حكاية عن العِرق واكتشاف الذات والمراهقة، هدى حمد هي الآن إحدى أبرز الروائيات العمانيات.
هدى حمد
أقف الآن أمام المرآة، أمرر ظهر أصابعي على خدي الناعم بشرتي سمراء تشبه بشرة الأغلبية في هذه البلاد، عيناي جميلتان، شعري الأجعد يرقد بهدوء تحت ربطة الشعر أنفي مستقيم كسيف، شفتي السفلى غليظة ولا تتلاءم كثيرًا مع الشفة العليا.
ولكني بالمجمل امرأة جميلة و«بيسرة»، يمكنني أن أدخل كل الأمكنة أن أذهب حيث أريد دون أن يستطيع أحد أن يتعرف على سوادي الداخلي.
لست كالـ«عبدات»، ولست أيضًا كمنى الحرة الخالصة بكل تفاصيلها الصغيرة من هذه المشانق التي تتصيدني من حين لآخر لكوني أقع في المنتصف بحسرة كبيرة بكيت في حضن أمي طويلًا عندما واجهتني صديقتي حنان بأني لست حرة كنت وقتها في الصف الأول الابتدائي لا فرق بين لوني ولونها، لا فرق بين أنفي وأنفها، فقط هو شعري النائم تحت حجاب المدرسة الأبيض، وشفتي السفلى الممتلئة. أكاد أقسم أن حنان تكاد تكون أدكن مني بقليل، ولكنها تتحرر وباقي الفتيات في الصف من الحجاب في الحصص الفارغة تلقي حنان بشعرها إلى الخلف وغرتها الناعمة تنساب على جبهتها كشلال من الضوء.
أمي قالت لي: لست عبدة يا أمل ولست حرة بالكامل أيضًا!
يا إلهي، ما أقسى هذه الدائرة المغلقة ما أقسى الطواف فوق جمرة الشك هذه! ما أقسى هذه الجريمة التي نحاسب عليها دون أن نرتكبها! أكتشف الآن في خطوتي الأولى في الحياة أنني أنثى بامتيازات ناقصة.
حاولت جاهدة أن أتفوق في دراستي لكن مستواي الدراسي ظل دون المتوسط خالتي زيون التي تزوجت برجل زنجباري دون رضا من أهلها كسبت مكتبة كبيرة من الكتب في الوقت الذي تصالحت مع خسارة محبة أمي وخالاتي الأخريات لها تغلبت على ضعفها الداخلي عندما انصهرت مع رجل من عرق آخر منحها فرصة للتعلم والقراءة، فبالرغم من أنها ابتدأت التعلم في وقت متأخر إلا أنها تفوقت في زمن قصير ، وأصبحت امرأة تعشق القراءة والكتب.
أفشت لي ذات يوم ذلك السر الصغير في صدرها، أذكر أني شهقت وقتها رغم أنني لم أفهم جيدًا مقصدها وهي تقول لي بارتياح كبير: تخلصت من عبء المرآة يا أمل.
الآن أفهم سرها جيدًا.
يا لعبء المرآة، هذا العبء الذي يدفعنا لمقارنة أنفسنا بالآخرين لنشعر أن تلك التهمة متكلفة ولا تليق بنا. هذا ما فعلته القراءة بخالتي جعلتها ترى الحياة بصورة أقل قسوة مما كانت تراها وهي في القرية.
أمي وأبي كانا ينظران إلى الأمر من زاوية منفرجة دائمًا ويقولان لي إن هذا هو ما قدره الله لنا، ولا قدرة لنا على أن نتحدى قدر الله، لكني لم أستطع أن أصدقهما قط، ولم أستطع أن أصدق أن قدري خائب إلى هذا الحد.
بصعوبة كبيرة كنت أتمكن من زيارة خالتي زيون في الصيف حيث تمدني بالكتب الجميلة تمكنت من تعلم القراءة الجيدة على يديها، أبناؤها بالرغم من أنهم بلون أغمق من لوني إلا أنهم لا يشعرون بالضيق أو التبرم كما أفعل أنا.
كانت تلك المعادلة الصعبة تدهشني أحاول أن أنسل منها لكي أبدو فتاة طبيعية لا تهتم كثيرًا لمثل هذه التفاصيل التافهة، لكي لا أبدو ممتلئة بالعقد الناتئة على سطح روحي ولكن دون فائدة، أحاول التخفف من كآبتي، لكن رغمًا عني كان الألم يبحث عن أي ثغرة صغيرة ليأكلني منها.
أذكر ذلك اليوم الذي دخلت فيه حنان إلى الباص ووجدت فتاة سوداء تجلس في المقعد الذي يقع خلف كرسي السائق فاستشاطت غضبًا، وحملت حقيبة الطفلة السوداء وألقت بها إلى الخلف وهي تصرخ: متى ستفهمن أن العبدات يجلسن في الخلف؟
شعرت بدبوس مؤلم يخترق إلى صدري تصاعد كشوكة مؤذية في حلقي. شكرت الله أني لست سوداء لكي لا تلحق بي مثل هذه المعاملة السيئة، شكرت الله أكثر لأني على عكس الجميع أفضل الجلوس في المقاعد الخلفية دائمًا دون أن أتلقى الأوامر من أحد.
منى أيضًا تحب الجلوس في الخلف.
هذه الفتاة الساذجة الحالمة التي لا تجيد غير أن تحلم بأحلام اليقظة إلا أنها وبالرغم من كل هذياناتها فتاة بسيطة وطيبة، كنت أشعر بضرورة أن أحتفظ بصداقتها بضرورة أن ألتصق بها قبل أن تفر مني وأقع على هشاشة وحدتي.
كانت منى دائمة الكآبة، ذابلة تقعد في مقعدها قبل الأخير لترسم وجوه صبية الحارة، أجلس بالقرب منها أخبرها عن الحياة الأخرى التي أردت أن نكتشفها معًا مدعية رباطة جأشي بأني فتاة تعرف كل شيء، كنت أدعي المرح والمحبة للعالم المجاور، وكانت منى تصدقني بحماقة عالية كانت تدافع عني كلما حاولت حنان التحرش بي بإثارة ذلك الحديث اللعين بأني «بيسرة» كانت هذه الكلمة أكثر إيلامًا لي من كلمة «عبدة».
كلمة تضاعف من عدد خساراتي أنا لست حرة ولست عبدة، أنا الهجين الذي يقع في المنتصف! تذبحني تلك الكلمة التي تخرج حادة من حلقها كمشرط بينما يبدو وجهها فاترًا وكأنها تلقي بنكتة باردة. لا أحد يضحك لا أحد يشاركني البكاء أيضًا بقية «البيسرات» في الصف يتعاملن بخنوع مدهش مع الكلمة، يتشابهن معها، يصدقنها، يشبهن أبي وأمي إلى حد مريع.
وحدي من كنت أذوب في مكاني وأنصهر عندما تثقب تلك الكلمة جميع حواسي وتتغذى على أعصابي المكهربة.
الذهاب إلى بيت خالتي زيون لم يكن بالأمر السهل لأن والدتي لم تعد تحادثها منذ أن تزوجت الرجل الزنجباري، وفرت معه إلى القرية المجاورة. كنت أستغل الوقت الذي يذهب فيه أبناء عمي إلى حقلهم في تلك القرية لجني الرطب الشهي، ومن أجل سقاية مزرعتهم. أركب في البيك أب وأجلس في الخلف دون أن تلحظني أمي.
كانت خالتي تفرح كثيرًا عند مجيئي إليها، تقدم لي أطيب المأكولات ومن ثم تشير إلى تلك المكتبة الكبيرة. كنت أتساءل كيف تخففت خالتي من شعورها بالدونية، وانقدح شعور غريب إلى صدري أن الكتب التي قرأتها هي التي فعلت بها ذلك.
كانت رواية كوخ العم توم هي أول رواية أشرع بقراءتها بعد أن قرأت الكثير من قصص الأطفال، وكتب أسرار البنات في المرحلة الابتدائية. هذه الرواية التي علقت في ذهني لسنوات طويلة، ولم أستطع قط أن أتخلص من الحزن الذي استحوذ علي إثر قراءتها.
أخبرتني خالتي أن «كوخ العم توم» لهارييت ستاو من أشهر الروايات في الأدب الأمريكي:
– أرجوك يا خالتي، سأقرأها وسأعيدها لك في المرة القادمة.
– لكنها رواية أكبر من سنك.
– أرجوك.
– طيب يا أمل، أعدك إذا أنهيت قراءتها وفهمتيها جيدًا سأعطيك مكافأة، وكلما أرجعت لي كتابًا سأعطيك كتابًا آخر.
تعلقت بحضنها بقوة، شعرت كأنها تلقي لي بسنارة لتخرجني من مستنقع عفن إلى سماء مدهشة تتلألأ فيها خيوط الضوء. خرجت مسرعة، لم أتمالك نفسي، جلست في خلفية «البيك آب» وبدأت بالسطور الأولى بالرغم من أني كنت أنط من مكاني كلما داست العجلات على الأحجار المترامية هنا وهناك في الشارع الترابي إلا أني حاولت جاهدة أن أبقى الرواية نصب عيني.
عندما وصلنا دخلت متسللة إلى البيت كما خرجت فأمي لا تمانع ذهابي إلى الدكان البعيد أو التأخر في المزرعة كما تفعل والدة منى ولكنها مستعدة لأن تعلقني من عنقي إذا شمت خبرًا بذهابي إلى بيت خالتي.
من الجيد أيضًا أنها دائمة الانشغال عني وقليلة المراقبة والانتباه. دخلت إلى الغرفة التي اشترك فيها مع بقية أخوتي الأحد عشر وجلست في ركن بعيد لأتابع لذة القراءة. كنت بطيئة للغاية، لا أجيد القراءة بشكل جيد لكني كنت أحاول جاهدة.
أنهيت الصفحة الأولى في نصف ساعة كاملة، لم أفهم منها الكثير كانت الرواية كبيرة الحجم، انقدح إلى نفسي شعور بالإحباط وأنا أفكر في حاجتي إلى سنة كاملة لكي أنهيها.
رغم ذلك لم يدخل اليأس إلى قلبي قط. تذكرت وجه خالتي الذي تخفف من عبء الخيبات الكثيرة. يجب عليَّ أن أقرأ. أنا محظوظة لأني دخلت المدرسة، وخالتي محظوظة لأنها تزوجت برجل علمها القراءة والحب في وقت واحد. أذكر أن أمي وهي تتكلم بضيق عن خالتي زيون الخارجة عن شريعة العائلة تشعرني أنها تتحدث عن أفكاري أنا وطموحاتي أنا.
خالتي التي فرت وهي صغيرة من تلك الكلمة المؤذية «بيسرة» لأنها كانت ترفض أن تخدم في بيوت الجارات أو أن تذلل نفسها بتقبيل الأيدي خالتي التي رفضت أن تتزوج من ابن عمها لكي لا يكبر الجرح الذي سينكؤه أبناؤها عندما يسألونها كل يوم عن معنى تلك الكلمة التي سيرددها الجميع على آذانهم.
تنفست الصعداء.
أنهيت الصفحة الثانية بصورة أسرع من الأولى، شعرت بالتفاؤل كلما ثابرت أكثر سأحصد نتائج أفضل، كانت عيني تدمع كلما تعمقت في التفاصيل، تعاطفت مع زوجته التي فرت تعاطفت الطفلة «إيفا» التي أرادت أن تحرر رقاب العبيد فماتت دون أن تحقق رغبتها بتحرير صديقها «توم».
دخلت أمي الغرفة وأنا أدعك عيني مرات ومرات، لأمسح دمعي الغزير شعرت بحرقة كبيرة وكأن ثمة شوكة نبتت في عيني.
سألتني أمي بألم:
– أمل، لماذا تجلسين وحدك في الغرفة؟ لماذا تبكين؟
تعلقت بحضنها طويلًا وأجهشت بالبكاء، لم أستطع أن أخبرها عن الأمر الذي نشب كالعظم في حلق «توم» المسكين دون أن يكون له أدنى ذنب سوى أنه عبد فقير لا يملك حتى نفسه لم أستطع أن أخبرها أني أشبه «العم توم كثيرا لأني لا أستطيع أن أدافع عن نفسي أمام مضايقات حنان فقط اكتفيت بالبكاء طويلا على صدرها.
يا إلهي!
ماذا يمكن أن تفعل القراءة بي؟ خالتي زيون تمرر مبلغًا من المال في جيبي كلما أرجعت لها كتابا وتحدثت عنه. كانت مندهشة من سرعة بديهيتي، ومن التقاطي الفطن للتفاصيل الصغيرة، كانت تلحظ أكثر من أمي ذلك الحزن الذي يختبئ خلف شخصيتي الحيوية لذا سألتني ذات مرة
– ما بك يا أمل؟
– لا شيء.
– أنت حزينة.
– ماذا سيحدث عندما أقرأ كثيرًا يا خالتي؟
– ستعثرين على نفسك.
– هل يحدث ذلك حقًا؟
أومأت لي بابتسامة حنونة وأخبرتني أن المعرفة تقلب حياة الإنسان رأسًا على عقب، تحوله إلى شخص آخر قادر على التمايز والاختلاف كما أنه سيصبح قادرًا على اتخاذ قراراته بنفسه دون وصاية من أحد.
كان كلامها جميلًا ورائعًا، وهي تمرر الكثير من الجمل التي بالكاد أفهمها إلا أنها كانت تدفع باللذة لكي تسري في صدري وكأنها تنضح مياهًا باردة وهي تقول لي: القراءة تساوي الحرية هل علي أن أصدقك يا خالتي؟
المعرفة تزيد من إحساسي بوطأة الأشياء. أنا إلى الآن لم أتعلم كيف أصرخ في وجه حنان وأخبرها أنني وأنت شيء واحد وأن شعري الأجعد لا يبرر كل نقمتك علي. أنا إلى الآن لم أتصالح مع تلك الكلمة التي أسمعها كلما تقدم أحد ما إلى خطبة فتاة في حارتنا لأن أول سؤال يسأله أهل العريس الأصل والفصل و… «البيسرة» لا يتزوجها الحر وترفض هي الزواج بالعبد لكي لا يزداد الطينة بله.
ياااه.
أذكر الآن تلك الحكاية البعيدة حكاية المرأة البيسرة التي كان لها وجه كالأميرات، وشعر مسترسل في النعومة، وقد رشيق وناعم. المرأة التي أحبها نصف شباب القرية، وأخلصت بحبها لرجل واحد منحها محبته كاملة وكان ابنا لأحد الشيوخ فعل والده العجائب كلها من سحر وشعوذة ليبعده عن طريق تلك الفتاة الجميلة إلى أن جن الشاب عندما تدخل والده بتزويجها من رجل أسود.
رأيت هذا الشاب المجنون ذات مرة وأنا صغيرة عندما فر من الغرفة التي يحبسه بها والده وهو يردد جملة أوجعت قلبي وما تزال إلى الآن ترن في أذني.
– ليش الياسمين نقى عليّ غراب؟ ليش الياسمين نقى عليّ غراب؟ ليش…
القراءة جعلتني أكثر جرأة.
لم أكن أشعر بالحياء الذي يطلي أغلب وجوه بنات الحارة، لم أكن منكسرة على ترتيب الدمى وتقبيلها، ولم أكن أقضي وقتي كمنى في التأمل والرسم. من الجيد أن أخي سعود يصغرني بعامين لكي لا يفرد عضلاته علي كنت أتعامل معه بحنان كبير لذا كان كثيرًا ما يحتمي بي كلما ضايقه صبية الحارة. اخوتي الآخرون الفاشلون دراسيًا يتوزعون في مهن بسيطة، ولا يأتون إلى القرية إلا في أيام العطل. أخواتي البنات ستر الله عليهن بالزواج لذا لم يكن هنالك أحد ليشاكسني، أو لينغص علي حياتي بسيل من الأوامر، أو التنبيهات. محسن هو الشخص الوحيد الذي عبأ قلبي حتى قبل أن يتفتح جسدي كان هادئا، ويسيطا، يكبرني بسنوات قليلة منذ صغره لم يكن يحب اللعب معنا فقط يكتفي بالمراقبة من خلف نظارته السميكة ذات مرة لاحظ أني أقرأ كتابًا يحتوي على مجموعة من القصص العالمية المترجمة للأطفال. جلس بمحاذاتي.
– هل تحبين القراءة؟
– خالتي قالت: إن القراءة كالطعام.
– وأنت ماذا تقولين عن القراءة؟
– خالتي قالت أيضًا: القراءة تساوي الحرية.
بانت الدهشة على وجهه. كنت وقتها أتقصد أن أبدو كالكبار أن أتحدث مثلهم كنت أتقصد أن أدفعه لكي ينبهر بي ولكي يفتح فمه باستغراب من هذه الطفلة المعجزة التي تتكلم بكلام يفوق عمرها. إلا أنه سرعان ما قال لي:
– اقرأي من أجل المعرفة من أجل المتعة، ومن أجل أن تغذي عقلك الصغير. لكن لا تقرأي أبدًا من أجل الحرية.
استشاط غضبي.
شعرت أني سألطم وجهه بقبضة يدي كان يتقصد إهانتي، أنا متأكدة أنه كان يتقصد، لكنه سرعان ما استدرك قائلًا:
– أعجبني كلام أحد الأساتذة عندما قال لي ذات يوم من يبحث عن المعرفة هو شخص حر من الداخل لذا أعتقد أنك لست بحاجة إلى الحرية لأنك حرة بطبيعة الحال.
كادت أن تدمع عيني، كدت أن ألقي بحزني كله في حضنه وهو يجلس بمحاذاتي. لم تقلها لي أمي. لم يقلها لي أبي. حتى خالتي زيون لم تقلها لي وأنا في أشد حالات الضعف لم يتفوه بها لي أي شخص حتى على سبيل المزاح أو الكذب.
لكن محسن قالها، خرجت من فمه بهدوء دون افتعال ودون أن أطلبها منه، خرجت كالضوء، وعلقت عليها كل أمنياتي الناقصة. قررت من تلك اللحظة أن أصدق أن محسن هو النبي الوحيد الذي أخبرني الحقيقة كاملة، سأتشبث بهذه الكلمة سأزرعها كوردة حمراء في قلبي، وسأرويها بالمحبة الكبيرة. نعم لن أقرأ لأحصل على حقي بالحرية، أنا حرة كما قال محسن، ولم يكن ثمة مبرر ليجاملني في ذلك الاعتراف الذي هز كل كياني، لم تكن هنالك أي مصلحة ينتظرها مني لقاء هذه الكلمة التي غيرت مزاجي وكآبتي.
بعد هذه الحادثة بزمن قصير بدأت أدمن القراءة ولم أعد أكتفي بالكتب والروايات التي تمنحني إياها خالتي زيون كنت أستعين أيضًا بمكتبة المدرسة بالإضافة إلى الكتب التي كانت تمدني بها معلمة اللغة العربية التي انتبهت لشغفي الكبير بالقراءة.
خلوف ولد شوانة الولد الفاشل دراسيًا والذي تبرأ منه لسانه لكثرة استخدامه للألفاظ الوسخة كان يحضر المجلات الرخيصة من أبناء أخواله من المدينة. عرض علي مرارًا أن آخذها وقال لي إنها ممتعة. تمنعت كثيرًا في البداية لأنه ولد تافه ومشكوك بأخلاقه، وهو الشخص الوحيد الذي لم تكن تريد مني أمي أن اقترب منه قيد أنملة لأن أهله جميعًا ينتمون إلى فئة ذوي الأخلاق السيئة.
لم تكن تغريني حكاية المجلات التي تعرض الصور الفاضحة بقدر ما كنت معنية وقتها برغبتي في التعرف على جسدي.
لم يلتفت لي أي أحد وأنا أتفتح كالفراشة من شرنقة الطفولة، حتى محسن لم ينتبه لي في تلك الزيارات القليلة التي يأتي بها من الجامعة. كنت أنتظر منه أي كلمة لأرتجف بين ذراعيه كنت بحاجة لأن أجرب ممارسة الحب كتلك العاشقات في الروايات التي اقرأها.
وحده خلوف من كان ينتبه لحرارة جسدي البض ينتبه لعدم مبالاتي بارتكاب خطيئة مادام الأمر لن يقدم ولن يؤخر كثيرًا في منزلتي بين أهل القرية، لذا كان كثيرًا ما يعرض علي أن نجرب ذلك معًا بعيدًا عن الأعين.
خلوف أيضًا لم يختبر جسده بعد وكان مشتعلًا بالرغبة والشهوة، كنت أتمنع وقتها ليس لأني خائفة من كلام أحد أو خائفة من أن تتعلق أمي بعنقي إلى أن تطير روحي، ولكني كنت خائفة من أن أخسر فرصتي في الحصول على محسن الذي وهبني الحرية. كنت أحاول أن أكبت على تلك النزوة الصغيرة التي تفوح رائحتها كلما قرأت رواية أو كتابًا يتحدث عن الحب، وعما يكبر بين عاشقين من أشواق لا تقف في وجهها أي ريح لكني لا أتصور أبدًا نفسي بين يدي خلوف ذاك المتحفز للانقضاض على أي امرأة كحيوان وبالمقابل لم يكن انتظار محسن بالأمر السهل، وهو الرجل المتنائي والبعيد فلا أحد يستطيع أن يقدم لي أي ضمانات بأن محسن قد يلتفت لي في يوم من الأيام، وهو الرجل اللغز الذي لا أستطيع التكهن بما يدور في خلده، ذلك الرجل الذي ربما لا يرى أبعد من خطوات والده، والجدار الذي يسور منزله، وتلك النظارات السميكة التي تشير إلى إنه طالب مجتهد.
ثم ماذا سيحدث لو أني جربت جسدي مع خلوف؟ إنه أيضًا ابن لأسرة ورثته سوء أخلاقها، ولا ذنب له في ذلك. ماذا لو ولد خلوف في أحضان أسرة أخرى؟ أسرة مهذبة وبسمعة رنانة في القرية؟ ألن يكون بشخصية أخرى؟ وبمزاج واهتمامات مختلفة؟
المسكين منذ ولد وهو يتجرع غصص أخطاء والديه الكثيرة، والإهمال الذي يلاقيه منهما، ففي الوقت الذي يتعلم الأطفال عادة ذكر كلمة «ماما» و«بابا» تعلم خلوف القسوة والألم والشتائم. أخبرتني أمي أنه ذات ليلة وعندما اشتد الخلاف بين أمه وأبيه أخذ الأب خلوف وكان ابن تسعة أشهر، وربطه في رجل البقرة في الحظيرة وأغلق على أمه الباب لكي لا تصل إليه.
كانت ليلة باردة. ظل خلوف الصغير يبكي إلى أن غلبه النعاس ومن لطف الله؛ كانت البقرة أكثر حنانًا منهما عليه فلم تؤذ جسده الصغير بأي رفسة، ولم تتمكن والدته من الوصول إليه إلا بعد أذان الفجر. عندما سمع الجيران صياحها فهبوا وفتحوا لها الباب خلوف يشبهني أكثر من محسن لأنه وصم بصفات والده السكير ووالدته التي تفتح قدميها لكل رجل يعبرها أنا أيضًا أحمل ذنبًا ليس لي به دخل ولكني مضطرة للتماهي معه والتشابه معه، وإلا سأركل بعيدًا جدًا عن هذه المنظومة.
لا يمكن لخلوف أن يقف في وجه القرية كلها ليقول شيئًا آخر غير ما يسكن في أمخاخهم. لا يمكنه أن يختار طريقًا أخرى غير هذه الطريق التي اختارها الآخرون له.
ياااه.
الآن فقط اكتشف كل هذا التشابه بيني وبينه. أنا أيضًا لا يمكنني أن أرفض شعري، وشفتي الغليظة. ربما يمكنني التخفي قليلًا بوضع مساحيق التجميل أو ربما بوضع بعض المستحضرات على شعري لكنني مازلت سوداء من الداخل فتلك الندبة العميقة في روحي لا يمكنني التخلص منها، لا يمكن لسبابتي أن تصبح عملاقة وتسكت الأفواه المتحفزة للنميمة الليلية.
ذات ليلة وبعد أن ألح علي خلوف بضرورة أن نهرب بعيدًا لنختبر أجسادنا لنختبر قدرتها على الاندماج وقدرتنا على دخول عوالم جديدة لم نعرفها من قبل كبر الفضول بداخلي، تمطى إلى تلك الأحلام الوردية التي لا يمكن أن أراها إلا في صفحات الروايات التي تجعل للأشياء أجنحة، وتنثر عليها نجوما صغيرة وكأنها بذور لا تنبت منها إلا المحبة.
خرجت كما أنا، دون أن أضيف المساحيق على وجهي، ودون أن أهتم بترتيب جسدي لتلك اللحظة الحميمية التي انتظرتها طويلا ربما لوقوع اختلاف بسيط وهو: أني توقعت أن تكون تجربتي الأولى مع محسن لكن الأقدار دفعتني في اتجاه معاكس تماما في اتجاه لا أدري كيف حملتني أقدامي إليه، لكني ذهبت.
خرجت بعد أن تأكدت من نوم الجميع، تأكدت أن لا أحد سيمشي خلفي والتقيت به في المزارع البعيدة.
كان متحفزًا والشهوة تنط من عينيه. افترسني قبل أن ينطق بكلمة واحدة هكذا وجدت نفسي فجأة أدخل إلى دوامة من الألم والدوار. عيني كمن لا يرغب بفتح ذاكرته على مشهد بارد كمن لا يرغب بإضاءة مصباح يخص اللحظة، أو باحتمالات أخرى تشبه اللذة، أغمضت عيني جيدًا كمن يرغب في أن يضغط على زر صغير في أقصى الروح، زر يخص النسيان والبكاء.
هذا ما أتذكر أني فعلته في تلك الليلة، لا شيء أكثر من هذا ولا أقل.
بكيت طويلًا…
كطفلة خسرت أعز ألعابها. لم أكن أبكي لخسارتي لذلك الغشاء الرقيق لأنه لا يعني بالنسبة لي أي شيء! الآن أستطيع أن أقول لأي رجل يتقدم لخطبتي أنا امرأة مستهلكة، أصبت بعطب كبير في أنوثتي، لا تقترب مني أرجوك.
كان بالنسبة لي ذلك الغشاء الرقيق هو بمثابة العبء الذي أحتاج لمن يخلصني منه. أتذكر الآن عندما ضربني والدي ضربًا مبرحًا على قفاي لأني ركبت دراجة سعود الهوائية، وصاح في وجهي ستأتينا بالفضائح يا بنت الـ… كما أتذكر جيدًا غبائي الحاد، وأنا أغسل المراحيض العامة جيدًا قبل أن استعملها، خشية أن يكون أحدهم قد ترك حيواناته المنوية منتصبة على سطحها، هذا هو فهمي الخاطئ الأول للحيوان المنوي عندما رفضت مدرسة العلوم أن تعطي شرحًا أكثر تفصيلًا لأسئلتي، وتركتني أصدق مخيلتي الساذجة بأنه حيوان بحجم الدودة، إلا أنه أكثر توحشًا يتصيد الفتيات في كل مكان ويقضي على شرفهن أيضًا تعلمت من مدرسة التربية الإسلامية أن الشرف هو المعادل الموضوعي لحياة المرأة الكريمة، ورغم انني كنت أعرف أوجه كثيرة للشرف إلا أن أمي ونساء القرية كن يختصرنه في الغشاء الرقيق الذي خسرته.
فهمت لاحقًا كل تلك المحاولات المستميتة التي تمارسها الفتيات خوفًا من خسارة أغشيتهن.
منى الفتاة الوحيدة التي كانت تؤمن بأفكاري، ولكنها لم تستطع أن تفعل أي شيء حيال غشائها، كانت ترتجف من فكرة قراءة كتاب واحد يتحدث عن العلاقة بين الرجل والمرأة، كانت تخاف من أمها كثيرًا ولم تستطع قط أن تتخلص منها، لذا لم يكن في مقدوري أن أخبرها أني كسبت حرية أخرى، وأنها لا تزال من المستعبدات لتلك الفكرة السيئة التي تسمى «الشرف» بينما استطعت أنا التخلص منها بنجاح كبير بالرغم من أني بكيت طويلًا جدًا لمدة ثلاثة أيام متواصلة.
لم أكن أبكي لخسارته بالتأكيد، ولكن لأني اكتشفت أن لا لذة في اندماج رجل بامرأة لم أشعر إلا بالتقزز والألم. وحدهما هذان الشعوران الوحيدان اللذان استحوذا علي لحظتها.
لماذا حصل لي ذلك؟ لماذا لم أشعر بالمتعة كما تهيأ لي؟ كنت أجلس تحت جسده الثقيل وكأني أعاقب نفسي، أو أغتسل من ذنوب كثيرة بصمت طويل. توقعت أن أحصل على مفاجات إضافية من جسدي لكن لم يكن غير الألم والشعور بالغثيان هما ما اشتعلا في أحاسيسي لذا استسلمت لخلوف تركته يعبث بي وأنا مغمضة العينين، ولم أستجمع قواي إلا عندما انزاح بجسده الثقيل عني.
حملت جسدي المنهك وركضت به قبل أن يشق ضوء الصباح طريقه بين الحقول ركضت شبه عرجاء اغتسلت لم تختف بقعة الدم من ثوبي لذا دسسته في كيس أسود وألقيت به في كيس آخر ومن ثم تخلصت منه في سلة المهملات
كنت محظوظة لأن أخي سعود الذي يشترك معي في الغرفة ذاتها يحتاج إلى صوت مدفع لكي يصحو من نومه الثقيل. لذا افترشت فراشي بالقرب منه، تغطيت جيدًا لأن البرد كان ينهش عظمي إلا أني لم أستطع أن أمنع خيطا من الدمع كان يتوزع على جنبي خدي، وأنا أتذكر وجه محسن وكلامه اللطيف.
ربما لو كنت معه الليلة لشعرت بشعور آخر ، ربما كان حصل لي كما يحصل في الروايات ربما كنت سأمتلئ بالدفء بدلًا من هذه العواطف التي تفتتني إلى قطع صغيرة، وتدفعني إلى أن لا أتعرف على نفسي
لكن لماذا لم يأت وجهك يا محسن إلى ذاكرتي وأنا أغمض عيني وأتجرع الألم في كل عضلة من جسدي؟ لماذا هربت مني؟ هل كنت غاضبًا ؟ هل شعرت بأن خيانتي لك فادحة؟ لم أفعل ذلك من أجل خلوف صدقن، كنت متعبة وكان لا بد لي أن أفتح جسدي لأرى العالم من زوايا أخرى غير تلك الزاوية الضيقة التي تدفع الفتيات لأن يضحكن بحياء ويمشين بحياء، وفي المساء يحلمن برجال يأتون إليهن، يوزعون الورد على الوسائد والشراشف ويتقاسمون معهن الأحاديث الطويلة.
لم أستطع أن أنتظرك يا محسن انفصلت روحي عن جسدي فجأة وأصبح ما يطلبه جسدي يختلف تمامًا عما تتوق إليه روحي، هل يمكنك تصديق ذلك؟ أنا لا أكذب عليك الروح والجسد لا يتشابهان أبدًا أبدًا.