك. تك. تك. هناك، رأيت جدي لأمي يبتسم في بورتريه قديم: رجل عظيم مطابق لمواصفات العائلة مات قبل بلوغه الأربعين. كانت في السابعة، وكبرت لا تتذكر عنه كثيرًا. قالت إنه أخذها إلى القاهرة بالقطار وأصابها غثيان، وهي -التي ستكره الحركة خارج مملكتها الصغيرة- قررت أنها ستعود إلى البيت سيرًا على الأقدام. ضحك، وأخبرها أنها إذا ركبت معه القطار فسوف يُحضِر الضفدع الذي طالما أرادته. النساء في قريتنا كن يلعقن بطون الضفادع لجلب الحظ. وفي نهاية أحد الأيام، أوفى الأب بوعده وسلَّمها واحدًا.

لا تتذكر الابنة إن كانت قد لعقت بطنه، ما تتذكره هو أنها لم تركب قطارًا مرة أخرى.

وماذا عني؛ مَن يفتخر بحماقة بكثرة النوم عن القطارات؟ طيب، كنت عائدًا من رحلة طويلة بالقطار. كنت عائدًا من رحلة طويلة بالقطار مع أني لم أركب سوى الميكروباصات. كنت عائدًا من سفر مع أني لم أذهب بعيدًا. ثلاثة أيام لم تكد تمر على يوم ميلادي الثالث والعشرين وأخبروا أمي أن عليهم أن يستأصلوا رحمها. العائلة كلها أخبرتني بموعد العملية ما عداها.

رأيتها تتحرك في المطبخ، تفتح الثلاجة وتغلقها، لا تنزع عينيها عن التلفزيون حتى وقت الإعلانات، وتهز رأسها على تعليقات أبي المستعارة من زملاء العمل حول مقتل جمال خاشقجي.

ولما كنا وحدنا، بعد وقت طويل، سألتها: «مالك؟»

اقتربت مني.

واحتضنتني أخيرًا.

2

(سكون)

تقبلت فشلي كابن وككاتب مرة واحدة.

لم يكن في المطبخ أحد. أمي في غرفتها، وأختي بالخارج. أخبرني أبي أنه سينتظر بالسيارة. ثلاث بيضات على النار. شربت كوبًا من اللبن، وارتكنت إلى حائط جوار البوتاجاز.

في فجر الرابع من أكتوبر من عام خمسة وتسعين، ذهبت أمي لولادتي. وبدلًا من العودة في اليوم نفسه، رواية «بيت الولد» من إصدارات تنمية.أمضت ثلاث ليالٍ بين الحياة والموت محاطة بكتائب عالية الصوت عديمة الفائدة من العمات والخالات. «جابوا لب وفول سوداني، تخيَّل!» تحتل أفق وجهها سحابة كدر وهي تحكي، وتقول إن آخر ما وعته هو إلقائي على طاولة معدنية، وإحدى الممرضات تصرخ: «الولد ساكن يا دكتور، الولد ساكن ما بينطقش يا دكتور.» والطبيب يجيب: «خلينا في الأم اللي بتروح مننا الأول.»

أضحك. هاكُم الكلمات الأولى التي طرقت أذنيَّ، والولد، الساكن ما بينطقش يا دكتور، قرر من ساعتها ألا يسكن ولا يكف عن النطق.

(الحركة)

في يوم عادي، كنت سأستيقظ في الوقت نفسه، أصنع لنفسي طبق شوفان بالحليب والموز (والعسل حسب المزاج)، أحشر جسدي في تيشيرت ملائم للأحداث وجينز أسود، أنزل من علبة سردين على عجلات أمام مستشفى بنها الجامعي، أتفقد كشك المجلات والصحف عند مكتب البريد، أشتري قهوة بالبندق من دون سكر، أدخن سيجارة أولى وتسحبني قدماي في شوارع جانبية في منطقة الفلل حيث أعمال بناء تلتهم الأشجار القليلة ولا تتوقف عن النخر في الممرات التي تصلح للمشي.

أمام مدخل مكتبة مصر العامة (لا يزال باستطاعتك قراءة «مكتبة مبارك» خلف كلمة «مصر» وفي إيصالات الاستعارات)، أدفن السيجارة في رماد القهوة، وكأي مواطن سيئ، أدفع بكل شيء إلى الرصيف، بلا محاسبة، بلا مراجعة، كمُسوَّدة لا تستحق النظر. أُخرِج بطاقة المكتبة إلى رجل أصلع (معطف من معاطف كافكا) يمارس سلطته ويطلب مني في كل مرة الاقتراب، وبرغم سخافة الأمر فإني أبلعه لما فيه من إيحاء بأن وجهي دائمًا يختلف عن اليوم الذي سبق.

لأنهم يهتمون جدًّا بالمواعيد فالأغلب أن تكون قاعة المطالعة مغلقة. أجلس على مقعد أمام الكافتيريا (تكون مغلقة أيضًا) أعبث بمفاتيح بيانو من الركبتين، وأفكر في أشياء لا ينبغي التفكير فيها. وحين أكون على وشك كسر رقبتي مستخدمًا حبل أفكاري الطويل، تأتي سيدة وتبتسم في وجهي. أدخل قبل إشراقة مصباح النيون وزمجرة جهاز التكييف، أسحب كتابًا كيفما اتفق، وأظل هناك حتى انتهاء فترة المكتبة الصباحية.

بعد ذلك، أصطحب سيجارة أخرى في شوارع أخرى لا تهتم. قد أظل أسقط في كرسي في مقهى سيئ فلا أرتطم أبدًا بالقاع، وقد ألعب استغماية مع الانزعاج داخلي حتى الرابعة موعد بدء الفترة الثانية.

الأغلب أن تكون قاعة المطالعة مغلقة، فأجلس على كرسي الصباح أمام الكافتيريا (تكون مفتوحة الآن). أطلب قهوة بالحليب من دون سكر، وأختار، كواحد من القلة الطيبة الباقية على كوكب الأرض، ألا أزعج الناس بلعب البيانو. حين تأتي السيدة (سيدة أخرى، ترتدي الحجاب كما ترتديه سيدات إسبانيا الموقرات، على ما يبدو)، لا تبتسم. لا أدخل قبل إشراقة مصباح نيون السيدة وزمجرة جهاز التكييف. هناك، أظل حتى انتهاء الفترة المسائية (أقرأ بنصف انتباه)، ثم أتعمد الضياع في المدينة، أستبطن الممرات والمماشي، أبني خريطة تناسبني، أتحين فرصة للنفاذ إلى الجانب الخفي من روحها وأحاول تعويض خطأ الأصياف الماضية؛ إذ -محكومًا بالكسل والخوف من الوحدة في الشوارع- قررت أنه من الأفضل أن أكتشف المدينة مع أحدهم، ولم أكتفِ بذلك فقط؛ كان هذا الـأحدهم من المدينة. هكذا انتهيت إلى اكتشافه هو. مع الأسف.

سؤال: ما الذي يميز صباحات الأيام العادية عن تلك الخاصة بالأيام غير العادية؟

جواب: لا شيء.

سؤال آخر: ما الذي يدفعني إلى الانغماس في تلك الحركة الروتينية حتى لينقصني أن أرتدي البذلة الصيفية لموظفي مصلحة معاشات الحزن والضجر؟ هل أفعل ذلك تفاديًا لكل قطارات بعد منتصف الليل التي تصفر تووت، أفكار سيئة، تووت توووت، أم لأنسى أني صرت عاقرًا غير قادر على إنهاء قصة واحدة؟

مرت أمي تحمل حقيبة صغيرة ملونة. تووووت توووت. تغاضت عن وجهي إلى البعيد. آه، النظر إلى البعيد. ورثت هذا منها. صحبت تمايل خطواتها حتى الباب. رأيت الطفلة الصغيرة التي طلبت من أبيها ألا تعود بـالقطر الزغنتووت إلى الوطن تلتفت وتقول: «ما تنساش البيض على النار يا عبد الرحمن. سلام.»

(سجائر)

لأنها لم تختر اسمي، ربما يكون مقبولًا أن تخطئ معناه (الرحمن ليس من كثرة الرحمة، الرحمن من الرحم). هذا الخطأ ترس دخيل، لكنه يناسب فراغًا في ساعة يدي؛ زر غريب، لكنه يليق بقميصي المفضل (أن تفهم شيئًا يعني أن تراه من خلال شيء آخر، أن تفهم شيئًا يعني أن تستقبله عن طريق الخطأ)؛ فرجار يرسم دائرة دامية في لساني الطويل الذي توقف عن الرد على هذا الاسم منذ أعوام.

كان لدى الأجيال، التي سبقت جيلي في العائلة، هذا التقليد الساحر حيث لكل فرد اسمان: اسم للسجلات والدفاتر وقبلات العثة، لأرقام الجلوس وطوابير المدرسة (يحكي أبي أنه عرف اسم الحكومة أول يوم في المدرسة، ولم يكن وحيدًا في ذلك، هل تسمعني يا بهاء طاهر؟)، واسم للأماكن والناس والسماء والعيش. الأب، والأم (والداي من العائلة نفسها، بكل هذه الحماقة التي أرسم على الأرض، هل كنت تتوقع شيئًا غير ذلك؟)، والعمات، والخالات، والأخوال، وأقارب الدرجات التي لا نحسن تحديدها، كانوا كلهم (غالبًا بمباركة الأب، الأمر الذي لم يحدث معي) يرفضون النصيب من اسم الأب والحكومة ليشقوا طريقهم في الحياة باسم آخر ونصيب آخر.

عادة، يحدث امتلاك اسمين في صغر الولد. ولأنه سُلِب من جيلي شيء أو شيئان من جهة، ومن جهة أخرى لأني آتي في العادة متأخرًا (رجاءً، لا تقل خير من ألا تأتي أبدًا)؛ فقد ارتديت الاسم الآخر وقت بلوغي ثمانية عشر عامًا كمن ينتظر شراء علبة سجائر دون أن يتعرض للمساءلة.

الغريب أنه يحدث الآن أن أعود إلى اسم الأب على استحياء لأجده لا يحمل أي معنى.

(وسواس قهري)

أغلقت الباب، وأطفأت النار على البيض، ثم عدت وتأكدت من أني قد أغلقت الباب. ابتسمت لحقيقة أني لا أغضب من الأشياء التي ورثتها عن أمي وشاهدتها تنبت على جلدي (بالبطء نفسه الذي نبتت به حقائب إرث أبي)، لكني ألتقيها كصديق قديم أبيت معه في الحجرة نفسها عند صديق مشترك آخر.

قد أكون غير منطقي، لكن لم تكن في الجريمة شراكة؛ ففي الوقت الذي كان بإمكانه فعل الكثير، لم يكن بإمكانها فعل أي شيء. لا تخطئ الفهم؛ لم تكن كريمة مختار ولا ملاكًا مُنزَّلًا من السماء، لكنها، على نحو أوضح أو هكذا أدع نفسي أرى، لم تكن تمتلك خيارًا، حتى الأخطاء التي فعلت، والتي ظننت لسوئها أنها لا تُغتفَر، كإقحامها رأسي في الجدار بدلًا من أخي الصغير الذي كسر التلفزيون، أو وضعها نظاميًّا الشطة في فمي لأكف عن السباب، أو حتى رميها لقططي الصغيرة بعيدًا، ليس مرة واحدة؛ لأن القطط تعود، ولا مرتين؛ لأن القطط تعود مرتين، ولا حتى ثلاث مرات؛ أقول إن كل ذلك قد شكلني بطريقة ما.

ربما السبب في دراماتيكيتي الفاقعة هو أني وُلِدت وأخفتني أمي عن العالم؛ إذا مد أصابعه بالزائرين خبأت وجهي تحت طرحتها، وإذا خرجت هي إلى الشارع لفتني في خمارها. أخبرتني أنها دائمًا كانت تغني لي، ولما مرضت، وضعت لمبة جوار السرير لأيام لم تُطفَأ. وما زالت تتذكر كيف كان الولد يخاف الظلمة. كانت تتحين انقطاع الكهرباء لتقول: «فاكر؟ لو رجعنا بالزمن كان زمانك بتجري على الكشَّاف.» أو تستند بكوعيها إلى طاولة المطبخ وتشير إلى النافذة المفتوحة: «فاكر قُعادك في الشبَّاك في البرد مستني الصبح يطلع والضلمة تروح؟ فاكر قلة نومنا وراحتنا طول الليل؟» ومهما أوضحت لها أن الذي كنت أخافه حقًّا هو العمى، أن أفتح عينيَّ فلا أجد شيئًا، تفاجأتْ، مثلما تتفاجأ أني لا أحب طبق الفاصولياء من يدها. وذكَّرتني ضاحكة أني مرة كدت أحرق البيت بعلبة الثقاب فزعًا أبحث عن النور، ما يثبت وجهة نظرها، وأيضًا وجهة نظري.

إنها تسكن وحيدة في ذلك الجزء الخالي من الشارع حيث تبدأ ذكرياتي. ولما تتكلم عن معالم هذا الجزء، الذي لا أتذكر منه شيئًا، تترك لي فقط إيماءة قبول وذلك الهدوء المفروض الذي يصاحب التسليم. بأي حال، لا يحق لي الاعتراض؛ فما تحكيه يناسب ما أجده في الألبومات الفوتوغرافية التي حرق فيها أبي كل طاقته كمصور هاوٍ، وأيضًا ما كبرت لأجد نفسي عليه. ما الذي فعلتُه في تلك الساعات الطويلة لوحدتها غير أن أصدر أصواتًا غير مفهومة وأكسر كولد شقي كل ما طالته يدي؟

تبدأ مناطق نفوذي، تلك التي نتنازع عليها في الصباحات الهادئة بين الإفطار والقهوة، من أطلال المرحلة السابقة، من عربتي الصغيرة ذات المفارش الزرقاء التي تحولت إلى عربة تسوُّق للخضراوات والفاكهة يوم الجمعة، من الزير الذي كسرته في بيت الجيران، والقصرية التي لم تعد على مقاسي، من الخوف بالطبع، الخوف الذي رضعته رضعًا، من ليستة التعليمات الطويلة وتمرينات المشي على قشر البيض، من طقوسها الليلية للتأكد من غلق الباب تكَّتين بالمفتاح وبالترباس، من المرور على أنبوبة الغاز وأعين البوتاجاز وهي تنشد أغنية لحَّنتها خصوصا بينما أقف ممسكًا بمقبض باب المطبخ أنتظر دوري في الغناء عند آخر كل سطر، من النغزة الصغيرة في وجهي إثر نزيف داخلي قديم؛ أردت أن أجري فوقعت على سن قطعة رخام، ولمدة أسبوعين -تُقر- لم تستطع أن تنظر إلى وجهي. تبدأ مناطق نفوذي بالتحديد من القرصات التي تركت أثرًا في وركي، من الصفعات، التي سمكرت وجهي، والشطة الحرَّاقة التي لونت فمي بالأحمر وأكسبتني لاحقًا مزاجًا حريفًا، من الوقوف على الباب متسخ القدمين دون إذن بالدخول ولومي الأزلي على المضاعفات التي أصابتها من ولادتي، ومن تلك الساعات الطويلة للوحدة، التي كنت أطوف فيها وراءها في البيت كي تكلمني. بعد خطأ لم تنفع معه طرق العقاب العادية، كانت تخاصمني تمامًا وتعاملني كأني غير موجود. «والنبي يا ماما كلمة واحدة يا ماما، ردي عليَّ، ما تسيبينيش كده.» أتبعها من حجرتها إلى الطُّرقة، ومن الطُّرقة إلى المطبخ، وهي تجلس في الصالة تلف محشي ورق العنب، وهي تكوي قمصان أبي أمام فيلم قديم، أو تغسل أسنانها في الحمَّام. «ردي عليَّ يا ماما، مش هعمل كده تاني، وحياة ربنا.» ولم تكن ترد عليَّ، أحيانًا لأيام، حتى عودة أبي من سفره. تحكي له كل شيء، تتكلم ولا توقف، فيضربني علقة وهو لا يزال بملابس العمل، وتحوش عني.

وكنت أُذكِّرها بهذا لما كبرت فتقول: «مش فاكرة.» ويحدث شيء بعد أيام فنتخانق، وتتجاهلني ولا تكلمني، فأضحك وأنكشها، ونتصالح بعد أيام، وأُذكِّرها، فتقول: «مش فاكرة.»

وربما هي لا تتذكر فعلًا مثلما لا تتذكر أشياء كثيرة، أشياء وقعت في حفرة نسيانها وألاقيها مندهشًا بمرور الوقت. الصيف الماضي، في قعدة كبيرة قرب زفاف بنت خالتي، قالت إنها لم تضرب أبناءها قط، ولا مرة، ولا حتى قرصة صغيرة. ولولا نظرات أخي وأختي المتعجبة لكنت صدقتها والله.

(روتين)

حين سألتها: «عاوزاني معاكي؟» قالت: «براحتك، اللي تحبه.» قلت لها: «هاجي بالليل.» ولأترك نفسي فارغًا طول النهار للقراءة بلا معوقات -كنت أخفي قلقًا، ولم يكن ثمة شيء سوى القراءة لأُذوِّب حالي في حال أخرى- فضَّلت بدايةً التخلص من أعمال المنزل الرتيبة.

قطَّعت بطاطس (تقول أمي: ضاع جزء كبير من الثمار مع القشرة)، ورميتها في ماء مغلي (تقول: كنت وضعتها مباشرة في ماء فاتر وتركتهما، معًا، للغليان). وضعت الغطاء بحيث يكون جزء من الماء ظاهرًا (تقول: كنت كبَّرت الجزء أفضل). تركت دجاجة مجمدة للجو العادي على الحوض المعدني (تقول: الأفضل لو وضعتها على لوح الرخام). أخرجت كيس القمامة الأسود (تقول: تأخرت كثيرًا)، ثم قصدت غرفتي (تقول: جُحرك) محاولًا حتى تقليل ما اعتراها من سوء. لملمت فشلي المكرمش في الكتابة والدفاتر الجديدة من على السجادة والسرير. حاولت التخفيف من الحضور الثقيل والطاغي للكتب في تسليم بأني أحتاج إلى وحدة خشبية أخرى أو أن أنتقل إلى مكان آخر في أقرب وقت وإلا ستتآمر عليَّ كل الكتب المهملة -تحت رئاسة المجموعة الكاملة لخيري شلبي على أحد أطراف السجادة- وتجثم على روحي في أثناء نومي.

غيرت مفرش السرير (تقول أمي: هذه طريقة غير مقبولة)، وكومت ملابسي المتسخة خلف الباب كأن قرار الذهاب بها إلى الغسالة كثيرٌ جدًّا عليَّ. قفلت على البطاطس. سكبت زيت الزيتون والتوابل في الماء المغلي (تقول: كلام فارغ يابني، وإيه كل الشطة دي؟)، وأتبعته بالبصل (تقول: قطَّعته خطأ)، وأسقطت الدجاجة. نصف ساعة على النار، ربع ساعة في الماء قبل الانتشال (تتساءل أمي: أم العكس؟). أكلت ما تبقى من البيض، وشربت كوبًا ثانيًا من الحليب، ثم -كأنه إعلان بانتهاء كل شيء- رن جرسا الباب والهاتف معًا.

الحائط يُقبِّل كل بوصة في ظهري، كن عجوزًا متى أتت الفرصة. العاشرة صباحًا، والليل أتى مبكرًا. سألني أخي: «مين كان على الباب؟»

قلت له: «أنا رايح لأمي.»

(حاشية عن الطبخ)

يحدث غالبًا أن أنهي قهوتي بينما تكون أمي في منتصف كوبها. تلك الإزاحة الصغيرة بسبب فرق ملعقة واحدة من السكر ورفض للتنازل من كلا الجانبين تضع كلًّا منا في مدارين مختلفين كل صباح، لكن، أحيانًا، وبسبب تعثُّر في فكرة براقة أو مكالمة هاتفية طارئة، يحدث، بمجرد أن نقرع بكوبينا الطاولة معًا، أن أتوصل، كل مرة كأول مرة، إلى الدافع الحقيقي وراء اختيارها ألوانًا مرحة لطلاء البيت، أو إلى سبب اهتزاز وجه أبي في كل صور العائلة، في الوقت نفسه الذي -طبعًا طبعًا- تتوصل هي فيه إلى شيء مشابه ربما يتعلق بطريقة نطقي لحرف السين أو بالهالة الهادئة التي صرت أرتديها. يكون حتميًّا، بعدها بوقت مناسب يسمح للفاكهة المغناطيسية على الثلاجة أن تزن أمورها، أن أعرض على أمي -كتعبير عن الالتزام الشديد بالاتفاق الضمني على أن يحتفظ المرء باكتشافه لنفسه- أن أقرأ لها قصيدة قصيرة، بدورها، تكون إيماءتها غير متكلفة، تهز رأسها في قبول، وفي أناة، عبر وجهها الذي لا يزال شابًّا، وبالطريقة التي يقول بها عبد الوهاب «أحب الظلم علشانك»، تطلب مني أن أُخرِج دجاجة مجمدة من الفريزر، أو أن أملأ طبقًا صغيرًا بحبَّات اللوبياء حتى حافته. هكذا، بخسارة قدر لا بأس به من المألوف، سمعت أمي بإيمان مرسال وتشارلز سيميك، وعرفت أنا طريقتين لعمل طبق أرز جيد.

كاتب وشاعر مصري، مواليد 1995، تخرج، رغمًا عنه، في كلية الهندسة ببنها. يهوى المشي وإضاعة الفرص. رياضته المفضلة، ويمارسها في أوقات فراغه من العمل، هي الوصول المتأخر إلى اكتشافات صغيرة، ينساها لاحقًا. بالإضافة إلى نشاطه على مدونته، نشرت خربشاته في «آخر قصة»، «الجمهورية»، «كتب مملة» و«ختم السلطان». صدرت له مؤخرًا نوفيلا بعنوان «بيت الولد» من إصدارات تنمية للنشر، 2025.

بيت الولدروايةمالك رابح

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member