مقتطف من رواية حسن كمال: الرواية المسروقة

3 February, 2025
أسعد فاول، «صناعة»، أكريليك ووسائط مختلطة على قماش، 101×76 سم، 2022 (بإذن من لوري شبيبي، دبي).
بعدما تكتشف سلمى خيانة زوجها تعود إلى حياتها السابقة، تتذكر كل شيء وتتأمله، تكتب عن حياتها وتحاول أن تنشر ما كتبته، وهنا نغوص في عالم النشر لنكتشف التعقيد الهائل لذلك العالم. وصلت «الرواية المسروقة» إلى القائمة الطويلة  لجائزة الرواية العربية.

 

حسن كمال

 

في طفولتي، كانت لي صديقة اسمها ريما، لازمتني لسنوات، أحكي لها كل شيء، وتنصت لي على عكس الجميع. رأيتها مرات معدودة، لكني كنت أشعر بوجودها دائمًا. ينهرني أبي عندما أتحدث إليها، وتضمني أمي وتهمس أن ريما غير موجودة وأنني تعديت السن المقبول فيها أن يكون لنا أصدقاء من الخيال.
توقفت عن الحديث مع ريما أمام أسرتي في العاشرة من العمر، وعن الحديث معها تمامًا في الثانية عشرة. سمعت أمي تحكي في رعب عن تفصيلة جديدة في قصة مالك البناية الذي هاجر إلى الأرجنتين تاركًا كل أملاكه للأقارب والأصدقاء. غادر قبل أن تسكن أسرتي البناية، لكن سيرته لم تزل حية لأن شهود الزمن الذي عاشه أحياء ويحكون، يتحدثون عنه أنه كان رجلًا لبنانيًّا خفيف الظل لا يُرى إلا مبتسمًا، وأنه هاجر عندما سقط المصعد به هو وابنته فكُسِرت ساقاه وماتت الصغيرة. الجديد، الذي قالته أمي في غموض ولم يعلق عليه أبي أبدًا، هو أن الابنة، التي ماتت، كان اسمها كريمة، وأن الجميع كانوا يطلقون عليها ريما … ريما اللبنانية.
سيطر عليَّ الخوف فلم أستطع النوم وحيدة في تلك الليلة. حاولت أن أتذكر كيف اخترت لها ذلك الاسم فلم أجد في رأسي سوى أنها أخبرتني به. سمعت ما قالته أمي همسًا من أنها قد تكون شبحًا، ورأيت أبي ينهرها في توتر جعلني أقتنع بذلك. أصبحت أشك في تصنيفها كروح حقيقية محلقة من حولي، حاولت طردها من محيط الواقع، أقرأ آيات من القرآن لتختفي، ظلت تراقبني في حزن لليلة كاملة ثم اختفت. تأكدت ظنوني، ثم عدت إلى الحديث معها من طرف واحد لأنني افتقدت وجودها في حياتي. أكدت لنفسي أنها بالتأكيد ليست شبحًا شريرًا لأنها لا تظهر ولا تصدر أصواتًا مخيفة في الليل ولا تصفع نوافذ الغرف والستائر عندما يشق البرق السماء. همست لها في ضعف: «سامحيني يا ريما. لا يعنيني ما أنت ولا من أين أتيت؛ فحياتي من دونك بائسة، أشعر أنني وحيدة للغاية، أنت الطمأنينة عند الخوف، وإجابات الأسئلة عند الحيرة، والتقاط الأنفاس عند الانفعال. لكن هل يمكن أن تكوني شبحًا بالفعل؟»
بعد أسابيع قليلة، بدأت في استحضارها ليلًا ونهارًا. أريدها في حياتي مرة أخرى، أصبحت لديَّ قناعة لم تتغير أبدًا: ريما تجسيد لما يدور في قلبي وعقلي على هيئة كائن شبه بشري يعيش إلى جواري، أستعين به من آن إلى آخر لفعل ما أريد. أطلقت عليها المزج، وآمنت أن كل إنسان له مزجه، كائن متشابك يحمل صفات خاصة، لم يُخلَق من طين ولا من نار ولا من نور، بل كتلة المشاعر والهواجس والأفكار الملحة وحتى النوايا سواء تحققت أو لم تتحقق، خليط الانطباعات والتآلف السريع والرفض غير المبرر لشخص أو لمكان؛ فلكل شخص مزجه، والمزوج يرى بعضها بعضًا. عندما تقول إنك لا تشعر بالارتياح لشخص دون سبب يكون مزجك هو الذي رأى في مزجه ما يثير القلق، يخبرك أن هذا كاذب، وأن هذه لا تحبك، وأن هذا لا يحمل تجاهك نوايا طيبة. أكاد أرى مزوج كل من حولي لأن ريما تخبرني عنهم وتصفهم لي. لا أسمع صوتها كبقية البشر، بل يملأ رأسي من الداخل كطنين الأذن، لكنه ألطف كثيرًا.
توجد مزوج هادئة وثانية ملحة وأخرى مبدعة، تهمس في أذن الكاتب بقصة جديدة، وتردد فجأة للشاعر أبياتًا، وتدندن في أذن الموسيقار بلحن جديد، لا يأتي الأمر من عقله، بل من مزجه، الدليل أن بعضهم يعترف أنه لم يفكر في ما كتب ولا يعرف من أين جاءته الفكرة، فقط سمعها ترن في أذنيه. هل تريد أن تنصت إلى مزجك لتصدق؟ أغمض عينيك وتذكر كم مرة سمعت صوتًا في داخلك يقول: كيف فعلت ذلك؟ ما هذه الحماقة؟ هذه فرصة لا تتركها. من الذي يحادثك؟ عقلك؟ إطلاقًا، على العكس؛ فالمزج أحيانًا يناقض العقل.
للمزوج هيئة ووصف، يحمل الملامح التي يتمناها الشخص لذاته، ويمثل أفكاره وهواجسه التي لا يستطيع التخلص منها حتى وإن لم يستطع تحويلها إلى واقع، يمتلك قدرة التخاطر مع صاحبه لدى بعض البشر، وقدرة الحديث بصوت عند آخرين، وأخيرًا قدرة الظهور أمامه كشخص كامل حقيقي لا يراه إلا صاحبه. ريما صارخة الجمال، شعرها كستنائي، وبشرتها بيضاء كالثلج، ولعينيها خضار الحقول اليانعة، وفي وجهها الشامة نفسها التي تزين وجهي، نقطة تمام الرسم مشتركة بيني وبينها، لكنها تختلف عني تمامًا في كونها جريئة متحررة، ترتدي ما تراه مناسبًا لها حتى وإن كانت شبه عارية، صوتها عالٍ وحضورها قوي، وعندما تغضب تصرخ في جنون، ولا تتردد في التعبير عن رأيها بقوة، ولا تخضع لأي شخص يحاول استغلالها.
لسنوات طويلة لم تزعجني ريما، الأسئلة والأفكار التي تلقيها عليَّ تأتي قصيرة حتى وإن كررتها كثيرًا، وظهورها أمامي لا يحدث إلا عندما أستحضرها وأسمح لها. لهذه الأسباب تحديدًا لم تصنفني الطبيبة النفسية، التي لجأت إليها أخيرًا، مجنونة، فقط عدَّتها تمثيلًا حيًّا لمشاعري لا ضرر منه ما دمت أسيطر عليها، وأعطتها وصفًا علميًّا ضحكت عندما سمعته؛ لأنه كان مطابقًا لاسم حارس مدرستي الابتدائية: طلبة! ظننتها تمزح، فأقسمت أنها كلمة علمية تعبر عن صديقتي. سردت عليَّ بإسهاب الفوارق بين المرض النفسي والحِيَل النفسية، فالأخيرة حماية من الأولى، ربما لهذا ارتحت تمامًا في تعاملي مع ريما، وأطلقت لها العنان. لكنها أخيرًا أصبحت وقحة! تسبني كثيرًا على كل ما فعلت في حياتي، وتكرر أن الأربعينيات هي المحطة الأخيرة، أو الفاصلة!
الآن أصبحت لديها مادة جديدة لتسخر مني. تقول إنني فاشلة في كل شيء حتى الموت. لم يحدث أي شيء سوى أنني نمت ما يزيد على يوم كامل. حمدي غالبًا لم يفتح حتى باب الغرفة أو ربما لم يأتِ إلى المنزل من الأساس. قمت مترنحة واحتجت إلى ساعات طويلة لتنظيف الأواني التي لم تُمَسَّ، وقضيت ساعات في الحمام بآلام حادة في معدتي لم أعرف هل كان مصدرها الحبوب التي تناولتها أم السم في أثناء سكبي له وتقليبه. تضحك ريما وهي تقول: «لا من الحبوب ولا من السم.. من خيبتك!»
أدير رأسي إلى الجهة الأخرى فتناديني: «لا تغضبي.. أمزح معك. أنصتي إليَّ يا سلمى؛ فأجمل ما في الأمر أنها حكاية جديدة رائعة، إضافة كبيرة عندما تحكين كل شيء.»


تتزايد جلساتي مع نانسي، طبيبتي النفسية. اخترتها بعناية، المرحلة العمرية نفسها لتفهمني، وحكايات متعددة عن طيبة قلبها وتعاطفها مع مرضاها. وجودها في حياتي الآن ضروري لاستكمال الآتي من مساري كما ينبغي. جلساتنا لا تحددها هي بزمن ولا تقاطعني ولا تمنعني عن الحديث. أخبرتها أن ريما أصبحت لحوحة، تتحدث في رأسي طوال الوقت، تطلب مني أن أكتب ما تمليه، أجلس إلى مكتبي غصبًا، أغيب عن الدنيا تمامًا وأنسى أنني سلمى، يتغير مرور الوقت، ساعات تمر عليَّ سريعة كغفوة راكب قطار في سفر طويل، أفيق بعدها لأجد أمامي كومة من الأوراق المزدحمة بكلمات أقرؤها في دهشة ممزوجة بفخر حذر. أنا قارئة نهمة، لكنني لم أكن يومًا كاتبة! لا أعرف كيف تُصاغ الجمل بهذا التسلسل، ولا أعرف كيف تذكر أوراقي حكايات عني نسيتها أنا منذ سنوات. ما يخيفني شيئان: الأول أنني أشعر أنها تحتقرني، تراني كائنًا تافهًا عاجزًا، وربما كانت على حق في بعض ما تقول؛ والثاني أن الخط المسطور على أوراقي لا يبدو لي مألوفًا، خط كبير واضح، يترك أثره على الأوراق كما لو كان يطعنها طعنًا، ولا علاقة له إطلاقًا بخطي الصغير الذي يُقرَأ عادة بصعوبة.
تسأل نانسي في اهتمام:
– متى بدأت في الكتابة يا سلمى؟
أجيب بهدوء:
– أكتب مذكراتي وخواطري منذ طفولتي، الجديد أن ريما تريدني أن أنشرها بشكل ما.
تتنهد نانسي وهي تجيب:
– أنا لست منزعجة، هذا تطور غريب لكنه جيد. ريما ليست مجرد صديقة تخيلية، بل هي أنت الأخرى التي تريد أن تظهر، تريد أن تتحدث ويسمعها الآخرون، أو ربما أن تسمعيها أنت.
أنظر إليها في استفسار:
– أنا الأخرى؟!
تجيبني بابتسامة:
– المزج الذي تصفينه. نحن لسنا كل ما نبدو عليه يا سلمى، الحياة تضعنا في أطر محددة هي التي ترسم طريقنا وشخوصنا، ربما لو لم تلتقي بسامح في الجامعة ولم تعرفي مالك رشاد لأصبحت سلمى أخرى، أليس كذلك؟
أهز رأسي في تفهم. تقول نانسي:
– هذه الأخرى هي أنت أيضًا، كل الصفات والمزايا والعيوب التي كانت لتظهر لو اتخذت مسارًا آخر، كلها في داخلك كامنة تفكرين في إظهارها، وأنت تحاولين تبرير رغبتك في التغيير.
أبتسم في تردد:
– إنها تسبني أحيانًا!
تهز كتفيها في لا مبالاة:
– كلنا نفعل ذلك أحيانًا.. ليس في الأمر جديد. أحيانًا أنظر إلى نفسي في المرآة وأصيح: «مجنونة»؛ لدهشتي من هذا التخصص الذي أعيش فيه.
أحب نانسي، تسحرني قوتها وهدوؤها، وأعرف أنها تحبني. مزجها أقوى وأكثر جنونًا من الهدوء البادي عليها، بملامحها نفسها، لأنها لا تحتاج إلى ملامح مختلفة لإرضاء ذاتها. كونها طبيبة نفسية لا يزعجني كثيرًا، رفضت أن تعطيني أي عقاقير للتخلص من ريما، قالت لي إن وجودها في حياتي يحميني من انهيار يبدو حتميًّا. حكت لي أنها عرضت حالتي في مؤتمر طبي فعاتبوها على ترسيخ الفصام الذي أعاني منه، فأجابتهم على الفور: «سلمى لا تعاني من فصام.. ريما كانت صديقة الطفولة لسلمى وهي التي قررت ألا تتخلص منها لأنها تلهمها، طورتها إلى تولبا».
– هل تعرفين ما التولبا؟
كانت هذه هي أول مرة أسمع فيها ذلك التعريف. نانسي بدت مقتنعة بما تقول. في لقاء آخر بيننا، علقتُ على الأمر ببساطة:
– رؤيتي للأمر ليست أبعد كثيرًا، لا يوجد أنا أخرى، يوجد في داخل كل منا أنا ظاهرة حقيقية ومزج أفضل أو أسوأ. في حالات قليلة ينقلب الأمر رأسًا على عقب فيصبح الظاهر مزجًا والمزج هو الأصل. انظري حولك وحاولي أن تعدي النساء اللاتي انقلبن فجأة إلى صورة أخرى مغايرة تمامًا، هذه صورة المزج الذي كان ينمو في داخلها وسيطر على المشهد في النهاية.
– تولبا؛ لأنك أطلقت عليها اسمًا وجعلت لها ملامح مغايرة لك.
أجبتها بابتسامة هادئة:
– مزج.
ثم مددت إليها يدي بنسخة من الأوراق التي كتبتها في الأيام السابقة:
– ريما أصبحت تخبرني بما يجب عليَّ أن أفعل، تذكرني بأحداث طالما حاولت تناسيها، وتحكي لي يومي الذي أعيشه من منظورها هي. هذه مذكراتي وخواطري في الأيام السابقة، أنت أيضًا مذكورة هنا.
أجابت في إصرار:
– أنت قررت كتابة مذكراتك لأنك أصبحت تشعرين أن الوقت المتبقي من حياتك يستحق أن تفعلي فيه ما لم تفعلي من قبل.
غادرت تلك الجلسة بفضول متضاعف. جلست في سيارتي أقرأ المكتوب في المواقع المختلفة عن التولبا لأتأكد أنني لست مريضة بالفصام الذي تتحدث عنه الطبيبة الأخرى. كلمات متداخلة. التولبا هي كيان مستقل ينشأ في العقل، يصنعه من يحتاجون إلى صديق أو مشارك أو داعم في الحياة، يوجد من يصنعونه للتسلية أو حتى للمرح غالبًا عندما لا يتوفر ذلك في الحياة. ألقيت بهاتفي المحمول على المقعد المجاور، وتنهدت وأنا أقول ضاحكة: «مزج أو تولبا أو شبح.. لا تهمني التعريفات يا ريما».

 

كاتب مصري تخرج في كلية الطب جامعة القاهرة، نشر عددًا من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «المرحوم»، «الأسياد»، «كشري مصر»، «وكان فرعونًا طيبًا»، «لدغات عقارب الساعة». وصلت روايته الأخيرة «الرواية المسروقة» إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية العام 2025.

الرواية المسروقةحسن كمالديوانرواية

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Become a Member